بحوث في علم الأصول - ج ٦

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

غير المطابق مع الواقع وانما موضوعها اسناد ما لا يعلم انه من الدين ولو كان منه واقعا ومن هنا كان قيام الاستصحاب مقامه موضوعيا ، وبناء عليه يكون استصحاب عدم الإلزام واستصحاب عدم الإباحة رافعين تعبدا لموضوع هذه الحرمة في الطرفين بناء على قيامه مقام القطع الموضوعي فيقطع بعدم حرمة هذين الإسنادين ، ولا يضر العلم الإجمالي بكذب أحدهما واقعا لأن موضوع الحرمة لم يكن هو الكذب والإسناد غير المطابق واقعا وانما الموضوع عدم العلم المرتفع بالعلم التعبدي.

ودعوى : العلم الإجمالي بأن أحد الإسنادين اسناد لما يعلم بأنه ليس من الدين وكل منهما وان كان يعلم تعبدا انه من الدين الا ان دليل حرمة اسناد ما لا يعلم من الدين يفهم منه بالالتزام عرفا حرمة مجموع إسنادين يعلم إجمالا بان أحدهما ليس من الدين أيضا.

مدفوعة : بان هذا غايته سقوط الاستصحابين بلحاظ الأثر الموضوعي للعلم في الطرفين وهو حرمة الإسناد واما الأثر الطريقي لاستصحاب عدم الإلزام أعني التعذير فلا وجه لسقوط إطلاق دليل الاستصحاب فيه إذ لا يعلم إجمالا بحرمة اسناد عدم الإباحة أو ثبوت الإلزام لأن المفروض ان موضوع الحرمة ليس هو الواقع فتأمل جيدا.

وفيه : اننا لو سلمنا صحة هذا التفكيك في الآثار بلحاظ دليل الاستصحاب فلا ينبغي الإشكال في ان حرمة الكذب والإسناد غير المطابق للواقع ثابتة أيضا حتى إذا فرضنا ثبوت جهة أخرى لحرمة نفس الإفتاء بغير علم باعتباره تشريعا مثلا.

٣ ـ ما أفاده السيد الأستاذ من ان العلم الإجمالي بمخالفة أحد الإفتائين للواقع لا ضير فيه إذا لم يلزم منهما مخالفة عملية قطعية بدليل ان الفقيه يعلم عادة ان بعض فتاواه المعتمدة على القواعد والأحكام الظاهرية قد يكون مخالفا للواقع إذ لا يحتمل مطابقة كل الأمارات والأصول للواقع ومع ذلك جاز له الإفتاء بهما جميعا.

وفيه : أولا ـ إنكار حصول مثل هذا العلم الإجمالي ، ومما ينبه على ذلك ان فرض وجود مثل هذا العلم الإجمالي يترتب عليه محاذير أخرى طريقية مع قطع النّظر عن مسألة الإفتاء ، إذ لو فرض هذا العلم الإجمالي في دائرة الترخيصيات لزم تساقط الأحكام الترخيصية الظاهرية ولزوم الاحتياط فيها ـ ولو في غير موارد الأمارة على الترخيص ـ للعلم الإجمالي بالإلزام في دائرتها ، اللهم الا ان يفرض عدم منجزيته لكون أطرافه غير

١٤١

محصورة ، الا ان السيد الأستاذ يرى منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة أيضا ، وان فرض هذا العلم الإجمالي في دائرة الأحكام الإلزامية بان علم إجمالا بثبوت ترخيص واقعي فيها فهذا يوجب التكاذب فيما بينها بناء على مبنى الأستاذ من عدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية الالتزامية إذ تكون جميعا ثابتة بالأمارة وهي لوازمها حجة فيقع التكاذب فيما بينها والتساقط ، وان فرض العلم الإجمالي في مجموع الشبهات لا الأمارات الإلزامية بالخصوص كانت الأمارات الإلزامية دالة بالالتزام على ان المعلوم الإجمالي بعدم مطابقته للواقع ضمن الترخيصات التي لا أمارة فيها على الترخيص فيكون من العلم الإجمالي بالحجة على الإلزام وهو منجز أيضا.

وثانيا ـ لو فرضنا حصول مثل هذا العلم الإجمالي على نحو لم يضر بجريان الأحكام الظاهرية الإلزامية والترخيصية مع ذلك نمنع عن جواز الإفتاء بالواقع في مواردها استنادا إليها لوقوع التعارض فيما بينها بلحاظ هذا الأثر الموضوعي للعلم وهو حرمة الإفتاء الّذي هو محل ابتلاء المجتهد في تمام الفقه وانما اللازم عندئذ الإفتاء بالحكم الظاهري الثابت وجدانا في مواردها.

لا يقال : يعلم إجمالا إما بحرمة الإفتاء بالواقع في دائرة الإلزاميات أو بثبوت إلزام في دائرة الترخيصات وهذا علم إجمالي منجز.

فانه يقال : المفروض الفراغ عن عدم منجزية العلم الإجمالي المذكور بلحاظ الآثار الطريقية للواقع اما لكون أطراف الشبهة غير محصورة أو لكون المجتهد ليس مبتلى بكافة تلك الشبهات الترخيصية أو لكون حرمة الإفتاء بالواقع في الإلزاميات بعد فرض تساقط القواعد والأصول بلحاظها تثبت على كل حال ولو لكونه تشريعا وإفتاء لما لا يعلم انه من الدين لا وجدانا ولا تعبدا فينحل العلم الإجمالي المذكور.

وثالثا ـ إن العلم الإجمالي بعدم مطابقة بعض الأحكام الظاهرية للواقع في مجموع الشبهات لا يكون حجة في نفسه ، أما إذا أريد به الاطمئنان الإجمالي فلما تقدم في بحث الخبر المتواتر من ان الاطمئنان الحاصل من تجميع المضعفات الكمية في الأطراف الكثيرة غير المحصورة ليس بحجة عند العقلاء ، واما إذا أريد به العلم واليقين والوجداني فلما تقدم في تنبيهات العلم الإجمالي من عدم منجزية العلم الإجمالي ذي الأطراف

١٤٢

الكثيرة غير المحصورة (١).

واما فيما يتعلق بالجواب الأول من ان استصحاب عدم جعل الإباحة لا يجري في نفسه لثبوت الإباحة ولو بالإمضاء في أول الشرع فلا معنى لاستصحاب عدم جعل الإباحة للحصة المشكوكة ليعارض مع استصحاب عدم جعل الحرمة بل يجري استصحاب بقاء الإباحة. فيرد عليه :

ان الشك في بقاء الإباحة الثابتة في أول الشرع بالنسبة للحصة المشكوكة من الشك في النسخ واحتمال ارتفاع تلك الإباحة بالحرمة بحسب الحقيقة ، واستصحاب عدم النسخ عند السيد الأستاذ معارض باستصحاب عدم جعل الحصة الزائدة من الحكم المحتمل نسخه لأن النسخ تقييد أزماني للحكم فكما يكون استصحاب بقاء المجعول معارضا عنده باستصحاب عدم الجعل الزائد كذلك استصحاب عدم النسخ وبقاء المنسوخ معارض باستصحاب عدم جعله للزمان الثاني ، ، وهذا يعني جريان استصحاب عدم جعل الحصة الزائدة من الإباحة في المقام فيعارض استصحاب عدم جعل الحرمة.

