بحوث في علم الأصول - ج ٦

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

الملاقى بالملاقاة لنفس الرطوبة المستصحبة فهو من أوضح أنحاء الأصل المثبت ، وان أريد به إثبات تنجس الملاقي بالملاقاة للجسم ذي الرطوبة فهذا مقطوع العدم سواء كانت الرطوبة باقية أم لا ، اما على الثاني فواضح ، واما على الأول فلأن الملاقي يتنجس بالرطوبة باعتبارها جرما قبل ان يصل إلى الجسم المرطوب لأن ملاقاته لها أسبق زمانا والمتنجس لا يتنجس ثانية.

وقد نقل هذا الإشكال إلى السيد الأستاذ فأجاب عليه في دورته الأخيرة بان ليس المقصود إثبات نشوء النجاسة من الملاقي ـ بالفتح ـ وانما المقصود إثبات أصل نجاسة الملاقي لتحقق كلا جزئي الموضوع لنجاسته سواء كانت ناشئة من الملاقى ـ بالفتح ـ أو من رطوبتها ، وأصل النجاسة في الملاقى ليست مقطوعة العدم فيمكن إثباتها تعبدا.

وهذا الكلام غير تام لأن المفروض إثبات النجاسة بأصل موضوعي لا حكمي ومعنى ذلك اننا نريد إثبات فرد من افراد موضوع نجاسة الملاقى وهذا ما لا يمكن إثباته ، لأن موضوع نجاسة الملاقي له فردان : أحدهما الملاقاة الأولى للماء النجس ، والآخر الملاقاة الأولى للجسم المتنجس المرطوب ، والأول لا يمكن إحرازه الا بنحو الأصل المثبت والثاني مقطوع العدم إذ يعلم بانتفاء أحد قيدين منه اما عدم الرطوبة أو عدم كون الملاقاة معه ملاقاة أولى مع النجس. نعم إذا كانت الرطوبة بدرجة لا جرمية لها عرفا فقد يقال بأن الملاقاة معها ومع الجسم في وقت واحد عرفا فينجس لا محالة.

وقد يدفع هذا الإشكال : بان مقتضى إطلاق دليل السراية ان الوجود الثاني للملاقاة منجس كالوجود الأول ، ولا يلزم من ذلك تعدد التطهير والغسل الواجب لأن أصالة عدم التداخل انما تجري في الأوامر المولوية لا الأوامر الإرشادية إلى النجاسة لوضوح ان تعدد الإرشاد إلى النجاسة لا يستوجب تعدد النجاسة المرشد إليها على ما أوضحناه أكثر من مرة ، وانما لا يلتزم بالإطلاق المذكور في دليل السراية ، للّغوية بعد معلومية وحدة الغسل وهذا انما يتم فيما إذا لم يكن للمتنجس الثاني أثر عملي كما في المقام حيث يمكن بلحاظه إثبات النجاسة بالاستصحاب.

غير ان دفع اللغوية بمثل هذا الأثر قد لا يكون في محله لأن المقصود بها اللغوية

٢٠١

العرفية لا العقلية واللغوية العرفية لا تندفع الا بأثر عرفي واقعي يصحح في مرتكزات العرف للجعل المذكور وليس الأثر العملي الظاهري في المقام من هذا القبيل. على انه لو سلم الدليل على تنجيس المتنجس فيشكل إطلاقه ـ حتى بقطع النّظر عن اللغوية ـ للوجود الثاني من الملاقاة كما يظهر بالتتبع (١).

ومنه يظهر الحال في مسألة الشك في زوال النجاسة من بدن الحيوان حين الملاقاة كما إذا شرب الطير من الماء وشككنا في بقاء الدم على منقاره ، فانهم ذكروا انه بناء على عدم نجاسة بدن الحيوان لا يمكن إثبات التنجيس لأن استصحاب بقاء الدم لا يثبت ملاقاة الماء له ، واما بناء على القول بنجاسة بدن الحيوان ولكنها ترتفع بزوال عين النجاسة فيمكن استصحاب بقاء عين النجاسة أو النجاسة على بدنه إلى حين الملاقاة مع الماء أو مع الجسم الرطب وبذلك ننقح موضوع تنجيسه ، فان هذا الاستصحاب مبتل بالإشكال الّذي آثرناه. هذا مضافا إلى نكتة أخرى فقهية يمكن ان تدعى في خصوص بدن الحيوان وهي قصور دليل منجسية النجس الجامد المتمثل في روايات الأمر بغسل الأواني والفراش لبدن الحيوان بناء على القول بنجاسته لأن المفروض انه يطهر بمجرد زوال العين عنه بلا حاجة إلى غسل فلعلها نحو نجاسة تبعية غير منجسة من ناحيتها وانما المنجس عين النجاسة لو فرض وجودها على بدنه.

واما الجهة الثانية ـ وهي استصحاب النجاسة عند الشك فيها مع إحراز الرطوبة ، فالمعروف جريانه وإحراز موضوع التنجيس به ، وهذا موقوف على تركيبية الموضوع لا تقييديته كما هو الصحيح ، فالاستثناء الأول على القول به يجري في المقام أيضا.

الأمر الثالث ـ ان اللازم العقلي تارة : يكون لازما للمستصحب بوجوده الواقعي ، وأخرى : يكون لازما للتعبد الاستصحابي كحكم ظاهري شرعي ، وثالثة : يكون لازما للحجية والمنجزية أو المعذرية ، والأول هو الّذي وقع الكلام عنه في بحث الأصل المثبت ، واما الثاني والثالث فلا إشكال في ثبوته ، اما الثاني فلأنه بحسب الحقيقة من لوازم الأمارة لا الأصل وهي حجة في إثباتها ، واما الثالث فهو مقطوع به لأن المفروض القطع بالمنجزية والمعذرية في مورد الاستصحاب وهذا واضح ، وانما الكلام في بعض

__________________

(١) هذا الإشكال والجواب تعرض إليه السيد الأستاذ ـ قدس‌سره الشريف ـ بهذا التفصيل في بحوثه الفقهية عند تعرضه لهذا الفرع.

٢٠٢

المصاديق حيث ان ترتب بعض اللوازم العقلية للتعبد الاستصحابي ـ القسم الثاني ـ انما يتم على بعض المسالك في الاستصحاب دون بعض.

توضيح ذلك : ان اللازم قد يكون لازما تصديقيا للجعل الاستصحابي ، وقد يكون لازما تصوريا للمستصحب كالمتضايفين مثل البنوة والأبوة ، اما في القسم الثاني فقد يقال فيه بان الملازمة التصورية بينهما توجب انعقاد ظهور في دليل الاستصحاب على ان التعبد بأحدهما يلازم التعبد بالاخر ، لأن الدلالة التصورية تستتبع الدلالة التصديقية وراءها.

