بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

المشتري المغبون في نفس المعاملة وتملك المبيع تملكا مطلقا لازما رغم الغبن فيه فهو يقدم على الحكم الضرري ابتداء لأن غرض في ذلك وهنا لا إشكال في عدم المنّة في رفع الحكم بصحة المعاملة ولزومها إذا كان جريان القاعدة مانعا تكوينا عن الإقدام كما في المعاملة أو مانعا عن ذلك تشريعا فيكون جريانها على خلاف الامتنان ، نعم إذا كان نفي الحكم يشكل مانعا عن غرضه لا تكوينا ولا تشريعا فلا مانع من إطلاق الحديث لنفي الحكم لكونه على وفق الامتنان على كل حال كمن تعلق غرضه باستعمال الماء في مواضع الوضوء رغم ضرره عليه فانه يمكنه ذلك حتى إذا لم يكن الوضوء واجبا بل هنا يرتفع وجوب الوضوء الضرري ولو توقف غرضه على استعمال الماء في مواضع الوضوء بما هو امتثال للمولى فانه وإن كان بنفي وجوبه ينتفي هذا الغرض إلاّ ان هذا كأنّه نحو تحكم على المولى فلا يعتنى بمثله ولهذا تكون القاعدة جارية في ذلك أيضا.

امّا الثاني فهو المحقق في باب الإجناب عمدا ، فان غرض المكلف ليس في الإقدام على الغسل ولا فيما يتوقف على الغسل بل الأمر بالعكس فانه يريد الإجناب الّذي هو علّة قهرية لوجوب الغسل ومن أمنياته ان لا يكون هذا الإجناب علّة لوجوب الغسل فيتوصل إلى مقصوده من دون التبعة المتفرعة عليه ، وفي هذا النوع من الإقدام على الضرر لا يكون نفي الحكم الضرري على خلاف الامتنان بل على طبق الامتنان ، فلا مانع من إطلاق الحديث لنفي مثل هذا الحكم الضرري.

وبهذا يندفع التهافت بين موقف الفقهاء في مسألة الإقدام على المعاملة الغبنية والإقدام على الجنابة مع ضررية الغسل ، كما ظهر اندفاع تهافت آخر بين مسألة الإقدام على الغبن والإقدام على الوضوء الضرري ولو كان الغرض في امتثال الأمر المولوي.

وقد حاول المحقق النائيني ( قده ) الإجابة على هذا التهافت بان إرادة المكلف في مسألة الإقدام على الغبن ليست مقهورة للحكم بل فوقه بينما في الوضوء تكون مقهورة لوجوب الوضوء لو كان.

وهذا الجواب غير تام إذ لا معنى لافتراض ان الإرادة مقهورة مع افتراض ان المكلف بنفسه راغب لذلك.

الجهة الثالثة ـ انه ظهر ممّا تقدم في وجه التفرقة في تطبيق القاعدة على مسألة

٥٠١

الجنابة عمدا دون مسألة الإقدام على الغبن الضابط العام في تطبيق القاعدة في موارد الإقدام على الضرر فيستفاد منه وجه عدم التطبيق في سائر الفروع المشابهة كالفرع المعروف الّذي وقع فيه البحث بينهم وهو ما إذا استعار أو استأجر شخص أداة من واحد وجعلها في بنائه أو استأجر أرضه فزرعها ثم طالب صاحبها ردها المستلزم لخراب بنائه أو زرعه فانهم لم يحكموا بجريان القاعدة لمنع استردادها.

ولتوضيح حال هذا الفرع وتحقيق الحال فيه نقول : ان محل البحث ما إذا لم يكن هناك حق للمستأجر أو المستعير بإبقائها لاشتراط ذلك مثلا صريحا أو ضمنا ضمن العقد كما انه يشترط ان لا يكون غصبا أو ما بحكمه كما إذا كان قد اشترط الرد بعد مدة معينة صريحا أو ضمنا فانه لا إشكال في وجوب الرد عندئذ إجماعا ، وانما البحث فيما إذا استأجر الأرض للزرع مثلا مدة معينة تكفي عادة لزرعها وحصاده ولكن صدفة ولعارض تأخر ذلك فانقضت المدة دون بلوغ الزرع فدار الأمر بين إبقاء الأرض تحت يد المستأجر ـ ولو بالأجر ـ أو قطع الزرع ، وقد ذكروا لعدم جريان القاعدة بصالح المستأجر وجوها ثلاثة :

الأول ـ ان المستأجر قد أقدم بنفسه على هذا الضرر ، والمحقق النائيني ( قده ) الّذي لم يقبل الإقدام على الضرر في مسألة الإجناب متعمدا ولكنه قبله هنا ، وقد ذكر في وجه التفرقة ما لا يرجع إلى محصل.

والصحيح : ان الإقدام لا يمنع في المقام عن جريان القاعدة وذلك :

أولا ـ لعدم تحقق الإقدام إذا كان المكلف معتقدا كفاية المدة المستأجرة لزرعه كما هو واضح.

وثانيا ـ ان هذا من الإقدام على علّة الضرر لا معلوله أو نفسه فهو كالإقدام على الجنابة غير ضائر بجريان القاعدة. نعم لو غصب الأرض لم تجر القاعدة رغم ان اقدامه على العلة لا المعلول لكونه إقداما محرما تنصرف عنه القاعدة المشرعة من قبل الشارع.

الثاني ـ دعوى تعارض الضررين فانه لورد العين المستأجرة تضرر المستأجر ولو لم يرد تضرر المالك فلا تجري القاعدة.

والتحقيق : انه تارة يلاحظ الضرر العيني ، وأخرى الضرر المالي ـ أي القيمة ـ.