وقد أجاب على هذا الإيراد سيدنا الأستاذ بان استصحاب عدم جعل الإلزام والحرمة حاكم على استصحاب عدم جعل الحصة الزائدة من الإباحة لأن الإباحة قد قيدت في أدلة كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي أو اسكتوا عما سكت الله عنه بعدم الحرمة والنهي واستصحاب عدم الغاية حاكم على استصحاب عدم المغيا لأنه بمثابة أصل موضوعي بالنسبة إلى المغيا.

وقد أوردنا عليه بان هذا ان أريد ظاهره فهو محال باعتبار استحالة أخذ عدم أحد الضدين غاية للضد الأخرى حتى في باب الأحكام الشرعية ـ كما يعترف بذلك في غير المقام ـ فأجاب : بان القيد والغاية بيان الحرمة والنهي لا واقعها فيستصحب عدم بيانها ولا محذور.

__________________

(١) ليس الميزان في عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة مجرد كثرة الأطراف بل ينبغي ان لا يكون ابتلاء المكلف بها واقتحامه لها جميعا ميسورا له كما في المقام حيث ان المجتهد يفتي بالشبهات جميعا دفعة واحدة رغم كثرتها ، والحاصل : هذا العلم الإجمالي بالنسبة إلى حرمة الإفتاء في مجموع الشبهات منجز لكونه شبهة محصورة بحسب الحقيقة وان كان غير منجز بلحاظ الآثار الطريقية لنفس الشبهات لكونها غير محصورة.

١٤٣

الا ان هذه النتيجة غير سديدة أيضا وذلك :

أولا ـ لأن هاتين الروايتين مضافا إلى ضعف سنديهما بالإرسال لا تدلان على جعل النهي أو بيانه غاية للخلية الواقعية في الأشياء ليكون استصحاب عدم جعل النهي أو عدم بيانه حاكما عليها بل قوله ( كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ) تقدم ان المراد من الورود فيه هو الوصول فيكون ظاهرا في جعل الإباحة الظاهرية ، على انها واردة عن الإمام الصادق عليه‌السلام على تقدير صحتها سندا ومن الواضح انه لا معنى لتفسيرها بالإباحة الواقعية قبل الشرع وجعلها مغياة بورود النهي وانما تناسب إرادة الإباحة الظاهرية منها ، واما قوله ( اسكتوا عما سكت الله عنه ) المنقول عن أمير المؤمنين عليه‌السلام فهي أجنبية عن مسألة الإباحة وانما مفادها النهي عن السؤال والتفحص والتشكيك والّذي قد يوجب التشديد من قبل المولى كما أوجبه على بني إسرائيل في موضوع البقرة على ما تقدم في بحث أدلة البراءة (١).

وثانيا ـ ان لازم هذا الكلام الالتزام بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية لكل حكم ثابت في أول الشرعية بالإمضاء كما في الملكيات والاعتبارات العقلائية الثابتة قبل الشرع ، فلو شك في بقاء المجعول في مورد من موارد هذه الأحكام لم يكن يجري استصحاب عدم الجعل الزائد فيها ليكون معارضا مع استصحاب بقاء المجعول

__________________

(١) يمكن ان يقال : بان المقصود ان الدليل الّذي سلم ثبوته على الحلية قبل الشرع لكل شيء بنفسه يتضمن تقييد ذلك بما لم يشرع الإلزام والنهي ولو ارتكازا ولبا فكان هذا هو المستفاد من إمضاء الإباحة قبل الشرع مع التدرج في بيان الإلزامات فكلما لم يشرع فيه إلزام باق على إباحته قبل الشرع فتتم الحكومة المذكورة بلحاظ هذا الدليل لا محالة الا ان عهدة إثبات مدرك واضح على مثل هذه الدعوى على مدعيها.

وقد يقال : بأنا لو فرضنا ان الإباحة الواقعية الثابتة قبل الشرع كانت مغياة في دليلها بتشريع الحرمة ـ بناء على إمكان ذلك ـ أو بورود النهي فكما يحكم استصحاب عدم تشريع الحرمة أو عدم بيانها على استصحاب الإباحة الزائدة كذلك يحكم على استصحاب بقاء المجعول ـ أعني بقاء الحرمة أو النجاسة بعد زوال التغير ـ لأن دليل الإباحة الواقعية المغياة بذلك دليل اجتهادي يحكم على استصحاب المجعول بعد ضم استصحاب عدم جعل الحرمة الزائدة إليه.

ولا يتوهم ـ جريان استصحاب بقاء الحرمة المجعولة وإثبات الغاية به ، لأن المفروض ان الغاية عبارة عن بيان الحرمة أو تشريعها بمعنى جعلها لا الحرمة المجعولة لأن المناسب لأن يكون غاية للإباحة قبل الشرع انما هو ذلك لا المجعول الّذي هو أمر وهمي تصوري.

الا ان هذا البيان غير سديد ، لأن استصحاب عدم تشريع الحرمة أو عدم ورود النهي لا يثبت موضوع الإباحة الواقعية المغياة بذلك وقعا وحقيقة ليكون التمسك بالدليل الاجتهادي الدال عليها وانما يثبت ذلك ظاهرا وتعبدا أي يترتب أثره في مقام العمل والمفروض ان استصحاب بقاء المجعول أيضا يرتب الحرمة في مقام العمل فيتعارضان لا محالة.

١٤٤

لأن أصل جعل تلك الأحكام وتشريعها في أول الشرع ثابت ولو بالإمضاء ، وكان السيد الأستاذ التزم بذلك من خلال البحث وجعله استثناء آخر من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية.

وثالثا ـ لو فرض ان المجعول الإلزامي كالحرمة المراد استصحابه مما يعلم بعدم إباحته وانما يحتمل تبدله إلى الكراهة أو الاستحباب فاستصحاب عدم الجعل الزائد للإلزام يعارض باستصحاب عدم جعل الكراهة أو الاستصحاب لا محالة (١).

وفي خاتمة البحث عن التفصيل في جريان الاستصحاب بين الشبهات الحكمية والموضوعية تبقى نكات إضافية يجدر الإشارة إليها ضمن تنبيهات.

تنبيهات حول شبهة المعارضة في الشبهة الحكمية :

التنبيه الأول ـ أشرنا فيما سبق إلى ان السيد الأستاذ كان يرى في البداية عدم جريان استصحاب الحكم بمعنى المجعول حتى في الشبهة الموضوعية لمعارضته مع استصحاب عدم الجعل الزائد الشامل له وانما الّذي يجري هو الاستصحاب الموضوعي المثبت لأثر الحكم ، وهذا البيان غير تام وذلك :

أولا ـ انه مناف لمورد صحيحة زرارة حيث استصحب الإمام عليه‌السلام فيها الطهارة عند الشك في حصول النوم ـ وهو شبهة موضوعية ـ ولم يستصحب عدم النوم فحتى لو فرض تمامية الشبهة لا بد من رفع اليد عنها وتقديم استصحاب المجعول على استصحاب عدم الجعل باعتباره مورد الصحيحة.

