بحوث في علم الأصول - ج ٦

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

الآخر لونا ، بل هناك شيء واحد في الذهن إذا لو حظ بالحمل الأولي كان عين المصداق والمفني فيه ، وإذا لو حظ بالحمل الشائع كان غيره ، واحد اللحاظين والحملين لا يمكن ان يختلط بالاخر ، وحيث ان الأحكام تكون على الوجود الذهني بالحمل الأولي فيكتسب الفاني دائما لون المغني فيه لا العكس لأن الفاني بالحمل الأولي عين المفني فيه.

وثانيا ـ بطلان ما ذكر في هذا الوجه من ان مفهوم اليقين بلحاظ فانيا في مفهوم المتيقن من باب ان مصداق اليقين فان في المتيقن فان مصداق اليقين أعني التصديق والعلم يكون فانيا في المتيقن بالنكتة التي شرحناها ، أي عند ما يلحظ اليقين بعدالة زيد كوجود ذهني بالحمل الشائع فهو غير المتيقن وعند ما يلحظ بالحمل الأولي يرى عدالة زيد وهو عين المتيقن ، الا ان هذه النكتة لا يمكن ان تكون بين مفهوم اليقين والمتيقن فانه ليس عبارة عن المتيقن لا بالحمل الأولي ولا بالحمل الشائع ، وكون مفهوم اليقين فانيا في مصاديقه بالحمل الأولي لا يحقق الفناء لأنه لا يجعله عين المتيقن بالحمل الأولي بل عين اليقين.

الوجه الثالث ـ ما ذكره المحقق الخراسانيّ ( قده ) في حاشيته على الرسائل من ان اليقين استعمل كناية عن المتيقن فالمدلول الاستعمالي وان كان هو اليقين الا ان المراد الجدي هو المتيقن كما في ( زيد كثير الرماد ).

وفيه : مضافا إلى بطلان هذه الكنائية وكونها خلاف الظاهر ، ان هذا الوجه لا يجدي في إثبات المقصود من المقدمة الأولى إذ المقصود إثبات اسناد النقض إلى المتيقن بحسب مرحلة المدلول الاستعمالي ليختص بموارد الشك في المقتضي ، وهذا الوجه يجعل المسند إليه النقض بحسب مرحلة الاستعمال نفس اليقين وهو امر مستحكم سواء كان اقتضاء المتيقن محرزا أم لا.

الوجه الرابع ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) في إثبات الاحتياج إلى إحراز المقتضي وهو لا يتوقف على إثبات المقدمة الأولى أعني اسناد النقض إلى المتيقن بل يثبت الاختصاص حتى مع كون النقض مسندا إلى اليقين ، وعبارة التقريرين لكلام هذا المحقق لا يخلو من تشويش وإبهام ونحن نورد في توضيح مرامه احتمالين :

١ ـ ان النقض بحاجة إلى إبرام وإحكام في متعلقه ولو مسامحة وعناية ، وهذا انما

١٦١

يكون في موارد إحراز المقتضي للمتيقن لأن مقتضي المتيقن مقتض لليقين فيكون بقاؤه كأنه بقاء لليقين أيضا فلا ينقض بالشك بخلاف موارد الشك في أصل المقتضي لبقاء المتيقن.

وفيه : أولا ـ ما تقدم في وجه اسناد النقض إلى اليقين من مناسبة شدة التفاف اليقين بمتعلقه وشدة الرفع وفظاعته بلا حاجة إلى فرض استحكام وإبرام من ناحية المتيقن.

وثانيا ـ ان مقتضي اليقين عبارة عن إحراز العلة التامة للمتيقن من المقتضي والاستعداد والشرط وعدم المانع وفقدان أي واحد منها يسلب اليقين بالمقتضى ـ بالفتح ـ على حد واحد ، فدعوى ان مقتضي المتيقن مقتض لليقين مجرد تلاعب بالألفاظ.

٢ ـ ان المراد من النقض في المقام هو النقض العملي أي نقض الجري العملي على اليقين فلا بد من فرض استحكام وإبرام ولو مسامحي في الجري العملي وذلك انما يكون ببقاء مقتضي الجري العملي والا لم يكن نقضا ، وحيث ان الجري العملي يكون بلحاظ المتيقن المنكشف باليقين فلا بد من فرض إحراز مقتضية في مرحلة البقاء وان المتيقن له الدوام والثبات لو لا الرافع والا لم يصدق النقض العملي لليقين.

وفيه : أولا ـ ما تقدم من ان استحكام اليقين ومقتضية لا ربط له بمقتضي المتيقن وان اليقين كما يكون له استحكام واقتضاء لمتعلقه بلحاظ الانكشاف كذلك يكون له ذلك بلحاظ عالم الجري العملي ، والمفروض اسناد النقض إليه لا إلى المتيقن.

وثانيا ـ ان إرادة النقض العملي في المقام لا يقصد به اسناد النقض في الحديث إلى الجري العملي كما إذا قال ( لا تنقض العمل ) بل المقصود به ان مفهوم النقض أريد به النقض عملا فالعملية صفة للنقض ومأخوذ فيه في قبال النقض الحقيقي فلا يحتاج إلى استحكام وإبرام في الجري العملي أصلا (١).

__________________

(١) هذا التعبير محل تأمل لأن المدعى للميرزا ( قده ) ان عنوان النقض المطعم بالعملية لا يصدق في موارد عدم المقتضي للمتيقن بقاء فانه يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع لكون النقض يراد به العملي لا الحقيقي ، والنقض العملي انما يتعلق باليقين بلحاظ كشفه عن متيقنه لا بلحاظ نفسه. وبهذا يظهر المناقشة في الإيراد الأول أيضا فان اقتضاء اليقين لمتعلقه بلحاظ الانكشاف يختلف عن اقتضائه له بلحاظ الجري العملي ، لأن الأخير يرتبط بالمنكشف ومقدار اقتضائه واستمراريته فلا يصدق النقض العملي

١٦٢

وهكذا يتضح ان شيئا من الأدلة لإثبات اختصاص الاستصحاب بموارد الشك في الرافع مع إحراز المقتضى غير تام.