اما بلحاظ الضرر العيني فالنقص الوارد على عين المملوك إن كان مع حفظ

٥٠٢

مقتضى سلطنة المالك عد هذا نقصا وضررا كما في الكافر الحربي الّذي لا قصور في سلطنته على أمواله وانما يجوز أخذها منه تحقيرا له وهدرا لحرمة ماله فيكون إضرارا جائزا لكونه كافرا.

واما إذا كان النقص الوارد على العين من باب القصور في أصل مقتضي السلطنة كما في شراء العبد المشغول ذمته بحق للمجني عليه مثلا فأخذه لحقه ليس ضررا على المالك إذا لم تكن سلطنته أكثر من هذا المقدار من أول الأمر ، وفي ما نحن فيه الأمر كذلك فان السلطنتين المتضادتين على عين واحدة لا يمكن جعلهما معا والجمع بينهما فلا بد من انتفاء إحداهما فلا معنى لتعارض الضررين بعد ان كان كلا النقصين هنا اعتباريا لا ان أحدهما حقيقي والآخر اعتباري.

والظاهر ان الأصل الأولي عند العقلاء جعل السلطنة لمالك الأرض إلاّ إذا فرض ضآلة ملكه في قبال خطورة ملك المستأجر كما في خشبة ضئيلة في بناء ضخم.

واما الضرر في المالية في المقام فانه في المورد الّذي يجعل العقلاء السلطنة للمالك يقال بأنه مخير بين إبقاء العين تحت يد المستأجر وأخذ أجرة مثله وبين استرداده مع غرامة قيمة الزرع التالف ، وفي المورد الّذي يعطى حق ذلك للمستأجر يقال بالتخيير بين الرد والإبقاء مع إعطاء الأجرة فلا تعارض بين ضررين في المالية ، وهذا هو الفتوى المعروفة عند الأصحاب.

لا يقال ـ الغرامة تدارك للضرر فلا ينافي صدق الضررين ولا يمكن استفادته من لا ضرر.

فانه يقال ـ الغرامة بلحاظ الضرر العيني يكون تداركا ، وامّا بلحاظ الضرر في المالية فهو رفع للضرر لا تدارك له.

الثالث ـ ما ذكره المحقق العراقي من ان لا ضرر باعتباره للإرفاق والامتنان فجريانه لمنع رد العين إلى مالكه خلاف الامتنان وفيه : ان الشرط امتنانية القاعدة في حق من يجري في حقه لا في حق جميع المكلفين فانه لا موجب لذلك ، نعم لا بد ان لا يجري في حق الآخر أيضا وإلاّ لزم تعارض الضررين.

ثم ان المحقق العراقي ( قده ) بعد ان منع عن جريان القاعدة هنا من باب كونها

٥٠٣

قاعدة امتنانية قال بأنه لا بد من الرجوع إلى القواعد الأولية ، وهي هنا سلطنة المالك على ماله ، وحيث ان هذه القاعدة تجري بلحاظ كل من المالك والمستأجر بالنسبة لما يمتلكه فيقع التعارض بين السلطنتين ولكن يقدم حق المالك في أرضه على حق الزارع في زرعه باعتبار ان هذا القاعدة أيضا امتنانية مشروطة بعدم استلزامه للتصرف في مال الغير وسلطنة الزارع تستلزم التصرف في أرض الغير بخلاف سلطنة المالك في أرضه بإخراج الزرع منه فانه مسبب عن إخراج الزرع لا سبب له.

وكأنه التفت بعد ذلك إلى ان هذا المقدار لا يكفي للتفرقة ، إذ لم يرد في لسان دليل اشتراط ان لا يكون التسلط على المال سببا للإضرار بالغير لا مسببا فحاول إثبات مدعاه في المقام بأمور ثلاثة تستفاد من مجموع كلامه.

الأمر الأول ـ ان تخليص المالك لأرضه يكون في طول إشغال الزارع ومتأخرا عنه رتبة تأخر الدفاع عن الهجوم.

الأمر الثاني ـ إذا كان التخليص في طول الاشغال فتسلط المالك على التخليص يكون في طول تسلط الزارع على الاشغال ، فيكون عدم تسلط المالك على التخليص متأخرا عن تسلط الزارع على الاشغال لاتحاد النقيضين في الرتبة.

الأمر الثالث ـ ان قاعدة السلطنة باعتبارها إرفاقية فلا بد من ان تتقيد بعدم لزوم التصرف في مال الغير اما مطلقا أو في خصوص مال الغير الّذي له سلطنة على ماله وعندئذ يقال : ان السلطنة المالك على أرضه مقيدة بالقيد الثاني أي بعدم سلطنة للزارع مزاحمة مع سلطنة المالك ـ لأن هذا القيد أضيق من الأول فيتعين كلما أمكن إطلاق السلطنة ـ إذ لا مانع منه في المقام ، واما سلطنة الزارع على زرعه فليست مقيدة بعدم سلطنة لصاحب الأرض مزاحمة مع تلك السلطنة لما عرفت من ان سلطنة صاحب الأرض وعدمها متأخر رتبة عن سلطنة الزارع وتقيد الشيء بالمتأخر عنه محال فلا يمكن التقييد الثاني بل يتعين الأول فتقيد سلطنته بعدم لزوم التصرف في مال الغير أعني صاحب الأرض وهذا ثابت تكوينيا للزوم مثل هذا التصرف على كل حال فتكون سلطنة صاحب الزرع على زرعه منتفية وبانتفائها تكون سلطنة المالك للأرض على أرضه فعلية.

ويرد على هذا الكلام أمور :

٥٠٤

الأول ـ منع الأمر الأول ، فان تصرف المالك في أرضه يكون في عرض إشغال الزارع لها فانهما عملان يتواردان على الأرض لا تجتمعان معا ، فالأرض اما تكون تحت يد مالكه أو تحت يد المستأجر ، وعنوان التخليص ونحوه ليس هو متعلق الحق.