وقد أجاب السيد الأستاذ عن هذا الاعتراض عند ما وجهناه إليه بأن الصحيحة لا بد وان تحمل على محمل آخر على كل تقدير لأن المفروض حكومة الأصل الموضوعي على الحكمي باعتباره سببيا فلا يجري استصحاب المجعول في موردها سواء كان له معارض أم لا.

__________________

(١) لا يقال : هذا مبني على ان لا يكون المستفاد من أدلة تقييد الإباحة بعدم جعل الحرمة أو ورود النهي أخذه غاية للإباحة بالمعنى الأعم أي مطلق الترخيص والا أيضا كان استصحاب عدم جعل الإلزام الزائد حاكما عليه.

لأنه يقال : استصحاب عدم جعل الإلزام الزائد يثبت الترخيص بالمعنى الأعم لا الاستصحاب أو الكراهة بالخصوص فاستصحاب عدم جعلهما لا حاكم عليه.

١٤٥

ولكن من الواضح ان هذا الإيراد مبني على القول بحكومة الأصل السببي على الأصل المسببي حتى إذا كانا متوافقين وهو محل منع على ما سوف يأتي ، بل ورود الصحيحة في الأصل المسببي بنفسه يكون دليلا على عدم الحكومة في فرض توافق الأصلين السببي والمسببي في المفاد.

وثانيا ـ لو فرض جريان استصحاب عدم الجعل الزائد ومعارضته مع استصحاب الحكم في الشبهة الموضوعية أدى ذلك إلى دخول الاستصحاب الموضوعي أيضا في المعارضة ، وبعبارة أخرى : يكون استصحاب عدم الجعل الزائد معارضا مع أصلين في عرض واحد استصحاب المجعول الجزئي والاستصحاب الموضوعي ، والوجه في ذلك ان الاستصحاب الموضوعي لا يكون حاكما على استصحاب عدم الجعل الزائد وانما يكون حاكما ـ على القول بحكومة الأصل السببي ـ على المسببي ـ على استصحاب المجعول لأن ترتب عدم الجعل الزائد على الاستصحاب الموضوعي ليس شرعيا كما هو واضح. وهذا يعني ان شبهة المعارضة تؤدي إلى إنكار الاستصحاب رأسا.

وثالثا ـ وهو المهم ـ ان شبهة المعارضة لا موضوع لها في الشبهة الموضوعية لأن الشك فيها ليس في الجعل وحدوده لنجري استصحاب عدم الجعل الزائد وانما الشك في تحقق مصداقه خارجا وعدمه ـ كما إذا شك في بقاء تغير الماء أو زواله ـ ومن الواضح ان الجعل لا يتسع ولا يتضيق بسعة مصاديقه وقلتها في الخارج ، فجعل النجاسة للماء المتغير ما دام متغيرا لا يزداد ولا ينقص بزوال تغير الماء وعدمه فلا شك في جعل زائد لكي يستصحب عدمه.

لا يقال ـ الجعل بعنوانه التفصيليّ وان كان كما ذكر الا انه يمكن إجراء الاستصحاب بعنوان إجمالي مشير إلى القضية المجعولة بأن يقال لا ندري هل جعل المولى الحكم على طبيعة يشتمل هذا الفرد المشكوك خارجا أم لا ولو من باب الشك في شمول الجعل له موضوعا فنستصحب عدمه.

فانه يقال : لا شك في العنوان والطبيعة التي جعل عليها الحكم بحسب الفرض وانما الشك في شمولها لهذا الفرد ، فان أريد استصحاب عدم جعل الحكم على الطبيعة فهو مقطوع به ولا شك في الحكم ولا في متعلقه وما جعل عليه ليطبق بلحاظه الاستصحاب ، وان أريد استصحاب عدم شمول الطبيعة المجعول عليها الحكم للفرد

١٤٦

المشكوك ـ ولو بنحو العدم الأزلي ـ فشمول الجعل ليس ملاكا للتنجيز وانما المنجز اما الحكم بمعنى المجعول أو الحكم بمعنى الجعل مع إحراز موضوعه على ما تقدم.

التنبيه الثاني ـ ان المستصحب في الشبهة الحكمية تارة يكون الزمان طرفا له كما في نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره ، وفي مثل ذلك يكون تصوير الحدوث والبقاء للحكم بمعنى المجعول الكلي بلحاظ الجعل بالحمل الأولي واضحا ، وأخرى : يكون الزمان قيدا في متعلق الحكم ونشك في حدوده كما في وجوب الوقوف بعرفة من الزوال إلى الغروب فلو شك في ان الواجب هو الوقوف إلى سقوط القرص أو زوال الحمرة مثلا كان مقتضى الاستصحاب الثاني ، وفي مثل هذا الفرض قد يناقش في انطباق النكتة المذكورة حيث ان الزمان أصبح في مثل هذا الحكم المشكوك قيدا في متعلق الحكم لا ظرفا له ، فالجعل بالحمل الأولي أيضا لا يكون له حدوث وبقاء بلحاظ الزمانين لأنهما يلحظان معا من أول الأول في الجعل في عرض واحد ولا يلحظان ظرفا للمجعول ليقال بان الحصة الثانية من الوجوب امتداد وبقاء للحصة الأولى.

هذا والصحيح انطباق تلك النكتة في المقام أيضا لأن منشأ لحاظ الحصة الثانية من الوجوب امتدادا وبقاء للحصة الأولى بالحمل الأولي ملاحظة الحكم تابعا لمتعلقه وعارضا عليه ، فكما يكون للمتعلق امتداد وحدوث وبقاء يكتسب الحكم المجعول بالحمل الأولي نفس الحالة فيرى له حدوث وبقاء بالتبع.

التنبيه الثالث ـ ان استصحاب المجعول في الشبهة الموضوعية هل يجري في نفسه بناء على مبنانا من إنكار الوجود الفعلي للمجعول ومباينته مع الجعل أم لا؟ قد يقال بعدم جريانه إذ لو أريد إجراء الاستصحاب في امر فعلي يتحقق بتحقق الموضوع في الخارج ويزول بزواله ، فهذا مبنى على فكرة التفكيك بين الجعل والمجعول بالحمل الشائع والحقيقة وقد عرفت بطلانه ، وان أريد إجراؤه في الجعل بالحمل الأولي فقد تقدم ان الجعل لا شك في بقائه أو ارتفاعه في الشبهات الموضوعية وانما يتصور ذلك في الشبهة الحكمية وبالعناية المتقدم شرحها.

والصحيح : جريان الاستصحاب في المجعول حتى في الشبهة الموضوعية لأن لحاظ الحكم والجعل بالحمل الأولي كما يقتضي تصور الحدوث والبقاء لحصص المجعول بهذا الجعل في الشبهة الحكمية كذلك يقتضي ان يكون هناك ثبوت للمجعول وفعلية عند

١٤٧

تحقق موضوعه في الخارج لأن الملاحظ من خلال العنوان يرى المعنون في الخارج فكأن هناك امرا يتحقق بتحقق الموضوع ويزول بزواله خارجا ، وهذا وان كان مجرد لأمر اعتباري ووهمي لا حقيقي الا انه يكفي لصدق دليل الاستصحاب وجريانه فيه. وان شئت قلت : ان المجعول وان كان امرا وهميا لا حقيقيا الا ان هذا الأمر الاعتباري وفي طول اعتباره وجعله يكون له حدوث وبقاء حقيقي فينطبق عليه دليل الاستصحاب حقيقة.