ونضيف هنا : بأنا لو فرضنا اختصاص الأحاديث المشتملة على كلمة النقض بالشك في الرافع كفانا ما لم يرد فيه التعبير بالنقض من الروايات خصوصا مثل

__________________

مع محدودية المنكشف في نفسه وانتفائه فيكون عدم الجري العملي من باب السالبة بانتفاء الموضوع لا النقض.

وقد يجاب على هذا التقريب للاختصاص بان المفروض إلغاء خصوصية الحدوث والبقاء في متعلق اليقين والشك وإضافتهما إلى ذات الشيء مع قطع النّظر عن الزمان ، ومعه يكون النقض العملي صادقا حتى في موارد الشك في المقتضي لأن اليقين بذات المتيقن يقتضي الجري العملي كلما تحقق فيكون رفع اليد عنه بالشك نقضا عمليا لا محالة.

الا ان هذا الجواب غير تام أيضا لأن خصوصية الحدوث والبقاء وان كانت ملغية الا ان عدم صدق النقض في موارد الشك في المقتضي ليس من ناحية هذه الخصوصية بل من ناحية ما يلازمها من انتفاء موضوع المتيقن ومقتضي الجري العملي ، وإلغاء خصوصية الزمان لا يعني إلغاء ما يلازمها من الخصوصيات المانعة عن صدق النقض العملي ، فالحاصل عدم صدق النقض العملي إذا كان من ناحية الحدوث والبقاء فهو ملغى في دليل الاستصحاب وان كان من ناحية انتفاء مقتضى العمل وموضوعه فهذا ما لا يلغيه دليل الاستصحاب.

والتحقيق ان يقال : في مقام الجواب عن هذا التقريب الّذي يظن بأنه هو حاق مقصود الميرزا ( قده ) بان النهي عن نقض اليقين بالشك تارة يفترض فيه انه نهي عن النقض الحقيقي لليقين بالشك إرشادا إلى التعبد ببقاء اليقين ، كما في النهي عن الصلاة أيام القرء إرشادا إلى بطلانها ، وأخرى يفترض فيه بأنه نهي عن النقض العملي بان يؤخذ نفس تعلق النهي به قرينة على إرادة ذلك.

اما على الأول ـ فمن الواضح انه لا وجه لدعوى الاختصاص كما لا موضوع لهذا التقريب إذ ليس المراد من النقض النقض العملي ليلحظ المتيقن ، ولعله كان الأنسب مع مباني الميرزا ( قده ) في استفادة جعل العملية والطريقية في الاستصحاب اختيار هذا الوجه في تفسير الحديث.

واما على الثاني ـ فأيضا لا يتم التقريب المذكور إذ لو أريد عدم صدق النقض العملي في موارد الشك في المقتضي من جهة عدم الاستحكام والإبرام لليقين في هذه الموارد لكي يصح اسناد النقض إليه.

فيرد عليه : أولا ـ ما تقدم من ان الصحيح هو استحكام اليقين وإبرامه بلحاظ تعلقه والتفافه حول متعلقه سواء كان مقتضي المتعلق محرزا أم لا.

وثانيا ـ ما عرفت من ان ثبوت المقتضي للمتيقن بمعنى الثبات والاستعداد لبقائه ليس كافيا لصحة اسناد النقض لأن مصححه الحالة الإبرامية لا البقاء والاستمرار ولهذا لا يصح استعمال النقض لمجرد قطع حالة الاستمرارية فلا يقال نقضت قيامي أو قعودي كما يقال نقضت اليقين أو العهد واليمين.

وان أريد عدم صدق النقض العملي من جهة ان النقض يعني رفع ما هو ثابت لو لا النقض والناقض فلا بد من فرض ثبات الجري العملي لو لا النقض ، وهذا ما لا يحرز في موارد الشك في المقتضي للمتيقن لأن الجري العملي انما يثبت بلحاظ المتيقن وثباته فالجواب : ان النقض قد أسند إلى اليقين بحسب الفرض فلا بد من فرض اليقين وجريه العملي ثابتا لو لا الشك وهذا صادق حتى في موارد الشك في المقتضي ولا اختصاص له بموارد الشك في الرافع ، نعم لو كان التعبير ( لا تنقض الجري العملي لليقين بالشك ) فقد يدعى عدم صدقه في موارد الشك في المقتضي واحتمال محدودية المتيقن الا ان هذا معناه بحسب الحقيقة اسناد النقض إلى المتيقن والجري العملي وهو خلف المدعى وخلاف الظاهر ، ومجرد كون المراد بالنقض النقض العملي لا يستبطن ذلك. والظاهر ان روح مقصود سيدنا الأستاذ ( قدس‌سره الشريف ) من الإيرادين ما شرحناه فتدبر.

١٦٣

صحيحة عبد الله بن سنان ورواية إسحاق بن عمار ( إذا شككت فابن علي اليقين ) فلئن أمكن التشكيك في إطلاق مثل خبر محمد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام ( من كان على يقين فشك فليمض على يقينه فان اليقين لا يدفع بالشك ) بإرجاع الدفع إلى ما يشبه النقض فان الخبرين الأولين لا بأس بالتمسك بإطلاقهما.