الثاني ـ منع الأمر الثاني من الطولية بين السلطنتين ، فانه لو سلمنا الطولية بين التصرفين فلا يثبت بذلك الطولية بين السلطنتين لمنع كون الطولية بين المعروضين مستلزمة للطولية بين العارضين أولا ، ولمنع كون السلطنة على التصرف عارضا أصلا على التصرف الخارجي بل على التصرف العنواني الذهني ثانيا.

الثالث ـ لو سلمت الطولية بين السلطنتين فلا نسلم طولية السلطنة المتأخرة لعدم السلطنة المتقدمة إلاّ بناء على كبرى وحدة النقيضين في الرتبة وان ما مع المتقدم متقدم ، وهو مرفوض عندنا كما ذكرناه ذلك مرارا.

الرابع ـ منع الأمر الثالث من ان السلطنة يمكن تقييدها بوجهين فنقيدها بالقيد الثاني لأنه أخص وإلاّ فبالأول ، فان الصحيح ان يرى ملاك التقييد وهو في المقام الإرفاق والامتنان على الآخرين أيضا وهو يوجب التقييد بعدم لزوم التصرف في مال الغير وهو القيد الأول ، وامّا القيد الثاني وهو عدم المزاحمة مع السلطنة الغير فليس هذا إرفاقا وانما هو تقييد عقلي بملاك استحالة وجود سلطنتين متضادتين.

الخامس ـ ان قاعدة السلطنة ليست ثابتة بدليل لفظي (١) ليتمسك بإطلاقه ويبحث مثل هذا البحث ، وانما تثبت بدليل لبّي من إجماع أو سيرة ومن المعلوم ان قدرة المتيقن لا يشمل المقام كي يترتب عليه مثل هذا البحث.

__________________

(١) وامّا ما ورد في باب التصرفات المنجزة في مرض الموت من الروايات الدالة على ان الإنسان أحق بماله ما دامت فيه الروح أو ان لصاحب المال ان يعمل بماله ما شاء ما دام حيّا ونحو ذلك من الألسنة المستفيض نقلها وبأسانيد عديدة فيها الصحيح فلا يمكن الاستناد إليها لإثبات كبرى السلطنة لأنها ليست في مقام بيانها وتشريعها بل في مقام بيان ان السلطنة الثابتة للإنسان انما تبقى له ما دام فيه الروح أما حدود تلك السلطنة الثابتة للإنسان فليست هذه الروايات بصدد بيان أصلها وان شئت قلت : انها بصدد نفي الحجر قبل الموت لا أكثر كما لا يخفى على من لاحظها.

٥٠٥

٣ ـ نسبة القاعدة إلى أدلة الأحكام الأولية :

ذكروا لتقديم القاعدة على أدلة الأحكام الأولية عدة تقريبات ، نتعرض لها فيما يلي :

التقريب الأول ـ تقديم إطلاق القاعدة على إطلاق أدلة تلك الأحكام وإِن كانت النسبة عموماً من وجه ، باعتبار قطعية سند القاعدة ، وكلما تعارض دليل ظني مع دليل قطعي السند سقط عن الحجية في مقدار التعارض.

وهذا التقريب انما يتم إذا ما تمت أمور ثلاثة :

١ ـ ان يكون سند ذلك الحكم الأولي ظنياً لا قطعياً أيضاً.

٢ ـ ان يثبت تواتر دليل القاعدة ولو إجمالاً ، وقد مضى منع ذلك.

٣ ـ ان لا يتم جمع دلالي بين إطلاقها وإطلاق أدلة الأحكام الأولية على ما سوف يظهر.

التقريب الثاني ـ انَّ دليل القاعدة إذا قيس إلى مجموع أدلة الأحكام الأولية وإطلاقاتها كانت أخص منهما فيتقدم عليها وإن كانت النسبة بينه وبين كل واحد منها العموم من وجه.

واعترض عليه السيد الأستاذ بان المعارضة انما تكون بين القاعدة وبين كل واحد من تلك الأدلة ولا يوجد عندنا دليل يسمى بمجموع الأدلة حتى تلحظ النسبة بينه وبينها.

وهذا الاعتراض انما يتم لو كان ملاك التخصيص الأظهرية ونحوها ، واما إذا افترضنا ان الملاك لزوم المعاملة مع الأدلة المنفصلة كأدلة متصلة أي ان الشارع بنفسه نصب قرينة عامة على انه يتدرج في بيان أحكامه ، وانه في مقام اقتناص المفاد النهائيّ من كلامه لا بد من التجميع فيما بينهما معا أمكن ان يكون هذا الوجه للتقديم تاما حينئذ.

التقريب الثالث ـ ان تقديم كل إطلاقات الأدلة الأولية على القاعدة يوجب سقوطها رأسا بخلاف العكس ، وتقديم بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجح ، فيقع التعارض فيما بينهما وتتساقط لا محالة.

٥٠٦

وأورد عليه السيد الأستاذ بان الأدلة الأولية بعضها بالإطلاق وبعضها بالعموم ، والعام مقدم على الإطلاق فينحصر التعارض بين الإطلاقات الأولية وإطلاق القاعدة فتتساقط.

وهذا الاعتراض يبطل الشق الثالث ولكنه لا يبطل أصل التقريب من ان هذا إسقاط لأصل الدليل بالإطلاق والعموم وهو لا يمكن وإن شئت قلت : ان لا ضرر بنصوصيته على نفي الضرر في الجملة يقدم على كل تلك الإطلاقات والعمومات الأولية فيقدم على المجموع ويقع التعارض فيما بينها أنفسها ، وحينئذ امّا ان يقدم العام على المطلق أو يحكم بالتساقط لأن تقديم العام على المطلق انما يكون فيما إذا وقع بينهما التكاذب ابتداء لا بملاك العلم الإجمالي.

ولا يقال : بان الإطلاقات الأولية تتعارض مع العمومات من ناحية ومع إطلاق دليل القاعدة من ناحية أخرى فتسقط الجميع في عرض واحد ولا وجه لملاحظة المعارضة الأولى والحكم بسقوط طرفيها والرجوع إلى إطلاق القاعدة بلا معارض.