الا ان هذا الكلام غير تام ، لأن دليل الاستصحاب لو كان واردا في الأبوة أو البنوة بالخصوص فقد يصح هذا التقريب ، ولكن دليل الاستصحاب غير وارد في هذا العنوان المضايف وانما ورد بعنوان عام هو النهي عن نقض اليقين بالشك وهذا العنوان ليس له دلالة تصورية على البنوة كي يتوهم تحولها إلى دلالة تصديقية.

واما في القسم الأول وهو ما يكون لازما تصديقيا لجعل الاستصحاب فهذا يكون بأحد نحوين :

١ ـ ما يكون لازماً لجعل الاستصحاب على جميع المباني في تفسير حقيقته ، من قبيل ما إذا ادعي الملازمة بين أبعاض الماء الواحد في الحكم بالطهارة والنجاسة حتى الظاهرية ولو باعتبار عدم تعقل العرف بحسب مرتكزاته التفكيك بينها في ذلك أو قيام إجماع تعبدي على ذلك ، فالماء النجس المتمم كرا يجري استصحاب النجاسة في الجزء الّذي كان نجسا منه قبل الكرية وبه نثبت نجاسة اجزائه الأخرى ، وكذلك يجري استصحاب طهارة تلك الأجزاء الأخرى إذا كانت حالتها السابقة الطهارة فنثبت طهارة الجزء الأول لأن هذا لازم لنفس الحكم الاستصحابي الظاهري فيتعارضان.

ويمكن ان يمثل لذلك أيضا بترتب المجعول الظاهري عند تحقق موضوعه خارجا في موارد استصحاب الحكم في الشبهات الحكمية ، كما إذا وجد خارجا ماء متغير زال عنه تغيره ، فان استصحاب بقاء نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره بنحو القضية الكلية يلزم منه فعلية المجعول الاستصحابي عند تحقق موضوعه بناء على التفكيك بين عالم الجعل والمجعول ـ كما هو المبنى المشهور ـ فانه كما ان الجعل الواقعي حينما يوجد موضوعه

٢٠٣

خارجاً يصبح فعلياً بالملازمة كذلك الجعل الظاهري وهذا من لوازم الأمارة (١).

٢ ـ ما يكون لازماً تصديقياً للحكم الاستصحابي على بعض المباني من قبيل وجوب المقدمة أو حرمة الضد للشيء المستصحب وجوبه ، فان لازم ثبوت الوجوب الظاهري له وجوب مقدمته وحرمة ضده كذلك ، إلاّ ان هذا مبني على كون المجعول في باب التعبد الاستصحابي الحكم المماثل وان تكون الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته أو حرمة ضده بلحاظ عالم الجعل والاعتبار أيضاً لا بلحاظ المبادئ وإلاّ لم يتم ذلك لما عرفت في محله من ان الحكم الظاهري ليس له مبادئ مستقلة عن المبادئ الواقعية.

وعلى ضوء ما تقدم في هذا الأمر والأمر المتقدم يظهر الحال فيما ذكره المحقق الخراسانيّ ( قده ) من عطف موارد جلاء الواسطة على خفائها من حيث حجية الأصل المثبت فيه وذكر في وجه ذلك تقريبين :

أولهما ـ ان العرف في موارد جلاء الملازمة ووضوحها لا يتعقل التفكيك بينهما حتى بحسب الظاهر لشدة الالتصاق بينهما فالأبوة والبنوّة لا يمكن ان يكون بينهما تفكيك حتى في مرحلة التعبد والحكم الظاهري فيكون الدليل على أحدهما دليلاً على الآخر.

ثانيهما ـ ان شدة الالتصاق والتلازم ووضوحه يجعل العرف يرى الأثر الشرعي للواسطة أثراً مرتبطاً بملازمه أيضاً فكأنما هما وجهان لحقيقة واحدة ينظر إليه من جانب فيقال أبوّة ومن جانب آخر فيقال بنوّة.

وبين التقريبين فرق واضح ، فان الأول منهما يرجع إلى ما ذكرناه في هذا الأمر ، بينما الثاني منهما يرجع إلى ما تقدم في وجه حجية الأصل المثبت ، ويترتب على ذلك فرق عملي أيضاً حيث انه بناءً على الأول منهما لا بد من ترتب أثر عملي على استصحاب الأبوة مثلاً أولا لكي نثبت البنوّة ثانياً اما إذا لم يكن الأثر مترتباً إلاّ على البنوّة فلا يمكن إثباتها باستصحاب الأبوة لعدم تمامية أركان الاستصحاب في البنوّة ابتداءً وعدم ترتب أثر عملي على الأبوة ليثبت لازمه ، وهذا بخلاف التقريب الثاني فانه بناءً عليه يكون أثر البنوة أثراً للأبوة المستصحبة نفسها.

__________________

(١) الا ان تسمية ذلك باللازم لا يخلو من مسامحة لأن المجعول الفعلي مدلول تضمني لدليل الجعل بحسب الدقة لا التزامي كما لا يخفى وجهه.

٢٠٤

وأياً ما كان فقد عرفت بطلان التقريب الثاني سواء جعل ملاكه خفاء الواسطة أم جلائها ، كما ان التقريب الأول إذا تمت صغراه فلا إشكال في كبراه ، الا ان الشأن في ان مجرد جلاء الواسطة يكفي سببا لذلك بحيث تتم ملازمة تصديقية عرفية بين التعبد بأحدهما والتعبد بالآخر.

الأمر الرابع ـ أفاد المحقق الخراسانيّ ( قده ) بان الأثر الشرعي لو كان مترتبا على عنوان كلي وشك في فرد منه فيمكن ترتيبه باستصحاب الفرد إذا كان كليا ذاتيا كالإنسان أو عرضا بنحو الخارج المحمول لا المحمول بالضميمة ، ويقصد بالخارج المحمول العناوين التي ليس بإزاء مبادئها شيء في الخارج بل انتزاعية كالفوق والزوج والملك ونحوها ، ويقصد بالمحمول بالضميمة ما تكون مبادئها خارجية كالأسود والأبيض فان البياض والسواد لهما وجود خارجي زائداً على الذات ، فذكر في القسم الأول وهو الكليات الذاتيّة أن استصحاب حياة زيد مثلا يترتب عليه آثار الإنسان لأن الواسطة في المقام وهي عنوان الإنسان نفس الفرد في الخارج لا شيء آخر ملازم معه.

وهذا الكلام يمكن تعميمه إلى القسمين الآخرين إذا كما يكون مفهوم الإنسان بالنسبة إلى ما يصدق عليه ذاتيا كذلك عنوان الفوق أو الأسود بالنسبة إلى ما يصدق عليه من حيث انه يصدق عليه ذاتي وليس امراً زائداً عليه.