ودعوى : اختصاص مورد صحيحة عبد الله بن سنان بالشك في الرافع حيث عبر فيه بقوله ( حتى تستيقن انه نجسه ) ولا يمكن إلغاء هذه الخصوصية في مجال التعدي والتعميم.

مدفوعة : بان التعبير بالتنجيس أعم من الشك في الرافع مفهوما وان فرض ان الفرد المتعارف خارجا للتنجيس يكون من باب الرافع.

وان شئت قلت : ان المستفاد منها عرفا ان علة الحكم الظاهري الاستصحابي هو ثبوت الطهارة سابقا وعدم العلم بالنجاسة سواء كان من ناحية فعل المستعير أو غيره ، فالإنصاف تمامية الإطلاق فيها من هذه الناحية.

وبهذا ينتهي البحث عن الأقوال المفصلة في الاستصحاب ، وقد ظهر ان الصحيح عموم جريان الاستصحاب وعدم اختصاصه بالشبهات الموضوعية ولا بالشك في الرافع ولا بالاحكام الثابتة بدليل شرعي.

١٦٤

الاستصحاب

مقدار ما يثبت بالاستصحاب

١ ـ قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي.

٢ ـ حدود ما يثبته الاستصحاب من آثار القطع الطريقي.

١٦٥
١٦٦

الفصل الثالث

« مقدار ما يثبت بالاستصحاب »

ونبحث تحت هذا العنوان عن مسألتين أساسيتين :

إحداهما ـ ان الاستصحاب هل يثبت آثار القطع الموضوعي أيضا أو يختص بترتيب آثار القطع الطريقي؟ وهذا ما يصطلح عليه بقيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي.

الثانية ـ ان الاستصحاب هل يثبت من آثار القطع الطريقي ما يكون مترتبا على لوازم المستصحب أو ملزوماته العقلية كالأمارات أو يختص بالآثار الشرعية المترتبة على المستصحب؟ وهذا ما يصطلح عليه بالأصل المثبت ، وفيما يلي نتحدث عن كل من المسألتين تباعا.

قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي

لا إشكال في قيام الاستصحاب مقام القطع الطريقي ، أي إثبات التنجيز والتعذير المترتب على المتيقن ، وانما البحث في إثباته للأثر الشرعي المترتب على نفس العلم ـ القطع الموضوعي ـ ولهذا البحث ثمرات مهمة عملية وفنية نشير إلى بعضها :

فمنها ـ ترتب الأحكام الشرعية المتفرعة على العلم بشيء لا على واقع ذلك الشيء

١٦٧

من قبيل جواز الإفتاء بالمؤدى بناء على انه من أحكام العلم بالواقع لا الواقع والا كان من آثار القطع الطريقي.

ومنها ـ حكومة الاستصحاب على الأصول العملية المغياة بالعلم.

ومنها ـ حكومة الاستصحاب السببي على المسببي على بيان يأتي في محله.

والبحث عن قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي في المقام لا بد ان يفرغ فيه عن امرين :

الأول ـ الفراغ ثبوتا عن إمكان استفادة قيام حجة ما مقام القطع الطريقي والموضوعي معا من دليل واحد. وهذا ما بحثناه مفصلا في بحوث القطع.

الثاني ـ عدم إرادة المتيقن من اليقين في أحاديث الاستصحاب وإلا يكون استفادة قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي وترتيب آثار اليقين الموضوعي بحاجة إلى ارتكاب عنايات فائقة واضحة البطلان ، فانه بناء على ذلك سواء كان المراد النهي عن نقض المتيقن أم الاخبار عن عدم انتقاضه بالشك والتعبد ببقائه لا وجه عرفي لاستفادة التعبد ببقاء اليقين بل غايته التعبد ببقاء المتيقن وتنزيله منزلة الواقع وهو لا يقتضي أكثر من ترتيب آثار القطع الطريقي لا الموضوعي.

ومنه يظهر ان مثل الشيخ ( قده ) ومن يحذو حذوه في اسناد النقض في الحديث إلى المتيقن لا اليقين من الصعب عليهم استفادة قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي من أدلته.

وبعد الفراغ عن تمامية هذين الأمرين يقطع البحث عن إمكان استفادة قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي من أحاديث الاستصحاب. ويمكن ان يذكر في وجهه عدة تقريبات :

التقريب الأول ـ ما يتراءى من عبائر السيد الأستاذ من أن مفاد أدلة الاستصحاب هو التعبد ببقاء اليقين وعدم انتقاضه ومقتضاه ترتب كلا نوعي آثار اليقين الطريقي والموضوعي معا.

وهذا البيان بهذا المقدار مبهم لا يتضمن تبيين فذلكة الدلالة ولا يعلم ان المقصود منه كون المدلول المطابقي لأحاديث الاستصحاب هو التعبد ببقاء اليقين أو هو مدلول التزامي.

١٦٨

والتحقيق : ان استفادة التعبد ببقاء اليقين وعدم انتقاضه كمدلول مطابقي لأحاديث الاستصحاب يكون في إحدى صورتين :

١ ـ ان يكون مفاد الحديث النفي لا النهي فيكون اخبارا عن عدم انتقاض اليقين بالشك.

٢ ـ ان يكون مفاد الحديث النهي عن النقض الحقيقي التكويني لليقين إرشادا إلى عدم الانتقاض نظير النهي عن الصلاة أيام الحيض إرشادا إلى بطلانها.

