بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

كيف يكون قد أغفله كما ان سكوته عن إسماعيل بن جابر الجعفي مع ان النجاشي يذكره ويذكر انه له كتابا ينقله عنه بطريق صفوان غريب لو لا الاتحاد ، بل الملاحظ وحدة الوصف والطريق إلى كتاب إسماعيل بن جابر الّذي يذكره الشيخ في الفهرست والجعفي الّذي يذكره النجاشي فان تمام حلقات السند في هذا الطريق واحد فكيف يفترض انهما شخصان ومع ذلك سكت كل منهما عما تكلم وأخذ عنه الآخر ، بل الجعفي وقع بعنوان إسماعيل الجعفي في سند رواية الأذان المعروفة التي يعتمد عليها في الفقه وقد اعتمد الشيخ نفسه عليها في كتبه الفقهية وكتب الحديث وقد ذكر النجاشي ان إسماعيل بن جابر الجعفي هو إسماعيل الجعفي الراوي لفقرات الأذان. فهذه كلها قرائن تؤكد وحدة العناوين وان كان هناك ظاهرة حينئذ غريبة يلزم من الوحدة وهي ان هذا العنوان يكون قد روى عنه اشخاص متفاوتون من حيث الطبقة من أصحاب الصادق عليه‌السلام إلى أصحاب الجواد عليه‌السلام.

هذا ولكن الصحيح ان كلتا الطريقتين غير تام وذلك لمناقشتين :

١ ـ ان الوارد في سند حديث الرفع إسماعيل الجعفي لا إسماعيل بن جابر الجعفي وحينئذ يحتمل ان يكون المراد به إسماعيل بن عبد الرحمن الجعفي الّذي لم يوثق وهو من حيث الطبقة مناسب أيضا وكون إسماعيل الجعفي في رواية الأذان قد شهد النجاشي بأنه إسماعيل بن جابر لا يعني انه دائما عند ما يرد عنوان إسماعيل الجعفي يراد به ابن جابر (١). وإسماعيل بن عبد الرحمن وان نقل عنه الصدوق في مشيخته بواسطة صفوان الا ان الطريق إلى صفوان فيه محمد بن سنان الّذي لم يثبت توثيقه.

٢ ـ لو سلمنا ان المراد هو إسماعيل بن جابر المحسوب من أصحاب الباقر عليه‌السلام تارة والصادق عليه‌السلام أخرى فكيف يعقل ان يكون قد نقل عنه أحمد بن محمد بن عيسى بلا واسطة فانه لا ينقل ولم ينقل في الفقه عن أحد من أصحاب الصادقين عليهما‌السلام الا مع واسطة أو واسطتين والفاصل الزمني بين أحمد بن محمد والإمام الصادق عليه‌السلام أكثر من مائة عام. فأما ان يكون هناك واسطة محذوفة أو ان إسماعيل الجعفي ليس هو ابن

__________________

(١) الا ان الإنصاف انصراف عنوان إسماعيل الجعفي إلى ابن جابر لكثرة روايات ابن جابر وندرة روايات ابن عبد الرحمن ولهذا شهد بذلك النجاشي في ترجمته على ان كلام النجاشي في ترجمة إسماعيل بن عبد الرحمن الجعفي لا يخلو من دلالة على وثاقة الرّجل فانه ذكر انه كان وجها من أصحابنا.

٦١

جابر الّذي هو من أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام ومما يؤيد سقوط الواسطة أن الرواية منقولة عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى مردفة بروايته الأخرى عن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام والحلبي من أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام الكبار الّذي توفي في أيام الصادق عليه‌السلام فكيف يعقل ان ينقل عنه أحمد بن محمد بن عيسى بلا واسطة ، فالظاهر ان هناك واسطة ساقطة (١) وعلى كل حال فلم يثبت سند صحيح للحديث.

« حديث السعة »

ومن الروايات التي يستدل بها على البراءة الشرعية ( الناس في سعة ما لا يعلمون ) (٢) ولا إشكال في دلالته على البراءة بهذا المتن. الا ان الكلام يقع حينئذ في ان المستفاد منها براءة محكومة لدليل الاحتياط أم معارضة. وقد بنيت المسألة عند الأصوليين على تحديد ان ( ما ) موصولة أو مصدرية فأن كانت موصولة فغاية ما تدل عليه عندئذ انهم في سعة من ناحية ما لا يعلمونه وهذا لا ينافي ان لا يكونوا في سعة من ناحية حكم آخر وهو إيجاب الاحتياط. وان كانت مصدرية بمعنى ما داموا لا يعلمون بالواقع فهم في سعة فهذا ينافي جعل وجوب الاحتياط لأنه لا يرفع عدم العلم بالواقع.

ثم استظهر ان تكون ما موصولة لا مصدرية لندرة دخول المصدرية على فعل المضارع وان لم يكن غلطا.

ولنا في المقام تعليقان :

أولا ـ لو فرض ان دخول المصدرية على المضارع ليس غلطا فينبغي ان يقال بالإجمال ولا مجال للاستظهار لأن تحديد انها موصولة أو مصدرية يرتبط بكيفية النطق بكلمة ( سعة ) فانها لو نطقت مضافة فيتعين ان تكون ( ما ) موصولة لا غير ولو نطقت

__________________.

(١) جامع أحاديث الشيعة ، باب ٨ من أبواب المقدمات ح ٦.

(٢) وهذا الإشكال قابل للدفع بعد ملاحظة ان روايات أحمد بن محمد بن عيسى عن إسماعيل الجعفي كثيرة في الفقه وان إسماعيل بن جابر الجعفي كان له كتاب معروف ، فأن هذا يعني ان أحمد بن محمد حتى إذا فرض القطع بعدم لقائه للجعفي مباشرة كان قد حصل على كتابه بنحو بحيث كان يقطع بان ما فيه صادر عن الجعفي ولهذا كان يسند عنه وحصول مثل هذا العلم الحسي اعتيادي فيكون اسناده حجة ..