التنبيه الرابع ـ ان للسيد الأستاذ اعتراضا آخر على الاستصحاب في بعض أقسام الشبهة الحكمية غير إشكال المعارضة وحاصله : ان الاستصحاب يعتبر فيه وحدة الموضوع المستصحب له الحكم وهذا في مثل استصحاب بقاء النجاسة للماء المتغير بعد زوال تغيره وان كان محفوظا حيث لا يكون الزمان الا ظرفا للماء المتغير الا انه غير متوفر فيما إذا كان الشك في مرحلة البقاء متعلقا بافراد أخرى من ذلك الموضوع ، كما إذا لاحظنا حرمة ملامسة المرأة في أيام حيضها وشك في ان الحيض يرتفع بانقطاع الدم أو بالاغتسال فان الفرد المشكوك في حرمته وهو المس قبل الاغتسال وبعد انقطاع الدم غير الفرد المقطوع بحرمته فلا يجري الاستصحاب ، وان شئت قلت : ان أريد استصحاب حرمة المس المعلوم حرمته وهو الواقع قبل انقطاع الدم فلا شك في حرمته لكي يستصحب وان أريد استصحاب حرمة المس الواقع بعد الانقطاع فلا يقين بحرمته من أول الأمر وان أريد استصحاب الحرمة لطبيعي المس فهو من القسم الثالث من استصحاب الكلي كما هو واضح.

وهذا الإشكال غير تام أيضا وذلك لأنه لو أريد تعدد الموضوع للمستصحب باعتبار ان خصوصية المس قبل انقطاع الدم دخيلة في الحكم فهذا خلف فرض ظرفية الزمانين وكون الحيثيتين تعليليتين لا تقييديتان وان أريد التعدد من ناحية التباين الوجوديّ والمصداقي لافراد المس قبل الانقطاع وبعده فهذا وان كان صحيحا الا انه لا يقدح في جريان استصحاب الحكم لأن ما هو معروض الحكم وموضوعه ليس هو المصداق الخارجي وافراد المس بل الحيثية المشتركة بين تلك الافراد وهي محفوظة في القضيتين المتيقنة والمشكوكة ، ففرق بين دخول زيد في المسجد والشك في بقاء جامع الإنسان فيه ضمن عمرو بعد خروج زيد وبين المقام فان الدخول في المثال عارض

١٤٨

على زيد وعروضه على جامع الإنسان يكون بحسب الحقيقة عروضا على الجامع المتشخص والضمني ومن هنا لا يكون استصحاب بقاء جامع الإنسان في المسجد جاريا واما حرمة المس فهي عارضة على طبيعي المس في حال الحيض ابتداء لا على الافراد والمصاديق الخارجية بما لها من المشخصات فتكون حرمته بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال بقاء لنفس تلك الحرمة على موضوعها بعد إلغاء خصوصية الزمان والحيثيات التعليلية فلا يكون من استصحاب الكلي ولا من تغير الموضوع في الاستصحاب الشخصي كما هو واضح.

التنبيه الخامس ـ لا إشكال في جريان استصحاب عدم النسخ عند الشك فيه وهو من استصحاب بقاء المجعول في الشبهة الحكمية ، ويرد فيه كلا الإشكالين المتقدمين من السيد الأستاذ في استصحاب بقاء المجعول في الشبهات الحكمية ، لأن الشك في النسخ يرجع لبا إلى الشك في أخذ قيد الزمان الأول في الحكم حيث يستحيل النسخ الحقيقي في حق الله سبحانه وتعالى بلحاظ روح الحكم ومبادئه ، فيرجع الشك إلى احتمال اختصاص المجعول بالزمان الأول فيجري استصحاب بقاؤه وهو كالاستصحاب بقاء المجعول في سائر الشبهات الحكمية فيقال فيه حينئذ تارة : بالمعارضة مع استصحاب عدم الجعل الزائد للحصة الزمنية الثانية ، وأخرى : بأن الفعل في الزمان الثاني أو المكلف في الزمان الثاني فرد آخر غيره في الزمان الأول فقد تبدل موضوع المستصحب بلحاظ الافراد ، والجواب عليهما ما عرفت في دفع الشبهتين آنفا.

الا ان استصحاب عدم النسخ يختص باعتراض ثالث لا يرد في الشبهات الحكمية الأخرى وحاصله ، إيقاع المعارضة بين استصحاب عدم النسخ وبين استصحاب عدم فعلية المجعول المحتمل نسخه قبل تحقق موضوعه ، فلو شك في نسخ نجاسة الماء المتغير مثلا جرى استصحاب عدم نجاسته الثابت قبل تغيره فيكون معارضا باستصحاب بقاء النجاسة المجعولة لطبيعي الماء المتغير وعدم نسخها وهو أيضا من الاستصحاب في مرحلة فعلية الحكم والمجعول إثباتا أو نفيا.

وجواب هذه الشبهة : ان استصحاب عدم فعلية المجعول المحتمل نسخه قبل تحقق موضوعه لا يجري ، لأنه لو أريد به عدم المجعول الجزئي أي الثابت للفرد المشكوك بما هو فرد فمن الواضح ان هذا الفرد بما هو فرد يعلم بعدم جعل الحكم له فلا شك في عدم

١٤٩

الجعل له لكي يستصحب ، وان أريد به عدم المجعول الكلي الطبيعي الموضوع كالماء قبل تغيره فالمفروض ان طبيعي الموضوع الّذي هو امر واحد بحسب الفرض وان تعددت مصاديقه وافراده ـ على ما تقدم ـ قد انتقض فيه عدم النجاسة بجعل النجاسة عليه في الزمن الأول فيكون الجاري استصحاب بقاء المجعول لا عدمه.

لا يقال ـ بناء على هذا البيان لا بد من المنع عن استصحاب الحكم في الشبهة الموضوعية كاستصحاب طهارة الماء المشكوك ملاقاته مع النجاسة أيضا إذ لو أريد فيها استصحاب الحكم المجعول للفرد المشكوك بما هو فرد فهذا مما يقطع بعدمه وان أريد استصحاب الحكم المجعول لطبيعي الماء مثلا فهو مما يعلم بانتقاضه بجعل النجاسة للماء الملاقي مع النجس.

فانه يقال ـ المستصحب في الشبهة الموضوعية هو الحكم الجزئي المجعول بجعل الطهارة على الماء غير الملاقي للنجس حيث يشك في بقاء مجعول هذا الجعل بينما في المقام ليس الشك في بقاء الطهارة المجعولة للماء قبل التغير ، لأن هذا يعلم بانتقاضه وارتفاعه موضوعا حيث لا شك فيه لا كبرى ولا صغرى وانما الشك في بقاء مجعول جعل آخر وهو بقاء النجاسة المجعولة لطبيعي الماء المتغير في العصر الثاني فيجري استصحاب بقائه.