وكلا الأمرين خلاف الظاهر ، إذ لا ينبغي الإشكال في ظهور أحاديث الاستصحاب في النهي عن نقض اليقين بالشك بل صراحة جملة من فقراتها في ذلك ، بل لو فرض إرادة النفي كان المناسب ان يعبر بعدم الانتقاض لا النقض ، كما ان المراد من النقض أيضا النقض العملي لا التكويني غير المقدور مع فرض حصول الشك وانتقاض اليقين ، كما يشهد بذلك أيضا سياق التعليل بأمر مركوز والتعبير بأنه لا ينقض اليقين بالشك أبدا أو لا يدفع بالشك أو ابن علي اليقين فان ما هو الارتكازي انما هو عدم النقض العملي كما ان التأبيد والدفع والبناء كلها تناسب النقض العملي لا الحقيقي.

التقريب الثاني ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) بعد تسليم إرادة النهي من أدلة الاستصحاب لا النفي وانه نهي عن النقض العملي لا الحقيقي فتدل على حرمة النقض العملي لليقين ووجوب الجري عليه بقاء وكأنه متيقن ، فانه مع ذلك استفاد قيامه مقام القطع الطريقي والموضوعي معا من باب ان الجري العملي على اليقين يقتضي الجري على وفق آثاره الطريقية والموضوعية معا فلا وجه لتخصيص عدم النقض بأحدهما دون الاخر.

ويرد عليه : أولا ـ المنهي عنه في أدلة الاستصحاب انما هو نقض اليقين بالشك وهذا انما يصدق في حق الأثر الطريقي لليقين حيث يكون مشكوكا واما الأثر الموضوعي فارتفاعه يقيني بالشك وليس مشكوكا فهو من نقض اليقين باليقين لا بالشك ، وكون اليقين بالارتفاع متولدا من الشك في الواقع وبسببه لا يجعل ارتفاع هذا اللون من الآثار من نقض اليقين بالشك بل باليقين كما هو واضح.

وثانيا ـ ان النقض كما تقدم ضد الإبرام ومصحح اسناده إلى اليقين ما أشرنا إليه

١٦٩

من التفاف اليقين وشدة تعلقه بالمتيقن وثباته ، وهذه المناسبة والعلاقة انما تكون بلحاظ الآثار الطريقية لليقين لا الآثار الموضوعية لانتفاء هذه النكتة فيها.

وثالثا ـ اسناد النقض العملي إلى اليقين انما يكون بلحاظ ما يقتضيه من التنجيز والتعذير أي الآثار الطريقية لا بلحاظ ما قد يقع اليقين موضوعا له من الآثار الشرعية ، لأن ما يقتضي الجري ليس هو ذات الموضوع للحكم الشرعي وانما هو إحرازه واليقين به ، ولهذا لا يناسب ان يقال لا تنقض أو لا ترفع الماء بالتغير بمعنى لا ترفع اليد عن أحكامه وآثاره ، وكون اليقين الواقع موضوعا لأثر شرعي مستلزما لإحراز ذلك الأثر لكون اليقين باليقين عن اليقين نفسه لا يصحح اسناد النقض إلى اليقين بما هو موضوع لأثر شرعي بل بما هو طريق فلا يكون مفاد الأدلة أكثر من ترتيب الآثار الطريقية لليقين وعدم وجود نظر فيها إلى الآثار الموضوعية.

التقريب الثالث ـ حمل النهي في أدلة الاستصحاب على الكنائية والإرشاد إلى عدم انتقاض اليقين نظير إرشادية النهي عن صلاة الحائض ، اما من جهة كونه متعلقا بالنقض الحقيقي وهو غير مقدور فلا يعقل تعلق النهي الحقيقي به فيكون قرينة على الإرشادية ، أو باعتبار ان النقض حتى لو أريد به النقض العملي لا الحقيقي فمن الواضح عدم إرادة تحريم النقض العملي في موارد الاستصحاب ، كيف وقد يكون الاستصحاب لحكم غير إلزامي أو لحكم وضعي كما في مورد بعض روايات الاستصحاب ولا معنى لتحريم النقض في مثل ذلك ، فلا محالة لا بد وان يحمل النهي على انه كناية عن عدم الملزوم أي عدم الانتقاض باعتبار ان النقض العملي لازم الانتقاض الحقيقي لليقين بالشك. ولعل هذا هو حاق مقصود المحقق النائيني ( قده ) حينما استفاد جعل الطريقية والعلمية للاستصحاب بالرغم من حمله للنقض على النقض العملي لا الحقيقي.

وقد يناقش هذا التقريب بكلتا صيغتيه بأنَّ استفادة جعل العملية والطريقية للاستصحاب مستحيل ثبوتا لأن الشك قد أخذ موضوعا لهذا الجعل في لسان دليل الاستصحاب والموضوع لا بد وان ينظر إليه مفروغا عنه أي بنظر فراغي وهذا يتهافت مع كون النّظر إلى إلغائه وجعله علما ويقينا (١).

__________________

(١) يمكن الإجابة على هذا التهافت بان ظاهر الخطاب في أمثال هذه الموارد الفراغ عن وجود الشك مع قطع النّظر عن الجعل لا مطلقا فقوله عليه‌السلام لا شك لكثير الشك أو إذا شككت فشكك ليس بشيء قد فرغ فيه عن الشك في المرتبة السابقة عن هذا الجعل.

١٧٠

وجواب هذه المناقشة ما قد يستفاد من بعض عبائر المحقق النائيني ( قده ) من الفرق بين الطريقية المجعولة للأمارات والطريقية المجعولة للاستصحاب من حيث ان الأمارات قد جعلت علما من حيث صفة الكاشفية وإراءة الواقع التي تثبت للعلم بينما الاستصحاب جعل علما من حيث صفة الاقتضاء للجري العملي والمحركية الثابتة للعلم زائدا على كاشفيته ، فان هذا التحليل يمكن ان يستفاد منه الجواب على المناقشة المذكورة بدعوى عدم ـ التهافت لأن قوله ( لا تنقض اليقين بالشك ) قد فرغ فيه عن وجود الشك خارجا بلحاظ مرحلة الانكشاف وادعي عدم وجوده بلحاظ عالم الجري العملي والمحركية فلا منافاة ولا تهافت.