وأياً ما كان فقد اعترض السيد الأستاذ على صاحب الكفاية بان جريان استصحاب حياة زيد مثلا لترتيب الأثر الشرعي المترتب على الكلي ليس استثناءً من الأصل المثبت بل هو خارج عنه موضوعاً ، لأن العنوان الكلي إذا لو حظ بنحو المعنى الاسمي فهو مباين مع الفرد فيأتي فيه شبهة المثبتية واما إذا لو حظ بما هو فانٍ في الخارج فهو عين الافراد فتثبت تلك الأحكام لا محالة باستصحاب الفرد.

والتحقيق : ان أصل هذه المنهجة لا يخلو من تشويش ، فانه ينبغي تحديد مصب الاستصحاب ومركزه ليرى هل ان هذا الاستصحاب من استصحاب الفرد أصلا أم لا؟ فنقول ، تارة : يراد بالفرد واقع الوجود العيني الّذي لا يمكن إدراكه ولا يمكن مجيئه إلى الذهن ، وأخرى : يراد به المفهوم الجزئي كمفهوم زيد مثلا.

فان أريد الأول كان من الواضح ان الاستصحاب لا يجري فيه لأنَّ موضوعه

٢٠٥

ما يكون مصباً لليقين والشك وهو المفاهيم لا الأعيان الخارجية ، وان أُريد الثاني فتارة :

يفرض انَّ المفهوم الجزئي مركب من تجميع مفاهيم عديدة منها ذلك العنوان الكلي ، فزيد عبارة عن ذلك الإنسان الطويل الأبيض الجالس في هذا المكان مثلاً ، وأخرى :

يفرض عدم اشتمال المفهوم الجزئي على المفهوم الكلي بل هو مفهوم آخر في عرضه ينطبقان معاً على العين الخارجية كعنوان المولود في الساعة الفلانية مثلاً الّذي لا يستبطن مفهوم الإنسان وان كان صادقاً عليه.

ففي الفرض الثاني لا يمكن إثبات الأثر المترتب على الكلي بإجراء الاستصحاب في العنوان الآخر لأنه من استصحاب عنوان لإثبات أثر عنوان آخر اتفق اجتماعهما في الصدق وهو من أوضح أنحاء الأصل المثبت (١).

فلا يبقى إلاّ الفرض الأول وهو مستبطن لليقين بالعنوان الكلي فيكون الاستصحاب بحسب الحقيقة استصحاباً لنفس ذلك العنوان الكلي ، اللهم إلاّ إذا فرض ترتب أثر على العناوين الأخرى المنضمة فيجري الاستصحاب فيها أيضاً بلحاظه (٢).

__________________

(١) الفرد لا يختلف عن الكلي في المفهوم التصوري ولا هو يحصل بتجميع الكليات بعضها إلى بعض فان تقييد كلي بكلي لا يجعله جزئياً وانما الفرد والجزئي الحقيقي يحصل بإشارة الذهن بالمفهوم إلى واقع عيني خارجي المعبر عنه بالتشخص وهذا ما أكد عليه سيدنا الأستاذ ( قدس‌سره الشريف ) في بحوث أخرى أيضا ، وعندئذ ينبغي ان يقال : انه لو فرض ان الأثر كان مترتباً على جزئي فمعنى ذلك انه مرتب على واقع معين مشار إليه بحيث تكون الإشارية المقومة للجزئية مقومة للأثر أيضاً وفي مثل ذلك لو أحرز ذلك الواقع ولو بعنوان آخر تفصيلي أو إجمالي سابقا صحّ إجراء الاستصحاب فيه لأنَّ مصب الأثر أو الاستصحاب ليس هذا العنوان الإجمالي بل ذلك المعنون المشار إليه ويكون هذا العنوان الإجمالي مشيراً إلى ما هو مصب الأثر ومصب الاستصحاب في نفس الوقت ، وان شئت قلت : ان الاستصحاب ركنه اليقين بما هو موضوع للأثر والوظيفة وهذا هنا ذلك الواقع المشار إليه بأي عنوان بحسب الفرض فلو شك في بقائه جرى التعبد الاستصحابي فيه من خلال هذا العنوان الإجمالي رغم ان هذا العنوان ليس هو مركب الاستصحاب فتأمل جيداً.

(٢) تارة : يكون النّظر إلى استصحاب الفرد لإثبات الحكم المتعلق به كاستصحاب بقاء زيد لإثبات وجوب إكرامه أو البقاء على تقليده ، وأخرى : لا يكون الفرد متعلقاً للحكم وانما محقق لشرط فعلية الحكم كما إذا وجب الصدقة على الفقير على تقدير بقاء زيد مثلاً.

اما في الفرض الأول فلا معنى لأصل هذا البحث فيه إذا الحكم المشكوك انما هو الحكم الجزئي المتعلق بذلك الفرد نفسه فيكون استصحابه استصحاباً فيما هو موضوع الحكم الشرعي مباشرة لا بواسطة الجامع والكلي لأن المفروض انحلال الحكم إلى أحكام عديدة بعدد المصاديق والوجودات الخارجية ويكون المجعول في كل منها مستقلاً عن المجعول في الآخر فيجري الاستصحاب بلحاظه ، وأوضح من ذلك استصحاب بقاء خمرية العصير المشكوك صيرورته خلا لإثبات حرمة شربه فإن هذا ليس من استصحاب الفرد لإثبات حكم الكلي أصلاً فان حرمة كل مائعٍ منوط بخمريته بنحو مفاد كان الناقصة والمستصحب هنا خمرية.

٢٠٦

وذكر المحقق الخراسانيّ ( قده ) في القسمين الآخرين أعني الخارج المحمول والمحمول بالضميمة ان استصحاب بقاء منشأ الانتزاع في الخارج المحمول يكفي لإثبات الأثر الشرعي المترتب على الأمر الانتزاعي ، لأن ذلك الأمر الانتزاعي لا حقيقة له وراء منشأ انتزاعه بخلاف المحمول بالضميمة فلا يمكن إثباته باستصحاب الذات لكونه من الأصل المثبت.

وهذا الكلام إذا أريد منه استصحاب فرد نفس العنوان الخارج المحمول أو المحمول بالضميمة فقد عرفت انه يرجع إلى القسم الأول والظاهر ان هذا ليس هو المراد ، وان أريد منه استصحاب منشأ الانتزاع لإثبات العنوان الانتزاعي فقد أورد عليه الأستاذ بأنه أيضاً من الأصل المثبت ، فلو علمنا بأن المرأة على تقدير بقائها قد تزوجها زيد لا يمكن إثبات زوجيتها باستصحاب حياتها ، وكذلك إذا استصحبنا بقاء شيء لو كان باقيا كان فوق الأرض مثلاً لا يمكن إثبات فوقيته به إلاّ بنحو الأصل المثبت ، فلا فرق بين الخارج المحمول والمحمول بالضميمة.

