بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

وفيه : ان كون الحيثية تعليلية لا تقييدية انما يفيد في جريان الاستصحاب عند الشك في كونها دخيلة حدوثا فقط أو حدوثا وبقاء كما لو شك في ان زوال تغير الكر بالنجاسة هل يوجب زوال نجاسته أم لا؟ فيقال بان التغير مثلا حيثية تعليلية لمعروض النجاسة وهو الماء لا تقييدية فيجري استصحاب نجاسته ، واما إذا كانت الحيثية مما يعلم بدخالتها في الحكم حدوثا وبقاء بحيث يعلم انتفاء شخص ذلك الحكم ولو لانتفاء علته فلا مجال للاستصحاب حينئذ للقطع بزوال الحكم المتيقن ، وما نحن فيه من هذا القبيل لأن المفروض دخالة الجزء المتعذر في الواجب بحيث يسقط بتعذره شخص ذلك الوجوب يقينا وانما يشك في حدوث وجوب آخر ، فدعوى اندراج المقام تحت ضابطة كون الحيثية المتعذرة تعليلية أو تقييدية خلط بين مبحث التفصيل في جريان الاستصحاب بين موارد الحيثية التقييدية والتعليلية في موارد الشك في دخالة قيد في موضوع الحكم حدوثا وبقاء أو حدوثا فقط وبين المقام الّذي لا شك في سقوط الحكم بانتفاء قيده على كل حال وانما يحتمل حدوث حكم آخر. وكأنهم تخيلوا بان كون الحيثية تعليلية يكفي وحده لتحقق الشك في البقاء وعدم الجزم بزوال الحكم السابق مع انه ليس الأمر كذلك ، فقد تكون الحيثية تعليلية ومع ذلك لا شك في البقاء بل يقطع بالزوال ، وقد تكون الحيثية تقييدية ومع ذلك يشك في البقاء لاحتمال دخالتها حدوثا فقط في الحكم.

التقريب الثالث ـ ان وجوب الباقي بعد تعذر أحد الاجزاء هو عين وجوبه قبله ، وانما يختلف عنه في حد الوجوب ، حيث انه كان منبسطا على الجزء الزائد والآن يقف عليه ، فنستصحب ذات المحدود بقطع النّظر عن المحدود نظير استصحاب ذات الحمرة بقطع النّظر عن حدها بعد زوال شدتها.

وفيه : ان الوجوب لا يعقل فيه الانبساط والاشتداد لكي نستصحب مرتبة منه ، وانما هو اعتبار وتكليف متعلق بالكل أو الباقي ، واحدهما غير الآخر ومباين معه في الوجود ، فما كان يعلم من وجوب الباقي يقطع بزواله وسقوطه وانما يشك في ثبوت شخص وجوب آخر عليه.

نعم لو لاحظنا عالم الإرادة والحب فقد يقال ان نفس الحب والإرادة يمكن ان يبقى مع تعذر الجزء لاحتمال كونه دخيلا في شدته لا في أصله ، الا انه بحسب هذا

٣٨١

العالم من الممكن بقاء الإرادة والحب بشدته وبحده ، لأن التعذر لا يزيل الحب وانما يسقط الطلب ، فالشك ليس من ناحية بقاء الحب والإرادة وانما الشك من ناحية ان متعلق تلك الإرادة لا يعلم انها الأقل أو الأكثر ، واستصحاب بقاء شخص ذلك الحب والإرادة لا يثبت تعلقها بالأقل الا بناء على الأصل المثبت ، واستصحاب أصل الإرادة وجامعها المعلوم تعلقه بالأقل ولو ضمنا سابقا يرجع إلى استصحاب الجامع بين الوجوبين بلحاظ عالم الإرادة والمبادئ وأقل ما فيه انه جامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل.

وهكذا يتضح عدم تمامية شيء من التقريبات لدفع شبهة ان الوجوب المشكوك غير المتيقن حيث ان المتيقن الوجوب الضمني للأقل والمشكوك الوجوب الاستقلالي.

الا ان أصل هذه الشبهة مبني على افتراض ان إيجاب الأقل بحاجة إلى إيجاب جديد مع انه لا وجه له لإمكان جعل الوجوب من أول الأمر على الجامع بين الأكثر والأقل في حال التعذر وعليه فيكون الشك في بقاء نفس التكليف الثابت من أول الأمر على أحد التقديرين. أي يكون المقام من موارد استصحاب الكلي من القسم الثاني حيث يعلم بجعل وجوب مردد بين الطويل والقصير ، فانه لو كان متعلقا بالأكثر تعيينا فهو منتف جزما ، ولو كان متعلقا بالجامع بالنحو المذكور فهو باق.

الا ان هذا الاستصحاب يرد عليه ما ذكرناه مرارا من عدم جريان استصحاب الجامع بين وجوب لا يقبل التنجيز لانقضائه وبين وجوب يقبل التنجيز ، لأن مثل هذا الجامع لو علم به وجدانا لا يكفي في المنجزية فما ظنك بالتعبد به؟

قاعدة الميسور

الجهة الرابعة ـ ان الأصحاب حاولوا إثبات وجوب الباقي بعد العجز عن بعض الاجزاء على أساس قاعدة سميت بقاعدة الميسور ، يدعى استفادتها من بعض الروايات الخاصة ، وهي تتلخص في ثلاث روايات :

إحداها ـ الحديث النبوي المنقول عن أبي هريرة انه قال : ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا

٣٨٢

منه ما استطعتم ) (١).

ثانيتها ـ الرواية المنقولة في غوالي اللئالي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ( الميسور لا يسقط بالمعسور ) (٢).

ثالثتها ـ الرواية الأخرى المنقولة في الغوالي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ( ما لا يدرك كله لا يترك كله ) (٣).

والبحث عنها سندا واضح ، فان الأولى لا أثر لها في رواياتنا وكتبنا ولا عين وهي في كتب العامة لا سند نقي لها أيضا والأخيرتان مرسلتان مذكورتان في غوالي اللئالي لا في كتبنا المعتبرة. ومن هنا لا يحتمل ان يكون عمل السابقين لو فرض على أساس الاستناد إليهما فلا يمكن تصحيح سندهما بقاعدة الجبر أيضا لو سلمت كبرويا. واما الدلالة ، فنتكلم في حديث ( الميسور لا يسقط بالمعسور ) وحديث ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ).

اما الحديث الأول ـ فهناك تفسيرات ثلاثة لفقه هذا الحديث.

الأول ـ ان يكون نهيا بلسان النفي نظير ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) (٤) بناء على بعض التفاسير ، وكالجمل الخبرية في مقام الإنشاء.