الا ان هذا يستوجب انهيار أصل التقريب لأن قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي يعني قيامه مقام ما هو ظاهر أدلة القطع الموضوعي من أخذه بما هو كاشف في موضوع ذلك الأثر لا بما هو محرك ومنجز والا قام كل منجز أو معذر شرعي مقامه ، وان كان يعقل أخذ المحركية الخاصة الناشئة عن العلم موضوعا للأثر الموضوعي فلا يقوم مقامه الا ما ينزل منزلته في هذه المحركية الخاصة ولكنه على كل حال خلاف ظاهر أدلة القطع الموضوعي فان ظاهرها أخذ القطع بما هو كاشف وطريق موضوعا للحكم الشرعي.

ثم ان المحقق العراقي ( قده ) أورد على المحقق النائيني ( قده ) في المقام بالتناقض بين موقفه هنا وموقفه في البحث السابق لإثبات اختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع ، لأنه وان لم يختر هناك إرادة المتيقن من اليقين بل أسند النقض إلى اليقين ولكنه أراد به النقض العملي الّذي يكون بلحاظ المتيقن فكأنه أسند نقض آثار المتيقن إلى اليقين ، وبناء عليه لا موجب لاستفادة قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي

__________________

وهذه خصوصية مفهومه عرفا فلا يبقى تهافت فيمكن ان يكون الاستصحاب من هذا الباب كما إذا صرح بان من كان على يقين وشك فشكه ليس بشك. ويكون الجواب على أصل التقريب عندئذ بمنع ظهور أدلة الاستصحاب في الإرشاد إلى بقاء اليقين لا بالصيغة الأولى لظهور النقض في النقض العملي لا الحقيقي ، ولا بالصيغة الثانية لأن النهي عن الجري العملي يكون كناية عن بقاء الحجية بمعنى المنجزية والمعذرية وثبوت نفس الأثر العملي الّذي كان ثابتا قبل الشك فان هذا المعنى ان لم يكن هو المتعين في مفاد هذه الأحاديث عرفا فلا إشكال في انه المتيقن من مفادها بحيث يحتاج إفادة التعبد ببقاء اليقين إلى مزيد بيان ومئونة ، ولا أقل من الإجمال ولا يمكن التمسك بالإطلاق لنكتة سوف يأتي شرحها في المتن ، نعم هذا الكلام لا يتم على مباني الميرزا في جعل الطريقية على ما سوف يظهر.

١٧١

لأن الجري العملي على طبق المتيقن لا ربط له بآثار اليقين الموضوعي ان فرض إرادة نقض المتيقن عملا ، وان أريد نقض اليقين بما هو يقين لا بلحاظ الجري العملي فلا وجه لاشتراط إحراز المقتضي للمتيقن في المقام السابق فالجمع بين قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي والاختصاص بالشك في الرافع يستبطن تناقضا.

وهذا الإشكال نشأ من تصور ان المحقق النائيني يحمل النهي في أدلة الاستصحاب على النهي التحريمي عن النقض العملي ، مع انك عرفت في التقريب الثالث المتقدم انه يحمله على الكنائية والإرشاد إلى التعبد ببقاء اليقين فلا تهافت ، توضيح ذلك : ان النقض وان أريد منه نقض الجري العملي الّذي هو من آثار المتيقن الا ان النهي عن نقض الجري العملي لا يراد منه نهي تحريم بل نهي إرشاد وكناية عن التعبد بالبقاء ، والأمر المرشد إليه وان كان يمكن ان يكون بقاء المتيقن لا اليقين ومعه لا يترتب آثار القطع الموضوعي على الاستصحاب الا ان المحقق النائيني ( قده ) يشخص المرشد إليه في بقاء اليقين ، باعتبار ان الحجيات المجعولة عقلائيا يكون بمعنى جعل الطريقية والعلمية فكأن ارتكازية ذلك في موارد يراد فيها جعل الحجية بمعنى إثبات الواقع بنفسها القرينة على تعيين ان المراد الجدي هو التعبد ببقاء اليقين والعلم وجعله لا التعبد ببقاء المتيقن ظاهرا (١) فيترتب عليه آثار القطع الطريقي والموضوعي معا لا محالة في الوقت الّذي يكون المدلول المطابقي غير شامل لموارد الشك في المقتضي لأن المراد بنقض اليقين نقض الجري العملي لليقين المتوقف بحسب الفرض على إحراز مقتضي البقاء للمتيقن.

وقد يناقش التقريب المتقدم عن المحقق النائيني ( قده ) لقيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي بأن مفاد الحديث بعد ان كان كنائيا وإرشادا إلى التعبد ببقاء اليقين فلا دليل على إرادة أكثر من التعبد ببقاء اليقين في إثارة الطريقية والجري العملي منه ، واما التعبد ببقائه بلحاظ الأثر الموضوعي فبحاجة إلى مئونة زائدة لا شاهد عليها ولا يمكن إثباتها بالإطلاق ومقدمات الحكمة لأن الإطلاق ينفي القيد عن المدلول

__________________

(١) هذا الارتكاز في باب جعل الطريقية والعلمية وتتميم الكشف كما في الأمارات معقول الا ان المفروض ان المجعول في باب الاستصحاب حتى عند الميرزا المحركية والجري العملي ومن هنا لم تكن مثبتاته حجة ومثل هذا الجعل ليس ارتكازيا عند العقلاء لأنه من التعبد الصرف.

١٧٢

ولا يثبت أصل المدلول الكنائي وانه هذا المعنى أو ذاك فليس المقام من موارد التمسك بالإطلاق.