هذا ويمكن أَن يكون مقصود المحقق الخراسانيّ كما يظهر من حاشيته على الرسائل انَّ العناوين الانتزاعية أو بحسب تعبيره الخارج المحمول لا يستظهر من دليل الأثر الشرعي المترتب عليه أكثر من ترتب ذلك الأثر على ذات الشيء فأحكام الزوجية تترتب على ذات المرأة بشرط وقوع العقد عليها لا انَّ هناك امراً يتحقق خارجاً وتتصف بها كما في المحمول بالضميمة (١) ومدرك هذا الاستظهار امَّا ان يكون بتصور ان الأمور الاعتبارية أو الانتزاعية لا واقع لها فلا يمكن ان تكون دخيلة في الحكم ، أو دعوى إلغاء العرف بحسب مرتكزاته لدخالتها في الحكم الشرعي.

__________________

ـ هذا المائع لا وجود فرد من الخمر.

وامَّا في الفرض الثاني فلا معنى لاستصحاب الفرد بل يستصحب الكلي لأن الحكم الشرعي وهو وجوب الصدقة في المثال مرتب على وجود الإنسان مثلاً لا وجود زيد بالخصوص ووضوح ان استصحاب بقاء الفرد لإثبات الجامع كاستصحاب عدمه لنفيه من أوضح أنحاء الأصل المثبت ولا ربط لهذا بمسألة ملاحظة الكلي بما هو فان في الخارج كما قيل في رد صاحب الكفاية لوضوح ان خارجية الكلي أيضا غير خارجية الفرد والجزئي والظاهر ان هذا هو مقصود الأستاذ قدس‌سره.

(١) هذا لا يكفي وحده في جريان الاستصحاب بل لا بد وان يضاف إلى ذلك تركيبية هذه العناوين الانتزاعية ، فالفوق يعني مجموع امرين وجود ذات الشيء وكون الشيء الآخر تحته والزوج يعني ذات الرّجل أو المرأة وإنشاء العقد والا لم يثبت بالاستصحاب أيضاً ، وقد تقدم ان هذه العناوين وحدانية بسيطة فلا يمكن ان تكون تركيبية.

٢٠٧

وكلا المدركين غير تام لوضوح ان الأمور الانتزاعية ليست خيالية بل واقعية ، ولهذا لا يمكن للعقل ان لا ينتزع اعتبار الفوقية للفوق ، ولو فرضت اعتبارية فهذا لا يعني عدم إمكان دخالتها في الحكم الشرعي إذ ليس المقصود من الدخالة العلية والإيجاد على ما حقق في محله ، كما ان الارتكاز والفهم العرفي على العكس يرى واقعية هذه الصفات ويتعامل معها كما يتعامل مع المحمولات بالضميمة ويوليها أهمية وخطورة كبيرة.

واستعرض المحقق الخراسانيّ أمثلة لموارد استصحاب منشأ الانتزاع وترتيب آثار العنوان الانتزاعي لا بأس بذكرها والتعليق عليها.

منها ـ استصحاب بقاء حياة ذات الزوج أو الزوجة وترتيب آثار الزوجية.

وفيه : ان الزوجية بنفسها حكم شرعي وضعي موضوعه ذات الزوج أو الزوجة فيترتب على استصحاب حياتهما بلا ربط بمسألة الأمر الانتزاعي ولا بالأصل المثبت.

ومنها ـ الملكية التي تترتب باستصحاب حياة ذات المالك.

وفيه : ما تقدم من ان الملكية حكم شرعي موضوعها ذات المالك فتترتب أيضاً بلا ربط بمسألة الأصل المثبت.

ومنها ـ ما جاء في الحاشية من الملكية في باب الوقف ، ولعله يقصد ان استصحاب بقاء حياة ذات الموقوف عليه كالبطن الأول مثلاً لا يثبت عنوان كونه الموقوف عليه لو لا ما تقدم منه من انه أمر اعتباري ليس له ما بإزاء في الخارج.

وفيه : ان دليل إمضاء الوقف يثبت شرعاً نفس ما أثبته الواقف من التمليك على ذات الموقوف عليه لا الموقوف عليه بما هو موقوف عليه فان هذا العنوان ينتزع في طول الوقف.

ومنها ـ ما لو نذر التصدق ما دام ابنه حياً مثلا فان استصحاب بقاء ابنه لا يثبت عنوان النذر الّذي يجب الوفاء به إلاّ على أساس ما تقدم.

وفيه : انَّ وجوب الوفاء بالنذر ان اعتبرناه كوجوب الوفاء بالعقد والوقف فموضوعه ذات الشيء المنذور والنذر حيثية تعليلية فيكون استصحاب الحياة منقحاً لموضوع وجوب التصدق في المثال ، وان كان عنوان النذر حيثية تقييدية أمكننا استصحاب بقاء النذر وعدم انتهاء أمده فان النذر كتعهّد والتزام أيضاً له حدوث وبقاء بحسب النّظر العرفي فيتنقح موضوع وجوب الوفاء به.

٢٠٨

الاستصحاب

تطبيقات

١ ـ جريان الاستصحاب مع الشك التقديري.

٢ ـ موارد ثبوت الحالة السابقة بغير اليقين.

٣ ـ استصحاب الكلي.

٤ ـ استصحاب الزمان والأمور التدريجية.

٥ ـ الاستصحاب التعليقي.

٦ ـ استصحاب عدم النسخ.

٧ ـ الاستصحاب في متعلقات الأحكام.

٨ ـ الاستصحاب في الموضوعات المركبة.

شبهة انفصال زمان اليقين عن الشك.

٩ ـ الاستصحاب في حالات توارد الحالتين.

١٠ ـ عموم العام أو استصحاب عدم المخصص.

٢٠٩
٢١٠

الفصل الرابع

« تطبيقات »

وقع البحث عن تمامية أركان الاستصحاب في جملة من التطبيقات ، وقد ذكرنا فيما سبق انَّ للاستصحاب على ما يستفاد من أدلته أربعة أركان ، اليقين بالحدوث ، والشك في البقاء ، والأثر العملي في مرحلة البقاء ، ووحدة القضية المتيقنة والمشكوكة. وقد تقدم البحث عن وجه اشتراط هذه الأركان ، وفيما يلي نتحدث عن موارد وقع البحث بين الاعلام في حجية الاستصحاب فيها نتيجة التشكيك في انطباق بعض الأركان المذكورة فيها.

١ ـ جريان الاستصحاب مع الشك التقديري :

لا إشكال في ركنية الشك في موضوع الاستصحاب ، وانما البحث في اختصاص ذلك بما إذا كان لدى المكلف شك فعلي ملتفت إليه أو يكفي أَن لا يكون له يقين لو التفت وإن لم يلتفت بالفعل لكونه غافلا.