الثاني ـ ان يكون نفيا تشريعيا بان يقصد به جعل الحكم إثباتا أو نفيا بلحاظ لوح التشريع لا الإخبار عن الخارج كقوله ( لا ربا بين الوالد والولد ) المقصود منه تشريع جواز الرّبا بينهما لا نفي وقوعه خارجا.

الثالث ـ ان يكون نفيا إخباريا كقوله ( وما جعل الحكم عليكم في الدين من حرج ) (٥) وعلى ضوء هذه التفاسير نأتي إلى كلمات القوم في التعليق على الاستدلال بالحديث في المقام فنقول : ذكر بهذا الصدد اعتراضات عديدة :

منها ـ ما ذكره المحقق الخراسانيّ ( قده ) من إيقاع التعارض بين ظهور هيئة

__________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي ، ج ٤ ، ص ٣٢٦.

(٢) الجزء الرابع ، ص ٥٨ ، ح ٢٠٥ والموجود في النسخ التي بأيدينا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لا يترك الميسور بالمعسور ).

(٣) نفس المصدر ، ح ٢٠٧.

(٤) البقرة : ١٩٧.

(٥) الحج : ٧٨.

٣٨٣

( لا يسقط ) في اللزوم مع إطلاق الميسور للمستحبات عند تعذر بعض اجزائها ، وبعد التعارض لا يبقى ما يدل على لزوم الباقي حتى في الواجبات.

وهذا الاعتراض مبتن على التفسير الأول من التفسيرات المتقدمة ولا يتم على الأخيرين كما لا يخفى. والتفسير الأول خلاف الظاهر في نفسه وذلك :

أولاً ـ لظهور حرف السلب الداخل على الفعل المضارع في النفي بحسب ظهوره الأولي لا النهي ، فما دام يصح الكلام نفياً فلا وجه لحمله على النهي.

وثانياً ـ خصوص مادة يسقط التي وقعت مدخولاً لحرف النفي لا تناسب النهي ، لأن سقوط الميسور عن ذمة المكلف ليس فعلا للمكلف مباشرة لكي يناسب النهي عنه.

لا يقال ـ يمكن ان يراد النهي عن ترتيب آثار السقوط من قبل المكلف خارجا نظير لا تنقض اليقين بالشك.

فانه يقال ـ النقض فعل للمكلف فيمكن النهي عنه بخلاف سقوط الميسور فانه فعل الشارع ، نعم الإسقاط قد يكون فعلا للمكلف الا ان المادة هو السقوط لا الإسقاط اللهم الا ان يقرأ ( لا يسقط ) بصيغة المجهول. نعم هذا الإشكال مبني على الصيغة المشهورة على ألسنة الأصوليين وفي كتبهم الا أن الموجود في النسخ الموجودة بأيدينا من غوالي اللئالي ( لا يترك الميسور بالمعسور ) وهو سليم عن هذا الاعتراض.

وثالثا : لو سلمنا حمل الحديث على النهي مع ذلك لا تعارض بين النهي وإطلاق الميسور للمستحبات لأن مفادها النهي عن السقوط من ناحية تعذر بعض الاجزاء وهو لا ينافي جواز ترك أصل المستحب من ناحية أخرى.

كما انه قد يقال بناء على تسليم المعارضة بتقديم ظهور المحمول في الحرمة على إطلاق الموضوع للمستحبات كما في سائر موارد تخصيص الخطاب موضوعا فانه لا يجعل قرينة على عدم إرادة اللزوم من المحمول حفاظا على إطلاق الموضوع اللهم الا إذا فرض استهجان إخراج المستحبات من الميسور وهو بلا وجه.

ومنها ـ ما ذكره السيد الأستاذ على ما في الدراسات من ان مفاد الحديث هو النفي التشريعي ـ التفسير الثاني ـ وحينئذ لو كان ناظرا إلى باب الكلي والفرد كما إذا وجب إكرام كل عالم وتعذر إكرام بعضهم كان إرشادا إلى عدم سقوط وجوب سائر الافراد

٣٨٤

الأمر الثابت في نفسه لو لا الحديث أيضا ، ولو كان ناظرا إلى باب الكل والجزء في المركبات الارتباطية كان مولويا دالا على وجوب الباقي بعد تعذر بعض الاجزاء وحيث لا معين لأحدهما في قبال الآخر كما لا يمكن الجمع بينهما في خطاب واحد فيجمل الحديث ، ولا يمكن تعيين المولوية قبال الإرشادية بأصالة المولوية ، لأن موردها ما إذا كان الموضوع المنظور إليه مشخصا ويشك في المولوية والإرشادية لا ما إذا كان الشك في الموضوع وانه الأمر المناسب مع المولوية أو المناسب مع الإرشادية.

أقول ـ ما ذكره غير مبتن على التفسير الثاني بل يتم على الأول أيضا ، فان النهي عن إسقاط سائر الواجبات الاستقلالية أيضا يكون إرشاديا إذا كان الموضوع الكلي والفرد. نعم على الاحتمال الثالث أي الاخبار الصرف لا يجري هذا الإشكال إذ يكون إرشاديا على كل تقدير بقطع النّظر عما سوف نذكره. وأيا ما كان فيرد على هذا الاعتراض :

أولا ـ ان هذا الخطاب مولوي على كل حال سواء أريد به الكلي والفرد أو الكل والجزء ، غاية الأمر على الأول يكون الحكم المولوي نفس الجعل الأول بخلافه على الثاني ، نعم يلزم على الأول التأكيد لا تأسيس حكم جديد الا ان التأسيسية والتأكيدية هنا تنتزعان بلحاظ أمر خارج عن مدلول اللفظ وهو سبق خطاب الأمر بالكلي أو المركب ، وعليه فلا مانع من إطلاق الميسور لكلا البابين وإن انتزعت التأسيسية بلحاظ أحدهما والتأكيدية بلحاظ الآخر.

وثانيا ـ ان الإرشادية والمولوية ليستا مدلولين لفظين تصوريين للخطاب وانما هما خصوصيتان مرتبطتان بمرحلة المدلول التصديقي والمراد الجدي ، واما اللفظ من أمر أو نهي أو إخبار فمستعمل في معناه الموضوع له من النسبة الإنشائية أو الاخبارية ، وعليه فلو كان المدلول التصديقي مما يناسب ان يجمع المولوية والإرشادية في مورد فلا محذور ولا موجب لتخصيص الخطاب موضوعا إذ لا يلزم من ذلك استعماله في معنيين لما ذكرناه من ان هذه الخصوصية ليست مدلولا للفظ بنحو الاستعمال.

ومنها ـ انه بناء على النّظر إلى باب الكلي والفرد يكون النفي حقيقيا ، واما بناء على النّظر إلى باب المركبات يكون نفيا عنائيا مسامحيا لأن وجوب الباقي وجوب جديد غير الوجوب الساقط بالتعذر بحسب الدقة.