وليعلم ان مقصودنا بهذه التحليلات تفسير الظهور الإطلاقي الثابت في دليل الاستصحاب في نفسه والّذي ارتكز في أذهان الفقهاء دون تشكيك من قبل أحد منهم خلال مئات من السنين حيث كانوا يستصحبون عدم النسخ وكذلك يستصحبون بقاء الحكم في الشبهة الحكمية قبل ان تثار شبهة المعارضة بل وبعد إثارتها أيضا لم يستشكل من قبل المشككين في أصل جريان استصحاب الحكم ، فليس المقصود إثبات ظهور أو إطلاق غير ثابت في نفسه لو لا هذه التحليلات ليستشكل في عرفيتها مثلا ، وقد أوضحنا سابقا في منهج البحوث التحليلية اللفظية ضمن مباحث الدليل اللفظي ان هدف الأصولي قد يكون تفسير ظواهر ودلالات لا إشكال في ثبوتها في نفسها غاية الأمر قد وقع فيها التشويش أو الالتباس والتناقض في مجال التطبيق لدى المحققين مما يضطرنا إلى إبراز نكاته وتحليلاته ضمن نظرية متكاملة تستطيع ان تفسر كل تلك الظواهر وتوفق فيما بينها وترفع التناقض

١٥٠

والتشويش فيها ، وهذا منهج علمي تبرز الحاجة إليه في مجالات عديدة وكثيرة من البحوث الأصولية.

٢ ـ التفصيل بين المستصحب الثابت بالدليل الشرعي أو بحكم العقل

وقد ذهب إلى هذا التفصيل الشيخ الأنصاري ( قده ) فإذا كان الحكم ثابتا بحكم العقل لم يجر استصحابه ووافقه على السيد الأستاذ في الجملة وخالفه أكثر المحققين من المتأخرين وما يستخلص من مجموع كلماتهم في الاستدلال على هذا التفصيل وجوه ثلاثة :

الوجه الأول ـ ما يقال من ان الحكم الشرعي إذا كان تابعا لحكم العقل ومستكشفا به فلا يعقل الشك فيه إذ لا يعقل الشك في حكم العقل فلا تتم أركان الاستصحاب في مثل هذه الأحكام.

وهذا الوجه ان تم مبناه فهو يختص بالحكم الشرعي المستكشف بقانون الملازمة بين ما حكم به العقل العملي وما حكم به الشرع أعني المستقلات العقلية ولا يجري فيما قد يستكشف بحكم العقل النظريّ في باب تشخيص المصلحة اللزومية لوضوح إمكان الشك في بقاء تلك المصلحة المدركة من قبل العقل بنحو الشبهة الحكمية أو الموضوعية كما قد يشك العقل في أي أمر موضوعي اخر.

ومبنى هذا الوجه تصور ان العقل العملي لا يتصور في حقه الشك في موضوع حكمه ، وهذا في الحقيقة يرتبط بالمباني المختلفة في تفسير مدركات العقل العملي ، وفيما يلي نستعرض هذه المباني من دون الدخول في تقييمها في نفسها بل لملاحظة ما يترتب على كل منها في المقام.

المبنى الأول ـ ما اختاره المحقق الأصفهاني ( قده ) تبعا لجملة من الحكماء من ان هذه الأحكام من المشهورات العقلائية المجعولة لحفظ النظام والمصالح العامة. وبناء عليه قد يقال بعدم معقولية الشك في مثل هذه الأحكام لأن الإنسان هو أحد العقلاء ومنهم وبالتالي لا يعقل ان يشك في حكمه ، بل ذهب هذا المحقق إلى انه لا يعقل الشك في أحكام العقل العملي حتى بنحو الشبهة الموضوعية بدعوى ان موضوع التحسين والتقبيح العقليين هو الفعل الاختياري والاختيارية فرع العلم والوصول فمع

١٥١

الشك يقطع بارتفاع الحكم العقلي.

ويمكن ان يناقش ذلك :

أولا ـ إذا افترضنا التحسين والتقبيح من أحكام العقلاء ومجعولاتهم فمن المعقول الشك فيهما نتيجة عدم وضوح جعلهم وتشخيصهم للمصالح والمفاسد عند شخص ما ، وكون القضية عقلائية وهو منهم لا يمنع عن حصول الشك لديه فيما إذا لم تكن المصلحة التي دعت العقلاء قبله إلى جعله بدرجة كافية من الوضوح والبداهة في نفسها ، ولهذا قد يقع الشك في الأوضاع اللغوية الموضوعة من قبل العرف والعقلاء لدى الإنسان العرفي أيضا.

وثانيا ـ إمكان فرض الشك في الحكم الشرعي المستكشف بالحكم العقلي فان مجرد فرض ان الشارع من العقلاء بل سيدهم وفرض عدم الشك في الحكم العقلائي لا يستلزم عدم الشك في الحكم الشرعي إذ لعل الجعل الشرعي يكون أوسع من الجعل العقلائي ولو باعتبار أن الشارع أكمل عقلا وإدراكا للمصالح الواقعية والتي لم يدرك العقلاء الا جانبا منها.

وثالثا ـ ما ذكر من عدم إمكان الشك حتى بنحو الشبهة الموضوعية في هذه الأحكام غير صحيح وذلك لما تقدم في بحوث التجري من منع كون الاختيارية تابعة للعلم والوصول لكي يكون الحسن والقبح تابعين له خصوصا إذا فرضناهما من المجعولات المشهورة بين العقلاء.

المبنى الثاني ـ ما اختاره المحقق الخراسانيّ ( قده ) في حاشيته على الرسائل من ان التحسين والتقبيح العقليين حالتان ذاتيتان للإنسان فهو يلتذ وينجذب نحو الفعل الحسن ويتنفر من الفعل القبيح فليس الحسن والقبيح الا تلك اللذة المعنوية وهذا الاشمئزاز النفسيّ.

وبناء على هذا المبنى في تفسير الحسن والقبيح إذا كان الحكم الشرعي منوطا بنفس الحالتين الذاتيتين الفعليتين فلا يعقل الشك في ذلك لا محالة فان الإنسان بمراجعة وجدانه يستطيع تشخيص الحالة الذاتيّة فيما عدا حالات الوسوسة والتردد ، واما إذا أنيط الحكم الشرعي بالمصلحة أو المفسدة المستكشفة بتلك الحالة الذاتيّة فمن الواضح معقولية الشك في دائرة المصالح والمفاسد المستكشفة بها وبالتالي إمكان

١٥٢

الشك في الحكم الشرعي المستكشف أيضا.

المبنى الثالث ـ ان الحسن والقبح واقعان موضوعيان يدركهما العقل كما يدرك الواقعيات الأخرى غاية الأمر ليس عالم تحققهما عالم الوجود بل عالم الواقع الأوسع من لوح الوجود ، وبناء على هذا المبنى يعقل الشك في الحسن والقبح فضلا عن الحكم الشرعي المستكشف بهما.

المبنى الرابع ـ ما ذهب إليه السيد الأستاذ من ان الحسن والقبح لهما معنيان الأول استحقاق المدح أو الذم من العقلاء ، والاخر منشأ هذا الاستحقاق ، وكلا الأمرين موضوعيان الا ان الأول منهما قد أخذ فيه العلم بالمنشإ موضوعا فلا يذم الجاهل بكون فعله ظلما أو ضربا لليتيم مثلا. وبناء عليه لا بد من ملاحظة ان التلازم هل هو بين حكم الشارع وبين الأمر الأول أو الثاني ، فان قيل بالأول فلا يعقل الشك فيه لأن المفروض ان موضوع الاستحقاق العلم بالظلم أو العدل أي العلم بوقوع الفعل موقعه المناسب وعدمه فمع الشك فيه لا استحقاق ، وان قيل بالثاني كان الشك فيه معقولا لأن منشأ الاستحقاق امر واقعي موضوعي فيعقل الشك فيه على حد الشك في المدركات الواقعية الأخرى.

