بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

لأنه لا يقول بالانحلال الحكمي بتنجز أحد طرفي العلم الإجمالي بعلم إجمالي سابق زمانا ، بل العلم السابق بوجوده البقائي مع العلم الإجمالي الحادث بوجوده الحدوثي يؤثران في عرض واحد ، وانما يقول بالانحلال إذا وجد منجز تفصيلي في أحد طرفي العلم الإجمالي ، فلو كان ما نحن فيه من هذا القبيل لتم ما ذكر من الانحلال على مسلك العلية أيضا لكنه ليس كذلك لأنه وان علم قبل الركوع بأنه يجب عليه إتمام الركوع وما بعده اما فقط أو مع السورة أي استقلالا أو ضمنا لكنه بعد ان ركع سقط عنه الوجوب الضمني بالمخالفة بترك السورة ـ ولو بمعنى سقوط الفاعلية ـ فلم يبق منجز لذلك الا طرفيته للعلم الإجمالي بالوجوب الضمني أو الاستقلالي واحتمال انطباق المعلوم بالإجمال فيه ، واحتمال ذلك كاحتمال انطباق المعلوم بالعلم الإجمالي الآخر الحاصل بعد الركوع عليه فهما يؤثران في عرض واحد ، نعم بناء على ما هو الصحيح من الانحلال الحكمي وجريان الأصل عن أحد طرفي العلم الإجمالي إذا كان طرفه الآخر لا يجري فيه الأصل لتنجزه في نفسه يكون هذا الجواب فنيا.

المانع الخامس ـ وهو يبتني أيضا على مبنى فقهي مشهور في العبادات من انه لا بد من قصد الأمر المتعلق بالعبادة فلو قصد امرا آخرا وهميا على وجه التقييد لا الاشتباه في التطبيق بطل العمل ، فانه يقال في المقام بان العلم الإجمالي في المقام سوف يكون دائرا بين عامين من وجه لا أقل وأكثر ، وتوضيح ذلك ضمن متقدمتين :

الأولى ـ ان الواجب تارة يدور امره بين المتباينين كالظهر والجمعة ، وأخرى بين عامين من وجه كإكرام العادل وإكرام الهاشمي ، وثالثة بين الأقل والأكثر ،

__________________

وجوب إتمام الصلاة التي ركع فيها بلا سورة وهو وجوب آخر للإتمام لكونه فردا آخر للإتمام أو قل حرمة أخرى للقطع لكونه فردا آخر من القطع فموضوع هذا الحكم هو الصلاة التي ركع فيها من دون سورة وهي باعتبار الشك في صحتها واقعا يشك من أول الأمر في وجوب إتمامها ، فهذا الجواب نشأ من افتراض حرمة القطع حرمة واحدة لها موضوع واحد هو الصلاة التي شرع فيها.

على ان هذا الجواب لا ينفع إذا كان الجزء المشكوك في أول الصلاة أو شك في شرط من شروط الصلاة من أولها ، لأنه سوف يتشكل من أول الأمر علم إجمالي دائر بين متباينين.

ثم انه ربما يحاول إبطال هذا العلم الإجمالي الدائر بين المتباينين باستصحاب وجوب الإتمام الّذي ينجز أحد طرفي العلم الإجمالي فيوجب انحلاله حكما. ولكن يرد على هذا الوجه :

أولا ـ عدم تماميته فيما إذا كان الجزء المشكوك في أول الصلاة للشك في وجوب الإتمام حينئذ من أول الأمر.

وثانيا ـ ما تقدم من ان الواجب ليس هو عنوان الإتمام بل واقعه والّذي عرفت انه متعدد بحسب تعدد الاجزاء وقيود الواجب ، وما يشك في وجوب إتمامه منها يكون مشكوكا من أول الأمر وما يكون متيقنا لا شك فيه بقاء أيضا.

٣٤١

ولا إشكال في تنجيز العلم الإجمالي في الحالة الأولى الموجب للجمع بين الفعلين ، وفي الحالة الثانية الموجب لعدم جواز الاقتصار على مادة الافتراق ، واما الحالة الثالثة فهي محل الكلام.

الثانية ـ ان الواجب المردد في المقام بين العشرة والتسعة إذا كان عباديا فالنسبة بين امتثال الأمر على تقدير تعلقه بالأقل وامتثاله على تقدير تعلقه بالأكثر العموم من وجه بناء على المبنى الفقهي المشار إليه لا أقل وأكثر ، ومادة الافتراق من ناحية الأمر بالأقل واضحة وهي الإتيان بالتسعة فقط ، واما مادة الافتراق من ناحية الأمر بالأكثر الإتيان بالأكثر بداعي الأمر المتعلق به على وجه التقييد بحيث لو كان الأمر متعلقا بالأقل فقط لما انبعث عنه ففي مثل ذلك يتحقق امتثال الأمر بالأكثر على تقدير ثبوته ولا يكون امتثالا للأمر بالأقل على تقدير ثبوته. واما مادة الاجتماع فواضحة وهي الإتيان بالأكثر بداعي مطلق الأمر.

وهكذا يتضح على ضوء هاتين المقدمتين ان العلم الإجمالي في المقام يمكن تحويله إلى علم إجمالي بواجب مردد بين عامين من وجه فيجب الاحتياط فيه بإتيان مادة الاجتماع والاجتناب عن مادتي الافتراق.

ويرد عليه : بطلان المبنى الفقهي ، فان التقييد المفروض في النية لا يضر بصدق الامتثال على كل حال حتى للأمر بالأقل ما دام الانبعاث عن الأمر فعليا ، فانه لا يشترط في العبادة أكثر من ذلك على توضيح وتفصيل يترك إلى موضعه من الفقه. المانع السادس ـ وهو يختص بالواجبات التي اعتبرت الزيادة فيها مانعة ومبطلة كالصلاة ، والزيادة هي الإتيان بفعل بقصد الجزئية للمركب مع عدم وقوعه جزء له شرعا. وحاصل هذا المانع : ان من يشك في جزئية السورة يعلم إجمالا اما بوجوب الإتيان بها والا كان الإتيان بها بقصد الجزئية زيادة مبطلة ، وهذا العلم الإجمالي منجز وتحصل موافقته القطعية بالإتيان بها بدون قصد الجزئية بل لرجاء المطلوبية أو للمطلوبية في الجملة.

ويرد عليه : ان هذا العلم الإجمالي منحل ، لأن الشاك في الجزئية يعلم تفصيلا بمبطلية الإتيان بالسورة بقصد الجزئية حتى لو كانت جزء في الواقع لأن ذلك منه

٣٤٢

تشريع ما دام شاكا في الجزئية فيكون محرما ولا يشمله الوجوب الضمني للسورة وهذا يعني كونه زيادة مع قصد الجزئية على كل حال.