ذهب المشهور إلى عدم كفاية ذلك وضرورة فعلية الشك واليقين في جريان الاستصحاب ، وقد استندوا في ذلك إلى أحد وجهين ، أحدهما ثبوتي والآخر إثباتي.

الوجه الأول ـ وهو الوجه الثبوتي ، انَّ الاستصحاب حكم ظاهري ، والأحكام الظاهرية ليست لها ملاكات واقعية وانما تجعل لمجرد التنجيز والتعذير عن الواقع

٢١١

ولذلك تكون متقومة بالوصول فمع عدم إمكان الوصول ولو للغفلة والنسيان يلغو جعلها.

وفيه : ما تقدم في محله من واقعية الأحكام الظاهرية جعلاً وملاكاً وعدم تقومها بالوصول ، نعم ملاك الحكم الظاهري ليس ملاكاً مستقلاً عن الملاكات الواقعية وانما هو درجة الحفظ والاهتمام بها في حالات التزاحم الحفظي وهذا لا يجعله متقوماً بالوصول ، فلا أساس لهذا الوجه.

الوجه الثاني ـ وهو الوجه الإثباتي ـ ما جاء في كلمات المحقق الخراسانيّ ( قده ) من ظهور أدلة الاستصحاب في اشتراط الشك الفعلي لأنه قد عبر فيها بلا تنقض اليقين بالشك وظاهر كل عنوان يؤخذ في لسان جعل على نحو القضية الحقيقية أخذ الوجود الفعلي منه موضوعاً للمجعول وهذا يعني قصور مقام الإثبات عن حجية الاستصحاب في موارد الشك التقديري ولو فرض معقوليتها ثبوتا.

وفيه : أولا ـ لا قصور في مقام الإثبات لتمامية الإطلاق اللفظي في جملة من أدلة الاستصحاب ، ففي الصحيحة الأولى قد ورد ( لا تنقض اليقين بالشك بل تنقضه بيقين آخر ) ممّا يعني انَّ القاعدة المضروبة عدم نقض اليقين بغير اليقين ، فليست فعلية الشك لها دخل في هذا التعبد فيشمل كل ما لا يكون يقيناً ، وفي المقام لا يقين بالانتقاض ، وكذلك التعبير الوارد في صحيحة ابن سنان ( لأنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن انه نجسه ) أو التعبير الوارد في روايات قاعدة الحل والطهارة بناءً على إمكان استفادة الاستصحاب منها أيضا فانها جميعا جعلت الغاية العلم بالانتقاض.

وثانياً ـ لو فرض عدم تمامية الإطلاق اللفظي فلا ينبغي الإشكال في انَّ مناسبات الحكم والموضوع المفهومة عرفاً تقتضي إلغاء مدخلية فعلية الشك في حجية الاستصحاب ، لأنَّ ملاكها وهن الشك وقوة اليقين وهذا الوهن لا يختص بفرض فعلية الشك بل لعله أكثر وهناً في حال كونه تقديرياً فينعقد إطلاق عرفي يشمل تمام موارد عدم اليقين بالانتقاض ، نعم لا يشمل موارد اليقين التقديري بالانتقاض بحيث يفرض انه غافل ولكنه يتيقن بالانتقاض لو التفت إلى نفسه ، والوجه في ذلك نفس المناسبة. العرفية التي ذكرناها.

ثم انهم فرعوا على هذا البحث فرعين :

الفرع الأول ـ ما ذكره الشيخ وتبعه المحقق الخراسانيّ ( قده ) من ان من كان محدثاً

٢١٢

فغفل ثم صلى وشك بعد الفراغ انه تطهر وصلّى أم لم يتطهر يجري في حقه استصحاب الحدث بالنسبة إلى الأفعال الآتية بلا كلام ، ولكن بالنسبة لما فرغ منه إن لم نقل بحجية الاستصحاب في الشك التقديري جرت قاعدة الفراغ ويحكم بصحة صلاته بناءً على عدم قدح الغفلة وعدم اشتراط احتمال الذّكر حين العمل في جريانها ، وامَّا إذا قلنا بجريان الاستصحاب في الشك التقديري كان المكلف حين العمل محكوماً بالحدث ظاهراً ومعه لا تجري القاعدة ، لأنَّ موضوعها من لم يحكم عليه ظاهراً بالبطلان حين العمل ولهذا لا يشك أحد في عدم جريانها مع شكه في بقاء الحدث حين الصلاة.

ويلاحظ عليه : انه لا دليل على أخذ القيد المذكور في موضوع القاعدة ، لأننا إذا لاحظنا ذيلها فهو يدل على ما هو المختار عندنا في الفقه من اشتراط احتمال الأذكرية حين العمل فلا موضوع للقاعدة في أمثال المقام ، وإن لم نلحظ ذلك وجمدنا على عنوان الفراغ في كل مورد فرغ فيه عن عمل واحتمل صحته ولو صدفة واتفاقاً فلا وجه لأخذ قيد زائد على ذلك وانما لا تجري القاعدة في مورد الشك الفعلي في العمل باعتبار عدم تحقق عنوان الفراغ المأخوذ فيها. وبعبارة أخرى موضوع القاعدة الشك الحاصل بعد العمل بنحو لا يكون العمل حينه محكوماً بالبطلان بحسب نظر المكلف ، وهذا القيد حاصل في المقام ولو كان الاستصحاب جارياً في شكه التقديري لأنه غير واصل إليه بحكم غفلته وتقديرية شكه بخلاف موارد الشك الفعلي.

وهكذا يتضح جريان الاستصحاب في المقام وعدم حكومته على القاعدة. وهل يحكم بتقدم القاعدة عليه أم لا؟ قد يقال بتقدمها من باب عدم اجتماعهما في زمان واحد ، فانه حين العمل يجري الاستصحاب دون القاعدة وبعد العمل تجري القاعدة وتحكم على الاستصحاب بعد الفراغ عن العمل ، والاستصحاب الجاري حين العمل لا يكون منجزا لما بعد الفراغ من العمل فانَّ الاستصحاب ينجز بجريانه بلحاظ زمان جريانه لا أكثر ، وهذا من قبيل من قلد مجتهداً يحكم ببطلان صلاته ثم مات فقلد مجتهداً آخر يحكم بصحة صلاته فانه لا تجب عليه الإعادة.