٦٢

منونة تعينت ان تكون مصدرية لا غير فكيفية قراءة كلمة ( سعة ) قرينة معينة لأحد الاحتمالين وحيث لا طريق إلى إثبات إحدى الكيفيتين فلا محالة يصبح الحديث مجملا من هذه الناحية والنتيجة عدم ثبوت براءة صالحة للمعارضة مع دليل الاحتياط.

وثانيا ـ ان افتراض كون ( ما ) موصولة لا يعني ان تكون البراءة المستفادة من الحديث محكومة لدليل الاحتياط. إذ هذا انما يلزم لو فرض ان إضافة السعة إلى الموصول إضافة نشوئية أي الناس في سعة من ناحية الضيق الّذي ينشأ مما لا يعلمون لو علموا به واما إذا كانت الإضافة موردية أي في سعة في المورد الّذي لا يعلمون فيه بالواقع فلا بأس حينئذ بالتمسك بإطلاق السعة من جميع الجهات.

الا ان الرواية لم يعثر عليها في متون الأحاديث نعم وردت رواية السفرة بمضمون آخر حيث ان الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قد مر بسفرة في الطريق مطروحة فيها لحم كثير فرخص في الأكل منها معللا بأنهم ( في سعة حتى يعلموا ).

ولكنها ضعيفة سندا بالنوفلي ، ودلالة أيضا بعدم وضوح دلالتها على البراءة خصوصا وفي المورد لو لا أمارية يد المسلمين أو بلادهم كان الجاري استصحاب عدم التذكية المتقدم على البراءة وعلى كل حال فموردها الشبهة الموضوعية لا الحكمية.

« حديث الحجب »

ومن الروايات حديث الحجب ـ ( ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ) (١). وهو تام سندا وتقريب دلالته : انها دلت على وضع التكليف عما حجب الله علمه عن عباده فما لم يصل المكلف من التكاليف محجوب عنهم لا محالة.

وهنا شبهة تعترض الطريق هي ان الحجب قد أسند إلى الله تعالى وهذا يوجب اختصاص مفاده بما إذا كان خفاء التكليف بتعيين منه تعالى فيكون بمعنى ان ما لم يبينه الله وأخفاه عن عباده فهو محجوب عنهم وليسوا مسئولين عنه وهذا مفاد آخر أجنبي عن البراءة المبحوث عنها.

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ، الباب الثامن من أبواب المقدمات ، ح ٨.

٦٣

وقد يحاول دفع الشبهة بضم الاستصحاب الموضوعي ، بأن يستصحب تارة عدم البيان. وجوابه : حينئذ انه لا يثبت عنوان الحجب الوجوديّ ، وأخرى يستصحب الحجب الثابت في أول أزمنة تشريع التكليف وقبل بيانه للعباد. وفيه : ان الحجب لا يصدق الا مع تعمد الإخفاء وعدم البيان وهذا لا يصدق على البرهة القصيرة التي تمر على التكليف وهو في طريق الإيصال إلى العباد.

والصحيح : في دفع الشبهة. ان الحجب إذا أضيف إلى الله بما هو خالق لا بما هو مولى ومشرع يكون صادقا حتى على عدم الوصول إلى المكلف لأن الاحتجاب عنه أيضا مضاف إليه تعالى بما هو خالق كل شيء بل يشمل على هذا حتى الشبهات الموضوعية لأن حجب الموضوع أيضا مضاف إليه تعالى بما هو خالق ويمكن تعيين ان المضاف إليه هو ذلك تارة بدعوى ظهور اسم الجلالة فيه ، وأخرى باعتبار ان إرادة حجب الشارع بما هو شارع بعيد في نفسه غير مناسب مع سياق الحديث ، إذ ما يكون المولى بنفسه في مقام إخفائه من تكاليفه لا يكون في معرض توهم مسئولية العباد عنها ويكون عرفا مناقضا مع فرض المسئولية والإدانة فيكون مفاد الحديث على هذا كأنه الاخبار عن ثبوت أحد الضدين بانتفاء الآخر وهو مستهجن عرفا وهذا بنفسه يبعد هذا الاحتمال ويعين ان تكون الإضافة إليه تعالى بما هو خالق (١). وعلى هذا فلا يكون هناك حجب واحد عن مجموع العباد كما هو على الاحتمال الآخر بل ينحل بعدد العباد بمقتضى التقابل بين الحجب عن العباد والوضع عنهم.

وهذا خير دليل من السنة على البراءة في الشبهة الحكمية لتماميته دلالة وسندا.

« حديث الحلية »

ومن الروايات المعروفة ( كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه ) وقد وردت بصيغ عديدة.

__________________

(١) هذا قابل للمناقشة خصوصا مع ان السؤال عما أخفاه الله من العباد كان امرا واقعا في هذه النبوة كالنبوة كالنبوات السابقة حتى جاء لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم. مضافا إلى إمكان دعوى ظهور الحجب في المباشرة بحيث يكون التكتم والإخفاء منسوبا إليه مباشرة وهذا غير انتساب الشبهة وعدم العلم إليه تعالى باعتباره خالقا لكل شيء ولا أقل من الاحتمال والإجمال.