فانه يقال : قد مضى في بعض البحوث السابقة إذا كان هناك معارضتان ولم يمكن تقديم أحد المتعارضين بعينه في إحدى المعارضتين للزوم محذور الترجيح بلا مرجح بخلاف المعارضة الأخرى فانه لا يلزم من تقديم طرفها محذور آخر قدم ذلك الطرف ، وفي المقام تقديم الإطلاقات على إطلاق القاعدة مبتلى بمحذور آخر وهو محذور ترجيحها على العمومات المتعارضة معها بالعرض.

التقريب الرابع ـ إيقاع التعارض بين إطلاق القاعدة وإطلاقات الأدلة الأولية الإلزامية والرجوع بعد ذلك إلى البراءة المطابقة لمفاد القاعدة بحسب النتيجة.

وأورد عليه السيد الأستاذ بان هذا المقدار لا يكفي لترتيب سائر الآثار المترتبة على جريان القاعدة في موارد الأحكام الإلزامية ، فمثلا حينما ننفي وجوب الوضوء الضرري بالقاعدة يثبت وجوب التيمم بينما لا يمكن إثبات ذلك بالرجوع إلى البراءة فانها لا تنفي وجوب الوضوء واقعا ليثبت التيمم بل يتشكل علم إجمالي فيجب الاحتياط بالوضوء الضرري.

وهذا الاعتراض قابل للجواب ، فان إطلاق القاعدة لإيجاب الوضوء الضرري وإن سقط بالمعارضة إلاّ ان إطلاقها لإيجاب الاحتياط في وجوب الوضوء الضرري

٥٠٧

المحتمل لا يسقط بالمعارضة إذ لا دليل على إيجاب الاحتياط في مورد العلم الإجمالي شرعا وانما هو بحكم العقل فيمكن رفعه بالقاعدة في طرف الوضوء الضرري مع بقاء وجوب الاحتياط بلحاظ الطرف الآخر وهو التيمم على حاله ـ لحرمة المخالفة القطعية من دون لزوم ضرر منه ـ فنصل إلى نفس النتيجة المطلوبة (١).

التقريب الخامس ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من ان القاعدة باعتبارها وردت مورد الامتنان والإرفاق على الأمة فتتقدم على إطلاقات سائر الأدلة.

وهذا المقدار في هذا التقريب لا يحقق وجها فنيا للتقديم الا ان يضاف إليه أحد امرين على سبيل منع الخلو.

١ ـ ان سياق الامتنان والإرفاق يأبى عن التخصيص أو يكون ظهوره أقوى من إطلاقات الأدلة الأولية فتقدم عليها بالأظهرية.

٢ ـ ان سياق الامتنان يستبطن الفراغ عن ثبوت مقتضي الأحكام الأولية الإلزامية وهذا يعني نظر دليل القاعدة إليها فتتقدم على إطلاق أدلتها بالنظر والحكومة ، وسيأتي الحديث عن ذلك.

التقريب السادس ـ تقديم القاعدة على الإطلاقات الأولية بالحكومة وقد ذكرت مدرسة المحقق النائيني في المقام أولا ضابط الفرق بين الحكومة والتخصيص ، ثم حاولت تطبيقه على دليل القاعدة بالنسبة إلى أدلة الأحكام الأولية.

امّا الضابط الّذي ذكرته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) فحاصله : ان التخصيص يكون ملاكه التنافي بين الخاصّ والعام عقلا للتضاد بينهما والحكم بتقديم الخاصّ

__________________

(١) ولكن يرد على هذا التقريب أولا ـ عدم التطابق في النتيجة دائما مع ما يترتب على فرض جريان القاعدة نورد منها ما يلي :

١ ـ ان يكون الحكم الأولي الضرري ترخيصا يراد رفعه بالقاعدة فيكون مفاد القاعدة الإلزام لا البراءة والترخيص.

٢ ـ ان يكون في مورد الحكم الأولي الضرري عام فوقاني على خلاف قاعدة لا ضرر ولكنه محكوم لدليل القاعدة فيكون مرجعا فوقانيا.

٣ ـ ان يكون في مورد الحكم الضرري أصل عملي حاكم على البراءة كما في استصحاب العقد بعد الفسخ.

وثانيا ـ ان أريد رفع وجوب الاحتياط العقلي بالقاعدة فهو غير معقول لأن القاعدة ترفع الحكم الشرعي لا العقلي وان أريد نفي وجوب الاحتياط الشرعي فهو لا يكفي في المنع عن منجزية العلم الإجمالي عقلا وان شئتم قلتم : ان وجوب الاحتياط في المقام انما كان بملاك التكليف المعلوم بالإجمال وجدانا والّذي لم يمكن للقاعدة نفيه فلا يمكن نفي مقتضاه العقلي وهو المنجزية بالقاعدة لأن نفيه نفي المقتضي وهو وجوب الوضوء المحتمل مبتلى بالمعارض بحسب الفرض ونفيه بنفي المقتضى دون المقتضي خلف منجزية العلم الإجمالي فان القاعدة لا تريد نفي منجزية العلم الإجمالي على تقدير ثبوت المعلوم وليس هذا محتملا في نفسه.