إلاّ انَّ الصحيح : وقوع المنافاة بينهما ، لأنَّ التفكيك بين الوجود الحدوثي للاستصحاب والوجود البقائي له غير معقول في خصوص المقام ، لأنَّ لازمه اختصاص هذا التعبد الاستصحابي بصورة الغفلة بحيث يرتفع بمجرد الالتفات وجعل مثل هذا

٢١٣

الحكم الظاهري لغو عقلاً أو عقلائياً وعرفاً على أقل تقدير وهذا يعني ان دليل التعبد الاستصحابي بالحدوث يلازم التعبد الاستصحابي بقاءً أيضاً فيقع التنافي بينه وبين القاعدة (١) وحينئذ لو قلنا بأنَّ تقدم القاعدة على الاستصحاب الجاري في موردها بعد العمل يكون بملاك الحكومة ورفعها للشك فهذا الوجه لا يتم هنا لأنها لا ترفع الشك حين العمل والتعبد الاستصحابي بعد العمل لازم دليل الاستصحاب لا نفس الاستصحاب فيكون التعارض بحسب الحقيقة بين دليل التعبدين بلحاظ ما بعد الفراغ عن العمل ، وإنْ قلنا بأنَّ تقدم القاعدة على الاستصحاب بملاك التخصيص وتقدم ظهور دليلها على ظهور دليله كما هو الصحيح فهذا يجري في المقام أيضاً فيحكم بصحة الصلاة بالقاعدة على كل حال.

الفرع الثاني ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) ، من ان المكلف إذا كان عالماً بالطهارة ثم شك في بقائها ثم غفل وصلى وبعد الصلاة حصل له العلم بتوارد الحالتين عليه من الطهور والحدث قبل الصلاة مع عدم معرفة المتقدم منهما عن المتأخر فانه في مثل هذا الفرض لا تجري قاعدة الفراغ لأنَّ موضوعها الشك بعد الفراغ وهو هنا عرفاً نفس الشك المتقدم على العمل وليس شكاً جديداً ، كما انَّ استصحاب الطهارة بلحاظ ما بعد الصلاة لا يجري لتوارد الحالتين فلا يبقى إلاّ استصحاب الطهارة بلحاظ الشك التقديري حال الصلاة ، فان قيل بجريانه صحت صلاته وإن قيل بعدم جريانه وجبت الإعادة بناء على شرطية الطهور في الصلاة.

ويلاحظ عليه : أولا ـ ان هذا الشك فعلي حين العمل وليس تقديرياً ، لأنَّ الشك كالعلم والظن تارة يكون ملتفتاً إليه وأخرى لا يكون ملتفتاً إليه بعد حصوله ولكنه موجود في أعماق النّفس وعدم الالتفات إلى ما في النّفس لا يرفعه لا دقة ولا عرفاً ولهذا قيل بعدم شمول قاعدة الفراغ لهذا المكلف بعد العمل لكون شكه نفس الشك السابق. فإذا كان الدليل على عدم جريان الاستصحاب في الشك التقديري عدم فعلية الشك فهو غير تام في المقام ، نعم لو كان المدرك الوجه الثبوتي الّذي ذكره

__________________

(١) انَّ فرض لغوية جعل التعبد الاستصحابي في حال الغفلة فهذا معناه انَّ جعل الحكم الظاهري الاستصحابي في مورد الشك التقديري لغو عقلائياً وهذا يؤدي إلى عدم شمول دليل الاستصحاب للشك التقديري لا شموله له وثبوت لازم يخرجه عن اللغوية فانَّ الدليل لم يكن وارداً في الشك التقديري لتتم فيه دلالة الاقتضاء مثلاً.

٢١٤

المتأخرون من عدم معقولية الحكم الظاهري مع عدم الوصول والتنجز كما في حال الغفلة والنسيان فهذا الوجه جار هنا أيضاً.

وثانياً ـ ما أشرنا إليه آنفاً من ان المنجز في كل آن هو الحجة المعذرة للمكلف والنافية عنه الإعادة والقضاء في ذلك الآن واستصحاب الطهارة في الفرع المذكور قد فرض انقطاعه بعد الفراغ عن العمل لحصول العلم بتوارد الحالتين فلا معذر بيد المكلف بعد الفراغ ليعتمد عليه ، والتعبد الاستصحابي حين العمل لا يعذر عن الواقع إلاّ بلحاظ زمانه وظرفه.

إن قلت : قد تقدم قبول الملازمة بين ثبوت التعبد الاستصحابي في الشك التقديري حين العمل وثبوته بلحاظ ما بعد الفراغ وإلاّ كان لغواً عقلاً أو عقلائياً.

قلنا ـ لو فرض عدم توارد الحالتين بعد الفراغ جرى استصحاب الطهارة بلحاظه ، ولو فرض التوارد كما هو المفروض كان المدلول الالتزامي المذكور بنفسه معارضاً مع استصحاب الحدث الّذي هو تعبد استصحابي بالحدث يثبت بنفس دليل الاستصحاب ، وهذا يعني انَّ التعارض بحسب الحقيقة بين هذا المدلول لدليل الاستصحاب مع مدلولين آخرين أحدهما استصحاب الطهارة الجاري بعد الصلاة والآخر المدلول الالتزامي للتعبد الاستصحابي الجاري حين العمل ، وتسقط المداليل جميعاً.

نعم لو بني على عدم جريان الاستصحاب في موارد التوارد في نفسه لا للمعارضة تم هذا البيان ، إلاّ انَّ أصل هذا المبنى غير صحيح على ما سوف يأتي في محله.

ولا بأس بتفصيل الكلام في الشقوق المتصورة في هذا الفرع على ضوء الأصول الأربعة التي اثنان منها مؤمّنان وهما استصحاب الطهارة وقاعدة الفراغ واثنان منها منجزان وهما استصحاب النجاسة والاشتغال ملاحظين في الاستصحاب ما ذكره المشهور من عدم جريانه في موارد الشك التقديري ، وفي القاعدة ان يكون الشك حادثاً بعد الفراغ لا من قبل وان يحتمل كونه حال الصلاة أحسن منه بعد الصلاة وهو ما يعبر عنه بالأذكرية ، وأَن لا تكون صلاته حين العمل محكومة بالبطلان شرعاً أو عقلاً ـ وهذا الشرط لم نقبله بهذه الصيغة نعم قبلناه بما يرجع إلى الشرط الأول بحسب الروح كما عرفت ـ فنقول الفروض المتصورة هنا في هذا الفرع ثلاثة لأنَّ الحالة السابقة

٢١٥

المتيقنة قبل العمل امَّا أَن تكون الطهارة أو الحدث أو الطهارة والحدث بأَن يكون عالماً بهما معاً ولكن يشك في المتقدم والمتأخر منهما ، وكل واحد من هذه الفروض ينحل إلى شقوق ثلاثة فيكون المجموع تسعة ، وفيما يلي حكم كل فرع :

الفرض الأول ـ أَن يكون قبل العمل عالماً بالطهارة ، وشقوقه الثلاثة كما يلي :

١ ـ أَن يعلم بالطهارة ثم يشك في بقائها ويصلي في حال الشك وبعد الصلاة يبحث عن حكم صلاته ، وهنا لا إشكال في عدم جريان القاعدة في حقه لانتفاء الشرطين الأول والثاني من الشروط المتقدمة لجريانها ، وامَّا استصحاب الطهارة فيجري في حقه إن لم يحصل له العلم بتوارد الحالتين.