وهكذا يتضح من مجموع ما تقدم ان شيئا من الموانع المتصورة غير تام ، وان العلم الإجمالي الدائر بين الأقل والأكثر في الاجزاء ليس منجزا لوجوب الأكثر.

ثم ان هنا أمورا تجدر الإشارة إليها :

الأمر الأول ـ ان صاحب الكفاية ( قده ) حاول البرهنة على عدم انحلال العلم الإجمالي بوجوب الأقل والأكثر بلزوم الخلف والتهافت. وتوضيح مرامه ببيان مقدمتين :

الأولى ـ ان الواجب الارتباطي كما لا يتبعض في الامتثال والفعلية كذلك يستحيل ان يتبعض في التنجيز بان يتنجز بعض اجزائه دون بعض ، لأن هناك وجوبا واحدا جعلا وفعلية وتنجزا وامتثالا فاما ان يتنجز هذا الوجوب الواحد فيتنجز الكل أو لا يتنجز شيء منه.

الثانية ـ ان دعوى الانحلال إن أريد به الانحلال الحقيقي وبلحاظ عالم الوجوب كما في موارد الدوران بين الأقل والأكثر الاستقلاليين فهو واضح البطلان ، وان أريد به دعوى الانحلال الحكمي وبلحاظ عالم التنجز فمثل هذا الانحلال متوقف على تنجز الأقل على كل تقدير مع ان أحد تقديريه هو احتمال تعلق الأمر بالأكثر فلا بد من الفراغ عن تنجز الأمر بلحاظ الأقل ولو كان متعلقا بالأكثر وهذا يساوق تنجز الأمر بالأكثر بلحاظ الزائد لما عرفت في المتقدمة الأولى من عدم تبعض الواجب الارتباطي في التنجيز.

والنتيجة من هاتين المقدمتين ان فرض تنجز الأقل متوقف على تنجز الأكثر فانحلاله به خلف وتهافت.

وهذا البرهان غير تام ، وذلك :

أولا ـ لما تقدم من وجه ثالث للانحلال وهو الانحلال الحقيقي بلحاظ ذات الوجوب الّذي هو موضوع حكم العقل بالتنجز حيث كان الانحلال بلحاظ هذا الأمر في موارد الشك في الجزئية حقيقيا لا حكميا ليتوهم ما ذكر في هذا البرهان.

وثانيا ـ بطلان الأصل الموضوعي المذكور في المقدمة الأولى من عدم تبعيض الواجب الارتباطي في التنجيز وعدمه ، فانه إن أريد من ذلك عدم تعدد العقاب بتعدد

٣٤٣

الاجزاء المتروكة فهذا صحيح الا ان التبعيض في التنجيز لا يعني ذلك بل يعني تنجز ذلك العقاب الواحد من ناحية بعض الاجزاء دون بعض فتكون مخالفة الواجب من ناحية ترك الأقل موجبة لاستحقاق العقاب ومخالفته من ناحية ترك الزائد غير موجبة لذلك ، وان أريد عدم التبعيض في التنجيز بهذا المعنى قياسا لباب التنجيز بباب الفعلية والجعل والارتباط بين اجزاء الوجوب الواحد فيهما فهو غير سديد ، لأنه قياس مع الفارق ، فان الارتباط بين الوجوبات ينشأ من وحدة الوجوب ومتعلقه ولو اعتبارا ، واما التنجيز فملاكه وصول الجعل لا واقعه ، والوصول قابل للتبعيض بان يصل تعلق الوجوب ببعض الاجزاء دون بعض فيتنجز من ناحية ما وصل دون ما لم يصل ، وهو معنى الانحلال في المقام.

الأمر الثاني ـ ان صاحب الكفاية ( قده ) فصل بين البراءة العقلية فمنع عن جريانها بلحاظ وجوب الأكثر وبين البراءة الشرعية فاعترف بجريانها عنه. واعترض عليه المحققون بان وجه المنع عن البراءة العقلية لو تم لمنع عن جريان البراءة الشرعية أيضا ، والمحقق الخراسانيّ ( قده ) بنفسه أيضا عدل عن هذا التفصيل في حاشيته على الكفاية فمنع عنهما معا.

وفيما يلي نستعرض ما ذكره في الكفاية لمنع البراءة العقلية لنرى هل يمنع عن البراءة الشرعية أيضا أم لا ، وهو أحد وجهين :

الوجه الأول ـ إبراز عنصر الغرض من وراء الواجب الارتباطي وانه غرض واحد معلوم يشك في تحصيله بالأقل فيجب الاحتياط وان فرض ان العلم الإجمالي بلحاظ الوجوب كان منحلا.

وأفاد السيد الأستاذ ان هذا الوجه لا يقتضي التفصيل بين البراءتين ، لأن الغرض الواصل بالعلم الإجمالي لو لزم تحصيله على كل تقدير فلا ينفع الرجوع إلى البراءة الشرعية أيضا مع الشك في حصول الغرض بإتيان الأقل ، لأن البراءة الشرعية ناظرة إلى الحكم كوجوب الأكثر أو الجزئية ورافعة له ظاهرا بمعنى عدم العقاب على تركه ، ومن المعلوم ان رفع الجزئية أو وجوب الأكثر ظاهرا لا يترتب عليه كون الغرض مترتبا على الأقل الا على القول بالأصل المثبت أو ورود أدلة البراءة في خصوص موارد الشك في الجزئية مثلا لتتشكل دلالة اقتضاء لها مثلا ،

٣٤٤

وكلاهما غير تام كما هو واضح (١).

وهذا الإشكال غير تام وذلك :

أولا : للنقض بموارد الشبهات البدوية ، فان أدلة البراءة لو كانت تؤمن من ناحية التكليف فقط دون الغرض فاحتمال الغرض في موارد الشبهة البدوية لا مؤمن عنه سوى البراءة العقلية على القول بها ، وهذا معناه ان البراءة الشرعية في الشبهات البدوية بحاجة إلى ضم البراءة العقلية دائما فيلزم لغويتها.

ودعوى : ان الشبهات البدوية باعتبارها القدر المتيقن من مفاد أدلة البراءة فيستفاد بدلالة الاقتضاء التأمين عن الغرض فيها.

مدفوعة : بموارد الشك المقرون بالعلم الإجمالي غير المنجز الّذي ليس قدرا متيقنا أو بأصالة الطهارة الجارية في موارد الشك في طهارة الماء للوضوء فان المتيقن التأمين عن حرمة شربه مثلا لا حصول الغرض بالوضوء بماء مشكوك في طهارته.