وهذا النقاش أيضا يمكن للمحقق النائيني ( قده ) الإجابة عليه حسب مبانيه في باب جعل الحجية فأنه يرى استحالة جعل المنجزية والمعذرية ابتداء لأنهما من أحكام العقل والشارع لا يمكنه ان ينزل شيئا منزلة أحكام غيره وانما المعقول جعلهما بتبع جعل موضوعهما واعتباره أي جعل ما ليس بعلم علماء واعتباره طريقا دون حاجة إلى ملاحظة الآثار المترتبة عليه ، وهذا الاعتبار امر بسيط واحد يترتب عليه كل آثار العلم الطريقية والموضوعية.

وهذا المبنى وان كان فاسدا في نفسه على ما تقدم مفصلا في بحوث القطع الا انه بعد الفراغ عنه ثبوتا لا يبقى مزيد إشكال في المقام إثباتا.

وهكذا يتضح عدم قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي.

١٧٣
١٧٤

حدود ما يثبته الاستصحاب من آثار القطع الطريقي

اشتهر بين المحققين مطلبان :

١ ـ الفرق بين الأصول العملية والأمارات من حيث ان الأمارات تثبت لوازمها مهما تعددت الوسائط بينها وبين المدلول المطابقي للأمارة بخلاف الأصول.

٢ ـ ان الاستصحاب يترتب عليه آثار المستصحب الشرعية إذا كانت تترتب عليه بلا واسطة أو بواسطة أثر ولازم شرعي لا عقلي.

ورغم اشتهار المطلبين شهرة عظيمة بل وارتكازية الالتزام بهما في الفقه لم تذكر في كلماتهم أدلة واضحة تناسب تلك المرتبة من وضوح الفكرتين ، وأيا ما كان فيقع البحث في مقامين :

المقام الأول ـ في الفرق المذكور بين الأمارات والأصول العملية ، ولتوضيح هذا الفرق وتخريجه يوجد منهجان.

المنهج الأول ـ ما ذهب إليه المحقق النائيني ( قده ) من افتراض فرق ثبوتي بينهما استلزم هذه النتيجة أي ان سنخ المجعول في باب الأمارات يختلف عنه في الأصول العملية بحيث يترتب عليه هذا الفرق.

المنهج الثاني ـ ما يظهر من بعض كلمات صاحب الكفاية من قصور لسان جعل الحجية للأصول العملية عن ترتيب أكثر من الأثر الشرعي المطابقي بخلاف أدلة جعل الحجية للأمارات ، وهذا يعني ان الفرق المذكور بين الأمارات والأصول العملية يرجع

١٧٥

إلى عالم الإثبات ومقدار دلالة دليل الحجية لا عالم الثبوت ، ولازم هذه المنهجة انه يمكن ان يفرض عدم استفادة حجية لوازم أمارة من الأمارات إذا فرض قصور دلالة دليل حجيتها عن إثبات حجية لوازمها وهذا ما تبناه السيد الأستاذ وفيما يلي نتكلم عن كل من المنهجين.

اما المنهج الأول ـ فقد أفاد المحقق النائيني ( قده ) في تقريبه ان العلم له آثار وخصائص أربع مترتبة :

١ ـ الخصيصة الصفتية من حيث كونه حالة سكون واستقرار نفسي.

٢ ـ خصيصة الطريقية وانكشاف الواقع به.

٣ ـ خصيصة التحريك العملي باتجاه الواقع الّذي تعلق به.

٤ ـ خصيصة التنجيز والتعذير.

والأثر الأول من مختصات العلم تكوينا ولا يمكن ان يقوم شيء مقامه الا بأن يكون علماء حقيقة ، والأثر الثاني هو المجعول في باب الأمارات حيث ان الشارع يحكم فيها بتتميم الكشف اعتبارا وجعلها علما وطريقا فتقوم الأمارات مقام العلم في هذه الخصيصة وتترتب عليه الآثار والخصائص الأخرى ، والأثر الثالث هو المجعول في باب الأصول العملية غاية الأمر تارة : يجعل الأصل كالعلم في التحريك والجري العملي على طبق الشيء على انه هو الواقع تنزيلا وتعبدا وهذا هو المجعول في باب الأصول التنزيلية أو المحرزة ، وأخرى : يجعل الأصل كالعلم في المحركية من دون افتراض مؤداه هو الواقع وهذا هو المجعول في الأصول غير التنزيلية ، وعلى كل حال يكون ترتب الأثر الرابع على الحجة بالتبع لا بالاستقلال لأنه يرى استحالة جعل المنجزية والمعذرية لكونهما من أحكام العقل ولا يعقل للشارع تنزيل شيء منزله حكم غيره.

وبناء على هذا التصنيف يثبت الفرق المذكور بين الأمارات والأصول العملية إذ جعل الطريقية والعلمية في باب الأمارة يعني تتميم كاشفيتها ومن الواضح ان الكاشفية الثابتة بالنسبة إلى المدلول المطابقي في باب الأمارة بنفسها ثابتة بالنسبة إلى ملازماتها فلا محالة تثبت جميعا بتتميم كشفها ، وهذا بخلاف الأصول لأن المجعول فيها ليس هو تتميم الكشف بل مجرد الجري العملي وهو لا يستلزم التعبد بالجري العملي على طبق اللوازم التي لم تتم أركان الأصل العملي فيه.