الوجه الثاني ـ ان أحكام العقل العملي أي الحسن والقبح لا معنى للشك فيه بنحو الشبهة الحكمية الا إذا لم يحرز الموضوع وحدوده ، كما إذا شك مثلا ان قبح الكذب ثابت للكذب مطلقا أو الكذب المضر مثلا أو غير النافع ، ومع الشك واحتمال دخالة هذا القيد في الحكم العقلي لا معنى للاستصحاب لعدم إحراز وحدة الموضوع لأن القيود في أحكام العقل العملي تقييدية لا تعليلية.

وهذا الوجه غير تام أيضا فان تقييدية القيود في أحكام العقل العملي وان كان صحيحا الا ان الميزان في جريان الاستصحاب وحدة القضيتين وعدم تبدل الموضوع بحسب الفهم العرفي والمناسبات المحكمة على دليل الاستصحاب لا على دليل الحكم سواء كان لفظيا أو عقليا ، فقد تكون الحيثية المأخوذة في الدليل تقييدية ومع ذلك يجري الاستصحاب لأن العرف يرى بقاء موضوع الحكم المستصحب رغم زوال تلك الحيثية على ما سوف يأتي تحقيقه مفصلا في محله.

الوجه الثالث ـ ما ذهب إليه المشهور من ان الحسن والقبح بالذات منحصر في

١٥٣

العدل والظلم واما غيرهما فباعتبار انطباق أحدهما عليه يتصفان بالحسن والقبح. وعندئذ يقال بان الشك في الحسن والقبح يرجع لا محالة إلى الشك في العدل والظلم ومعه لا يمكن الاستصحاب لأن عنواني العدل والظلم من الحيثيات التقييدية حتى بنظر العرف.

وفيه : ما تقدم في بحوث القطع من أن قضيتي حسن العدل وقبح الظلم ليستا قضيتين أوليتين حقيقيتين بل هما مشيرتان إلى قضايا أولية قبلهما ، إذ ليس العدل الا إعطاء ذي الحق حقه والظلم سلب ذي الحق حقه فلا بد من فرض حق واستحقاق في المرتبة السابقة ، وهذا يعني انهما تجميع لقضايا أخرى قبلهما كقبح الخيانة والكذب وهتك المولى وحسن الصدق والوفاء وإطاعة المولى فيكون ثبوتهما لتلك العناوين والتي قد لا يرى العرف تقييديتها.

وهكذا يتبرهن عدم صحة التفصيل في الاستصحاب بين الأحكام الشرعية المستكشفة بدليل العقل العملي وبين غيرها.

٣ ـ التفصيل بين الشك في المقتضي والرافع

وهذا ما ذهب إليه الشيخ الأعظم ( قده ) وتبعه عليه المحقق النائيني ( قده ) وقد أفاد الشيخ بان أول من تنبه إلى ذلك هو المحقق الخوانساري ( قده ) ولعل مقصوده ان أول من طبق ذلك على مفاد اخبار الاستصحاب وإلا فأصل التفصيل ثابت قبل ذلك ، وببالي ان المحقق في المعارج له كلام يشعر بهذا التفصيل حيث أفاد بان فرض عدم بقاء المستصحب اما يكون من باب احتمال عدم المقتضي أو وجود المانع والأول خلاف المفروض لأن الكلام بعد الفراغ عن وجوده والثاني معارض باحتمال عدمه فكأن فكرة الاستصحاب عنده منوط بإحراز المقتضي وكون الشك في الرافع.

وقد وقع البحث تمهيدا في المقصود من المقتضي والرافع بما لا فائدة مهمة في التعرض إليه بعد ما سيظهر من بطلان أصل التفصيل. من هنا نقتصر في تقرير هذا التفصيل على ما نقحه المحقق النائيني ( قده ) في بيان ضابطته وحاصله : ان الشيء إذا كان بحيث لو بقي هو وعمود الزمان لم يرتفع وانما يرتفع لحدوث حادث يؤثر عليه كان الشك في الرافع كالنجاسة الّذي لا ترتفع الا بمزيل وكالإنسان الشاب الّذي لا يموت

١٥٤

عادة الا بعارض واما إذا كان الشك في نفس امتداد الشيء ومقدار استعداده للبقاء في عمود الزمان كان من الشك في المقتضي ، كان الخيار الّذي قد يزول بالتأخير بناء على فوريته وكالشك في موت إنسان كبير السن لاحتمال انتهاء قوته واستعداده ، فليس المراد من المقتضي الملاك والمصلحة ولا السبب في قبال الشرط وعدم المانع ولا الموضوع كما توهم بل ما ذكرناه من استعداد الاستمرار والبقاء لو لا المزيل وهذا كما يجري من استصحاب الوجود يجري في استصحاب العدم أيضا كما لا يخفى.

وقد استدل على هذا التفصيل بأدلة ثلاثة رئيسية :

الدليل الأول ـ ويتألف من مقدمتين :

الأولى ـ ان الاستصحاب يعتبر فيه وحدة القضية المتيقنة والقضية المشكوكة.

الثانية ـ ان الوحدة الحقيقية غير موجودة لأن المتيقن هو الحصة الحدوثية والمشكوك الحصة البقائية فلا وحدة بالدقة فلا بد من فرض عناية على أساسها يفترض المتيقن كأنه هو المشكوك وتلك العناية اما هي عناية تيقن المشكوك باعتبار اليقين ببقاء المقتضي أي بان يعتبر اليقين بالمقتضي مسامحة يقينا بالمقتضى واما بان يفرض بالعناية نفس اليقين بالحدوث يقينا بالبقاء باعتباره يقينا بشيء فيه اقتضاء البقاء وكلتا العنايتين توجبان اختصاص الحكم بفرض إحراز المقتضي وكون الشك في الرافع.

وناقش في ذلك المحقق الخراسانيّ ( قده ) بان العناية المستوجبة للوحدة عرفا انما تكون بنفس تجريد خصوصية الزمان فيرى المشكوك عين المتيقن.

وهذا الكلام يحتمل فيه أحد امرين :

الأول ـ ان يكون منظوره ملاحظة الجامع بين الحصة الحدوثية والحصة البقائية فيتحد المتيقن مع المشكوك بهذا الاعتبار.

وفيه : ان الجامع بين الحصتين لا شك فيه حتى يجري الاستصحاب بلحاظه.

الثاني ـ ان يكون منظوره ـ كما ذكر المحقق العراقي ( قده ) في تفسير كلام أستاذه ـ إلغاء خصوصية الزمان والتغافل عنه ولحاظ ذات الشيء فكان حدوثه عين بقائه وكأن ذات الشيء كان متيقنا ثم شك فيه.

وفيه : ان هذا يستلزم ان يكون مفاد أدلة الاستصحاب قاعدة اليقين حينئذ وان

١٥٥

الشك إذا تعلق بما تعلق به اليقين فلا يعتنى به وهذا مصداقه الحقيقي قاعدة اليقين غاية الأمر يقال بان الاستصحاب أيضا فرد عنائي لهذه الكبرى.