٣٨٥

وفيه : أولا ـ انه مبني على تصور المشهور من لزوم إيجاب الباقي إلى امر جديد ، مع انك عرفت إمكان جعل الأمر من الأول على الجامع المقيد أحد فرديه بفرض العجز والتعذر.

وثانيا ـ لو سلمنا الوجوب الجديد فحمل النفي على العنائي انما يلزم إذا كان هناك تقدير أي أسند السقوط إلى حكم الميسور وهو خلاف الأصل بل السقوط أسند إلى نفس الميسور باعتبار ما له من نوع ثبوت في عهدة المكلف وعلى ذمته ، واختلاف منشأ الثبوت في العهدة من الوجوب الضمني إلى الاستقلالي لا يجعل الساقط متعددا بحسب النّظر العرفي لأن المنشأ حيثية تعليلية.

والمحقق الأصفهاني بعد ان وافق على اسناد السقوط إلى نفس الميسور جعله باعتبار موضوعيته للحكم ، ففسر الحديث بعدم سقوط الميسور عن كونه موضوعا للحكم بسقوط المعسور.

وفيه : ان مجرد الموضوعية للحكم لا يناسب التعبير بالسقوط ، ولهذا لا يصح اسناد السقوط إلى الماء إذا ارتفع الحكم بإباحة شربه مثلا ، بل لا بد من افتراض نوع علو وأهمية للشيء الساقط بحيث يهوي ويسقط وهذا لا يكفي فيه مجرد الموضوعية ما لم يكن ذلك مساوقا لوجوده في عهدة المكلف وعلى عاتقه.

هذا كله في الحديث الأول.

واما الحديث الثاني : أعني قوله ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) فقد استشكل في دلالته بأنه طبق على مورد الكلي والفرد حيث ورد في جواب سؤال صحابي عن لزوم الحج كل عام فأجاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه لو قلت نعم لوجب كل عام ، ولو وجب لما استطعتم وكفرتم ، ثم قال إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. فحتى لو فرض ظهور الحديث في النّظر إلى المركبات بقرينة ( منه ) الظاهر في التبعيض لا بد وان يرفع اليد عن هذا الظهور بقرينة المورد ويحمل على الكلي والفرد بحملها على البيانية أو زائدة أي فأتوه ما استطعتم ، ومعه لا يمكن الجمع بين المعنيين والبابين.

وأجاب المحقق الأصفهاني ( قده ) عن هذا الإشكال بأنا لا نسلم وضع من للتبعيض المخصوص بباب الكل والجزء ، بل هي موضوعة للتبعيض بمعنى الاقتطاع وإخراج البعض سواء كانت نسبته إليه نسبة الجزء إلى المركب أو نسبة الفرد إلى

٣٨٦

الكلي ، حيث ان للكلي نحو إحاطة وشمول على افراده ، فلا منافاة بين المعنيين.

وهذا الّذي أفاده في غاية المتانة.

الا ان هناك مناقشات أخرى حول هذه الرواية ربما تستوجب إجمال مدلولها ، نوردها فيما يلي :

١ ـ ان ظاهر الحديث ان السؤال بنفسه يمكن ان يكون محركا للتشريع ومنبها إليه بحيث لو سئل لوجب ، وهذا غريب في بابه ، فان التشريع يتبع المصالح والمفاسد الواقعية لا سؤال السائلين وفحصهم.

٢ ـ ان ظاهره ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو قال نعم لوجب ولو وجب لما استطاعوا فيتركوا فيكفروا مع انه مع عدم الاستطاعة يرتفع الوجوب فكيف يعقل ان يكونوا بذلك كفارا.

٣ ـ ان القاعدة لو أريد تخصيصها بباب الكل والجزء لم يناسب مع مورد الحديث ، ولو أريد جعلها تشمل باب الكلي والفرد فتصوير ذلك يكون بأحد أنحاء ثلاثة كلها غريبة في المقام.

الأول ـ ان يراد كلما أمرتكم بشيء بنحو صرف الوجود فأتوا بأفراده ما استطعتم.

وهذا كما ترى تناقض واضح فان الأمر بصرف الوجود لا يقتضي أكثر من الإتيان بصرف الوجود.

الثاني ـ ان يراد كلما أمرتكم بشيء بنحو مطلق الوجود كما في مثل أكرم العلماء فأتوا من افراده ما استطعتم. وهذا لا يناسب مورد الرواية ، فان الأمر بالحج ليس بنحو مطلق الوجود ، وهو خلاف مقصود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير صدور الحديث حيث كان يريد نفي لزوم ذلك على المسلمين كلما أمرهم بشيء والا لما استطاعوا ولكفروا.

الثالث ـ ان يكون المقصود جعل قاعدة في مقام الاستفادة من الأدلة وهي انه متى أمرهم بشيء فيحمل على مطلق الوجود لا صرف الوجود. وهذا أيضا لا ينطبق على المورد ، كما أنه أمر غريب في بابه وما أكثر أوامر الشارع التي هي بنحو صرف الوجود.

والصحيح في الإجابة على كل هذه التساؤلات في فقه هذا الحديث ان يقال : ان الحديث يبين قاعدة مضروبة للحد الأقصى للتكاليف الشرعية لا الحد الأدنى ، أي ان كل امر يصدر لا يلزم امتثاله بأكثر من المقدار المستطاع ، واما ما هو حده الأدنى فهذا

٣٨٧

يتبع دليله الّذي يأمر به بنحو صرف الوجود أو مطلق الوجود. والمراد بالمقدار المستطاع الّذي جعل حدا أقصى للتكليف المستطاع عرفا لا عقلا أي ما يقابل الحرج والمشقة التي تعتبر عرفا عدم الاستطاعة ، والقرينة على هذا الفهم للاستطاعة نفس التعبير في مورد الحديث ( لو وجب لما استطعتم ولو تركتم لكفرتم ) بعد وضوح استحالة التكليف بغير المقدور عقلا. وبهذا التفسير للاستطاعة الوارد في الحديث يظهر الجواب على الإشكال الثاني أيضا.

واما الإشكال الأول ، فجوابه : انه من المعقول افتراض جملة من الأحكام واجدة للملاك اللزومي واقعا الا انه لوجود محذور في إبدائها ابتداء أو للحاجة إلى حصول نوع تنبه وتوجه إليها من قبل المكلفين لا تشرع الا بعد السؤال أو الإلحاح من قبل المسلمين نظير ما في الآية الكريمة ( يا أيها الّذي آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وان تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنا والله غفور حليم ) (١).