وثانيا : ان التكاليف تنجيزا أو تعذيرا انما تلحظ بمعناها الحرفي وبما هي حافظة لما وراءها من المبادئ والأغراض ، إذ بقطع النّظر عن ذلك لا تكون الا اعتبارات جوفاء لا معنى للتنجيز أو التعذير عنها ، فالبراءة الشرعية الجارية عن التكليف المشكوك تؤمن بالدلالة العرفية المطابقية عن روح التكليف وجوهره وهو الغرض من ورائه. وعليه يمكن دعوى التفصيل بين البراءتين بان الغرض حيث انه وحداني ومعلوم فلا انحلال فيه كما ان البيان تام بالنسبة إليه ـ مع قطع النّظر عما تقدم فيه محله ـ فلا تجري بلحاظه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، واما البراءة الشرعية فهي تجري عن الزائد والّذي ليس وجوبه معلوما وبجريانها عنه تؤمن عن روح التكليف وجوهره (٢).

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ص ٤٤٠.

(٢) لا يقال : تارة يفترض ان الغرض لا يدخل في العهدة الا بالمقدار الّذي يتصدى المولى لبيانه ـ كما هو الصحيح ـ وأخرى يفترض دخوله في العهدة بمجرد العلم به ولو لم يكن امر وتصد تشريعي لحفظه مباشرة ، فعلى الأول كما تجري البراءة الشرعية تجري العقلية أيضا على القول بها ، وعلى الثاني يكون وصول الغرض للأقل منجزا لتحصيله على كل حال ولو فرض الانحلال بلحاظ عالم التكليف فلا وجه للتفكيك.

فانه يقال ـ ان من يقول بمنجزية الغرض ولو لم يتصد المولى للأمر به يقبل أيضا بان المولى له ان يرخص في مخالفته لأن حكم العقل بالتنجيز تعليقي لا محالة فتكون البراءة الشرعية الجارية عن وجوب الأكثر بحسب الحقيقة ترخيصا شرعيا في مخالفة تحصيل الغرض من ناحية الزائد.

٣٤٥

الوجه الثاني ـ العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر والّذي لم ينحل بلحاظ عالم الوجوب والجعل ، فلا تجري البراءة العقلية ، واما البراءة الشرعية فقد أجراها المحقق الخراسانيّ عن الجزئية المشكوكة وبلحاظها يكون الانحلال حقيقيا ، وهذا ما سوف نتحدث عنه في الأمر القادم.

واما المحقق النائيني ( قده ) فقد أجراها عن التقييد في مرحلة الظاهر وأثبت به الإطلاق ظاهرا فبضم أدلة البراءة إلى أدلة الاجزاء والشرائط يثبت الإطلاق في مرحلة الظاهر ، فيكون هذا وجها للتفصيل بين البراءتين.

والسيد الأستاذ وافق أصل الاستدلال ولكن خالفت فيه مخالفة مبنائية بدعوى : ان جريان البراءة عن تقييد الأقل بانضمام الاجزاء المشكوك فيها لا يثبت تعلق التكليف بالأقل على نحو الإطلاق الا على القول بالأصل المثبت ، لأن التقابل بين الإطلاق والتقييد بحسب مقام الثبوت تقابل التضاد لأن الإطلاق عبارة عن لحاظ عدم القيد والسريان ومعه لا يمكن إثبات الإطلاق بنفي التقييد الا بناء على الأصل المثبت وإمكان إثبات أحد الضدين ينفي الآخر (١).

والصحيح : ان أصل هذا المنهج للاستدلال غير تام ، وتفصيل ذلك : ان النافي للقيد تارة يكون أمارة فيثبت بها لا محالة الإطلاق وان الواجب الواقعي هو الأقل وهذا خارج عن محل الكلام ، وأخرى يفرض انه أصل عملي يثبت الواقع وينقحه كما في مثل استصحاب عدم وجود القيد في عالم الجعل وحينئذ يتجه التفصيل بين ما إذا كان الإطلاق عبارة عن عدم القيد أو لحاظ عدمه ، فعلى الأول يثبت ظاهرا بالاستصحاب (٢) ، وعلى الثاني لا يثبت لكونه ملازمة عقلية. وثالثة يكون النافي للقيد أصل عملي ناظر إلى مرحلة إيجاب الاحتياط والجري العملي لا مرحلة الواقع كما في أصالة البراءة المبحوث عنها في المقام فان مدلولها نفي إيجاب الاحتياط ، ومن الواضح ان هذا المدلول لا يمكن ان يثبت الإطلاق سواء كان عبارة عن عدم التقييد أو لحاظ عدم التقييد والسريان لأنه غير ناظر إلى الواقع أصلا ، فان الموصول في قوله ( رفع ما

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٤٤٠.

(٢) هذا انما ينسجم إذا لاحظنا الوجوب بمعنى ما يدخل في العهدة والّذي يكون الانحلال فيه حقيقيا عندئذ فتجري البراءة العقلية أيضا ولا ينسجم مع مبنى عدم الانحلال الحقيقي الّذي يلاحظ الوجوب بحسب عالم التكوين.

٣٤٦

لا يعلمون ) وان أريد به الواقع المشكوك الا ان المفروض انه ضمن معنى الرفع الظاهري ونفي إيجاب الاحتياط في طرف المحمول أعني الرفع وهذا لا ربط له بمسألة الإطلاق الّذي هو في مقابل التقييد في عالم الجعل والواقع.

وهكذا يتضح ان هذا العلم الإجمالي إذا فرض انه غير منحل فلا يمكن إثبات المطلق الأمر بالأقل بإجراء البراءة عن التقييد ـ صياغة المحقق النائيني ـ ولا بإجرائها عن الجزئية ـ صياغة المحقق الخراسانيّ ـ لكون دليل البراءة ناظرا إلى مرحلة غير مرحلة الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال. نعم هناك توجيه آخر للتفصيل بين البراءتين العقلية والشرعية يأتي لدى التعرض إلى تفصيل كلام الخراسانيّ ( قده ).

الأمر الثالث ـ في وجه عدول صاحب الكفاية عن إجراء البراءة الشرعية عن وجوب الأكثر إلى إجرائها عن جزئية الجزء المشكوك أو شرطيته. وقد يظهر بذلك وجه آخر للتفصيل بين البراءة العقلية والشرعية الّذي عقدنا الأمر السابق لبحثه فنقول :

يمكن ان يوجه العدول عن إجراء البراءة عن وجوب الأكثر إلى البراءة عن الجزئية أو الشرطية بنحو يكون وجها آخر للتفصيل بين البراءتين أيضا ، بان البراءة الشرعية عن وجوب الأكثر تعارض البراءة الشرعية عن وجوب الأقل وبعد التساقط تصل النوبة إلى البراءة عن جزئية القيد الزائد بلا معارض لكونها أصلا طوليا حيث ان الشك في الجزئية مسبب عن الشك في الأمر بالأكثر.

