بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

والطويل ، وبذلك يستنتج من مجموع كلامه في الكفاية والحاشية انه بملاحظة العلم الإجمالي المردد بين القصير والطويل لا فرق بين الاضطرار والتلف ولكن مع قطع النّظر عنه يكون الاضطرار مسقطا لمنجزية العلم مطلقا بخلاف التلف فانه انما يسقطها إذا كان مقارنا أو قبل العلم.

وقد عرفت ان التفصيل المذكور مطرد في تمام موارد سقوط التكليف على تقدير كونه في أحد الطرفين بعينه سواء كان بالاضطرار أو التلف أو الامتثال أو العصيان بنكتة واحدة وهو العلم الإجمالي المردد بين القصير والطويل ومع الغض عنه لا منجزية في تمام موارد السقوط.

الا انه ربما يمكن ذكر وجه لعدم سقوط المنجزية في فرض تلف أحد الأطراف والإتيان به بخلاف الاضطرار والعسر والحرج مما يكون فيه دليل شرعي على تخصيص الخطابات ورفعها بإبراز فرق بينهما من حيث ان المخصص في الأول عقلي وفي الثاني شرعي فيدعى ان المخصص إذا كان عقليا فهو يرفع الخطاب فقط بدون الملاك بخلاف المخصص الشرعي فانه كما يكشف عن عدم الخطاب يكشف عن عدم الملاك أيضا وعليه يكون الملاك محرزا في الأول والشك في القدرة على حفظه لأن عروض التلف على أحد الطرفين يرفع القدرة عقلا على تحقيق الملاك لو كان فيه فيدخل في باب الشك في القدرة الّذي يجب فيه الاحتياط عقلا.

الا انه يرد على هذا الوجه حتى لو سلمت أصوله الموضوعية.

أولا ـ انه لو تم لجرى في موارد تقارن التلف مع العلم الإجمالي أو تقدمه عليه أيضا.

وثانيا ـ انه لا يتم الا في باب الواجبات لا المحرمات التي يطلب فيها الترك فان القدرة على الامتثال موجودة فيها وانما الشك في القدرة على العصيان كما إذا كان الحرام في الطرف التالف وليس الشك فيه موجبا للاحتياط عقلا.

وثالثا ـ ان الّذي يحكم به العقل عدم مؤمنية احتمال العجز وعدم القدرة على الامتثال في مورد يقطع بوجود الملاك فيه واما مع احتمال عدم الملاك في الموارد المقدور فلا بأس بالرجوع فيه إلى الأصل المؤمن عقلا أو شرعا لأنه من الشك في أصل التكليف بحسب الحقيقة والعلم الإجمالي بوجود الملاك في الجامع بين ما يكون غير

٢٨١

مقدور أو مقدور تقدم انه لا يكون منجزا.

الثالث ـ إذا طرأ الاضطرار بعد العلم بالتكليف فإذا كان إلى طرف معين قلنا انه لا يوجب سقوط منجزية العلم الإجمالي لوجود العلم الإجمالي المردد بين القصير والطويل من أول الأمر ، واما إذا كان الاضطرار إلى طرف لا بعينه وقلنا بمقالة المحقق الخراسانيّ من ان الاضطرار إلى طرف لا بعينه يوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية فهل يحكم بالمنجزية أيضا كما كنا نقول به ويقول به المحقق الخراسانيّ ( قده ) أيضا في حاشيته على الكفاية باعتبار العلم الإجمالي المردد بين القصير والطويل أم لا؟ الصحيح التفصيل بين حالتين :

الحالة الأولى ـ ما إذا كان الطرف الّذي يختاره لدفع اضطراره متعينا معلوما عنده من أول الأمر كما إذا فرض ان أحد الإناءين أنظف من الآخر فانه سوف يتشكل لديه نفس العلم الإجمالي المردد بين القصير في الطرف الّذي سوف يختاره بعد الاضطرار أو الطويل في الطرف الآخر.

الحالة الثانية ـ ما إذا لم يكن الطرف الّذي سوف يختاره لدفع الضرورة بعد الاضطرار متعينا لديه من أول الأمر فانه حينئذ لا يمكنه ان يشكل علما إجماليا كذلك لأن الفرد الّذي سوف يختاره لدفع الاضطرار غير متعين عنده وانما يعلم إجمالا بحرمة أحد الفردين عليه قبل الاضطرار ويشك في ان هذه الحرمة هل تكون مختصة بما قبل الاضطرار أي قصيرة أو تبقى بعد الاضطرار أيضا أي طويلة وهذا من الشك في التكليف الدائر بين الأقل والأكثر الّذي تجري فيه البراءة عن الأكثر. نعم بعد ان رفع الاضطرار بأحدهما يعلم إجمالا بحرمة الفرد الآخر الآن أو حرمة الفرد الّذي رفع به اضطراره قبل الاضطرار الا ان هذا علم إجمالي حاصل بعد خروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء فلا يكون منجزا (١).