٢ ـ أَن يعلم بالطهارة قبل العمل ثم يغفل ويصلي ويكون له شك تقديري في حال الغفلة بحيث لو التفت لشك في بقاء طهارته ويلتفت بعد الفراغ ، وهنا لا تجري القاعدة لفقدان الشرط الثاني ويجري استصحاب الطهارة بعد الفراغ إن لم يحصل له العلم بتوارد الحالتين وإلاّ لم يجر ووجبت الإعادة في الوقت ، وامَّا خارج الوقت فوجوب القضاء مبني على جريان قاعدة الحيلولة في أمثال المقام ، وامَّا استصحاب الطهارة بلحاظ الشك التقديري حين العمل فلا أثر لجريانه لما عرفت من انه لا يؤمن إلاّ بلحاظ زمان العمل لا أكثر كما عرفت.

٣ ـ أَن يعلم بالطهارة قبل العمل ثم يشك ثم يغفل فيصلي ، وهذا هو الّذي ذكره المحقق العراقي ( قده ) ، وهنا لا تجري القاعدة لفقدان الشرط الأول والثاني معاً ويجري استصحاب الطهارة بلحاظ ما بعد الفراغ إذا لم يحصل له العلم بتوارد الحالتين ولا أثر لاستصحابها بلحاظ حال الصلاة.

الفرض الثاني ـ أَن يكون عالماً بالحدث قبل الصلاة ، وشقوقه الثلاثة كما يلي :

١ ـ أَن يعلم بالحدث قبل العمل فيشك ثم يصلي ولو رجاءً فيبحث عن حكم صلاته ، وهنا لا تجري القاعدة لفقدان الشروط الثلاثة معاً وانما يجري استصحاب الحدث إن لم يحصل له العلم بتوارد الحالتين وإلاّ جرت أصالة الاحتياط.

٢ ـ أَن يعلم بالحدث قبل العمل ثم يغفل بنحو بحيث لو التفت لشك في بقائه

٢١٦

ويصلي ثم يلتفت فيحصل له الشك ، وهذا هو الفرع الّذي فرضه الشيخ والمحقق الخراسانيّ لثمرة القول بجريان الاستصحاب في الشك التقديري حيث جعلوا جريان استصحاب الحدث بلحاظ الصلاة رافعاً لموضوع القاعدة بعد الفراغ. وقد عرفت عدم تمامية أصل هذه الشرطية وعدم جريان القاعدة على كل حال لفقدان شرطها الثاني فسواءً جرى استصحاب الحدث أم لا يحكم بوجوب الإعادة ولا تظهر الثمرة ، ولو فرض جريان القاعدة حتى مع عدم احتمال الأذكرية ـ أي انتفاء الشرط الثاني ـ فأيضاً لا تظهر الثمرة لجريان القاعدة وتقدمها على الاستصحاب حتى إذا قلنا بجريانه في الشك التقديري.

٣ ـ أَن يعلم بالحدث قبل العمل ثم يشك ثم يغفل ويصلي ثم يلتفت ـ والمفروض عدم احتمال صدور الطهور منه حال الغفلة ـ وقد ذكر الشيخ هنا انه لا معنى لجريان القاعدة بعد الفراغ لأنه يقطع بأنه قد صلى مع الحدث الاستصحابي إذ لا يحتمل صدور الطهور منه حال الغفلة.

واعترض الاعلام على هذا الكلام بأنَّ الحدث الاستصحابي قد زال بزوال موضوعه وهو الشك إذ ليس الشك أحد النواقض التي لا يزول أثرها إلاّ بالطهور وانما هو موضوع لحكم ظاهري يزول بارتفاعه.

وهذا الاعتراض وإن كان وارداً على الشيخ ( قده ) إلاّ انَّ أصل افتراض انَّ هذا من موارد الشك التقديري غير صحيح لما عرفت من انَّ الشك كالعلم والظن بعد حصوله لا يتقوم بالالتفات والتوجه التفصيليّ نحوه فالاستصحاب في المقام يجري ـ بناءً على انَّ المحذور إثباتي لا ثبوتي ـ في شك فعلي إلاّ انه لا يفيد في التنجيز إلاّ بمقدار زمان جريانه فلو حصل له العلم بتوارد الحالتين بعد الفراغ وجب الاحتياط بالإعادة لأنَّ قاعدة الفراغ لا تجري هنا لفقدان شروطها الثلاثة كما لا يخفى.

الفرض الثالث ـ أَن يكون عالماً قبل الصلاة بالطهارة والحدث معاً ولا يدري المتقدم منهما عن المتأخر حين يلتفت إلى نفسه ، وشقوقه الثلاثة كما يلي :

١ ـ ان يصلي في حال التردد والشك في المتقدم منهما والمتأخر ، وهنا لا تجري القاعدة لفقدان الشروط المتقدمة لجريانها حتى الثالث إذا قلنا به في موارد الاشتغال العقلي ، كما لا يجري الاستصحاب لا بلحاظ حال الصلاة ولا بعده امَّا في نفسه أو

٢١٧

للتعارض فينتهى إلى قاعدة الاشتغال.

٢ ـ أَن يعلم بالحالتين ثم يغفل غفلة لو التفت إلى نفسه فيها لشك في المتقدم والمتأخر منهما ويصلي ثم يلتفت ، والحكم بالصحّة هنا يرتبط بقبول الشرط الثاني للقاعدة وعدمه ، لأنَّ الشرط الأول متوفر فيه لعدم حصول الشك قبل العمل كما انَّ الشرط الثالث على القول به متوفر أيضاً لأنَّ الاشتغال والتنجيز العقلي لا معنى له في حال الغفلة ، واستصحاب الحدث لو قيل بجريانه في الشك التقديري معارض باستصحاب الطهارة لأنَّ المفروض انه لو التفت حين العمل إلى نفسه حصل له الشك بنحو التوارد ، وعليه فلو قلنا بعدم اشتراط الأذكرية جرت القاعدة لتصحيح الصلاة وإلاّ وجب الاحتياط.

٣ ـ أَن يعلم بالحالتين ويشك في المتقدم منهما والمتأخر قبل العمل ثم يغفل ويصلي ثم يلتفت ، والحكم هنا هو البطلان لعدم جريان القاعدة بعد فقدان الشرطين الأول والثاني من شروطها الثلاثة ، وعدم جريان الاستصحاب للتوارد فيجب الاحتياط بحكم قاعدة الاشتغال.

وهكذا يظهر انَّ الثمرة التي حاول الأصحاب ترتيبها على جريان الاستصحاب في الشك التقديري غير تامة بلحاظ الصلاة.