ويرد عليه :

أولا ـ ان هذا مبني على مسلك الاقتضاء لا العلية التي يتبناها المحقق الخراسانيّ ( قده )

وثانيا ـ ان ترتب الجزئية على وجوب الأكثر انتزاع عقلي لا ترتب شرعي ، فنفي وجوب الأكثر لا يترتب عليه نفي الجزئية الا بالملازمة.

وثالثا ـ ان البراءة عن الجزئية غير معقولة في نفسها لأنها لا تقبل التنجيز والتعذير وانما الّذي يقبل ذلك منشأ انتزاعها أي الأمر بالأكثر فلو فرض محالا عدم وجوب الأكثر مع تحقق الجزئية لم يكن المكلف ملزما عقلا بإتيانه ، وهذا يعني ان الجزئية أو الشرطية لا تقبل الوضع الظاهري بمعنى إيجاب الاحتياط تجاه احتمالها حتى يرفع

٣٤٧

ظاهريا بنفي إيجاب الاحتياط تجاها وانما الّذي يقبل الوضع والرفع الظاهريين منشأ انتزاعها وهو الوجوب ، وأما الجزئية كحكم وضعي فهي تنتزع عقلا كأمر واقعي نفس الأمري تارة من الواجب الواقعي فتكون جزئية واقعية للواجب الواقعي ، وأخرى تنتزع من الواجب الظاهري فتكون جزئية واقعية للواجب الظاهري.

والحاصل : الرفع الظاهري يستحيل ان يتعلق بنفس الجزئية حقيقة ، نعم للشارع بحسب مقام الإثبات واللسان ان يقول رفعت عنك الجزئية عند الشك ، الا ان هذا الكلام يعد كناية عن رفع منشأ الانتزاع ورفع إيجاب الاحتياط تجاه وجوب ذلك الجزء ، الا ان هذا انما يفيد لو فرض ورود دليل خاص بعنوان رفع الجزئية ، ولا يمكن استفادته من إطلاق أدلة البراءة التي أخذ في موضوعها ان يكون المرفوع امرا يدخل في العهدة وينجز على المكلف.

ورابعا ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) في المقام من ان البراءة عن الجزئية على تقدير جريانها تعارض بالبراءة عن كلية الأقل المنتزعة عن وجوب الأقل بحده.

وهكذا يتضح ان هذا الوجه للعدول عن إجراء البراءة بلحاظ وجوب الأكثر أو وجوب الزائد ـ الحكم التكليفي ـ إلى إجرائها بلحاظ الجزئية ـ الحكم الوضعي الانتزاعي ـ غير تام أيضا.

نعم للمحقق النائيني ( قده ) حسب تصوراته في المقام ان لا يجري البراءة عن الحكم التكليفي بالأكثر أو الزائد لإثبات وجوب الأقل لا نفي أحد طرفي العلم الإجمالي لا يثبت طرفه الآخر الا بالأصل المثبت ، وهذا بخلاف البراءة عن الجزئية بمعنى تقييد الواجب به في مقام الجعل ، فان المطلق عبارة عن وجوب الأقل من دون تقييد ، ووجوب الأقل ثابت بالوجدان ، وعدم التقييد نثبته بالبراءة عن التقييد.

الا انه يرد عليه حينئذ مضافا إلى ما تقدم في الأمر الثاني من خطأ هذا المنهج في الرفع الظاهري الناظر إلى نفي إيجاب الاحتياط لا الواقع : ان البراءة عن التقييد والجزئية لا معنى لها في نفسها لأنها انما تجري عما يدخل في العهدة ويتنجز وهو الأمر بالأكثر أو الزائد لا الجزئية والتقييد كما أشرنا إليه الآن.

ثم ان صاحب الكفاية ذكر في الكفاية في وجه إجراء البراءة الشرعية عن الجزئية ان نسبة حديث الرفع بعد تطبيقه على الجزئية إلى أدلة الاجزاء والشرائط تكون نسبة

٣٤٨

الاستثناء إلى المستثنى منه ، وكأنه يحاول بذلك إثبات تنجز الأقل ليمكن إجراء البراءة عن الزائد وذلك عن طريق ضم دليل البراءة عن الجزئية إلى أدلة الاجزاء والشرائط فيثبت وجوب الأقل بضم أحدهما إلى الآخر. وهذا الكلام فيه محتملات ثلاثة.

الأول ـ ما لعله ظاهر عباراته من ان دليل الجزئية أو الشرطية وان كان ظاهره جعلها مطلقا سواء في حالات العلم أو الشك الا انه بمقتضى أدلة الرفع في حالة الشك يتقيد الإطلاق المذكور ، كما لو ورد دليل خاص على عدم الجزئية أو الشرطية أو المانعية لشيء في حالة الجهل بها فان هذا نسبته نسبة الاستثناء إلى المستثنى منه فيجمع بينهما بالتقييد.

وهذا الاحتمال واضح الفساد ، لأن أدلة الرفع والبراءة مدلولها الرفع الظاهري لا الواقعي بينما أدلة الجزئية والشرطية والمانعية مدلولها أحكام واقعية لا تنافي بينهما بوجه حتى يجمع بينهما بالتخصيص الّذي هو فرع التنافي والتعارض كما هو واضح. كما ان هذا الوجه لو تم لتم حتى لو طبق حديث الرفع على وجوب الزائد أو الأمر بالأكثر بلا حاجة إلى الانتقال إلى الجزئية وتطبيق الحديث بلحاظها.

الثاني ـ ان حديث الرفع والبراءة وان كان مدلوله الرفع الظاهري الا انه باعتبار منافاة الرفع الظاهري مع الحكم الواقعي بمرتبة فعليته من جميع الجهات بناء على تصورات المحقق الخراسانيّ ( قده ) في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي فتتشكل دلالة التزامية في أدلة البراءة على عدم فعلية الجزئية وتكون نسبتها إلى أدلة الجزئية نسبة الخاصّ إلى العام واقعا فتخصص أدلة الجزئية الظاهرة في الفعلية بغير حالة الجهل.

وفيه : أولا ـ بطلان المبنى على ما تقدم في محله من عدم المنافاة والمناقضة بين الحكم الواقعي والظاهري.

وثانيا ـ هذه المناقضة على تقدير القول بها في بعض المراتب انما تكون بلحاظ الحكم التكليفي والبعث والزجر لا الحكم الوضعي كالجزئية والشرطية فيكون المدلول الالتزامي حينئذ رفع فعلية الحكم التكليفي بالأكثر وليست نسبته إلى دليل الواجب نسبة الاستثناء والا لتم ذلك ابتداء في البراءة عن الأكثر.

الثالث ـ دعوى الدلالة الالتزامية العرفية بان يقال : ان ما يدل على نفي جزئية

٣٤٩

السورة في حالة الجهل ظاهرا وان كان بحسب الدقة يجامع مع فرض رفع وجوب الأكثر رأسا دون إيجاب الأقل ظاهرا لكن المستفاد عرفا من نفي جزئية شيء أو شرطيته في عبادة في حال الجهل وجوب الباقي عليه ظاهرا في تلك الحال.