٦٤

الصيغة الأولى ـ ما في صحيحة عبد الله بن سنان ( كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ) (١). وهي لا إشكال في دلالتها على أصالة الحل الا ان الكلام في شمولها للشبهة الحكمية ، ولا يبعد القول بعدم عمومها لها وذلك بقرينتين :

أولاهما ـ ظهور صدرها في ان مورد الحلية الشيء الّذي ينقسم إلى صنفين حلال وحرام ، ومنشأ الاشتباه والتردد هو هذا الانقسام كالجبن مثلا فيه المتخذ من الميتة فيكون حراما وفيه المتخذ من المذكى فيكون حلالا وهذا لا يصدق الا في الشبهات الموضوعية إذ الشبهة الحكمية فيها ترديد لا تصنيف ، نعم قد يؤخذ الجنس فيقال جنس المائع فيه حلال وهو الماء مثلا وفيه حرام وهو الخمر ويشك في العصير المغلي انه حرام أو حلال الا ان الشك هنا لم ينشأ عن التصنيف المذكور فسواء كان في الجنس حلال وحرام أو لا كان الشك المذكور حاصلا وقد يقال بوجود ذلك في الشبهة المفهومية فان اللفظ إذا تردد بين الأقل والأكثر مثلا الماء ينقسم إلى مطلق فيحل الوضوء به ومضاف فلا يحل فلو شك في ماء مفهوما انه مطلق أو مضاف كان التصنيف سببا للشك في الحرمة الا انه مع ذلك لا يشمله الحديث لظهور بعينه في ان ارتفاع الشبهة يكون بتميز الخارج لا مدلول اللفظ كما في الشبهة المفهومية (٢).

الثانية ـ ان مقتضى تأسيسه ( بعينه ) ان يكون احترازيا لا تأكيدا لمعرفة الحرام وهذا لا يكون الا في الشبهة الموضوعية حيث انه قد يكون الحرام فيها معلوما ولكن لا بعينه كما في موارد العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة بعد تخصيص الشبهة المحصورة في لعدم إمكان جعل البراءة فيها فيكون قيد ( بعينه ) لا دراج موارد الشبهة غير المحصورة في البراءة وهذا كثير في الشبهة الموضوعية بخلاف الحكمية فان فرض العلم الإجمالي غير المحصور فيها نادر جدا.

وهذه القرينة غير تامة ، لوضوح ان المطلوب ليس هو التخصيص بالشبهة الحكمية وانما تعميم الحديث لها وهو لا يتنافى مع عدم غلبة الشبهة غير المحصورة فيها ، إذ يكفي ان

__________________

(١) وسائل الشيعة ، كتاب التجارة ، الباب الرابع من أبواب ما يكتسب به ، ح ١.

(٢) ويمكن ان يقال ان نفس التعبير بقوله حتى تعرف الحرام ظاهر في ان المجهول هو الحرام لا الحرمة وهذا انما يكون في الشبهة الموضوعية لا الحكمية والا كان الأنسب ان يقال حتى تعرف انه حرام.

٦٥

يكون غير نادر بلحاظ جامع الشبهة.

الصيعة الثانية ـ ما ورد عن مسعدة بن صدقة بلسان ( كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه وذلك مثل الثواب يكون عليك ولعله سرقة ومثل العبد يكون تحتك ولعله حر أو قد بيع أو امرأة تحتك ولعله أختك أو رضيعتك والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا أو تقوم به بينة ) (١).

ولا بد من التعرض أولا إلى فقهها حيث قد استشكل في فهم مضمونها لأن ظاهر الصدر تقرير أصالة البراءة والحل الا انه في التطبيقات والأمثلة ذكرت تطبيقات أجنبية عن أصالة الحل والبراءة إذ ليس فيها شيء يمكن ان يكون مستند الحلية فيه أصالة الحل فالثوب المشكوك كونه سرقة أو العبد المشكوك كونه حرا أو الزوجة المشكوك كونها أختا لا تجري البراءة في شيء منها بل تجري قواعد أخرى للتأمين لولاها كان مقتضى الأصل الحرمة.

لا يقال بناء على جريان الأصول الطولية إذا كانت من سنخ واحد تكون البراءة أيضا جارية في هذه الموارد.

فانه يقال : هذا المقدار لا يكفي بعد ظهور الحديث في ان منشأ التأمين والحلية هو القاعدة وحدها لا القاعدة بضم عدم جريان الأصول الحاكمة عليها.

وقد حاول البعض دفع الشبهة بان المذكورات انما ذكرت من باب التمثيل لا التطبيق.

الا ان هذا خلاف الظاهر جدا ، لأن المناسب مع التمثيل ذكر القاعدة المماثلة لقاعدة المذكورة أولا لا ذكر تطبيقات قاعدة أخرى لم تذكر كبراها.

وعالج المحقق العراقي ( قده ) الإشكال بان الرواية في مقام إبراز حلية جامعة بين حليات متعددة تستفاد من قواعد مختلفة جمعت في قضية واحدة فالجملة إخبارية لا إنشائية تخبر عن جعول عديدة.

وهذا أيضا خلاف الظاهر لا فقط باعتبار ظهور الجملة في الإنشاء لا الاخبار بل من أجل قوة ظهورها في انها في مقام إعطاء قاعدة كلية بنكتة واحدة للتطبيق على

__________________

(١) نفس المصدر ، ح ٤.

٦٦

الموارد المختلفة بحيث يستفيد السامع تطبيقها بالفعل وهذا لا يناسب مع كون القضية إخبارية تجمع حيثيات وقواعد متعددة لا يمكن ان يرجع إليها المكلف في مجال التطبيق.

والّذي يقوى في النّفس إذا صحت الرواية ان المقصود النّظر إلى مرحلة البقاء وان ما أخذه المكلف وكان حلالا له على أساس قاعدة شرعية يبقى حلالا ولا ينبغي ان يوسوس فيه وفي مناشئ حصوله حتى يستبين خلافه أو تقوم به البينة وبهذا تكون أجنبية عن البراءة (١). كما انه على فهم المحقق العراقي ( قده ) أيضا لا يمكن ان يستفاد منها البراءة إذ ليست في مقام جعل البراءة كما ان في الأمثلة المذكورة لا يوجد ما يكون موردا لها.

الصيغة الثالثة ـ ما وجد في الكتب الأصولية من ( ان كل شيء حلال حتى تعرف انه حرام ) وهي واضحة الدلالة على البراءة الا انها لا وجود لها في كتب الحديث.

هذه أهم ما يمكن ان يستدل به من الأدلة على البراءة الشرعية وقد اتضح ان ما تم منها آيتان ورواية واحدة هي حديث الحجب.