بناء على إرادة الأحكام منها لا المعاجز ، فانه لا يناسب مع كون الخطاب للمؤمنين ولا الاخبار عن القضايا الخارجية فانها لا يناسب نزول القرآن الّذي هو كتاب تشريع وآيات.

وهكذا يظهر وجود معنى معقول لهذا الحديث الا انه بناء على هذا المعنى يكون الحديث أجنبيا عن محل الكلام لأنه يدل على ان الحد الأقصى للامتثال ان لا يلزم منه حرج ومشقة ، وأين هذا من مسألة لزوم الباقي بعد تعذر الجزء أو الشرط؟

٧ ـ الشك في مبطلية الزيادة :

وهنا أبحاث فقهية لا ينبغي التعرض لها لعدم ارتباطها ببحث الأقل والأكثر وانما تطلب من مواضعها في الفقه فنقتصر في الكلام على ثلاث جهات :

الجهة الأولى ـ في تصوير أقسام الجعل الضمني الّذي ينتج مبطلية الزيادة ثبوتا ، وهي كما يلي :

الأول ـ ان يؤخذ عدم الزيادة شرطا في الواجب ، ولا إشكال في معقوليته إذ يمكن

__________________

(١) سورة المائدة : آية ١٠١.

٣٨٨

ان يكون ذلك الأمر مانعا عن تحقق ملاك الواجب فيؤخذ عدمه شرطا فيه.

الثاني ـ ان يؤخذ عدم الزيادة جزء للواجب كما ذكر المحقق الخراسانيّ ( قده ) ، واستشكل فيه المحقق الأصفهاني بان كل نحو من أنحاء الجعل لا بد وان يكشف عن ملاك مناسب له وفي المقام لا يعقل ان يكون عدم الزيادة جزء من اجزاء العلة لحصول الملاك لاستحالة تأثير الأمر العدمي في الأمر الوجوديّ.

وفيه : أولا ـ بالإمكان افتراض ان الملاك لم يكن امرا وجوديا خارجيا بل كان عبارة عن حصول استعداد للعبد لإفاضة الكمال عليه فيعقل ان يتدخل فيه امر عدمي كما تصورنا ذلك في بحث الشرط المتأخر.

وثانيا ـ يمكن افتراض ان في ملاك الواجب جهة عدمية فيكون عدم الزيادة دخيلا في ذلك الأمر العدمي (١).

وبالجملة هذا القسم ممكن ثبوتا نعم المأنوس عرفا النحو الأول من الجعل لا الثاني بحيث ينصرف قول الشارع الزيادة مبطلة إليه إثباتا فإذا كانت تترتب ثمرة على القسم الأول ترتبت في المقام.

الثالث ـ ان يكون عدم الزيادة مأخوذا في الجزء كما إذا كان الركوع مثلا مشروطا بعدم التكرار.

وذكر المحقق الخراسانيّ ( قده ) ان هذا يرجع إلى النقيصة بحسب الحقيقة إذ لم يأت بالركوع الجزء.

وهذا الكلام إن أراد به مجرد تحقق النقيصة بلحاظ الجزء فهو صحيح ، وإن أراد به إنكار الزيادة موضوعا فغير صحيح إذ لا تقابل بين حصول الزيادة وحصول النقيصة في المقام فهنا قد حصلت النقيصة إذ لم يأت بالجزء الواجب وحصلت الزيادة أيضا إذ الركوع الثاني بل والركوع الأول وبعد سقوط الجزئية زيادة على كافة الأقوال الفقهية في

__________________

(١) هذا بالدقة يرجع إلى مانعية الزيادة لكونها علة للمانع فان العدم لا يكون دخيلا الا من باب عدم المانع وانتفاء علة الوجود.

ويمكن ان يجاب على إشكال المحقق الأصفهاني بجوابين آخرين كما يلي :

١ ـ اختصاص هذا الإشكال بما إذا كان ملاك الواجب المصلحة لا الحسن العقلي فانه يمكن ان ينتزع عن مجموع امرين أحدهما وجودي والآخر عدمي وليس بابه باب الوجود ليقال بان العدم يستحيل ان يؤثر في الوجود.

٢ ـ ان أصل لزوم كشف كل نحو من أنحاء الجعل عن ملاك مناسب له امر استظهاري وليس عقليا فلا محذور عقلي في ان يجعل المولى خطابه بعدم الزيادة بنحو الجزئية في مرحلة الاعتبار وإن كانت الزيادة مانعة في مرحلة الملاك.

٣٨٩

تفسير الزيادة أي حتى على اشتراط المسانخة في تحقق الزيادة لثبوت المسانخة مع أحد اجزاء الصلاة وهو الركوع في المقام إذ ليس المراد بالمسانخة في الحد أيضا بل في أصل الجزء.

والمحقق الأصفهاني ( قده ) قد فسر مقصود أستاذه بتفسير آخر حاصله : إنكار الزيادة حكما لا موضوعا بمعنى ان الركوع الثاني حينئذ وإن سمي زيادة ولكنه لا يمكن ان يكون مانعا بحيث يؤخذ عدمه في الصلاة أيضا لأن المانعية فرع تمامية المقتضي والمفروض عدمه بنقصان الجزء.

وهذا الكلام لا يناسب مع مبناه من استحالة أخذ عدم الزيادة بنحو الجزئية في الواجب. إذ على هذا المبنى لا يعقل أخذ عدم الزيادة في الجزء الا بمعنى مانعية الزيادة عن تأثير الجزء ولا منافاة بين ان تكون للزيادة مانعيتان إحداهما عن تأثير الجزء والأخرى عن تأثير سائر الاجزاء في عرض واحد. نعم لو فرضنا ان المأخوذ في الجزء عنوان وجودي ملازم مع عدم الزيادة كعنوان الوحدة مثلا اتجه حينئذ فرض قصور المقتضي بانتفاء ذلك العنوان الوجوديّ الا ان هذا لا يمنع مع ذلك ان تكون الزيادة مانعة عن اقتضاء سائر الاجزاء وإن كان هناك قصور في المقتضي الاستقلالي من ناحية هذا الجزء.

ثم ان هناك تعميقا للإشكال في معقولية الزيادة على كل تقدير بان يقال سواء كان الجزء مشروطا بعدم الزيادة أو فرض لا بشرط منها لم تعقل الزيادة ، اما على الأول فلما تقدم من رجوعه إلى النقيصة ، واما على الثاني فلأن الجزء حينئذ هو الأعم من ركوع واحد أو ركوعين فيكون المجموع جزء فلا تكون زيادة.

وأجاب عن ذلك السيد الأستاذ بان الجزء قد يفرض بشرط لا عن الزيادة ، وأخرى يفرض لا بشرط بمعنى كون الجزء هو الجامع بينه وبين الزيادة بنحو التخيير بين الأقل والأكثر وفي هذين الفرضين لا تعقل الزيادة كما ذكر في الإشكال. وثالثة يفرض الجزء لا بشرط بمعنى ان ضم الزيادة إليه كضم الحجر إلى جنب الإنسان لا يضر ولا ينفع فحينئذ لا يكون المجموع جزء بل تكون هناك زيادة.