وهذا الوجه انما يتم لو كان دليل نفي الجزئية دليلا خاصا في هذا المورد ، ولا يتم في مثل إطلاقات أدلة البراءة ، لأن ملاك هذه الدلالة مرتبط بورود النفي بعنوان نفي الجزئية في الواجبات الارتباطية كما لا يخفى.

كما ان هذا الوجه لو تم لكان جوابا على السؤالين أعني وجه التفكيك بين البراءتين ووجه العدول إلى إجراء البراءة عن الجزئية ، لأن ما يمكن ان يستفاد منه ذلك هو عنوان نفي الجزئية كما أشرنا لا نفي وجوب الأكثر.

الأمر الرابع ـ ذكر المحقق الخراسانيّ ( قده ) بعد جريان البراءة عن الجزئية.

« لا يقال : انما يكون ارتفاع الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه وهو الأمر ولا دليل آخر على امر آخر بالخالي عنه ». ثم أجاب عنه بجعل نسبة حديث الرفع إلى أدلة الاجزاء نسبة الاستثناء إلى المستثنى منه.

وهذا هو الّذي ذكرنا ان مبرره لدى صاحب الكفاية تنجيز وجوب الأقل ليمكن إجراء البراءة عن الأكثر ولو بلسان نفي الجزئية ، لأن صاحب الكفاية لا يرى انحلال العلم الإجمالي ، كما انه يبني على العلية التي تمنع عن جريان البراءة الا إذا تنجز أحد طرفي العلم الإجمالي في المرتبة السابقة.

الا ان السيد الأستاذ استغرب من ذلك وأفاد بان الأقل متنجز بنفسه على كل حال ولا يحتاج إلى التفتيش عن منجز له بعد التأمين عن وجوب الأكثر ، إذا سواء تنجز الأكثر أو جرت البراءة عن وجوب الباقي كان الأقل منجزا على المكلف ولم يجز له تركه. وذكر ان هذا الأمر يناسب مسألة أخرى هي ما إذا شك في اختصاص جزئية جزء أو شرطيته بحال الذّكر وعدمه فانه على تقدير ثبوت الجزئية حتى لحال النسيان يسقط التكليف بالمركب لا محالة بخلاف ما إذا كان مختصا بحال الذّكر فيشك لا محالة في وجوب الباقي في حال النسيان إذ ليس الأقل واجبا فيه على كل تقدير ، فلعل هذا الكلام صدر من صاحب الكفاية في تلك المسألة وثبت هنا اشتباها.

أقول : قد عرفت ان وجه لزوم التفتيش عن منجز للأقل انما هو لإمكان الرجوع

٣٥٠

إلى البراءة عن الزائد بناء على مسلك العلية الّذي هو مختار صاحب الكفاية ( قده ) فليس التفتيش عن منجز للأقل بعد فرض جريان البراءة عن الزائد بل بلحاظ ومن أجل تصحيحه.

هذا مضافا إلى انه لو فرض حمل كلام صاحب الكفاية على التفتيش عن منجز للأقل بعد فرض جريان البراءة عن الزائد مع ذلك لم يرد عليه ما أفاده الأستاذ على ضوء مباني صاحب الكفاية في كيفية الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، لأنه يرى التنافي بين الترخيص الظاهري وفعلية الإلزام الواقعي فمع جريان البراءة عن الزائد لا يكون الأمر بالأكثر فعليا ومعه لا يعلم بفعلية الأمر بالأقل أيضا لأن الأوامر الضمنية ارتباطية في مرحلة الفعلية فينتفي العلم بفعلية وجوب الأقل في طول إجراء البراءة عن الأكثر فلا بد من التفتيش عن مثبت له تماما كما هو الحال في مسألة الشك في اختصاص الجزئية بحالة الذّكر فتدبر.

الأمر الخامس ـ أفاد المحقق الخراسانيّ ( قده ) في حاشيته على الكفاية ان الصحيح عدم جريان البراءة الشرعية كالعقلية ، لأن العلم الإجمالي غير المنحل بوجوب الأقل أو الأكثر إن فرض انه علم بالتكليف الإنشائي فلا تنجيز له أصلا ، وان فرض انه علم بالتكليف الفعلي ـ كما هو المفروض ـ فكما لا تجري البراءة عن احتمال وجوب الأكثر عقلا كذلك لا تجري البراءة الشرعية لأن المفروض احتمال وجود امر فعلي بالأكثر وعلى تقدير وجوده تكون البراءة الشرعية مناقضة مع الواقع ، واحتمال المناقضة كالقطع بها محال.

وهذا الكلام أكثر انسجاما مع مبانيه في الكفاية من ان التكليف الواقعي بالعلم الإجمالي يصبح فعليا من جميع الجهات ولهذا يكون العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية وعدم إمكان الترخيص ولو في بعض أطرافه لاستحالة احتمال المناقضة كالقطع بها ، فان هذا المبنى للعلية يقتضي عدم جريان البراءة عن وجوب الزائد حتى إذا فرض تنجز أحد طرفي العلم الإجمالي وهو الأقل بأي منجز. نعم لو كان المبنى في العلة وعدم إمكان الترخيص في المخالفة الاحتمالية للمعلوم الإجمالي ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) من المضادة مع حكم العقل بالتنجيز لا مع الحكم الواقعي الفعلي أمكن دعوى الانحلال في المقام بمجرد قيام منجز في أحد الطرفين ولو من باب ان المنجز لا يتنجز.

٣٥١

اللهم الا إذا قلنا بتمامية الاحتمال الثاني من المحتملات الثلاثة المتقدمة في تفسير كلام الكفاية ، والّذي بناء عليه يكون الاستثناء من أدلة الجزئية والشرطية تخصيصا واقعيا فانه لا يرد عليه حينئذ ما في الحاشية إذ يثبت بأدلة البراءة عندئذ ان الحكم الواقعي الفعلي هو الأقل.

٢ ـ الدوران بين الأقل والأكثر في الشرائط :

والتحقيق فيها على ضوء ما تقدم في الدوران بين الأقل والأكثر بلحاظ الاجزاء هو جريان البراءة عن وجوب الشرط سواء كان شرطا لمتعلق التكليف كالطهارة في الصلاة أو شرطا لمتعلق المتعلق كاشتراط الإيمان في عتق الرقبة ، لأن مرجع الشرطية إلى تقيد الواجب بقيد زائد وانبساط الأمر على التقيد كما تقدم في محله ، فالشك فيها شك في الأمر بالتقيد المذكور زائدا على الأمر بذات المقيد وهو من الدوران بين الأقل والأكثر بلحاظ ما يدخل في العهدة وان لم يكن كذلك بلحاظ حد الواجب أو الوجوب ، وهذا يعني انحلال العلم الإجمالي انحلالا حقيقيا إلى علم تفصيلي بالأقل وشك بدوي بالزائد بلحاظ ما يدخل في العهدة فتجري البراءة عنه.