هذا وهناك احتمال اخر في كلام المحقق الخراسانيّ ( قده ) وهو ما سنذكره نحن في إبطال هذا الدليل وان كانت عبارته لا تنطبق عليه.

والتحقيق في الإجابة على هذا الدليل ان يقال :

أولا ـ هذا الدليل يستبطن إرجاع مفاد الأدلة إلى قاعدة اليقين لا الاستصحاب إذ فرض فيه انها تدل على الحجية في فرض وحدة المتيقن والمشكوك بان يكون الشك متعلقا وساريا إلى نفس المتيقن ، غاية الأمر فرض وجود العلم بالمقتضي والشك في المقتضى بقاء من ناحية احتمال المانع فردا عنائيا لقاعدة اليقين مثلا وهذا غير قاعدة الاستصحاب لبا وروحا.

وثانيا ـ ان هذا الاستدلال نشأ من تسليم ظهور الدليل في لزوم الوحدة المطلقة بين المتيقن والمشكوك مع ان هذا لا وجه له ، فانه إذا كان وجهه حذف متعلق اليقين والشك ، ففيه : ان حذف المتعلق لو سلم ظهوره في وحدة متعلقهما من جميع الجهات في نفسه ففي المقام حيث طبق ذلك في نفس الحديث على اليقين بحدوث الطهارة والشك في بقائها فلا يكون الظهور المذكور مقتضيا للوحدة من هذه الناحية. وان كان وجهه كلمة النقض واسناده إليهما حيث لا معنى لأن يكون الشك في شيء نقضا لليقين بشيء آخر فهذا أيضا لا يقتضى لزوم الوحدة من جميع الجهات حتى الزمان بل يكفي الوحدة من غير ناحية الزمان ، بل مفهوم النقض لا بد في صدقه من فرض ان المشكوك بقاء للمتيقن ورفع له والا لو كان المشكوك نفس المتيقن حتى من حيث الزمان فلا يصدق النقض بينهما بلحاظ المتيقن المشكوك وان كان قد يصدق بلحاظ نفس اليقين والشك إذا كان اليقين سابقا على الشك ، وقد تقدم في البحوث السابقة كيف ان اليقين والشك يكتسبان صفة متعلقهما من المتيقن والمشكوك من هذه الناحية فيكون اسناد النقض إليهما بهذا الاعتبار.

الدليل الثاني ـ وله تقريبان :

١ ـ ان جملة ( ولا ينقض اليقين بالشك ) كان يحتمل فيه العهدية وإرادة اليقين بالطهارة والشك في الحدث وانما تعدينا من ذلك إلى غيره بضم ارتكاز عدم الفرق

١٥٦

فلا بد من الاقتصار في التعدي على المقدار المتيقن عدم الفرق بينه وبين المورد ، فإذا كان في المورد خصوصية يحتمل دخالتها في الفرق لم يكن يمكن إلغاؤها في التعدي ، ومن الواضح ان المورد وهو اليقين بالطهور والشك في الحدث فيه خصوصية إحراز المقتضي والشك في الرافع فلا يمكن إلغاؤها.

وفيه : مضافا إلى وجود أدلة مشتملة على الإطلاق اللفظي ، ان ارتكازية عدم الفرق في المقام توجب إلغاء المورد وهو اليقين بالطهور والشك في التناقض بكل ماله من الخصوصيات التحليلية والضمنية والتي منها مثلا كونه من الشك في الرافع لا المقتضي ومع إلغاء المورد بالارتكاز ينعقد إطلاق لفظي على الاستصحاب ، وان شئت قلت : ان الارتكاز يوجب حمل المورد على انه صغرى للكبرى المعلل بها وهي النهي عن نقض اليقين بالشك وهي كبرى مطلقة تشمل موارد الشك في المقتضي أيضا.

٢ ـ ان الكلام الصادر من المولى إذا كان في مورده ارتكاز خاص يقتضي التوسعة أو التضييق تأطر الكلام وتحدد بمقدار ذلك الارتكاز لا محالة فيدعى في المقام ان الارتكاز يقتضي الاختصاص بفرض إحراز المقتضي.

وفيه : منع الصغرى فان هذا الارتكاز لو سلم فليس بتلك المرتبة التي تصلح للبيانية على تحديد الإطلاق اللفظي وتخصيص حجية الاستصحاب بموارد إحراز المقتضي فقط. والدليل الثالث ـ وهو الّذي اعتمد عليه الشيخ الأعظم ( قده ) ناسبا له إلى المحقق الخوانساري ( قده ) وهو استفادة الاختصاص من كلمة النقض الوارد في الحديث ويمكن تحليل هذا الاستدلال إلى مقدمتين :

الأولى ـ ان النقض مسند واقعا ولبا إلى المتيقن لا اليقين وان كان بحسب اللفظ قد أضيف إلى اليقين.

الثانية ـ ان اسناد النقض إلى المتيقن لا يصح الا إذا فرض إحراز المقتضي له بقاء. ولنؤجل البحث عن المقدمة الأولى إثباتا ونفيا ونقدم البحث عن المقدمة الثانية فنقول : استند الشيخ ( قده ) في إثبات المقدمة الثانية إلى كلمة النقض الوارد في الحديث حيث انه مقابل الإبرام وهو لا يصدق الا إذا كان هناك هيئة اتصالية يراد

١٥٧

قطعها فيقال نقضت الحبل بمعنى ، قطعته ، وهذا المعنى وان لم يكن صادقا على المتيقن حقيقة إذ ليست هنا لك هيئة اتصالية بينه وبين المشكوك حقيقة فالنقض مستعمل فيه مجازا ، الا ان المجاز أيضا بحاجة إلى علاقة ومناسبة بين المعنى المجازي والحقيقي وهي هنا افتراض وجود المقتضي لبقاء المتيقن فيكون المشكوك استمرارا للمتيقن وكأنه متصل به ومبروم معه فيصح اسناد النقض بهذه المناسبة ، وحيث ان هذه العلاقة لا تكون محفوظة في موارد الشك في المقتضى فلا يكون الدليل شاملا لأكثر من موارد الشك في الرافع مع إحراز المقتضي.

ويرد على هذا البيان :

أولا ـ ان النقض وان كان ضد الإبرام الّذي هو مصدر آخر للبرم بمعنى الفتل والإبرام إجادته وأحكامه فيكون النقض بمعنى حل البرم والفتل ، إلا ان مجرد افتراض المقتضي للمتيقن لا يصحح اسناد النقض إليه لأنه لا يحقق علاقة البرم والهيئة البرمية اللازمة في المقام وان كان يوجب أرجحية البقاء والاستمرار فان الاستمرار والبقاء غير البرم والفتل ، على ان مجرد افتراض مناسبة وعلاقة في الذهن من دون ما يدل على أخذها وملاحظتها إثباتا لا يكفي لتصحيح النسبة والإسناد.