والتحقيق : ان الزيادة قد يراد بها الزيادة الحقيقية وقد يراد بها الزيادة التشريعية.

اما الزيادة الحقيقية في شيء فتتوقف على توفر شرطين :

٣٩٠

أحدهما ـ ان يكون المزيد فيه مطاطا ومرنا يمكن ان يشتمل على تلك الزيادة كما يمكن ان لا يشتمل عليها بان يكون من سنخه نوعا أو جنسا وذلك كما في البيت الّذي يصدق على البناء المخصوص بما فيه من غرف سواء فرضت ثلاثا أو أربعا ولو لم يكن كذلك لم يصدق الزيادة ولهذا من بنى خلف داره حانوتا لا يصدق انه زاد في بيته لأن مفهوم البيت لا يشتمل على الحانوت.

الثاني ـ ان يكون هناك حد خارج حقيقة المزيد فيه ينافي تلك الزيادة حتى يتحدد المزيد فيه بذلك الحد ويجعل في قبال الزيادة كما لو أمر البناء ببناء بيت وأعطى بيده خريطة للبناء لا توجد فيها الا ثلاث غرف فبنى البناء أربع غرف فانه يصدق هنا انه زاد في البيت غرفة ، واما لو لم يحدد من أول الأمر ذلك فبنى أربع غرف لا يصدق انه زاد في البيت غرفة ولو قيل انه زاد في البيت غرفة واما لو قيل انه زاد في البيت غرفة لسئل انه هل كان المفروض ان يكون البيت بثلاث غرف؟ نعم إذا كان هناك بيت فيه بوصفه الخارجي ثلاث غرف ثم بنى فيه غرفة أخرى صدق أيضا انه زاد فيه غرفة بلحاظ الحد الخارجي السابق.

وعلى أساس هذين الشرطين ينبغي ان نلاحظ الفرضيات الثلاث التي ذكرها من ان الركوع الثاني قد يؤخذ الجزء بشرط لا من ناحية ، وقد يؤخذ لا بشرط بمعنى الجامع ، وقد يؤخذ لا بشرط بنحو يكون أجنبيا عنه لنرى متى تصدق الزيادة فنقول تارة نتكلم في الزيادة في مسمى الصلاة ، وأخرى نتكلم في الزيادة في الواجب.

اما الزيادة في مسمى الصلاة نفي الفرضية الثالثة لا تصدق الزيادة على عكس ما أفاده السيد الأستاذ لانتفاء الشرط الأول إذ مسمى الصلاة ليس بحسب الفرض من سنخ يمكن ان يشمل الركوع الثاني كما ان الإنسان لا يمكن ان يشتمل على الحجر المنضم إليه فلو ان شخصا أخذ بيده حجرا لا يصدق انه زيد في الإنسان شيء بخلاف ما إذا كان له رأسان ، وكذلك الحال في الفرضية الأولى لأن مسمى الصلاة لا يمكن ان يشتمل الركوع الثاني لفقدان الشرط الأول بحسب الفرض فلا زيادة كما لا مسمى أيضا للنقيصة ، واما في الفرضية الثانية وهو فرض كون مسمى الصلاة الجامع بين الركوع الواحد والركوعين فالشرط الأول متوفر لا محالة واما الشرط الثاني وهو وجود محدد بلحاظه تصدق الزيادة في مسمى

٣٩١

الصلاة فيمكن ان يكون هو الوجوب فحينئذ إن كان الواجب هو الجامع أيضا فلا يصدق زيادة لعدم الحد ، وإن كان الواجب بشرط لا عن الزيادة فتصدق الزيادة في المسمى بلحاظ هذا الحد رغم انه نقيصة بلحاظ الواجب ـ ومنع يعلم ان ما ذكر من انه يرجع إلى النقيصة لو أخذ الجزء بشرط لا لو أريد به بلحاظ الواجب فلا تقابل بين الزيادة والنقيصة وكذلك لو كان الواجب لا بشرط عن الزيادة بالمعنى الثالث فانه تصدق الزيادة في مسمى الصلاة لتوفر الشرطين ، هذا كله إذا كان المنظور صدق الزيادة في مسمى الصلاة.

واما إذا كان المنظور صدق الزيادة في الواجب بما هو واجب فهذا امر غير معقول أصلا فانه إذا أخذ الركوع الثاني بشرط لا فالشرط الأول منتف لعدم قابلية شمول الواجب بما هو واجب للركوع الثاني ، وكذا إذا فرض أخذه لا بشرط بالمعنى الثالث ، واما إذا فرض أخذه بنحو التخيير بين الأقل والأكثر فالشرط الأول متوفر الا ان الشرط الثاني لصدق الزيادة غير متوفر الا ان يفرض امرا استحبابيا بالاقتصار على الركوع الأول أو نهيا كراهتيا عن الثاني فتصدق الزيادة بلحاظ هذا الحد الا ان هذه الزيادة غير مبطلة وخارجة عن محل البحث لأنها لا تقدح بامتثال الواجب بل تضر بالاستحباب.

واما الزيادة التشريعية فهي الإتيان بشيء لا يكون جزء بقصد الجزئية تشريعا وهو يتصور في القسم الأول والثالث معا وانما لا تتصور في القسم الثاني الّذي يكون الواجب هو الجامع لأنه إذا أتى به كان جزء بحسب الفرض فلا تشريع. واما تحقيق ان المبطل في الصلاة هل هو الزيادة التشريعية أو الحقيقية أو كل منهما فهذا بحث فقهي موكول إلى محله والصحيح فيه مبطلية كل منهما كلما صدقت.

ومن مجموع ما ذكرناه اتضح أيضا الجواب على إشكال عدم معقولية الزيادة حيث ظهر إمكان صدق الزيادة الحقيقية فضلا عن التشريعية سواء أخذ الجزء بشرط لا عن الزائد أم لا بشرط.

الجهة الثانية ـ إذا شك في مبطلية الزيادة ، فالصحيح جريان البراءة عنها سواء كان المحتمل مبطليته للواجب ابتداء أو للجزء ومن باب النقيصة في الواجب لأن كل ذلك مرجعه إلى الشك في التكليف الدائر بين الأقل والأكثر بالمعنى الأعم من الجزئية أو الشرطية وقد تقدم جريان البراءة فيه على كل حال ، كما انه إذا علم بمبطلية

٣٩٢

الزيادة عمدا وشك في مبطليته سهوا أو نسيانا فالحال فيه حال الشك في إطلاق الجزئية أو الشرطية لحال النسيان.