ثم ان للمحقق العراقي ( قده ) تفصيلا في جريان البراءة بين ما إذا كان الشرط للمتعلق أو لمتعلق المتعلق ، ولكن بعد التأمل في بيانه يظهر ان مرد كلامه إلى ان الشرطية المحتملة على تقدير ثبوتها تارة تتطلب من المكلف عند الإتيان بالأقل ان يكمله ويضم إليه شيئا ، وأخرى تتطلب منه ان ينصرف عما فعله رأسا ويلغيه ويأتي بفرد آخر واجد للشرط. مثال الأول ان يعتق رقبة كافرة فان شرطية الإيمان في عتق الرقبة تتطلب منه ان يجعلها مؤمنة ، وحيث ان جعل الكافر مؤمنا ممكن فالشرطية لا تقتضي إلغاء الأقل رأسا بل تكميله وذلك بان يجعل الكافر مؤمنا عند عتقه له فيعتقه وهو مؤمن ـ وكل شروط المتعلق من هذا القبيل بحسب الحقيقة ـ ومثال الثاني ان يطعم فقيرا غير هاشمي ، فان شرطية الهاشمية تتطلب منه إلغاء ذلك رأسا وصرفه إلى الإتيان بفرد جديد من الإطعام ، لأن غير الهاشمي لا يمكن جعله هاشميا ، ففي الحالة الأولى تجري البراءة عن الشرطية المشكوكة ، لأن مرجع الشك فيها إلى الشك في إيجاب ضم أمر زائد على ما أتى أو يريد ان يأتي به في الخارج ، وهو معنى العلم

٣٥٢

بوجوب الأقل والشك في وجوب الزائد فالأقل محفوظ على كل حال والشك في الزائد.

وفي الحالة الثانية لا تجري البراءة عن الشرطية ، لأن الشك بحسب الحقيقة في وجوب هذا الفعل أو الفعل الآخر الّذي ليس الأقل محفوظا فيه على كل حال فليس الشك في وجوب ضم امر زائد إلى ما أتى أو يريد ان يأتي به في الخارج ليكون من الدوران بين الأقل والأكثر.

ويرد عليه : ان الميزان في ملاحظة الدوران كما وضحناه فيما سبق انما هو عالم الجعل وتعلق الوجوب لا عالم التطبيق والامتثال في الخارج ، وفي عالم الوجوب يكون الدوران بين الأقل والأكثر في كلتا الحالتين لأن ذات الطبيعي معروض للوجوب جزما ويشك في عروضه على التقيد فتجري البراءة عنه.

ولا يختلف الحال في جريان البراءة عند الشك في الشرطية ووجوب التقيد بين ان يكون القيد المشكوك أمرا وجوديا وهو ما يعبر عنه بالشرط عادة أو عدم أمر وجودي وهو ما يعبر عنه بالمانع ، فكما لا يجب على المكلف إيجاد ما يحتمل شرطيته كذلك لا يجب عليه الاجتناب عما يحتمل مانعيته وذلك لما تقدم من الانحلال الحقيقي بلحاظ عالم الوجوب بالمقدار الداخل في عهدة المكلف.

٣ ـ الدوران بين التعيين والتخيير :

إذا دار امر الواجب بين التعيين والتخيير ، فتارة يكون التخيير عقليا ، وأخرى شرعيا ، فالبحث في مقامين :

المقام الأول : في الدوران بين التعيين والتخيير العقلي ، بان يعلم بوجوب متعلق بعنوان خاص أو بعنوان آخر أعم منه صدقا ، كما إذا علم بوجوب الإطعام اما لطبيعي الحيوان أو لنوع خاص منه كالإنسان فان الحيوان مباين مع الإنسان مفهوما ولكنه أعم منه صدقا.

والتحقيق هنا التفصيل بين الحالتين في ملاك الانحلال وان كانت النتيجة الأصولية واحدة فيهما. وتوضيح ذلك : ان التغاير بين المفهومين تارة يكون على أساس الإجمال والتفصيل في اللحاظ كما في الجنس والنوع فان الجنس مندمج في النوع ومحفوظ فيه ولكن بنحو اللف والإجمال. وأخرى يكون التغاير في ذات الملحوظ لا في

٣٥٣

مجرد إجمالية اللحاظ وتفصيليته ، كما لو علم بوجوب إكرام زيد كيف ما اتفق أو بوجوب إطعامه بالخصوص فان مفهوم الإكرام ليس محفوظا في مفهوم الإطعام انحفاظ الجنس في النوع.

فالحالة الأولى تدخل في نطاق الدوران بين الأقل والأكثر حقيقة بلحاظ الوجوب بالمقدار الداخل في العهدة وليست من الدوران بين المتباينين ، لأن تباين المفهومين انما هو بالإجمال والتفصيل وهما من خصوصيات اللحاظ وحدوده التي لا تدخل في العهدة وانما يدخل فيها ذات الملحوظ وهو مردد بين الأقل ـ وهو الجنس ـ أو الأكثر ـ وهو النوع.

واما الحالة الثانية فالتباين فيها بين المفهومين ثابت في مرحلة ذات الملحوظ لا في كيفية لحاظهما ، ومن هنا يكون الدوران فيها بين متباينين وان كان الإتيان بأحدهما يساوق الإتيان بالآخر لكونه أخص منه ، وهذا يعني ان العلم الإجمالي ثابت غير منحل حتى بلحاظ ما يدخل في العهدة ، ولكن مع هذا تجري البراءة عن وجوب أخص العنوانين صدقا للانحلال الحكمي بالتقريب المتقدم في الجواب الأخير على المانع الأول أي ان البراءة عن وجوب الأخص لا يعارض بالبراءة عن وجوب الأعم إذ ليس للبراءة عن الأعم دور معقول لكي تصلح للمعارضة ، إذ لو أريد بها التأمين في حالة ترك الأعم مع الإتيان بالأخص فهو غير معقول ، لأن نفي الأعم يتضمن نفي الأخص لا محالة ، وان أريد بها التأمين في حالة ترك الأعم بما يتضمنه من ترك الأخص فهذا مستحيل ، لأن المخالفة القطعية ثابتة في هذه الحالة والأصل العملي انما يؤمن عن المخالفة الاحتمالية لا القطعية.