نعم يمكن تصوير الثمرة لجريان الاستصحاب في الشك التقديري فيما إذا ترتب أثر شرعي على نفس التعبد الاستصحابي حين العمل لا على الواقع كجواز الإسناد ، بناء على انَّ موضوعه ليس هو الواقع بل العلم وقيل بقيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي إلاّ انَّ هذا مجرد فرض لا واقع فقهي له.

ثم انَّ هذا البحث أعني جريان الاستصحاب في مورد الشك التقديري وعدمه يمكن إيراده بلحاظ الركن الأول للاستصحاب أيضاً أعني اليقين بالحدوث فانه ربما يفترض غفلته عنه بنحو بحيث إذا التفت لتيقن فهل يجري الاستصحاب في مثل ذلك أم لا؟

توضيح الحال في ذلك يكون بالبحث في جهتين :

الأولى ـ في أصل شرطية اليقين بالحدوث في جريان الاستصحاب ، وقد عرفت ورود ذلك في لسان جملة من أدلة الباب كصحاح زرارة ، وظاهر ذلك أخذه بنحو

٢١٨

الموضوعية في هذا الحكم الظاهري لكونه حكماً ظاهرياً يناسب أخذ اليقين في موضوعه إلاّ انَّ جملة أخرى من الروايات كصحيحة ابن سنان وروايات أصالة الحل والطهارة بناء على مبنى المحقق الخراسانيّ ( قده ) من إمكان استفادة كبرى الاستصحاب منها أيضاً لم يؤخذ في لسانها إلاّ ذات الحدوث وثبوت الحالة السابقة وحينئذٍ إن احتملنا تعدد الجعل في نفسه شرعاً وعدم إباء الارتكاز العرفي على وحدة القاعدة في موارد الاستصحاب أمكن الالتزام بوجود قاعدتين ظاهريتين أخذ في إحداهما اليقين بالحدوث وفي الأخرى نفس الحدوث ، وإلاّ كانت الطائفة الثانية قرينة على كفاية الحدوث واقعاً فهو الركن الأول في الاستصحاب لا اليقين به.

الثانية ـ بعد الفراغ عن أخذ اليقين في موضوع القاعدة لا ينبغي الإشكال في انَّ المستظهر من دليل الاستصحاب عندئذ انَّ الموضوع هو اليقين بوجوده الفعلي لا التقديري ، لأنَّ هذا هو ظاهر كل لفظ يؤخذ في لسان دليل ، ولا يتم هنا شيء من التقريبين المتقدمين في الشك كما هو واضح.

٢ ـ موارد ثبوت الحالة السابقة بغير اليقين :

لا إشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا كانت الحالة السابقة ثابتة باليقين والعلم الوجداني. وقد وقع البحث في كيفية جريانه إذا كانت الحالة السابقة ثابتة بأمارة أو أصل عملي حيث قد يشكك في جريانه عندئذ من جهة انتفاء الركن الأول من أركان الاستصحاب وهو اليقين بالحدوث ، ولتفصيل البحث عن ذلك نورد مقامين :

المقام الأول ـ موارد ثبوت الحالة السابقة بالأمارة

، وقد ذكر المحقق الخراسانيّ ( قده ) انَّ الإشكال انما يرد بناءً على انَّ المجعول فيها المنجزية والمعذرية لا الحكم المماثل وإلاّ جرى استصحابه لكونه معلوماً باليقين والعلم الوجداني.

وفيه : انَّ الحكم الظاهري المتيقن ثبوته متيقن ارتفاعه أيضاً ، لأنَّ الأمارة بحسب الفرض بمقدار الحدوث لا أكثر وإلاّ لم يكن بحاجة إلى الاستصحاب ، فالإشكال بصورته البدائية جار على جميع المسالك في باب الحكم الظاهري.

وقد تصدى المحققون لدفع هذا الإشكال بوجوه عديدة :

٢١٩

الوجه الأول ـ استصحاب الجامع بين الحكمين الواقعي أو الظاهري المعلوم حدوث أحدهما إجمالاً والمحتمل بقاءه ولو ضمن الحكم الواقعي.

ويرده : إنَّه تارة يقال ـ بأنَّ الحكم الظاهري جعل مماثل للواقع مستقل عن الواقع قد يصادفه فيماثله وقد لا يصادفه ، وأخرى يقال ـ بأنَّ الحكم الظاهري ليس له وجود مستقل في مقابل الواقع بل هو مجرد أمر طريقي بحت كما هو المنسجم مع تصورات مدرسة المحقق النائيني ( قده ) ، وثالثة يقال ـ بأنَّ الحكم الظاهري عند مصادفته للواقع يكون مندكاً فيه وعند عدم مصادفته يكون مستقلاً.

فعلى الأول ، يكون المورد من استصحاب الكلي من القسم الثالث ، إذ يعلم بتحقق الحكم الظاهري المستقل في قبال الواقع كما يعلم بارتفاعه وانما يشك في بقاء الجامع ضمن الفرد الواقعي المحتمل وجوده من أول الأمر. والتحقيق عدم جريان الاستصحاب فيه وإن ذهب إليه الشيخ الأعظم ( قده ).

وعلى الثاني ، لا يجري استصحاب الجامع لأنه مشكوك الحدوث من أول الأمر والحكم الظاهري لا يحقق فرداً منه بحسب الفرض.

وعلى الثالث ، وإن كان استصحاب الجامع من القسم الثاني لأنَّ الواقع إذا كان فالجامع باقٍ وإلاّ فالجامع مرتفع ضمن فرد قصير هو الحكم الظاهري المماثل ويعلم إجمالاً بأحد الفردين لا أكثر إلاّ انَّ هذا معناه العلم إجمالاً بحدوث حكم اما هو الواقعي الباقي أو الظاهري المخالف للواقع المرتفع ، ومثل هذا العلم بالجامع ليس بحجة وذلك :

أولا ـ لما تقدمت الإشارة إليه في بعض البحوث السابقة وسوف يأتي في بحث استصحاب الكلي من أنَّ العلم بجامع حكم مردد بين ما هو مرتفع فعلاً أو باق لا يكون علماً بحكم منجز لكي يجري استصحابه فينجز لأنَّ أحد فردي هذا الجامع للحكم غير قابل للتنجيز فيكون الجامع بينه وبين ما يقبل التنجيز غير منجز أيضاً.

وثانياً ـ ان الحكم الظاهري المخالف للواقع بما هو مخالف للواقع غير قابل للتنجيز أيضاً بناءً على الطريقية في جعل الأحكام لا السببية فيكون هذا العلم الإجمالي علماً بالجامع بين ما لا يقبل التنجيز وما يقبل فلا يكون منجزاً من هذه الناحية أيضاً.

٢٢٠