نعم لا بد هنا من الإشارة إلى نكتة هي انه في الواجبات الارتباطية التي يشترط فيها الترتيب يكون الشك في الجزئية مساوقا مع الشك في الزيادة ، فمثلا إذا شك في جزئية الشهادة الثانية فأجري عنها البراءة وتركت فيشك في ان الإتيان بالجزء الآخر وهو الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيادة أم لا إذ على تقدير اعتبار الشهادة الثانية تكون زيادة ـ ولو فرض كونها غير مبطلة ـ فلا يمكن الإتيان بها بقصد الجزئية في هذا الموضع لأنه تشريع والبراءة لا تثبت إطلاق الواجب الا ان هذا امر لا محيص عنه في أصل الدوران بين الأقل والأكثر فانه بعد البراءة عن الزائد لا يمكن الإتيان بالأقل بقصد كونه هو الواجب بحده والا لزم التشريع فلا بد وان يؤتى به رجاء.

الجهة الثالثة ـ انه ربما تكون الزيادة في الصلاة مبطلة لا من ناحية نفسها بل من ناحية إخلالها بقصد القربة ولزوم التشريع المحرم وهذا ـ أعني الإتيان بشيء بقصد الجزئية مع عدم كونه جزء في الواقع ـ يتصور بأحد نحوين أساسيين ، فانه تارة يفرض ان قصد الجزئية يرجع إلى تصرف في عالم أمر المولى ، وأخرى يفرض انه يرجع إلى التصرف في عالم قصده ونيته.

اما تصرفه في عالم امر المولى فيتصور على أنحاء.

الأول ـ ان يشرع امرا شرعيا يفترضه متعلقا بالأكثر ويغض النّظر عن الأمر الشرعي الّذي يعلم تعلقه بالأقل فينبعث من ذلك الأمر.

وهذا الإشكال في بطلانه لأنه تشريع وفاعله لم يعبد ربه ولم يمتثل امره بل تحرك عن تشريعه ورأيه.

الثاني ـ ان لا يغض النّظر عن الأمر الشرعي المتعلق بالعمل بدون الزيادة ولكنه يفترض ان هناك امرا أيضا بالعمل مع الزيادة إلى جانب ذلك الأمر ، وهنا إذا فرض ان الأمر الشرعي كان كافيا وحده في دعوته فالعمل صحيح من ناحية قصد القربة وإن اشتمل على التشريع المحرم وإن لم يكن تحركه الا من ناحية الأمر الّذي شرعه ولم يكن الأمر الشرعي بالعمل دون زيادة كافيا وحده لتحريكه فالعمل باطل.

الثالث ـ ان لا يفترض امرا آخر بل يشرع في تحديد نفس الأمر الشرعي على

٣٩٣

الزيادة امّا بان يفرض مثلاً انَّ الركوع الأول مثلاً مقيد بشرط الركوع الثاني أو انَّ الجزء هو الجامع بين ركوع واحد وركوعين وهنا يكون قد تحرك واقعا من الأمر الموجود وإن كان قد شرع في افتراضه موسعا شاملا للزيادة.

هذه في الشقوق الأساسية لتصرفه في عالم أمر المولى.

واما تصرفه في عالم قصده فقد ذكروا له قسمين :

الأول ـ ما سموه بالخطإ والاشتباه في التطبيق بان يقصد امتثال نفس الأمر الواقعي الموجود خارجا لكنه يعتقد اشتباها وخطأ انه متعلق بالمجموع من الزائد والمزيد عليه. وهنا يحكم بصحة العمل لأن تصرفه لم يكن الا عبارة عن اعتقاد خاطئ مع تحركه عن الأمر الواقعي.

الثاني ـ ما سموه بالخطإ بنحو التقييد وذلك بان يتحرك عن الأمر الواقعي على تقدير كونه متعلقا بالزائد لا على كل تقدير ، وقد حكموا فيه بالبطلان لأنه لم يتحرك عن الأمر الواقعي على كل حال.

والصحيح : ان التحرك لا يكون دائما الا عن الأمر الواصل وصولا علميا أو احتماليا ولا يعقل التحرك عن الأمر الواقعي بوجوده الواقعي ، وعليه فلا يبقى معنى محصل لهذا التشقيق الا انه تارة يتحرك المكلف عن الجامع بين الأمرين ويتخيل ان الواقع هو الأمر بالزائد وهذا يسمى بالخطإ في التطبيق ، وأخرى يتحرك عن خصوص الوجود العلمي أو الاحتمالي للأمر بالزائد وهذا ما يسمى بالخطإ في التقييد وهذا التحرك أيضا قربي إذ لا يقصد بالقربة إلا ان يكون تحركه من أجل امر المولى ولو فرض انه لم يكن يتحرك لو كان يتصور امر المولى بشكل آخر ، وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى محله من الفقه.

٣٩٤

« خاتمة »

في شرائط جريان الأصول المؤمنة

وقد تعرضوا تحت هذا العنوان إلى شرطين أساسيين :

أحدهما ـ لزوم الفحص عن الحجة على الإلزام.

الثاني ـ ما ذكره الفاضل التوني ( قده ) من اشتراط عدم استلزامها للضرر ، فالبحث في مقامين :

« وجوب الفحص »

المقام الأول ـ في وجوب الفحص عن الحجة على الإلزام قبل إجراء الأصول المؤمنة ، والبحث عن ذلك تارة بلحاظ الشبهات الحكمية ، وأخرى بلحاظ الشبهات الموضوعية بعد الفراغ عن لزومه في الشبهات الحكمية.

اما الشبهة الحكمية فالأصل المؤمن فيها تارة يكون عقليا كما إذا قلنا بالبراءة العقلية ، وأخرى يكون شرعيا.

اما البراءة العقلية فقد بنوا على اختصاصها بما بعد الفحص وعدم وجدان دليل على الإلزام ، وذهب المحقق الأصفهاني ( قده ) إلى عدم الاختصاص.