( الاستدلال على البراءة بالاستصحاب )

بقي الاستدلال على البراءة بالاستصحاب وذلك بإحدى صيغ ثلاث :

١ ـ استصحاب عدم التكليف الثابت قبل البلوغ.

٢ ـ استصحاب عدم جعل التكليف الثابت قبل الشرع أو في أول الشريعة وقبل التشريع.

٣ ـ استصحاب عدم التكليف الثابت قبل تحقق موضوع التكليف المشكوك أو قيوده.

__________________

(١) هذا أيضا خلاف ظاهر الصدر ( كل شيء هو لك حلال حتى تعرف انه حرام ). خصوصا مع كلمة ( بعينه ) الظاهر في ان الشك في أصل حرمة شيء لا في بقائها.

وهنا احتمال آخر وهو ان يكون نظر الرواية إلى ان العلم الإجمالي بوقوع المحرمات وثبوتها في الجملة لا يكون مانعا عن ثبوت الحلية الثابتة في كل مورد مورد بدليلها فالحديث متجه إلى هذه الناحية الا إلى جعل أصالة الحل. ويشهد له كلمة ( بعينه ) فيكون النّظر إلى عدم مانعية العلم الإجمالي في مجموع الشبهات ـ وهو علم إجمالي غير محصور ـ في رفع القواعد المؤمنة الظاهرية.

٦٧

والأول والأخير من استصحاب عدم المجعول بينما الأول من استصحاب عدم الجعل.

وقد نوقش في هذه الصيغ الثلاث بمناقشات عديدة بعضها تشترك فيه كل الصيغ وبعضها تختص به الصيغتان الأولى والثانية.

اما المشتركة فمناقشتان :

إحداهما ـ ان المستصحب لا بد وان يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي ، إذ لا بد وان يكون مجعولا للمولى أو موضوعا له لكي يكون التعبد به بلحاظ ما هو المجعول فيه وعدم الحكم ليس بمجعول ولا موضوع لمجعول.

وقد نقل الخراسانيّ ( قده ) هذا الاعتراض عن الشيخ واستغرب من هذه النسبة السيد الأستاذ بدعوى : ان الشيخ قائل بجريان الاستصحاب حتى في الاعدام الأزلية فكيف في المقام.

الا ان هذا الاستغراب غريب إذ العدم الأزلي ليس مختصا بالحكم بل يتصور في موضوع الحكم الشرعي كاستصحاب عدم القرشية فالقول بجريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية لا يعني الالتزام بجريان الاستصحاب في عدم الجعل.

وأيا ما كان فقد يجاب عن الإشكال بان الميزان ان يكون مورد الاستصحاب تحت قدرة المولى رفعا ووضعا وعدم الحكم كالحكم المجعول تحت قدرة المولى بما هو مولى وبيده ولا موجب لاشتراط أكثر من ذلك.

والتحقيق : انه لا موجب لهذا الشرط لا بصيغته الأولى ولا الثانية ، فان الاستصحاب قد يجري فيما ليس تحت قدرة المولى بما هو مولى كما في الموضوعات الخارجية وانما الميزان ان يكون مورد الاستصحاب قابلا للتصرف المولوي الظاهري وذلك بان يكون قابلا للتنجيز والتأمين أي يكون التعبد به منجزا أو معذرا وهذا كما يجري في المجعول الشرعي أو موضوعه كذلك يجري في التعبد بعد مهما.

الثانية ـ ما ذكره الميرزا ( قده ) من ان الأثر المطلوب ترتبه تارة يكون تمام موضوعه مجرد الشك لا الواقع كحرمة اسناد ما لا يعلم انه من الدين إلى الدين ، وأخرى يكون مترتبا على كل منهما كما لو فرضنا ان حرمة التشريع مترتب على كل منهما ، وثالثة يكون مترتبا على الواقع المستصحب كالطهارة المترتبة على عدم الملاقاة ، والاستصحاب انما

٦٨

يجري في الفرض الثالث لا الأول والثاني ، إذ في الأول لا يكون الواقع موضوعا للأثر المطلوب لكي يجري فيه الاستصحاب ، وفي الثاني يكون الأثر مترتبا على نفس الشك المحرز وجدانا فيكون حكمه محرزا وجدانا أيضا فإحرازه ثانيا بالاستصحاب تعبدا من تحصيل الحاصل بل من أردإ أنحائه لأنه من تحصيل الحاصل وجدانا بالتعبد. ولا يخفى ان هذه النكتة سحبها الميرزا ( قده ) على الأولين معا مع ان مقتضى الصناعة ان يعترض على الأول بما ذكرناه من انه لا موضوع للاستصحاب لا انه تحصيل للحاصل وفي المقام مبنيا على ذلك يقال بان الأثر المطلوب وهو التأمين مترتب على نفس الشك في التكليف لقبح العقاب بلا بيان فيكون من أحد القسمين الأولين فلا يمكن إجراء الاستصحاب فيه.

وفيه : انه خلط بين معنيين من الأثر ، فانه تارة يقصد به الحكم الشرعي الّذي يراد إثباته بالتعبد ، وأخرى يقصد به الأثر العملي بمعنى التنجيز والتأمين. فالأوّل يكون إثباته بالاستصحاب ظاهريا تعبدا لأنه من آثار المستصحب لا الاستصحاب بينما الثاني يكون إثباته به واقعا وجدانيا لأنه من آثار نفس التعبد الثابت وجدانا. وبهذا يعرف ان المنظور إليه من استصحاب عدم التكليف في المقام هو الأثر بالمعنى الثاني بينما المنظور إليه في المقدمة المذكورة الأثر بلا معنى الأول لأن محذور تحصيل الحاصل بل أردأ أنحائه إذا تمت المقدمة انما يرد في ذلك واما في الأثر بالمعنى الثاني فحساب المطلب ان يقال ان التأمين يثبت بأحد ملاكين أحدهما الشك والثاني الاستصحاب فانه أيضا يترتب عليه وجدانا التأمين وترتب كلا التأمينين وجداني واقعي ، واما السؤال عن فائدة التأمين بالاستصحاب فانه قد يقال انه لغو بعد فرض وجود الأملاك الأول وهذا إشكال على أي أصل مؤمن شرعي في مورد عدم البيان حتى البراءة الشرعية فالجواب العام عليه مستنبط من منهجنا العام في حقيقة الحجج والأمارات حيث تبين منه ان التأمين له درجتان وملاكان :