٥٠٨

لكونه أظهر وأقوى دلالة من العام واما الحكومة فالقرينية تكون بدلالة عرفية لأن الحاكم بلسانه اللفظي ينظر إلى الدليل المحكوم ويفسره اما من خلال النّظر إلى موضوعه والتصرف فيه توسعة أو تضييقا كما في دليل لا ربا ، أو من خلال النّظر إلى عقد المحمول في المحكوم كما في أدلة نفي العسر والحرج ، وفي كلا القسمين لا تلحظ النسبة بين الحاكم والمحكوم اما في الأول فلأن الدليل المحكوم يدل على قضية شرطية ولا يتكفل إثبات الشرط ـ عقد الموضوع ـ أو نفيه بخلاف الدليل الحاكم الّذي ينفي الموضوع والشرط بين الوالد والولد ـ وقد قاس المحقق النائيني ( قده ) ذلك بتقديم الأهم على المهم ورفعه لموضوعه وهو القدرة بالامتثال ـ واما في القسم الثاني : فلأن الدليل الحاكم يرفع موضوع حجية الإطلاق وهو الشك ويبدله إلى العلم تعبدا بعدمه فيرتفع موضوعها.

أقول : يرد على ما أفاده من أن القرينية في التخصيص عقلية وفي الحكومة عرفية ان القرينية في كليهما عقلية بمعنى ان التنافي بينهما بملاك التضاد وعدم إمكان الاجتماع مع فعلية موضوعهما معا ، وانما الفرق بينهما ان قرينية الحاكم شخصية وقرينية المخصص نوعية على توضيح وشرح موكول إلى محله من بحوث التعارض غير المستقر.

ومنه ظهر بطلان ما ذكر من ان الدليل الحاكم الناظر إلى عقد الموضوع ليس معارضا مع الدليل المحكوم لأنه يدل على قضية شرطية والدليل الحاكم ينظر إلى ثبوت الشرط وعدمه والشرطية لا تتكفل بيان شرطها أم لا ، فان ما هو الموضوع في الدليل المحكوم الرّبا الواقعي وهو متحقق حتى بعد ورود الحاكم لأن نفي الحاكم للربا بين الوالد والولد ليس نفيا حقيقيا ، نعم يتم ذلك في الورود وارتفاع الموضوع حقيقة ووجدانا.

واما ما ذكر أخيرا في القسم الثاني من الحكومة فيرد عليه :

أولا ـ ان ارتفاع موضوع حجية الإطلاق وهو الشك بالدليل الحاكم تعبدا لا يختص بالحاكم بل يجري في التخصيص وسائر وجوه الجمع العرفي.

وثانيا ـ كما يرتفع موضوع حجية إطلاق المحكوم وهو الشك في طول حجية إطلاق الحاكم تعبدا ، كذلك يرتفع موضوع حجية إطلاق الحاكم تعبدا إذا فرغ عن حجية إطلاق المحكوم لأن موضوع حجيته أيضا الشك.

٥٠٩

والصحيح : في ضابط الفرق بين الحكومة والتخصيص ـ على ما سنشرحه مفصلا في بحوث التعارض ـ ان التخصيص يكون بملاك القرينية النوعية العامة والحكومة تكون بملاك القرينية الشخصية من قبل المتكلم نفسه وتفسيره لمرامه من المحكوم ، وهذا هو الّذي يجعل الحكومة بين دليلين متوقفة على نظر أحدهما إلى الآخر.

وهذه النكتة محفوظة بين دليل نفي العسر والحرج وأدلة الأحكام الأولية لأنها ظاهرة في النفي التركيبي أي فرغ فيها عن وجود أحكام في الشريعة والدين في المرتبة السابقة للدلالة على نفي ما ينشأ من إطلاقها حرج أو عسر.

واما في لا ضرر فقد يقال بان قيد في الإسلام لم يثبت في سنده ومجرد نفي الضرر لا يستلزم النّظر إلى الأحكام الأولية ، كما إذا قال المولى لا يصدر مني حكم ضرري فان هذا لا يتوقف على الفراغ عن ثبوت أحكام أولية لأنه نفي بسيط لا تركيبي ، فلا بد من بذل عناية لإثبات نظر القاعدة إلى تلك الأحكام وهذا ما يمكن بيانه بأحد تقريبات :

الأول ـ ان يقال بان ارتكاز المتشرعة بان له شريعة وأحكام يجعل القاعدة ناظرة إلى الأحكام الأولية فكأنّه قال لا ضرر من ناحية الشريعة والإسلام.

الثاني ـ ان يقال ان سياق الامتنان فيها يجعلها ناظرة إلى الأحكام الأولية وان النفي فيها تركيبي ، وبعبارة أخرى سياق الامتنان يقتضي ان هناك مقتضيا للأحكام الضررية وإلاّ لم يكن هناك امتنان وهذا بنفسه ملاك للنظر والفراغ عن ثبوت الاقتضاء لتلك الأحكام الضررية كما هو الحال في أدلة المانعية التي يكون لها نظر إلى دليل الحكم الممنوع.

الثالث ـ انه لو كان يحتمل جعل المولى لأحكام أصلها ضررية فقط احتمل ان تكون القاعدة بصدد نفي ذلك نفيا بسيطا إلاّ ان هذا في نفسه غير محتمل بل الأكثر احتمالا جعل المولى لأحكام إطلاقها ضرري وان القاعدة تريد نفي ذلك فلو لم تكن ناظرة إلى ذلك كان مفادها لغوا زائدا.

وفيه : إن أريد عدم احتمال ضررية تمام الأحكام فهو صحيح ، إلاّ انه لا ينحصر الأمر في ذلك فانه يحتمل ضررية بعضها ، وإن أريد عدم كفاية نفي هذا الاحتمال في دفع اللغوية ، فهو ممنوع مع قطع النّظر عن الارتكاز المتقدم.

٥١٠

٤ ـ تعارض القاعدة مع قاعدة السلطنة :

إذا استلزم تصرف المالك في ماله الضر كما إذا أراد ان يحفر بالوعة في داره وكان مضرا بالجار فهل تقدم سلطنة المالك أو تقدم القاعدة؟ والكلام في هذا التطبيق من تطبيقات القاعدة يقع في مقامين :

المقام الأول ـ في ما تقتضيه القواعد الأولية بقطع النّظر عن القاعدة.

المقام الثاني ـ في ملاحظة القاعدة ونسبتها إلى القواعد الأولية.