وقد عرفت فيما سبق عدم وجود حكم عقلي بالبراءة في حق المولى الحقيقي ومما يؤيد تاريخيا إنكارنا لهذه القاعدة انا نجدها في كلمات الشيخ الطوسي ( قده ) والمحقق

٣٩٥

والعلامة تفسر باستصحاب حال العقل الحاكم بعدم التكليف قبل الشرع وبعد هذا جعلت البراءة أمارة على عدم الحكم من باب ان عدم الوجدان دليل على عدم الوجود ثم أرجعت إلى قانون استحالة التكليف بغير المقدور خلطا بين الجهل بالحكم بمعنى الإبهام المطلق وبين الشك وانما طرحت البراءة كأصل عقلي مؤمن من خلال تحقيقات مدرسة الأستاذ الوحيد البهبهاني ( قده ) وقد تقدم شرح ذلك مفصلا في أول الكتاب. وواقع المطلب ان هذه القاعدة عقلائية لا عقلية فتختص بالمولويات العرفية العقلائية ولا تتم في حق الشارع الأقدس التي تكون مولويته ذاتية ومطلقة شاملة للأحكام المعلومة والمشكوكة معا. وفي المولويات العقلائية لا يبعد الاختصاص بما بعد الفحص أي ان حكمهم بعدم حق الطاعة في موارد الجهل مختص بما إذا فحص المكلف عن الحكم الإلزامي ولم يجده لا ما إذا ترك الفحص عنه رأسا.

واما البراءة الشرعية فالمشهور بينهم ان أدلة البراءة الشرعية بنفسها وإن كانت مطلقة ولكن هناك مانع عقلي أو شرعي عن التمسك بهذا الإطلاق.

وفيما يلي نستعرض مهم الوجوه التي ذكرت أو يمكن ان تذكر لإثبات اختصاصها بما بعد الفحص :

الوجه الأول ـ ما هو المختار من قصور أصل مقتضي البراءة الشرعية فيما قبل الفحص وعدم الإطلاق في أدلتها ، وذلك يظهر بمقدمتين :

الأولى ـ ما تقدم الآن من إنكار البراءة العقلية وانها عقلائية بالمعنى المتقدم شرحه.

الثانية ـ انه مهما وجد ارتكاز عقلائي بنكتة عامة في مورد وورد من الشارع نصّ يطابقه كان ظاهر ذلك الخطاب إمضاء القانون العقلائي بما له من نكتة مركوزة فلا ينعقد فيه إطلاق أوسع من دائرة ذلك الارتكاز العرفي والعقلائي وإن فرض عدم قيد فيه بحسب المداليل اللغوية وهذه كبرى كلية طبقناها على دليل حجية خبر الثقة أيضا.

وبناء على هاتين المقدمتين يقال في المقام بان أدلة البراءة الشرعية تنصرف إلى إمضاء القانون العقلائي بمعذرية الجهل وبما ان هذا القانون مختص عندهم بما بعد الفحص فلا ينعقد في أدلة البراءة إطلاق لأكثر من ذلك.

لا يقال : غاية ما يثبت بهذا الوجه عدم الدليل على البراءة في الشبهة الحكمية قبل

٣٩٦

الفحص ولكن حيث ان هذه المسألة الأصولية بنفسها شبهة حكمية فلو فحص فيها المجتهد ولم يجد دليلا على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية قبل الفحص ـ والا كان ذلك الدليل هو المدارك على الاحتياط ـ أمكنه إجراء البراءة الشرعية عن وجوب الاحتياط وهذا حكم الظاهري طولي في شبهة بعد الفحص ولا مانع من إجراء الأحكام الظاهرية الطولية وهي تؤمن عن الواقع إذا كان الشك في الحكم الظاهري الأولي بإيجاب الاحتياط واهتمام المولى بنحو الشبهة الموضوعية ـ كما إذا شك في تحقق موضوعية ـ أو الحكمية إذا ما شك في جعل حكم ظاهري إلزاميّ بالخصوص كجعل إيجاب الاحتياط في المقام.

فانه يقال : أولا ـ ان دائرة الارتكاز العقلائي المذكور تشمل البراءة الطولية أيضا وإن كانت بعد الفحص عن جعل إيجاب الاحتياط لأنها تريد التأمين عن الواقع في هذه المرتبة.

وإن شئت قلت : ان الفحص اللازم في التأمين عن كل حكم إلزاميّ هو الفحص عما يثبته وينجزه سواء كان حكما ظاهريا كإيجاب الاحتياط أو واقعيا كما إذا فحص ووصل إلى الواقع فما دام لم يفحص المكلف عن الواقع لا يمكنه إجراء البراءة الطولية أيضا.

وثانيا ـ يمكن دعوى إمضاء الشارع للمرتكز العقلائي بحديث الإيجابي والسلبي معا بحيث يستفاد من ذلك إمضاء طريقتهم في منجزية الاحتمال قبل الفحص في الشبهة الحكمية.

الوجه الثاني ـ دعوى قصور المقتضي بعد ملاحظة مجموع أدلة البراءة بعضها مع بعض فان ما تم لدينا من أدلة البراءة من الكتاب الكريم آيتان إحداهما : قوله تعالى ( لا يكلف الله نفسا الا ما أتاها ) (١) والثانية قوله تعالى ( ما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ) (٢) وهما تدلان بلحاظ عقد المستثنى على عدم البراءة عند ثبوت الإيتاء والتبيين للناس وليس المتفاهم عرفا من ذلك انه لا بد وان يطرق المولى

__________________

(١) الطلاق.

(٢) التوبة : ١١٥.

٣٩٧

باب كل مكلف ويؤتيه الحكم بل اللازم جعله في معرض الوصول إلى المكلفين وهو أعم من فرض الوصول إليه فعلا فتعارض الآيتان ما قد يفترض الإطلاق فيه من الروايات الدالة على البراءة كحديث الرفع مثلا ويقدم إطلاق الكتاب على إطلاق الرواية لكونه قطعي السند (١) ولو فرض التكافؤ فيتعارضان ويتساقطان ويرجع عندئذ إلى الاحتياط أيضا والبراءة الطولية قد عرفت انها داخلة في البراءة قبل الفحص أيضا ما لم يفحص عن الحكم الواقعي.

لا يقال : غاية ما يثبت من تقديم إطلاق الكتاب على إطلاق الحديث اشتراط عدم وجود بيان في معرض الوصول لجريان البراءة وهذا يمكن تنقيحه باستصحاب موضوعي وهو استصحاب عدم صدور بيان في معرض الوصول وينقح بذلك موضوع المستثنى منه في الآية.

فانه يقال ـ الخطاب الدال على الاحتياط في موارد وجود حكم إلزاميّ في معرض الوصول لا يجعل الاحتياط مشروطا بوجود الحكم في معرض الوصول بحيث يكون ذلك مأخوذا في موضوع إيجاب الاحتياط بل يجعل احتماله منجزا في مورد الشك فيكون بنفسه إلغاء لكل أصل مؤمن في مورده سواء كان براءة أو استصحابا موضوعيا.