وهذا البيان ـ كما تقدمت الإشارة إليه ـ يختص بمسلك الاقتضاء ولا يتم بناء على علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة لعدم انحلاله حقيقة ، ولا يجدي فيه الانحلال بلحاظ عالم التطبيق والامتثال وان أحدهما امتثاله لا ينفك عن الآخر فيكون الدوران بلحاظ ما لا بد من الإتيان به خارجا بين الأقل والأكثر لما عرفت من ان الميزان ملاحظة عالم الوجوب الشرعي وما تعلق به لأنه الّذي يدخل في العهدة وبلحاظه يكون الأمر دائرا بين مفهومين متغايرين فيكون احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على الأخص منجزا عقلا لا محالة ، وهذه من الفروق المهمة بين المسلكين.

٣٥٤

كما ان من يرى ارتفاع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان بنفس العلم الإجمالي أيضا لا بد له ان يفصل في المقام فيقول بالبراءة الشرعية دون العقلية لأن العلم الإجمالي ثابت وغير منحل.

المقام الثاني ـ في الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي. ونتكلم في حكم هذا الدوران على كل واحد من المباني المعروفة في تصوير حقيقة التخيير الشرعي فنقول : المبنى الأول ـ ما هو المعروف من ان مرجع التخيير الشرعي إلى وجوبين مشروطين وشرط كل منهما ترك متعلق الآخر ، فالعتق واجب مشروط بترك الإطعام وكذلك الإطعام مشروط بترك العتق وبناء على هذا يكون مرجع الدوران إلى العلم بوجوب العتق في حال ترك الإطعام والشك في وجوبه حال فعل الإطعام ، أي الشك في ان وجوب العتق وجوب مطلق أو مشروط فينحل إلى العلم بوجوب العتق في حال تحقق الشرط والشك فيه في حال عدم تحققه ، فتجري البراءة عنه وينتج عن ذلك التخيير.

وفي قبال هذا البيان الساذج للانحلال توجد محاولتان لإثبات التعيين :

إحداهما ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من ان الوجوب التخييري وان كان مشروطا بعدم الإتيان بمتعلق الآخر الا انه مشروط به بقاء لا حدوثا ، فوجوب العتق مثلا ثابت من أول الأمر غاية الأمر يشك في سقوطه بالإطعام وعدمه والشك في السقوط مجرى أصالة الاحتياط.

ويرد عليه : أولا ـ لا وجه لافتراض الشرطية بقاء فقط بل الغاية من الواجب التخييري تحصل بجعل الوجوب مشروطا من أول الأمر بحيث يستكشف عدم ثبوت وجوب العتق لمن أطعم ستين مسكينا ويكفينا في المقام احتمال ذلك.

وثانيا ـ لو سلمنا الجزم بان الشرطية في مرحلة البقاء فقط مع ذلك نقول ان البراءة لا تختص بموارد الشك في حدوث التكليف بل تجري في موارد الشك في التكليف بقاء أيضا ، لأنه مهما كان الشك في سعة التكليف سواء كان في مرحلة الحدوث أو البقاء جرت البراءة عنه ـ بقطع النّظر عن مسألة الاستصحاب ـ لإطلاق دليلها ولا مبرر لتخصيصها بموارد الشك في حدوث تكليف ، نعم في موارد الشك في الامتثال لا تجري البراءة لعدم الشك بحسب الحقيقة في الفعلية بل في الفاعلية ، ولو فرض سقوط الفعلية بالامتثال فانما يقال بعدم شمول دليل البراءة لموارد الشك في السقوط إذا كان من

٣٥٥

ناحية الامتثال لا من ناحية احتمال ضيق أصل الجعل كما في المقام.

الثانية ـ ما أفاده المحقق العراقي ( قده ) من إبراز علم إجمالي غير منحل وهو العلم بوجوب العتق تعيينا أي عدم جواز تركه أو عدم جواز ضم ترك الإطعام إلى ترك العتق ، فان الواجب إذا كان تخييرا فالمخالفة انما تكون بضم ترك أحدهما إلى ترك الآخر وهذا يعني ان كلا من الوجوب التعييني للعتق والوجوب التخييري فيه حيثية إلزامية يفقدها الآخر ، اما الحيثية الإلزامية في الوجوب التعييني للعتق فهي الإلزام بالعتق حتى ممن أطعم وهي حيثية لا يشتمل عليها الوجوب التخييري ، واما الحيثية الإلزامية في الوجوب التخييري للعتق والإطعام فهي تحريم ضم ترك الإطعام إلى ترك العتق إذ بهذا الضم تتحقق المخالفة ، وهي حيثية لا يشتمل عليها الوجوب التعييني لأحدهما ، إذ على الوجوب التعييني تكون المخالفة متحققة بنفس ترك ذاك الواجب ولا ضير في ضم ترك الآخر إليه لأنه من ضم ترك المباح إلى ترك الواجب فيتشكل علم إجمالي بأحد الإلزامين وتكون البراءة عن وجوب العتق ممن أطعم معارضة بالبراءة عن حرمة ترك الإطعام ممن ترك العتق.

وهذا الوجه وان كان متينا في المنع عن الانحلال الحقيقي ولكنه يبقى هذا العلم الإجمالي غير منجز بملاك الانحلال الحكمي المتقدم ، لأن البراءة عن وجوب العتق لمن أطعم لا تعارض بالبراءة الثانية لأن فرض جريان البراءة الثانية هو فرض وقوع المخالفة القطعية ولا يعقل التأمين مع فرض المخالفة القطعية ، بخلاف فرض جريان البراءة الأولى فانه فرض المخالفة الاحتمالية.

المبنى الثاني ـ ما اختاره صاحب الكفاية في بعض موارد الواجب التخييري من ان مرجع الوجوب التخييري إلى وجود غرضيين لزوميين فعليين للمولى غير انهما متزاحمان في مقام التحصيل بمعنى ان استيفاء أحدهما يعجز المكلف من استيفاء الآخر ومن هنا يحكم المولى بوجوب كل من الفعلين مشروطا بترك الآخر ، والصحيح بناء على هذا المبنى وجوب الاحتياط ، لأن مرجع الشك في وجوب العتق تعيينا أو تخييرا إلى الشك في ان الإطعام هل يعجز عن استيفاء الغرض اللزومي من العتق أم لا ، فيكون من الشك في القدرة الّذي تجري فيه أصالة الاشتغال.

المبنى الثالث ـ ما اختاره جملة من المحققين من رجوع التخيير الشرعي إلى التخيير

٣٥٦

العقلي بمعنى ان الواجب عنوان أحدهما ، وهنا قد يقال بان الصحيح انحلال الوجوب بلحاظ ما يدخل في العهدة ، حيث يعلم بوجوب أحدهما ويشك في وجوب الخصوصية التعيينية فتجري عنه البراءة.