اما المقام الأول ـ فقد يتوهم اننا لو قطعنا النّظر عن قاعدة لا ضرر كان مقتضى قاعدة السلطنة جواز التصرفات الضارة بالآخرين إذا كان تصرفا في ملكه ، إلاّ ان هذا الكلام غير تام من وجوه :

الأول ـ ان هذه القاعدة لم ترد في رواية معتبرة ، وانما مدركها الإجماع والسيرة وهما دليلان لبيان يقتصر فيهما على القدر المتيقن وهو غير موارد الإضرار بالآخرين.

الثاني ـ لو فرض دليل لفظي معتبر مع ذلك لم يكن فيها إطلاق ، وذلك اما باعتبار احتمال ان يراد بهذه القاعدة نفي الحجر على المالك وان الأصل الأولي في الإنسان المالك لشيء عدم الحجر عليه إلاّ ما يثبت بدليل خاص فلا تدل القاعدة على جواز كل تصرف وانما تنفي الحجر فنحتاج في إثبات جواز كل تصرف في نفسه إلى دليل آخر ، أو باعتبار انها وإن كانت تدل على جواز التصرف إلاّ انها تدل على جوازه من حيث هو تصرف أو إتلاف للمال وامّا المنع من ناحية أخرى تكليفا أو وضعا فلا يمكن ان ينفي بهذه القاعدة ومنها حرمته من ناحية كونه إضرارا بالآخرين.

ثم ان للمحقق العراقي ( قده ) كلاما آخر في مقام المنع عن قاعدة السلطنة هنا ، وهو إيقاع المعارضة بين إطلاق سلطنة المالك على التصرف في داره مثلا وإطلاق سلطنة الجار وحقه في جداره.

وفيه : اننا لو سلمنا إطلاق القاعدة لكل أنحاء التصرف فلا تعارض في المقام إذ المستفاد منها بقرينة كلمة ( على أموالهم ) تجويز التصرفات التكوينية أو الإنشائية الاعتبارية كالبيع والإجارة في المال وليس المستفاد منها ثبوت حق المحافظة ونحو ذلك فانه ليس مصداقا للتصرف في المال ليكون مشمولا لإطلاقها.

٥١١

وأيّا ما كان فالقاعدة لا إطلاق لها في نفسها في المقام ، إلاّ ان هذا يعني الرجوع بعد عدم شمول القاعدة إلى الأصول العملية المرخصة فيجوز للمالك حفر البالوعة في بيته ولو أدى إلى إضرار جدار جاره (١).

إلاّ ان الصحيح هو الرجوع إلى مدرك قاعدة السلطنة وهو السيرة العقلائية الممضاة شرعا ، ولا يبعد التفصيل عند العقلاء بين ما إذا كان المالك يتضرر بعدم حفر البالوعة في داره تضررا معتدا به وما إذا لم يتضرر فيجوز التصرف في الأول ولا يجوز في الثاني ، ولعل هذا هو المطابق مع فتوى المشهور أيضا.

واما المقام الثاني ـ فقد اعترض على التمسك بقاعدة لا ضرر لنفي سلطنة المالك في المقام بوجوه عديدة ، أهمها وجهان :

الأول ـ ان جريانها خلاف الامتنان والإرفاق على المالك.

وفيه : ما تقدم من ان المراد من امتنانية القاعدة انها إرفاق في حق من تجري بحقه وهو الجار في المقام ، وليس اللازم كونها إرفاقا بحق الآخرين ، نعم لا بد ان لا يكون في جريانها ضرر بحق الآخرين لدخوله في باب تعارض الضررين عندئذ.

الثاني ـ دعوى المعارضة بين جريانها بحق الجار لكونه متضررا وجريانها بحق المالك لأن منعه عن التصرف في داره ضرر عليه أيضا وهذا الوجه بحاجة إلى تمحيص.

والبحث عنه تارة في صغرى تعارض ضررين في المقام ، وأخرى في كبرى حكم هذا التعارض. اما البحث الصغروي فقد نوقش في ضررية مجرد منع المالك عن حفر بالوعة في داره ، نعم لو أدى ذلك إلى تضرر داره وخراب شيء منه كان المقام من تعارض الضررين.

وتحقيق هذه النقطة يرتبط بملاحظة دائرة الارتكاز العقلائي في باب سلطنة المالك وحقه في التصرف في أمواله فان كانت دائرة ذلك تعمّ ما إذا كان في تصرفه إضرارا بالآخرين كان منعه عن نفس هذا الحق ضررا عقلائيا عليه وإن منعنا عن سعة

__________________

(١) هذا إذا لم يكن هذا التصرف مصداقا لعنوان التصرف في مال الغير أو إتلاف مال الغير المحرم شرعا تكليفا ووضعها بأدلة لفظية مطلقة.

٥١٢

السلطنة حتى عند العقلاء لم يكن مجرد المنع ضررا ما لم تنضم تلك المئونة الزائدة المشار إليها ، وقد عرفت في المقام السابق عدم مساعدة الارتكاز العقلائي على التوسعة في السلطنة من دون افتراض تضرر المالك ضررا غير مندك في جانب ضرر الجار.

وامّا البحث الكبروي ، فقد أفاد المحقق النائيني ( قده ) ان القاعدة انما تجري بالنسبة إلى تصرف على المالك الضرري فتحرم عليه ذلك ولا تجري لنفي الضرر عليه ، لأن حرمة التصرف على المالك انما استفدناها واستخرجناها من نفس القاعدة فكيف يمكن نفيها بها من جديد ، فان القاعدة انما تكون حاكمة ورافعة للأحكام الأولية الثابتة بالأدلة الأخرى ولا تكون حاكمة على نفسها.

ثم نقض على ذلك بما يقال في باب حجية الخبر الواحد من أن القضية الحقيقية يمكن ان تشمل نفسها بعد ان كانت انحلالية.