أحدهما ـ التأمين بملاك عدم العلم بالتكليف ـ بناء على التسليم بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ وهذه مرتبة ضعيفة من المعذرية ، والأخرى التأمين بملاك تصدي المولى نفسه لإبراز عدم اهتمامه بتكاليفه الإلزامية وانه يرخص في مخالفتها ترجيحا لملاكاته الترخيصية عليها في مقام التزاحم الحفظي وهذه مرتبة أقوى من التأمين إذ

٦٩

يكون العقاب في موردها أقبح وأشنع وهذه مرتبة لم تكن حاصلة لو لا الاستصحاب.

واما الاعتراضات الخاصة بالصيغتين الأوليتين. فقد اعترض على الأولى باعتراضين خاصين :

الأول ـ ان عدم التكليف المحرز حال الصغر هو العدم بملاك نفي الحرج وقصور المحل بينما العدم المشكوك هو العدم في الموضع المقابل. ويرد عليه :

نقضا ـ ان العدم قبل البلوغ ليس على الإطلاق لا حرجيا بل في كثير من الأحيان يكون الصبي المميز قابلا لتكليف الا ان الشارع امتنانا رفعه عنه.

وحلا ـ ان العدم لا يتعدد بتعدد ملاكاته فأركان الاستصحاب في عدم الحرمة تامة.

الثاني ـ ان الاستصحاب انما يجري مع حفظ الموضوع وفي المقام لم يحفظ ذلك لأن حيثية الصغر والصبا مقومة لموضوع الإباحة والترخيص الثابت حينه وقد ارتفعت جزما فلو كانت هناك إباحة على البالغ فهي إباحة أخرى.

وفيه ـ أولا ـ انه لا شك في صحة إضافة الصبي بعد البلوغ الإباحة إلى نفسه وصدق انه بقاء للإباحة السابقة عرفا وهذا دليل على انحفاظ الموضوع ووحدته وهو يكفي في جريان الاستصحاب.

نعم قد يدعى ان هناك إباحتين إحداهما الإباحة اللااقتضائية كإباحة الماء وهي الباقية حتى بعد البلوغ والأخرى الإباحة الاقتضائية الثابتة للصبي فقط والثانية يقطع بارتفاعها بعد البلوغ والأولى يشك في حدوثها فيكون الاستصحاب فيها من القسم الثالث من الكلي.

الا ان هذا لا موجب له بل المباحات اللا اقتضائية ثابتة في حق الصبي والبالغ معا بملاك واحد وبجعل واحد وانما هناك إباحة أخرى بملاك الصبا تثبت له في المحرمات الواقعية بدليل رفع القلم إذ لا موجب لتقييد أدلة المباحات الواقعية به وعليه فيعلم في المورد بوجود إباحة اما أولية أو اقتضائية وهي على الأول باقية وعلى الثاني مرتفعة جزما ويعلم بوجود إحداهما فيكون من القسم الثاني من استصحاب الكلي.

وثانيا ـ انه لو سلم إشكال تغير الموضوع فهذا انما يكون فيما لو أريد استصحاب الإباحة لا استصحاب عدم التكليف والا كان جاريا ولو فرض تعدد الموضوع لأنه

٧٠

يكفي استصحاب عدم الحكم ولو الأزلي أي قبل تحقق الموضوع بل لا تعدد للموضوع بلحاظ الحكم العدمي كما لا يخفى واما الصيغة الثانية فاعترض عليها باعتراضين خاصين أيضا.

أحدهما ـ ما أفاده الميرزا ( قده ) من ان استصحاب عدم الجعل أول الجعل لا يجري لأنه مثبت إذ الأثر المطلوب من جريانه وهو التأمين والتنجيز مترتبان على المجعول إثباتا ونفيا لا الجعل وترتب المجعول على الجعل وانتفاؤه بانتفائه عقلي لا شرعي وهذا الاعتراض كبروي ، ومحل التعرض له تفصيلا بحوث الاستصحاب حيث ذكرنا هناك ان المجعول ليس شيئا وراء الجعل منظورا إليه في ظرف تحقق موضوعه والتنجيز لا يحتاج فيه إلى أكثر من إحراز الكبرى الشرعية وإحراز موضوعه فانه كلما أحرز ذلك حكم العقل بالمنجزية وكلما انتفى أحدهما حكم العقل بالتأمين.

ثانيهما ـ ان عدم الجعل المتيقن هو العدم الأزلي للتكليف أي قبل الشريعة وهو عدم غير مربوط ولا منسوب إلى المولى أي العدم المحمولي بينما العدم المشكوك هو العدم المنسوب إلى المولى أي العدم النعتيّ بعد تحقق الشرعية ومولوية المولى وإثبات العدم النعتيّ بالأزلي من الأصل المثبت.

وفيه أولا ـ انه في كثير من الأحيان يحرز عدم جعل الحكم من أوائل الشريعة بنحو العدم النعتيّ.

وثانيا ـ ان كان المقصود وجود عدمين متغايرين ، فجوابه ما تقدم من عدم تكثر الاعدام بتكثر علله وحصصه ، وان أريد ان العدم المحمولي لا يترتب عليه الأثر العملي وهو التأمين بل لا بد من انتسابه إلى الشارع ولا يتوهم ان الاستصحاب بنفسه ينسب هذا العدم إلى المولى فان الاستصحاب لا يضيف إلى المستصحب شيئا وانما هو تعبد ظاهري بنفس المستصحب الثابت في الحالة السابقة ، فالجواب انه لا يحتاج إلى الانتساب في التأمين بل موضوع التأمين مطلق عدم الجعل ولو من باب السالبة بانتفاء الموضوع أي العدم المحمولي فلا حاجة إلى إثبات العدم النعتيّ.