__________________

(١) لا يقال : ولكنه يعلم إجمالا من أول الأمر بحرمة أحد الفردين بالعنوان الإجمالي اما ما يرفع به اضطراره فيما بعد ـ المعين في الواقع ـ قبل الاضطرار أو حرمة ما يبقى من الفردين بعد رفع الاضطرار في تمام عمود الزمان وهو من العلم الإجمالي بين فردين قصير وطويل وهو منجز.

فانه يقال : يمكن ان يجاب على هذا الإشكال بأحد جوابين :

الأول ـ ان غاية ما يلزم من ذلك سقوط الأصلين الترخيصين في العنوانين الإجماليين واما جريان الأصل الترخيصي في الطرف الباقي بعنوانه التفصيليّ والّذي هو إطلاق آخر لدليل الأصل ـ لأن الشك في العنوان التفصيليّ فرد آخر لدليل الأصل غير

٢٨٢

١١ ـ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء :

المراد بالخروج عن محل الابتلاء حالات عدم صدور الفعل بحسب طبعه عن المكلف لتوقفه على مقدمات وعنايات فائقة أو طويلة بحيث يرى كأنه غير مقدور عرفا وان كان مقدورا عقلا كما في استعمال كأس في بلد لا يصل إليه عادة أو تتنفر الطباع عن الإقدام عليه كما في أكل الخبائث مثلا ، والجامع ان يضمن انصراف المكلف عن

__________________

الشك الإجمالي ـ فلا وجه لسقوطه فيشمله دليل الأصل المؤمن ويكفي ان يجري التأمين في مورد بأحد العنوانين المنطبقين عليه ولا يشترط جريانه عن جميع العناوين ، نعم بناء على مسلك علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية تكون الحرمة المعلومة في أحد الطرفين بهذا العنوان الإجمالي مما يجب الفراغ اليقيني عنه ولا يمكن جريان التأمين عنه حتى بعنوان آخر تفصيلي غير متعارض فيجب الاجتناب عن الطرف الباقي.

الثاني ـ ان الفرد القصير أعني ما سوف يرفع اضطراره به عنوان إجمالي لا يمكن اقتحامه ومخالفته الا بارتكاب الطرفين لأنه صالح للانطباق على كل منهما وهذا يعني ان مخالفة أحد طرفي العلم الإجمالي بنفسها مخالفة قطعية لا يجري الترخيص الشرعي فيه في نفسه فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض اما على مسلك الاقتضاء فواضح واما على مسلك العلية فلتنجز أحد طرفيه بمنجز آخر والمتنجز لا يتنجز والعلم الإجمالي لا بد وان يكون صالحا لتنجيز كلا طرفيه في عرض واحد.

وكلا الوجهين قابل للمناقشة : اما الثاني فلان العنوان الإجمالي القصير المفروض تعينه واقعا والشك في حرمته فيصح التأمين عنه وكون إحراز ارتكابه لا يكون الا بارتكاب الطرفين الّذي يكون مخالفة قطعية لا يمنع عن صحة التأمين عنه بعنوانه الإجمالي كما لا يعني تنجز حرمة الواقعية المحتملة فان هذه المخالفة القطعية نشأت بلحاظ ضمن الفرد الآخر إليه لا بلحاظ القطع بحرمة نفس ذلك الفرد الّذي هو مصب التأمين ، وان شئت قلت : يكفي جريان الأصل بالعنوان الإجمالي لنفي التبعة الزائدة بلحاظه لو اقتحم الطرفين ولو فرض ان إحراز اقتحامه ملازم مع اقتحام شيء آخر يقطع بالمخالفة في أحدهما فان إمكان إحراز الاقتحام بلا وقوع مخالفة قطعية ليس شرطا في جريان الأصل المؤمن وانما الشرط إمكان الاقتحام بدونه واقعا وهذا حاصل في المقام.