فأجاب عن النقض ، بان هذا انما يصح فيما إذا لم تكن القضية المجعولة مسوقة مساق النّظر إلى الأحكام الأولية ، وامّا إذا كانت كذلك كما هو المفروض في دليل لا ضرر فهي تتقيد لا محالة بمقدار ما تنظر إليه ولا يمكن ان تكون ناظرة إلى نفسها فانه تهافت.

وفيه : ان هذا الكلام انما يكون له وجه إذا فرض ان ملاك الحكومة هو النّظر بنحو التخصيص لكل حكم من الأحكام الأولية ـ ومن هنا قيل بعدم جواز رفع أصل حكم ضرري بها ـ وامّا إذا كان يكفي في الحكومة النّظر إلى لوح التشريع والشريعة ككل ويكون نظرها توضيحيا وتفسيريا بأنها ليس فيها حكم ضرري لا تقييديا فلا محذور في شمول القاعدة للحكم الثابت بنفسها.

وإن شئت قلت : ان كلا من جواز التصرف وعدم جوازه حكم ضرري يكون مشمولا لإطلاق القاعدة فيقع التعارض بين إطلاقيها ، ولا يشترط في شمول القاعدة ان يكون الحكم المراد نفيه بها مفادا لإطلاق دليل في المرتبة السابقة ليقال بان ما هو مفاد لإطلاق دليل في المرتبة السابقة أحد الحكمين من الجواز والمنع لا كليهما (١).

__________________

(١) بل ولو فرض لزوم ذلك ، قلنا أيضا بأنه يكفي ان يكون مفادا لإطلاق دليل بنحو القضية الحقيقية لا الخارجية ، وهذا يصدق على ما يكون مفادا لإطلاق دليل القاعدة نفسها ، ولا يلزم منه تهافت في اللحاظ لأن القضية انحلالية.

٥١٣

هذا كله في ما يتعلق بالحكم التكليفي لحفر بالوعة تضر ببئر الجار مثلا ، واما حكمه الوضعي أي ضمان خسارة البئر فهو ثابت كلما صدق عنوان الإتلاف حتى إذا جاز الحفر تكليفا لأن الجواز التكليفي لا يخرج الإتلاف عن موضوع الحكم بالضمان.

وذكر المحقق العراقي ( قده ) في المقام تفصيلا بين ما إذا كان الحفر يتلف عين مال الغير أو وصفا حقيقيا من أوصافه كما إذا أوجب قلة ماء البئر أو اختلاط مائه بالأوساخ فيضمن ، وما إذا لم يوجب شيئا من ذلك وانما أوجب التنفر الطبيعي النوعيّ الموجب لقلة مالية ماء البئر في السوق وهنا لا ضمان ، لأن مجرد فعل يوجب قلة مالية مال الغير في السوق لا يستوجب الضمان ولا الحرمة تكليفا كما إذا نافس تاجر تاجرا آخر في السوق بإصدار نفس البضاعة وبقيمة أقل فأوجب قلة مالية بضاعة التاجر الأول فانه لا يكون ضامنا ولا مرتكبا للحرام.

أقول : ان هذه المسألة لها عرض عريض في الفقه ، وهذا النقض يتمسك به عادة لنفي ضمان المالية في موارد عديدة منها المقام ، ومنها ما إذا غصب شخص مال الغير في وقت يرغب إليه في السوق وتكون قيمته عالية ثم أرجعه إليه في وقت لا يرغب إليه في السوق ـ كالعباءة الصيفية في الشتاء مثلا ـ فانهم قالوا لا يضمن ماليته لأن المالية لا تضمن ، ونقضوا بنفس النقض المتقدم من المحقق العراقي ( قده ).

وتفصيل البحث في ضمان المالية ليس هنا مجال طرحه ، وانما نشير هنا باختصار إلى نكتة واحدة وهي انه لا بد من التمييز بين نقصان المالية من جهة نقصان المنفعة الذاتيّة لشيء ـ وهي ما تسمى بالقيمة الاستعمالية ـ ونقصانها من جهة نقصان القيمة التبادلية ـ القيمة السوقية ـ والّذي يتأثر بقوانين العرض والطلب وليس منشأه دائما المنافرة الذاتيّة للشيء وإن كان أصل المنفعة الذاتيّة لا بد منها في ثبوت القيمة التبادلية.

فإذا كان النقصان في القيمة الاستعمالية والمنفعة الذاتيّة للشيء فهنا لا بد من القول بالضمان لأن هذه المنفعة صفة واقعية قائمة بالشيء كسائر الحيثيات والأوصاف القائمة به كسواده ونعومته وبهائه ونظافته ومنها كون الجو حارا يحتاج فيه

٥١٤

إلى العباءة الصيفية (١) وكون ماء البئر بعيدا عن مجال الأوساخ بحيث ينشرح الطبع إليه ولا يمجه ، وهذا نظير ما إذا أحدث إنسان حركات غريبة في بيت شخص بحيث أوهم انه مسكون فنزلت قيمته فانه ضامن لذلك على حد ضمانه لسائر الأوصاف الحقيقية في الشيء. واما إذا كان النقصان في القيمة السوقية التبادلية محضا لا من جهة الاختلاف في القيمة الاستعمالية بل من جهة تكثير العرض للسلعة في السوق فليس ذلك ضررا ولا نقصا ولا تصرفا في مال الغير ليكون مشمولا لدليل الضمان ، وبهذا يثبت الضمان في المقام مطلقا.

هذا آخر ما أردنا إيراده في تنبيهات قاعدة لا ضرر ، وبه ينتهي البحث عن هذه القاعدة وعن مباحث البراءة والتخيير والاشتغال من الأصول العملية ...

والحمد لله أولا وآخرا ...