١٧٦

وناقش ذلك السيد الأستاذ : بأنه كما لا تلازم بين جعل الجري العملي على طبق شيء وجعل الجري العملي على طبق لوازمه كذلك لا تلازم بين جعل اليقين التعبدي بشيء واليقين التعبدي بلوازمه وانما التلازم بين اليقين الحقيقي بشيء واليقين الحقيقي بلوازمه ولا يوجد في باب الأمارات الا اليقين التعبدي ، ومن هنا اتجه الأستاذ إلى التفتيش عن الفرق بين الأمارات والأصول بالمنهج الثاني الإثباتي وملاحظة لسان أدلة جعل الحجية في كل مورد.

ولنا حول هذا النقاش تعليقان :

الأول ـ ان إنكار المنهج الأول وانه لا فارق ثبوتي بين حجية الأمارات وحجية الأصول غير صحيح فان الفرق بينهما بالمقدار المذكور من قبل المحقق النائيني ( قده ) وان كان يرد عليه ما أفيد الا انه سوف يظهر وجود فرق ثبوتي فني بينهما سليم عن هذا الاعتراض.

الثاني ـ يمكن للمحقق النائيني ( قده ) ان يدعي الفرق بين الأمارات والأصول مبنيا على اختلاف المجعول فيهما بأحد تقريبين لعله روح مقصوده وان كانت عبائر التقريرات قاصرة عنه.

١ ـ ان يريد دعوى الملازمة العرفية بين جعل الطريقية وتتميم الكشف تعبدا بالنسبة إلى شيء وجعل الطريقية وتتميم الكشف تعبدا بالنسبة إلى لوازمه بخلاف ما إذا كان المجعول مجرد المحركية والجري العملي ، ونكتة ذلك ان إعطاء الكاشفية لشيء حقيقة يستلزم كاشفيته بلحاظ اللوازم بخلاف إعطاء المحركية واقتضاء الجري العملي وانه لا يستلزم المحركية نحو اللوازم لأن المحركية نحو اللوازم في القطع الوجداني من نتائج الكاشفية نحوها لا من نتائج المحركية نحو اللزوم كما هو واضح. وحيث ان التعبدية ملحوظة في جانب الجعل لا المجعول أي ان الجعل تعبدي واعتباري واما المجعول فهو نفس الكاشفية والطريقية فلا محالة تنعقد دلالة التزامية على جعل الكاشفية للوازم أيضا في باب الأمارات دون الأصول.

٢ ـ لو افترضنا عموم التنزيل في الحجية في أدلة كل من الأمارات والأصول بمعنى دلالتها على التعبد بترتيب جميع الآثار الشرعية والعقلية المترتبة على المجعول في كل من الأمارات والأصول مع ذلك بقي الفرق بينهما من ناحية ان المجعول في الأمارات حيث

١٧٧

كان هو الطريقية والكاشفية فيترتب عليها لا محالة حجية اللوازم لكون كاشفية العلم بشيء عن لوازمه من الآثار العقلية المترتبة على كاشفيته لذلك الشيء بخلاف اقتضاء العلم للجري العملي على طبق المعلوم المجعول في باب الأصول فان الجري العملي على طبق اللوازم ليس من آثار الجري العملي على طبق المعلوم بل بينهما تلازم من باب الملازمة بين مقتضيهما أعني العلم بالشيء والعلم بلوازمه.

الا ان هذا التقريب لا ينسجم مع تصورات المحقق النائيني ( قده ) في باب جعل الطريقية ، لأنه يفترض تنزيل الأصل والأمارة منزلة العلم في الآثار واللوازم الشرعية والعقلية وهو لا يرى ذلك لاستحالة التنزيل بلحاظ أحكام غير الشارع من قبل الشارع ، وانما يرى ان المجعول هو الطريقية والعلمية ابتداء لا بملاك التنزيل والنّظر إلى الآثار ، نظير المجاز الادعائي السكاكي ، وعندئذ يترتب عليه تلك الآثار للعلم التي تكون أثرا للجامع بين الفرد الحقيقي والتعبدي منه ومنها المنجزية والمعذرية دون انكشاف اللوازم فانه أثر للانكشاف الحقيقي دون التعبدي.

والصحيح : وجود فرق جوهري ثبوتي بين الأمارات والأصول يصلح ان يكون منشأ للفرق بينهما في مسألة حجية مثبتات الأمارة دون الأصل ، وليس الفرق المذكور من ناحية جعل الطريقية والكاشفية أو المحركية والجري العملي ، بل قد عرفت بما لا مزيد عليه في بحوث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي وبحث حقيقة الأصل العملي ان هذه الفروق المدعاة في كلمات الميرزا ( قده ) ليست فروقا جوهرية بل صياغية ترتبط بلسان الدليل ، وهذه الفروق الصياغية وان كان قد يترتب عليها بعض النتائج الا ان هذه المسألة ليس منها.

وانما الفرق الثبوتي بين الأمارات والأصول ما أشرنا إليه في بحث حقيقة الحكم الظاهري من انه عبارة عن الحكم الصادر من قبل المولى في مقام الحفظ على الأهم من الملاكات والأغراض المولوية الواقعية الإلزامية والترخيصية المتزاحمة فيما بينها وترجيح الأهم منهما على المهم ، الا ان هذا الترجيح قد يكون على أساس قوة الاحتمال محضا بحيث يكون الحكم الظاهري نسبته إلى الأحكام الإلزامية والترخيصية على حد واحد فكما يثبت حكما ترخيصيا يثبت حكما إلزاميا ولا تكون اية خصوصية غير درجة الكشف دخيلة في جعله ، وهذا هو حقيقة الأمارة سواء جعلت بلسان

١٧٨

جعل العلمية أو بلسان جعل المنجزية والمعذرية أو بأي لسان آخر ، وان كان قد يفرض ان صياغة جعل العلمية أنسب أو أوفق بالمرتكزات العرفية ، وقد لا يكون الترجيح بين الأغراض الواقعية الترخيصية والإلزامية المتزاحمة على هذا الأساس بل على أساس ملاحظة نوعية الحكم والغرض الواقعي المحتمل اما صرفا أو مع ملاحظة درجة الكاشفية أو ملاحظة خصوصية نفسية مع درجة الكاشفية أي نوعية الكاشف لا المنكشف فليست قوة الاحتمال هي الملحوظة صرفا في جعل الحكم الظاهري في هذه الموارد وهذا هو حقيقة الأصل العملي.