واما الأول ـ فلان الأصل في كل من الطرفين بالعنوان التفصيليّ بلحاظ ما بعد رفع الاضطرار أيضا طرف للمعارضة في هذا العلم الإجمالي غاية الأمر لا تشخيص للمتعارضين لا للمعارضة. توضيح ذلك : ان الأصل في كل من الإناء الأسود والأحمر بحسب الحقيقة له معارضان من أول الأمر ، أحدهما الأصل الجاري في الآخر بلحاظ الآن ، والآخر الأصل الجاري فيه بلحاظ ما بعد رفع الاضطرار إذا كان باقيا وهذا الأخير وان كان تقديريا مشروطا الا ان تحقق الشرط في أحدهما محرز بحسب الفرض فيعلم ان أحد الأصلين المشروطين الجاريين في الطرفين بالعنوان التفصيليّ معارض بالأصل في الطرف الآخر وهذا المقدار كاف في تحقق الإجمالي والتعارض في إطلاق دليل الأصل الترخيصي سواء كان ذلك بملاك عقلي هو قبح الترخيص في المخالفة القطعية أو بملاك عقلائي هو ارتكاز المناقضة مع الحرمة المعلومة ، لأنه لا يشترط في التعارض تشخيص طرفي المعارضة بعد إحراز أصل التعارض وانما الّذي ينفع عدم إحراز أصل التعارض.

هذا مضافا : إلى ورود النقض بما إذا بنى المكلف على إتلاف أحد الطرفين لا بعينه بعد حصول العلم الإجمالي له بحرمة أحدهما أو احتمل ان أحد الطرفين لا على التعيين لديه سوف يتلف من نفسه أو يضطر إلى ارتكابه فانه في كل ذلك ينبغي ان يقال بعدم منجزية العلم الإجمالي بعد التلف لا بلحاظ مرحلة البقاء لأنه لا يعلم بالتكليف الفعلي بقاء ولا بلحاظ الفرد القصير والطويل لأن الأصل في الطرف الباقي بعنوانه التفصيليّ لا يعارض بالأصل في الطرف التالف بلحاظ ما قبل تلفه لكونه عنوانا إجماليا مرددا بين الطرفين صالحا للانطباق على كل منهما.

٢٨٣

الفعل بحسب الطبع الأولي والنوعيّ للناس بقطع النّظر عن عناية أو خصوصية زائدة فيكون بحكم العاجز عنه عرفا وان لم يكن عاجزا حقيقة.

وقد وقع البحث عند المحققين عن منجزية العلم الإجمالي بحرمة واقعة خارجة عن محل الابتلاء أو حرمة واقعة أخرى داخلة في محل الابتلاء ، ولتفصيل البحث حول هذا الأمر ينبغي الحديث في مقامين :

المقام الأول ـ فيما إذا كان بعض أطراف العلم الإجمالي بالحرمة غير مقدور حقيقة.

المقام الثاني ـ فيما إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء.

ومفروض البحث في المقامين مقارنة العجز الحقيقي أو العرفي مع العلم أو تقدمه عليه واما إذا حصل العجز بعد العلم الإجمالي فقد عرف حكمه مما سبق في بحث الاضطرار.

اما البحث المقام الأول ـ كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد مائعين مثلا وكان أحدهما مما لا يقدر المكلف عقلا على الوصول إليه ـ فلا إشكال في عدم منجزية هذا العلم الإجمالي.

ويستند المحققون في وجه ذلك عادة إلى ان مثل هذا العلم الإجمالي لا يكون علما بتكليف فعلي فالركن الأول منتف لأن النجس إذا كان هو المائع الّذي لا يقدر عليه المكلف فليس موضوعا للتكليف إذا التكليف مشروط بالقدرة لا محالة فلا علم إجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير وانما يشك في وجوده لاحتمال كون النجس في الطرف المقدور.

وكأن هذا التقريب حصل انسياقا مع ما يذكر في بحث الاضطرار فجعلوا الاضطرار العقلي إلى ترك الحرام كالاضطرار العقلي إلى فعله فكما لا ينجز العلم الإجمالي مع الاضطرار إلى ارتكاب طرف معين منه كذلك لا ينجز مع الاضطرار إلى تركه لأن التكليف مشروط بالقدرة وكل من الاضطرارين يساوق انتفاء القدرة فلا يكون التكليف ثابتا على كل تقدير.