الوجه الثالث ـ دعوى قصور المقتضي أيضا بملاحظة مبنانا في إجمال الخطاب كلما احتمل وجود قرينة متصلة معه فانه في المقام من المحتمل وجود قرينة ـ ولو ارتكازية ولبية ـ صارفة لإطلاق الخطاب عن موارد ما قبل الفحص حيث كان يعرف من حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام شدة اهتمامهم بنشر الأحكام وتبليغها وترويجها وتعليمها للناس وحثهم على ذلك فان هذا المطلب المعلوم من حال الشارع إن لم يوجب القطع بكونه قرينة لبية صارفة فلا أقل من احتمال قرينيته الموجب للإجمال ، ولا يكفي سكوت الراوي لنفيه لكونه امرا ارتكازيا وقد ذكرنا في محله ان سكوت الراوي عن ذكر القرائن اللبية الارتكازية لا تشكل شهادة على نفيها.

الوجه الرابع ـ ما جاء في كلمات السيد الأستاذ من ان حكم العقل البديهي

__________________

(١) ليست الآيتان بصدد تشريع إيجاب الاحتياط في موارد إيتاء الحكم وبيانه للناس وانما عقد المستثنى فيهما لبيان مورد البراءة المشرعة في عقد المستثنى منه وحدها لا أكثر فلا يمكن ان يستفاد من عقد المستثنى جعل إيجاب الاحتياط فضلا من ان يستفاد منها إطلاق وان يكون في مقام البيان من ناحيته ليوقع المعارضة بينه وبين إطلاق حديث الرفع.

٣٩٨

بوجوب الفحص عن الأحكام وعدم العذر في غمض العين وإجراء البراءة من دون التحري عن الحكم أصلا بنفسه قرينة على عدم إرادة الإطلاق من أدلة البراءة لما قبل الفحص بل هو كالقرينة المتصلة المانعة عن انعقاد أصل الإطلاق (١).

وفيه : ان حكم العقل هذا وإن كان مسلما الا انه على ما تقدم حكم تعليقي يكون ورود الترخيص والاذن الشرعي رافعا لموضوعه فكيف يعقل جعل مثل هذا الحكم التعليقي العقل مانعا عن الإطلاق ، نعم يمكن ان يكون المقيد هو الارتكاز العقلائي الّذي أشرنا إليه.

الوجه الخامس ـ ان يقال بان دليل البراءة مقيد بعدم قيام أمارة معتبرة على خلافها وقبل الفحص يكون التمسك بالطلاق دليل البراءة تمسكا بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصصه بناء على ان الحجة مانع عن البراءة بوجودها الواقعي وان الأحكام الظاهرية متنافية بوجوداتها الواقعية كما هو الصحيح والمختار.

ولا يقال ـ ان مقتضى ذلك عدم إمكان التمسك بالبراءة حتى بعد الفحص لاحتمال وجود حجة إلزامية واقعا ولم تصل إلينا.

لأنه يقال ـ لا يستفاد من الأدلة على حجية خبر الثقة أو الظهور حجية خبر أو ظهور ليس في معرض الوصول لأن مهم الدليل عليها السيرة وهي قاصرة عن إثبات ذلك.

الا ان هذا الوجه غير تام ، فانه يمكن إجراء البراءة الطولية بلحاظ الشبهة الموضوعية للأمارة أو إجراء استصحاب عدمها ولا منافاة بين مفاد هذا الأصل الموضوعي والحجية الظاهرية للأمارة المشكوكة على تقدير ثبوتها لأن نسبته إليها كنسبة الحكم الظاهري إلى الحكم الواقعي وهو يؤمن عن الواقع في هذه المرتبة. نعم لو أبرز العلم الإجمالي بوجود اخبار معتبرة على الإلزام في مجموع الشبهات قبل الفحص لم يجر الأصل الموضوعي الا ان هذا رجوع إلى وجه آخر وهو إبراز المانع عن التمسك بإطلاق أدلة البراءة لما قبل الفحص ، وسوف يأتي بعض الفروق بين هذه الصياغة للعلم الإجمالي وما أبرزوه من العلم الإجمالي بالإلزام.

الوجه السادس ـ دعوى وجود المانع عن التمسك بإطلاق أدلة البراءة للشبهة قبل

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٤٩٣.

٣٩٩

الفحص لو تم إطلاق فيها ، والمانع هو العلم الإجمالي بالإلزام ضمن دائرة الشبهات قبل الفحص أو العلم الإجمالي بوجود أمارات معتبرة إلزامية.

وقد اعترض على هذا الوجه باعتراضات عديدة.

الاعتراض الأول ـ ما ذكره المشهور من ان إبراز العلم الإجمالي بالتكاليف كما يوجب سقوط البراءة في الشبهة قبل الفحص يوجب سقوطها بعده أيضا لأن العلم الإجمالي لا ينحصر بموارد الأمارات الإلزامية بل هو علم إجمالي في مجموع الشبهات وهذا هو العلم الإجمالي الّذي استند إليه الاخباري لإثبات الاحتياط ـ فإذا تنجزت أطرافه لم يجز الرجوع إلى الأصل بعد الفحص أيضا لأن تنجز بعض أطراف العلم الإجمالي بمنجز آخر بعد حصول العلم لا يوجب حياة الأصول المتعارضة في سائر الأطراف ففرض التمسك بالأصل بعد الفحص هو فرض دفع إشكال تنجيز العلوم الإجمالية في المقام بوجه من الوجوه.

وللأصوليين في التوفيق بين موقفهم في إبطال تمسك الاخباري بالعلم الإجمالي في مجموع الشبهات لإثبات الاحتياط وموقفهم في المقام حيث تمسكوا بالعلم الإجمالي الصغير في دائرة الاخبار أو بالعلم الإجمالي بالأخبار الإلزامية لإثبات عدم جريان البراءة في الشبهات قبل الفحص أجوبة عديدة :

الجواب الأول ـ اننا لا ندعي انحلال العلم الإجمالي الكبير بما نظفر به من الاخبار والأمارات المعتبرة بل ندعي انحلاله بالعلم الإجمالي الصغير بالتكاليف الواقعية ضمن اخبار لثقات أو بالعلم الإجمالي بوجود اخبار معتبرة وهي اخبار الثقات وهذا علم إجمالي مقارن زمانا مع العلم الإجمالي الكبير بالتكاليف يوجب انحلاله من أول الأمر واختصاص منجزيته بدائرة العلم الإجمالي الصغير غاية الأمر قبل الفحص يكون كل شبهة طرفا من أطراف العلم الإجمالي الكبير والصغير معا بخلافها بعد الفحص وعدم وجدان أمارة معتبرة فيها حيث يحرز خروجها عن دائرة العلم الإجمالي الصغير فتجري البراءة فيها بلا محذور.

وهذا الجواب يبتني على صحة دعوى انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ضمن ما بأيدينا من الاخبار ، وقد تقدم في بحث حجية خبر الواحد المناقشة في ذلك مفصلا فلو تمت دعوى الانحلال كان هذا الموقف في المقام منسجما كمال

٤٠٠