وعلى هذا الأساس يتضح ان حجية المثبتات في الأمارة تكون على القاعدة باعتبار هذه النكتة الثبوتية الجوهرية في باب الحكم الظاهري الأماري فان تمام ملاك الحجية فيها عند ما كان درجة الكاشفية محضا فهذه الدرجة من الكاشفية نسبتها إلى كل من المدلول المطابقي والالتزامي على حد واحد فلا محالة تكون حجة في إثبات اللوازم بنفس العلة والملاك للحجية في المدلول المطابقي.

واما الأصول العملية فحيث ان الملاك في جعلها ليس هو الترجيح بدرجة الكاشفية وقوة الاحتمال صرفا بل لنوعية الحكم المنكشف أو نوعية الكاشف وخصوصيته دخل في الترجيح به سواء كان لقوة الاحتمال والكاشفية دخل أيضا كما في الأصول المحرزة أم لا. فلا تثبت لوازمها على القاعدة وانما يحتاج إثباتها إلى دليل يقتضي ذلك بحسب مقام الإثبات ، لأن تمام ملاك الحجية أو جزئه بحسب الفرض وهو نوعية المحتمل أو نوعية الاحتمال ـ الكاشف ـ غير متوفر في اللازم ، نعم لو فرض توفرهما فيه أيضا ثبت به لا محالة الا ان هذا ليس من الأصل المثبت عندئذ بل هذا معناه توفر أركان ذلك الأصل العملي في اللازم ابتداء كما لا يخفى.

هذا هو الضابط الفني بحسب مقام الثبوت ، وعلينا بعد ذلك بحسب مقام الإثبات إحراز أحد الملاكين للترجيح من أدلة اعتبار الأمارات أو الأصول. فنقول :

لا إشكال في مثل خبر الثقة أو الظهور ان المستفاد من دليل اعتبارهما ملاحظة قوة الاحتمال ودرجة الكشف صرفا فيهما من دون دخالة لنوع المحتمل ولا لخصوصية ذاتية للكاشف في اعتبارهما ، اما الأول فلأن الخبر والظهور لا يقتضيان نوع حكم واحد بل قد يقومان على الإلزام وقد يقومان على الترخيص ولم يؤخذ فيهما أدائهما إلى نوع حكم خاص ، واما

١٧٩

الثاني فلأن هذا هو المستفاد من لسان أدلة الحجية وهو المتطابق مع الارتكاز العقلائي الّذي هو الأساس في إثبات حجيتهما فانه يقضي بان تمام الملاك في الحجية انما هو درجة الكاشفية النوعية وقوتها من دون دخالة نكتة نفسية في ذلك أصلا.

كما انه لا إشكال في مثل أصالة الحل والاحتياط ان الملحوظ في جعلهما نوعية الحكم المحتمل من الحلية في الأول والإلزام في الثاني فلا يمكن إثبات لوازمهما على مقتضى القاعدة ، فلو فرض الملازمة بين حلية العصير العنبي ووجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلا فلا يثبت الثاني بإجراء أصالة الحل في الأول لاختلاف نوعية الحكم ، وأصالة الحل ترجيح للحكم الترخيصي على الإلزامي في موارد الاشتباه لأهمية فيه وهو ليس محفوظا في اللازم وليس دليل أصالة الحل يقتضي أكثر من إثبات الحلية المحتملة في مورد الشك.

واما مثل قاعدة الفراغ فقد لوحظ فيها كل من قوة الاحتمال ونوع المحتمل وهو الصحة ولكن قد أخذ في موضوعه الفراغ عنه مما يمكن ان تكون لها مدخلية في الحكم بالصحّة ، ولهذا لا يمكن التعدي إلى الحكم بصحة صلاة لم يفرغ بعد منها ولو فرضت الملازمة بين صحتها واقعا وصحة الصلاة التي فرغ عنها ، وكذلك أية خصوصية أخرى نفسية أو طريقية احتمل دخالتها في الحكم الظاهري بالصحّة المجعول في القاعدة فانه بانتفائها في اللازم لا يمكن الحكم بالصحّة فيه وان فرض وحدة نوع المحتمل ، كما انه لا ظهور في دليل القاعدة يقتضي ترتيب كل تلك اللوازم.

واما الاستصحاب وان لم يكن قد لوحظ فيه نوعية المحتمل لأنه لا بشرط من حيث نوع الحكم المؤدي إليه كالخبر والظهور ، كما انه ربما تكون قوة الاحتمال والكشف النوعيّ ولو الضعيف ملحوظا في حجيته ، الا ان احتمال أخذ خصوصية ونكتة نفسية في حجيته ولو نكتة الثبوت سابقا أو اليقين السابق بحيث لا يمكن إلغاء ذلك بعد ان كان دليل حجيته ظاهرا في اعتباره متجه كما ان الارتكاز لا يقتضي إلغاء ذلك ان لم نقل باقتضائه ملاحظته ، حيث تقدم ان بناء العرف على الاستصحاب لا يستبعد ان يكون لما فيه من حالة الأنس والانسباق مع الوضع السابق والميل النفسيّ نحوه لا لمجرد الكاشفية وقوة الاحتمال ، وهكذا يثبت حجية مثبتات الأمارات على القاعدة دون

١٨٠