الا ان هذا بحسب الحقيقة خلط بين عنوان أحدهما وواقع أحدهما ، فان الواجب على تقدير التعيينية واقع أحدهما وعلى تقدير التخييرية عنوان أحدهما الانتزاعي وهما متغايران في المفهوم وليس حالهما حال الجنس والنوع من الجوامع الحقيقية الذاتيّة حيث يعبران عن مفهوم واحد غاية الأمر يختلفان في كيفية اللحاظ ، فالانحلال الحقيقي في المقام غير تام ، وانما الصحيح هو الانحلال الحكمي بالتقريب المتقدم (١).

المبنى الرابع ـ ما اختاره المحقق العراقي ( قده ) من إرجاع الوجوب التخييري إلى عدة وجوبات بعدد البدائل مع فرض ضيق في جانب الوجوب كما هو على المبنى الأول ولكن لا بنحو التعليق والاشتراط في نفس الوجوب بل في المتعلق بان يكون الواجب بعض مراتب وجود المتعلق أي سد بعض أبواب عدمه وهي أبواب عدمه المقارنة مع عدم العدل الآخر.

وحكم المسألة بناء على هذا المبنى ما تقدم على المبنى الأول من رجوعه إلى الشك في وجوب سد باب عدم العتق مطلقا أو في خصوص حال عدم الإطعام فتجري البراءة عن وجوبه في غير هذا الحال ولا يعارض بالبراءة عن حرمة ضم ترك الإطعام إلى تركه كما تقدم توضيحه ، فحال هذا المبنى حال المبنى الأول.

__________________

(١) قد يقال : ان الّذي يدخل في العهدة ليس هو المفهوم بما هو مفهوم بل بما هو حال عن الخارج ، فمحكي العنوان المتعلق به الوجوب هو الّذي تشتغل به العهدة والا كان عنوان مجموع العشرة غير عنوان مجموع التسعة في باب الاجزاء والشرائط أيضا ، فإذا ضممنا إلى ذلك ان عنوان أحدهما من العناوين الرمزية المحضة أي التي لا تتحمل مفهوما ماهويا خاصا ـ على ما تقدم في مواضع عديدة ـ كانت النسبة بين محكيه ومحكي واقع أحدهما المعين الأقل والأكثر لا محالة فيكون الانحلال بلحاظ ما يدخل في العهدة حقيقيا هنا أيضا. ولا نقصد بذلك ان هذا الجامع الرمزي لا يحمل أي معنى ولا يكشف عن أي تغير واقعي كي يقال بكاشفيته عن واقعية ثابتة في حالة الصدق ومنتفية في حالة الكذب ، بل المقصود ان محكي هذا الجامع الرمزي جامع وجودي أو إشاري ورمزي مشترك مع المفهوم الخاصّ التعييني في الواقعية وإن لم يكن جزء من ماهياته التحليلية ، فان الّذي تشتغل به العهدة انما هو المحكي بهذا المعنى لا بمعنى المفاهيم الماهوية التحليلية.

٣٥٧
٣٥٨

ملاحظات عامة حول الأقل والأكثر

بعد الفراغ عن أصل جريان البراءة في موارد الدوران بين الأقل والأكثر بأقسامه الثلاثة ينبغي تسجيل ملاحظات عامة في ختام هذا البحث ، وذلك ضمن نقاط عديدة :

١ ـ التمسك بالاستصحاب في الدوران بين الأقل والأكثر :

قد يتمسك بالاستصحاب في موارد هذا الدوران تارة لإثبات وجوب الاحتياط والإتيان بالأكثر ، وأخرى لإثبات البراءة وجواز الاكتفاء بالأقل.

اما تقريب الاستصحاب لإثبات الاحتياط فبان المكلف بعد الإتيان بالأقل يشك في ان الوجوب المعلوم هل سقط أم لا يزال باقيا ، فانه إذا كان متعلقا بالأقل فهو قد زال جزما وإذا كان متعلقا بالأكثر فهو باق يقينا فنجري استصحاب الوجوب الجامع بين الفرد القصير والطويل وهو من القسم الثاني من استصحاب الكلي.

وقد نوقش فيه بوجهين :

أحدهما ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من عدم جريان الاستصحاب في موارد الشك في الاشتغال ، لأنه إن أريد به إثبات الفرد الطويل فهو من الأصل المثبت ، وان أريد به إثبات الاشتغال ووجوب الاحتياط فهو ثابت وجدانا في موارد الشك في

٣٥٩

الاشتغال فلا معنى للتعبد به.

وهذا الوجه لو تم في موارد الدوران بين المتباينين فلا يتم في المقام ، لأن الاشتغال غير ثابت فيه بالوجدان لو لا هذا الاستصحاب.

الثاني ـ ما ذكره في الدراسات من ان أصالة عدم الفرد الطويل ـ أي وجوب الأكثر ـ حاكم على هذا الاستصحاب ومؤمن من ناحية الوجوب المعلوم على تقدير كونه الأكثر ، ونظر ما نحن فيه بما إذا كان شخص محدثا بالأصغر وخرج منه بلل مشتبه فانه لا إشكال فقهيا في عدم وجوب الغسل عليه بعد إتيانه بالوضوء لمجرد احتمال بقاء الحدث المعلوم بالإجمال وذلك لجريان استصحاب عدم كونه محدثا بالأكبر المنقح لوجوب الوضوء عليه.

وهذا الإشكال يحتمل فيه أحد تعبيرين :

التعبير الأول ـ حكومة استصحاب عدم الفرد الطويل على استصحاب الجامع في المقام لعدم معارضته باستصحاب عدم الفرد القصير كما في موارد التردد بين الحدث الأصغر والأكبر لمن كان متطهرا قبل ذلك.

وهذا التعبير واضح الضعف ، لأن ترتب الجامع على الفرد إثباتا ونفيا ليس ترتبا شرعيا بل عقلي فلا معنى لافتراض حكومة الأصل النافي للفرد الطويل على استصحاب الجامع.

التعبير الثاني ـ اننا باستصحاب عدم جعل الوجوب على الأكثر نثبت الأقل من باب ثبوت أصل جعل الوجوب على الفعل وانما الشك في تقييده بالزائد فيكون من موارد إحراز جزء الموضوع بالوجدان وجزئه الآخر بالتعبد.

وهذا التعبير أولا : لا ينسجم مع مباني السيد الأستاذ التي تقدمت الإشارة إليها في مناقشته مع المحقق النائيني حينما ادعى التفصيل بين البراءتين العقلية والشرعية حيث أفاد هناك بان الإطلاق امر وجودي لا يثبت بالأصل.

وثانيا ـ لو سلمنا بان الإطلاق امر عدمي فغاية ما يثبت بهذا الأصل وجود الفرد القصير لا ان الجامع الموجود يكون في ضمن الفرد القصير ، فان هذا لازم عقلي.

واما تنظيره للمقام بموارد البلل المشتبه الخارج من المحدث بالأصغر فغير فني أيضا ، لأنه في هذا المثال توجد نكتة فقهية خاصة توجب جريان استصحاب عدم الحدث

٣٦٠