٧١

تنبيهات :

التنبيه الأول ـ قد يستشكل بأنه لو جرى الاستصحاب ـ بأي صيغة من الصيغ المتقدمة ـ فسوف يكون رافعا لموضوع دليل البراءة بناء على حكومة الاستصحاب على البراءة وحيث انه يجري في تمام الشبهات الحكمية التي تجري فيها البراءة فيلزم من جريانه إلغاء دليل البراءة.

وقد أجاب عن هذا الإشكال السيد الأستاذ في تقرير الدراسات بوجهين :

١ ـ ان دليل البراءة لم تؤخذ بشرط لا من حيث الاستصحاب بل يدل على التأمين في الشبهات فلعله تأمين بنكتة الاستصحاب ومع عدم إحراز التعدد يكون مفاد الدليل حجة.

وفيه : ان هذا خلاف ظاهر أدلة البراءة فانها قوية الدلالة على ان التأمين المجعول فيها انما هو بملاك الشك وعدم العلم بالتكليف لا بملاك سبق عدم الحكم كما هو واضح ومقتضى التطابق بين مرحلة الإثبات والثبوت ان الحكم المراد بيانه أو جعله بهذه الأدلة هو قاعدة التأمين لمجرد الشك لا لسبق عدم التكليف.

٢ ـ بيان ثمرات وفوائد لجعل البراءة فينزل دليله عليها.

منها ـ مورد الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين فانه تجري البراءة فيه دون الاستصحاب لأن أصل التكليف يعلم بجعله واستصحاب عدم تقييده بالجزء أو الشرط الزائد معارض باستصحاب عدم إطلاقه.

وفيه : ان استصحاب عدم الإطلاق لا يجري لأنه لو أريد إثبات التقييد به فهو مثبت ولو أريد إثبات أثر التقييد وهو لزوم الإتيان بالزائد فموضوعه التقييد لا عدم الإطلاق. هذا لو افترض ان الإطلاق أمر وجودي أو مطعم به وان فرض انه مجرد عدم التقييد فلا موضوع لاستصحاب عدم الإطلاق بل المستصحب عدم التقييد ولو بنحو العدم الأزلي على ما يأتي في بحث الدوران بين الأقل والأكثر.

ومنها ـ إذا كان الأثر المطلوب مترتبا على الإباحة بعنوانها فانه سوف يترتب بإجراء أصالة الحل والبراءة دون استصحاب عدم التكليف.

وفيه : ان الاستصحاب يمكن إجراؤه في الإباحة الثابتة قبل الشرع أو قبل البلوغ

٧٢

أو قبل تحقق قيد التكليف المشكوك مع وجود الموضوع ، بل ان هذا هو الطريق الوحيد لترتيب أثر الإباحة الواقعية لأن أصالة الحل بناء على المشهور أصل غير تنزيلي فلا يثبت به الإباحة الواقعية وآثارها.

ومنها ـ ما إذا تعارض الاستصحابان كما إذا فرض توارد الحالتين ، ويلحق به موارد تغير الموضوع بحيث لم يجر استصحاب الإباحة ولم نلتزم بجريان استصحاب العدم الأزلي.

وفيه : ان هذا وأمثاله لو سلم وجوده صغرويا بحيث لم يجر شيء من الصيغ الثلاث للاستصحاب فيه ، فمن الواضح انه لا يمكن تنزيل أدلة البراءة وحملها عليه.

والتحقيق في دفع الشبهة ـ ان يقال :

أولا ـ ان هذه الشبهة مبنية على دعوى ـ حكومة الاستصحاب على البراءة لا تقدم دليله على دليلها بالأظهرية أو الجمع العرفي ، والحكومة مبنية على كبرى قيام الأمارات والاستصحاب مقام القطع الموضوعي الموقوف على مسالك جعل الطريقية التي لم نقبلها في الأمارات فضلا عن الاستصحاب كما تقدم في محله. وعليه فإذا كان ملاك تقديم دليل الاستصحاب على البراءة هو الجمع العرفي والأظهرية فمن الواضح ان هذا انما يكون في فرض التنافي بين مفاد الدليلين والتعارض لا ما إذا كان مفاد هما معا التأمين كما هو في المقام.

وثانيا ـ لو سلمنا الحكومة فكبرى الحكومة عندنا تعني التخصيص روحا بلسان الورود ورفع الموضوع لا انه رفع للموضوع حقيقة ، ومن الواضح ان كبرى الحكومة على هذا ترجع إلى التخصيص وهو فرع التعارض والتنافي بين مدلولي الدليلين أيضا وهو لا يكون في المقام.

وثالثا ـ لو سلمنا الحكومة بملاك رفع الموضوع حقيقة مع ذلك نقول : بان هذه الحاكمية لا توجب إلغاء دليل البراءة إذ يبقى مفادها مفيدا لمن لم يصل إليه الاستصحاب فيكون حال هذا الاستصحاب حال الحكم الواقعي الّذي يكون بوصوله رافعا حقيقة لموضوع دليل البراءة من دون ان يلزم منه لغوية دليل البراءة.

التنبيه الثاني

ـ استشكل في الدراسات على استصحاب عدم جعل التكليف بأنه معارض باستصحاب عدم جعل الإباحة للعلم الإجمالي بجعل أحد الأحكام الخمسة في

٧٣

كل واقعة ـ وكأن نظره إلى الصيغة الثانية من استصحاب عدم الحكم أي عالم الجعل الّذي لا يجري فيه استصحاب الإباحة مثلا ـ ثم حاول الجواب عليه بأمرين :

الأول ـ ان الإباحة الثابتة في المباحات لا ينحصر في جعل الإباحة لها بعنوانها بل هناك إباحة بعنوان ما لم يرد فيه نهي ولم يجعل فيه حرمة وبالنسبة لهذه الإباحة يكون استصحاب عدم الجعل موضوعيا وحاكما على استصحاب عدم الإباحة. ثم ذكر ان هذه الإباحة هي المستفادة من مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا به ما استطعتم ).