وثانيا ـ ان النقض ليس مطلق حل الفتل بل حله بشدة فقولك نقضت الحبل يعطي معنى الحل الشديد للحبل ويستعمل مجازا في مطلق الرافع إذا أريد تطعيم مفهوم الرافع بالشدة والقوة وهي العلاقة والمناسبة مع المعنى الحقيقي ، وهذه الشدة تارة ، يكون من ناحية شدة المرفوع واستحكامه كما في نقضت الحبل من مكانه ، وأخرى : يكون من ناحية شدة المرفوع واستحكامه كما في نقضت الحبل من مكانه ، وأخرى : يكون من ناحية ورفعتها تماما رغم ان الشبهة ليس فيها ضعف ووهن ، والظاهر ان اسناد النقض إلى اليقين بالشك يكون على أساس هذه النكتة البلاغية ، فكأنه أريد إبراز فظاعة رفع اليد عن المتيقن بالمشكوك فعبر بالنقض الّذي يعطي معنى شدة الرفع لإظهار شناعة هذا الرفع فيكون أبلغ ، بل سوف يأتي ان النقض مستند إلى اليقين نفسه لا المتيقن ، وبناء عليه تكون المناسبتان معا محفوظتين أي إبراز شدة المرفوع وهو اليقين باعتباره امرا مستحكما مبروما مع متعلقه عرفا ، وإبراز شدة الرفع وفظاعته عند ما يرفع اليد عنه

١٥٨

بالشك ، ولعله لهذه المناسبة عبر باليقين لا بالعلم فان لفظ اليقين أبلغ في الدلالة على الاستحكام والثبات والإبرام بين الكاشف والمنكشف بخلاف لفظ العلم.

وهكذا اتضح عدم صحة المقدمة الثانية من هذا الدليل (١).

واما المقدمة الأولى وهي اسناد النقض إلى المتيقن فيمكن ان يقرب بأحد وجوه :

الوجه الأول ـ ان يدعى استعمال اليقين وإرادة المتيقن مجازا اما باعتبار ان النهي عن النقض يستدعي القدرة عليه ونقض اليقين بما هو يقين غير مقدور وانما المقدور نقض المتيقن ، أو بدعوى ان النقض لو كان مسندا إلى اليقين لزم ان يكون المقصود ترتيب آثار اليقين والأحكام الشرعية المترتبة عليه لا على المتعلق أي ترتيب آثار القطع الموضوعي فقط دون الطريقي فلا بد وان يراد المتيقن من اليقين.

وهذا الوجه بكلا تقريبيه غير تام ، اما الأول فيرده : ما أشير إليه في الكفاية من أن النقض لو أريد به النقض الحقيقي فهو غير معقول لا بالنسبة إلى اليقين ولا بالنسبة إلى المتيقن في أكثر الموارد ، بل ولو كان معقولا فليس المقصود النهي الحقيقي عنه ، ولو أريد به النقض العملي فهو معقول بالنسبة إلى اليقين أيضا بأن لا يجري على طبقه.

واما الثاني فقد أورد عليه في الكفاية : بأن اليقين قد لو حظ بما هو مرآة إلى المتيقن وفان فيه فكأنه يرى المتيقن به فيرتب آثاره.

وناقش في ذلك المحقق العراقي ( قده ) بان هذا هدم لمبناه في كيفية تصحيح اسناد النقض إلى اليقين ، إذ لو كان اليقين قد لوحظ فانيا في المتيقن فلا يرى الا المتيقن فكيف يمكن ان يكون مصحح استعمال النقض استحكام اليقين؟ ثم أجاب عليه : بان اليقين وان كان مرآة إلى المتيقن الا ان المرئي قد يكتسب لونا من المرآة كالنور الّذي يكتسب لون الزجاجة المنعكس فيها.

وهذا الجواب أشبه بالشعر والأدب منه إلى الأصول ، إذ لا يعني فناء عنوان ولحاظه

__________________

(١) ولكن لو فرض ان النقض كان مسندا إلى المتيقن كما إذا قيل لا تنقض المتيقن فلا ينبغي الإشكال في عدم الإطلاق لموارد الشك في أصل استعداد المتيقن للبقاء لأن مفهوم النقض أو الرفع بنفسه يستبطن ثبات المنقوض والمفروغية عنه لو لا النقض وهذا لا يصدق مع محدودية المتيقن في نفسه ، فالأولى جعل المقدمة الأولى كافية في إثبات الاختصاص لتمامية الثانية على هذا التقدير ، وما يرى من صدق النقض في قولنا نقضت الشبهة رغم وهنها لا ينافي ما ذكرناه فان النقض هنا انما استعمل باعتبار بقاء الشبهة وثباتها واستفحالها لو لا النقض.

١٥٩

مرآة الا عدم الالتفات إليه والغفلة عنه فلا وجه لتشبيهه بمسألة طبيعية كما لا يخفى ، فإشكال التهافت مع المبنى الّذي أورده على جواب صاحب الكفاية باق على حاله ، والصحيح في دفع أصل التقريب ان يقال بأنه لا مانع من إرادة نقض آثار اليقين وانطباق ذلك على آثار المتيقن لأن المراد نقض الآثار العملية لليقين ولا إشكال في ان آثار المتيقن هي الآثار العملية التي يتطلبها اليقين المتعلق به ، هذا مضافا إلى ان أصل هذا الوجه ضعيف في نفسه عرفا لأنه لا يناسب مع عبارة الحديث ( كنت على يقين من وضوئك ولا ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ) إذ لو أريد باليقين في الجملة الثانية غير اليقين في الجملة الأولى مع وحدة السياق وكونهما بمثابة الصغرى والكبرى فهذا من التفكيك الركيك جدا ، وان أريد بهما معنى واحدا فليس هو الا اليقين لا المتيقن إذ لا يصح ان يقال ( كنت على المتيقن من وضوئك ).

الوجه الثاني ـ ما يمكن استفادته من مبنى جواب صاحب الكفاية على الوجه السابق وحاصله : ان اليقين وان استعمل في معناه الحقيقي ولكن يكون اسناد النقض إليه بلحاظ المتيقن لا بلحاظ نفسه لكون عنوان اليقين من العناوين الآلية المرآتية ذات الإضافة فلوحظ مفهوم اليقين مرآة لمفهوم المتيقن من باب ان مصاديقه مرآة لمصاديق المتيقن.

ويرد عليه : ان معنى فناء العنوان في المعنون على ما شرحناه مرارا كون الشيء له لحاظان لحاظ بالحمل الأولي ولحاظ بالحمل الشائع وهو بأحد اللحاظين غيره باللحاظ الاخر ، وهذا يكون في المفاهيم والوجودات الذهنية التي هي بالحمل الشائع غيرها بالحمل الأولي فمفهوم الحيوان بالحمل الأولي حيوان لأنه عنوانه وصورته ولكنه بالحمل الشائع صورة في الذهن وهذا يجعل التعامل معه بنحو الفناء بمعنى ان الأحكام والمحمولات تحمل عليه بما هو بالحمل الأولي لا بالحمل الشائع ، فيقال ان ذلك العنوان أو المفهوم لو حظ فانيا في معنونه ومصداقه أي ليس الحكم عليه بما هو وبالحمل الشائع فهذا هو المعنى المعقول لفناء العنوان والمفهوم في معنونه ومصداقه.

وعلى أساس هذا التوضيح يظهر :

أولا ـ بطلان ما تقدم عن المحقق العراقي من تشبيه المقام بموارد النور الّذي يكتسب لون الزجاجة المنعكس فيها لأن الفناء هنا لا يعني وجود شيئين يكتسب أحدهما من

١٦٠