__________________

(١) يوجد فرق بين هذا المثال وسائر الأمثلة فان نقصان الرغبة النوعية في العباءة لم ينشأ من خصوصية في العباءة أوجدها المكلف فيها ليضمن وانما نشأ من تقليل الرغبة النوعية لدى السوق وهذه صبغة في السوق تحصل حتى بتكثير العرض ، فانه انما يؤثر في تقليل القيمة التبادلية من جهة ما تستلزمه من نقصان المنفعة الحدية وإمكان إشباع الحاجات والطلبات السوقية بشكل أكبر وهو ليس تصرفا في المال بل في حيثية أخرى أجنبية عن المال فلا ضمان فيه.

نعم هذه النكتة نستطيع ان نستفيد منها في مسألة أخرى مهمة وخطيرة في عالمنا المعاصر وهي مسألة الأوراق النقدية التي يتعامل معها الفقهاء معاملة المثليات ، فمن كان قد غصب من شخص دينارا ورقيا قبل خمسين عاما يقال في حقه انه يضمن له اليوم دينارا مثله والّذي قد لا يساوي عشر قيمته ، فانه هنا بناء على هذه النكتة الدقيقة يمكن ان يقال بان هذه الأوراق النقدية من جملة خصائصها وأوصافها المعتبرة فيها عقلائيا ماليتها وقيمتها لأنها أعدت لتكون أوراقا مالية لا عينية ، فإذا لزم من تأجيل دفعها سقوط جزء من ماليتها كان ضامنا له لأن هذه القيمة التبادلية استعمالية بحسب الحقيقة في هذه الأوراق فتكون مضمونة بضمانها على تفصيل لا يسعه المقام.

٥١٥
٥١٦

فهرست الموضوعات

٥١٧
٥١٨

الفهرست

مباحث الحجج والاصول العلمية ( ج٢)

المقدمة ........................................................................................ ٥

تمهيد :.................................................................................. ٦ـ٢٠

ـ المفهوم الأصولي لفكرة الأصل العملي ومراحل تطوره......................................... ٩

ـ حقيقة الأصل العملي الشرعي........................................................ ١١_١٦

تقسيم الأصول العملية الشرعية إلى محرزة وغيرها.......................................... ١٦_١٩

تقسيم الأصول العملية إلى البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب........................ ١٩_٢٠

أصالة البراءة.......................................................................... ٢١_١٥٠

١ ـ البراءة العقلية :................................................................... ٢٣_٢٩

تاريخ البراءة العقلية في الفكر الفقهي..................................................... ٢٥_٢٦

أدلة القائلين بالبراءة العقلية.............................................................. ٢٦_٢٩

٢ ـ البراءة الشرعية :.................................................................. ٣١_٧٧

ـ الاستدلال على البراءة الشرعية بالكتاب............................................. ٣١_٣٥

الاستدلال بقوله تعالى ( لا يكلف الله نفسا الا ما آتاها )................................... ٣١_٣٣

الاستدلال بقوله تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا )............................... ٣٣_٣٤

الاستدلال بقوله تعالى ( قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه. )............... ٣٤_٣٥

الاستدلال بقوله تعالى ( وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم. )............................... ٣٥

ـ الاستدلال على البراءة بالسنة :...................................................... ٣٦_٧٧

الاستدلال على البراءة بحديث ( كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي )........................ ٣٦_٣٩

٥١٩

الاستدلال بحديث الرفع................................................................ ٤٠_٦٢

المقام الأول : فقرة الاستدلال منه........................................................ ٤٠_٤٢

المقام الثاني : في شمولها للشبهات جميعا................................................... ٤٢_٤٥

المقام الثالث : فقه الحديث.............................................................. ٤٥_٥٨

المقام الرابع : سند الحديث.............................................................. ٥٨_٦٢

الاستدلال بحديث السعة................................................................ ٦٢_٦٣

الاستدلال بحديث الحجب.............................................................. ٦٣_٦٤

الاستدلال بحديث الحلية................................................................ ٦٤_٦٧

ـ الاستدلال على البراءة بالاستصحاب................................................. ٦٧_٧١

تنبيهات الاستدلال بالاستصحاب على البراءة........................................... ٧٢_٧٥

ـ الاستدلال على البراءة باخبار أخرى................................................. ٧٥_٧٧

ـ الأدلة التي استدل بها على وجوب الاحتياط........................................ ٧٩_١٠٦

أدلة وجوب الاحتياط عقلا............................................................. ٧٩_٨٢

أدلة وجوب الاحتياط شرعا........................................................... ٨٣_١٠١

الاستدلال بالكتاب على الاحتياط...................................................... ٨٣_٨٧

الاستدلال بقوله تعالى ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة )........................................ ٨٣

الاستدلال بقوله تعالى ( وجاهدوا في الله حق جهاده )......................................... ٨٤

الاستدلال بقوله تعالى ( وان تنازعتم في شيء ................................................. ٨٥

الاستدلال بقوله تعالى ( واتقوا الله حق تقاته )................................................. ٨٧

الاستدلال بقوله تعالى ( ولا تقف ما ليس لك به علم )......................................... ٨٧

الاستدلال بالسنة على الاحتياط...................................................... ٨٧_١٠١

النسبة بين أدلة البراءة والاحتياط.................................................... ١٠٢_١٠٦

الجهة الأولي : النسبة بين اخبار الاحتياط واخبار البراءة................................. ١٠٢_١٠٤

الجهة الثانية : النسبة بين اخبار الاحتياط والدليل القرآني على البراءة..................... ١٠٤_١٠٥

الجهة الثالثة : النسبة بين اخبار الاحتياط ودليل الاستصحاب المثبت للبراءة...................... ١٠٥

الجهة الرابعة : في ما تقتضيه القاعدة على تقدير التعارض والتساقط بين اخبار الاحتياط والبراءة. ١٠٥_١٠٦

تنبيهات البراءة...................................................................... ١٠٧_١٥٠

٥٢٠