وهذا الكلام مناقض لما تقدم منه في البحث عن حديث ( كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ) لأن هذا معناه أخذ عدم أحد الضدين في موضوع الضد الآخر وهذا عين ما أبطله في ذلك البحث حيث أفاد انه لا يعقل ان يكون الورود بمعنى الصدور والإطلاق بمعنى الحلية الواقعية إذ يلزم تقيدها بعدم ضدها وهو غير معقول. هذا مضافا إلى اننا لم نفهم ما هو دخل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) بالمقام فانه ناظر إلى باب العجز ورفع التكليف في مورده هذا إذا كان التبعيض بلحاظ افراد الواجب وان كان بلحاظ اجزاء المركب فيكون النّظر إلى قاعدة الميسور.

الثاني ـ انه لا بأس بجريان الاستصحابين معا ولا تعارض بينهما لأن الأصول في أطراف العلم الإجمالي انما تتعارض إذا لزم من جريانها الترخيص في المخالفة عملية وهذا غير لازم في المقام.

وهذا الجواب غير صحيح أيضا ، فان استصحاب عدم الإباحة لا يجري في نفسه ولو جرى لما كان ما ذكر جوابا عليه. توضيح ذلك :

ان استصحاب عدم الإباحة إن أريد به نفي التأمين فموضوع التأمين ليس هو الإباحة بل عدم الإلزام وإن أريد به إثبات التنجيز فهذا لا يحصل لأن موضوعه الإلزام وهو لا يثبت بنفي ضده وهذا بخلاف استصحاب عدم التحريم أو الوجوب فانه ينفي موضوع التنجيز وعليه فحتى لو قيل بان الاستصحاب لا يجري في أطراف العلم الإجمالي ولو لم يلزم مخالفة قطعية لا محذور في المقام في جريان استصحاب عدم الجعل.

نعم لو قيل بقيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي وقلنا بأنه يكفي في ترتب الأثر على جريان الاستصحاب ان يترتب أثر على نفس الاستصحاب ولو لم يكن

٧٤

للمستصحب أثر جرى استصحاب عدم الإباحة لتجويز اسناد عدمها إلى الشارع الا انه على هذا سوف يلزم مخالفة قطعية عملية من إجراء الاستصحابين إذ سوف يجوز اسناد عدم الإباحة وعدم التكليف معا إلى الشارع وهو مما يعلم بكذب أحدهما وانه اسناد لما ليس من الدين وهو محرم قطعا.

التنبيه الثالث ـ جاء في الدراسات أيضا ان استصحاب عدم التكليف كما يجري في الشبهة الحكمية كذلك يجري في الموضوعية وكان نظره إلى الصيغة الثانية من الصيغ الثلاث المتقدمة وهو استصحاب عدم الجعل ، فانه يقال عادة بان هذه الصيغة مخصوصة بالشبهات الحكمية ولا تتم في الموضوعية ـ لأن الشك فيها ليس في الجعل بل في المجعول وهذا هو الصحيح ، ولكن في الدراسات كأنه يحاول إبطال هذا الزعم بدعوى إمكان إجراء استصحاب عدم الجعل حتى في الشبهة الموضوعية لأن كل فرد من افراد الموضوع الخارجي يكون مشمولا لحصة من الجعل الكلي فيرجع الشك في الموضوع إلى الشك في سعة ذلك الجعل وشموله لذلك الفرد المشكوك.

وفيه أولا ـ النقض بان لازمه جريان شبهة المعارضة التي يراها السيد الأستاذ بين استصحاب عدم الجعل الزائد واستصحاب بقاء المجعول في موارد الشبهات الحكمية إلى الشبهات الموضوعية أيضا وبالتالي إلى مورد التطبيق في صحاح الاستصحاب حيث انها طبقت كبرى الاستصحاب على استصحاب بقاء الطهارة التي هي الحكم المجعول شرعا.

وثانيا ـ بان تكثر الموضوع يوجب تكثر الحكم بمعنى المجعول لا الجعل وهذا التكثير تكثر انحلالي تحليلي وليس حقيقيا واما الحقيقي فهو الجعل الّذي هو أمر واقعي والّذي لا يتعدد ولا يزيد أو ينقص بتكثر موضوعه ، وعليه فبلحاظ الجعل لا معنى لإجراء الاستصحاب في الشبهة الموضوعية لعدم تأثيرها على ما هو الجعل بالزيادة والنقصان وانما الزائد المجعول الّذي هو غير الجعل فلا يجري الا استصحاب عدم المجعول فقط.

« الاستدلال بأخبار أخرى »

ثم اننا في الدورة السابقة قد ذكرنا طوائف من الروايات استفدنا منها البراءة نقتصر في المقام على اثنتين منها اختصارا ، وهما تدلان على براءة يحكم عليها أدلة

٧٥

الاحتياط كالبراءة العقلية على القول بها وفائدة مثل هذه البراءة تظهر في أمرين.

أحدهما ـ انها تحكم على أصالة الاشتغال العقلية لو لم يتم دليل على الاحتياط الشرعي.

والثاني ـ انها تكون مرجعا لو فرض تمامية أدلة الاحتياط في نفسها وتعارضت مع أدلة البراءة التي في مستواها لكونها محكومة لأدلة الاحتياط فتكون مرجعا فوقانيا بعد التعارض والتساقط.

والروايتان هما :

الأولى ـ ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحجال عن ثعلبة بن ميمون عن عبد الأعلى بن أعين قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام من لم يعرف شيئا هل عليه شيء؟ قال لا (١).

وتقريب الاستدلال بها مبني على ان تلحظ المعرفة طريقا إلى العمل لا بنحو المعنى الاسمي حيث تدل عندئذ على نفي المؤاخذة ـ على كل حال ـ على ترك العمل نتيجة عدم المعرفة ولا يبعد ظهورها في ذلك نتيجة ارتكازية لحاظ المعرفة على نحو الطريقية إلى العمل غالبا ولكن لا يستفاد منها أكثر من نفي ذلك في موارد ترتب عدم العمل على عدم المعرفة وهذا لا يكون الا مع عدم التعرف على الحكمين الواقعي والظاهري ـ أعني إيجاب الاحتياط ـ معا وإلا لم يترتب عدم العمل كما ان الرواية معتبرة سندا.

الثانية ـ رواية عبد الصمد الواردة في الحج وقد ورد فيها ( أي رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه ) (٢) وعنوان الجهالة يصدق على عدم العلم التصديقي كما يصدق على الغفلة والجهالة التصورية وإطلاق الشيء المنفي يشمل العقاب والمؤاخذة كما في الرواية السابقة.

نعم يخرج منهما خصوص الجهل عن تقصير في الشبهات الحكمية كما لو ترك الفحص لما دل على ثبوت العقاب فيه وان كانتا من حيث نفي سائر الآثار والتبعات غير العقاب شاملتين له أيضا.

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، كتاب التوحيد ، باب حجج الله على خلقه ، ح ٢.

(٢) وسائل الشيعة ، كتاب الحجج ، باب ٤٥ من أبواب تروك الإحرام ، ح ٣.

٧٦

وظاهر هذه الرواية أيضا رفع المؤاخذة فيما لو نشأ ركوب العمل من الجهالة وهذا لا يكون الا مع فرض عدم العلم حتى بالحكم الظاهري بإيجاب الاحتياط.

٧٧
٧٨

« الأدلة التي استدل بها على وجوب الاحتياط »

والبحث عنه يقع في مرحلتين :

١ ـ البحث عن وجوب الاحتياط العقلي.

٢ ـ البحث عن وجوب الاحتياط الشرعي.

« أدلة وجوب الاحتياط عقلا »

اما المرحلة الأولى وهو إثبات الاحتياط العقلي فقد ذكر في تقريبه قديما ان الأصل في الأشياء الحظر إذا لم يسبق الجواز والشيخ الطوسي ( قده ) في العدة قد استشكل في أصالة الحظر وبدله إلى أصالة الوقف وكأن نظره إلى مقام الفتوى وانه لا يمكن اسناد الحظر إلى الشارع وان كان من حيث العمل لا بد من الاحتياط فالتوقف كأنه مزيد احتياط حتى بلحاظ الإفتاء وقد ذكر الشيخ الطوسي ( قده ) انه لا نخرج عن التوقف الا بما يرد من الأئمة عليهم‌السلام من الترخيص على خلافه ، وظني ان هذه الكلمات ناظرة إلى نفس ما قلناه وعبرنا عنه في مسألة البراءة العقلية من لزوم الاحتياط في الشبهات مراعاة لحق المولى ، وهذا صحيح في جميع الشبهات حتى الموضوعية الا ان هذه القاعدة التي سميناها بمسلك حق الطاعة محكومة لأدلة البراءة الشرعية المتقدمة حتى البراءة المحكومة لأدلة الاحتياط الشرعي لأن العقل انما يحكم بالاحتياط إذا لم يرد ترخيص

٧٩

منهم عليهم‌السلام على حد تعبير الشيخ ( قده ) وهذا التقريب صحيح لإثبات الاحتياط العقلي الا انه احتياط محكوم لأدلة البراءة.

وهناك تقريب ذكره الأصوليون المتأخرون القائلون بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، من دعوى وجود علم إجمالي بالتكاليف في مجموع الشبهات فيكون منجزا.

وقد حاولوا إبطال هذا التقريب تارة دعوى انحلال العلم الإجمالي المذكور انحلالا حقيقيا وأخرى حكميا.

اما الانحلال الحقيقي ، فعلى أساس دعوى وجود علم إجمالي صغير في خصوص الأمارات المعتبرة بوجود تكاليف فيها لا تقل عددا عن المعلوم الإجمالي في مجموع الشبهات.

وهذه الدعوى هي المتقدمة مفصلا في مسألة إثبات حجية خبر الثقة بدليل عقلي وهو دعوى العلم الإجمالي بالتكاليف في دائرة الاخبار الإلزامية. فأشكل عليه الشيخ بأنه يوجب العمل بتمام الأمارات حتى غير خبر الثقة لوجود علم إجمالي في تمام الشبهات ، وأجاب عليه الآخرون بدعوى الانحلال بما يعلم وجوده في دائرة اخبار الثقات وقد أبطلنا هناك دعوى الانحلال هذه بما لا مزيد عليه.

واما الانحلال الحكمي فله بيانان :

الأول ـ ما هو ظاهر كلمات مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من ان دليل حجية الخبر تفيدنا العلم التعبدي في موارد الاخبار فيلغي تعبدا العلم الإجمالي وينفيه لأنه متقوم بالعلم بالجامع والشك في كل طرف فإذا ارتفع الشك في الطرف تعبدا زال العلم الإجمالي كذلك فلا يكون منجزا. وهذا باعتباره تعبدا بالانحلال الحقيقي سمي انحلالا حكميا.

وهذا الكلام لا يرجع إلى محصل ، إذ لو سلم ان دليل حجية الأمارة مفاده إلغاء الشك وسلم ان العلم الإجمالي مكون من علم بالجامع وشك في الطرف وان التعبد بهدم أحد الركنين هدم للمركب منهما مع ذلك لا تنتفي منجزية العلم الإجمالي لأن سببها ليس هو عنوان العمل الإجمالي بل هي مترتبة على العلم بالجامع مع عدم أصل مؤمن في الأطراف ، وفي المقام ان ادعي عدم تعارض الأصول المؤمنة وجريانها في

٨٠