والتحقيق : ان الاضطرارين يتفقان في نقطة ويختلفان في أخرى ، فهما يتفقان في عدم صحة توجه النهي والزجر معهما فكما لا يصح ان يزجر المضطر إلى شرب المائع عن شربه كذلك لا يصح زجر من لا يتمكن من شربه وهذا يعني انه لا علم إجمالي بالنهي

٢٨٤

في كلتا الحالتين ، ولكنهما يختلفان بلحاظ مبادئ النهي من المفسدة والمبغوضية فان الاضطرار إلى الفعل يشكل حصة من وجود الفعل مغايرة للحصة التي تصدر من المكلف بمحض اختياره فيمكن ان يفترض ان الحصة الواقعة عن اضطرار كما لا نهي عنها لا مفسدة ولا مبغوضية فيها وانما المفسدة والمبغوضية في الحصة الأخرى.

واما الاضطرار إلى ترك الفعل والعجز عن ارتكابه فلا يشكل حصة خاصة من وجود الفعل على النحو المذكور فلا معنى لافتراض ان الفعل غير المقدور للمكلف ليس واجدا لمبادئ الحرمة وانه لا مفسدة فيه ولا مبغوضية ، إذ من الواضح ان فرض وجوده مساوق لوقوع المفسدة وتحقق المبغوض فكم فرق بين من هو مضطر إلى أكل لحم الخنزير لحفظ حياته ومن هو عاجز عن أكله لوجوده في مكان بعيد عنه فأكل لحم الخنزير عن اضطرار إليه قد لا يكون فيه مبادئ النهي أصلا فيقع من المضطر بدون مفسدة ولا مبغوضية واما أكل لحم الخنزير البعيد عن المكلف فهو واجد للمفسدة والمبغوضية لا محالة وعدم النهي عنه لا لأن وقوعه لا يساوق الفساد بل لأنه لا يمكن ان يقع ، ونستخلص من ذلك ان مبادئ النهي يمكن ان تكون منوطة بعدم الاضطرار إلى الفعل ولكن لا يمكن ان تكون منوطة بعدم العجز عن الفعل ، وعليه ففي حالة الاضطرار إلى الفعل في أحد طرفي العلم الإجمالي يمكن القول بأنه لا علم إجمالي بالتكليف لا بلحاظ النهي ولا بلحاظ مبادئه ، واما في حالة الاضطرار بمعنى العجز عن الفعل في أحد طرفي العلم الإجمالي فالنهي وان لم يكن ثابتا على كل تقدير ولكن مبادئ النهي معلومة الثبوت إجمالا على كل حال وهو كاف في التنجيز لأن ما يدخل في العهدة انما هو روح الحكم وان لم يجعل المولى خطابا على طبقه لعدم الحاجة إليه أو لاستهجانه فالركن الأول ثابت لأن العلم الإجمالي بالتكليف يشمل العلم الإجمالي بمبادئه ويجب ان يفسر عدم التنجيز على أساس اختلال الركن الثالث أي ان الأصل المؤمن يجري في الطرف المقدور بلا معارض إذ لا معنى لجريانه في الطرف غير المقدور لأن إطلاق العنان تشريعا في مورد تقيد العنان تكوينا لا محصل له فينحل العلم الإجمالي حكما هذا على مسلك الاقتضاء واما على مسلك العلية فائضا لا يكون العلم الإجمالي منجزا لأنه ليس صالحا لتنجيز معلومه على كل تقدير لأن التنجيز هو الدخول في العهدة عقلا والطرف غير المقدور كما لا يعقل تعلق الخطاب به لا يعقل تنجزه ودخوله في العهدة عقلا

٢٨٥

ويشترط عند أصحاب هذا المسلك ان يكون العلم الإجمالي منجزا لكلا الطرفين (١).

واما البحث في المقام الثاني ـ وهو ما إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي خارجا عن محل الابتلاء. فقد ذهب المشهور إلى عدم منجزية العلم الإجمالي فيه وخالف في ذلك الأستاذ ، وقد ربطوا ذلك إثباتا ونفيا باشتراط الدخول في محل الابتلاء في صحة التكليف ، فالذين أنكروا منجزية هذا العلم استندوا في ذلك إلى ان الدخول في محل الابتلاء شرط في التكليف فلا علم إجمالي بالتكليف مع خروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء ، والسيد الأستاذ حيث أنكر اشتراط التكليف بالدخول في محل الابتلاء أقر منجزية العلم الإجمالي. وسوف يتضح ان عدم منجزية هذا العلم الإجمالي لا يرتبط بهذه المسألة أصلا بل حتى على القول بفعلية التكليف في موارد الخروج عن محل الابتلاء كما هو الصحيح على ما سوف يظهر لا يكون هذا العلم الإجمالي منجزا.

وتفصيل الكلام في ذلك.

__________________

(١) قد يقال : إذا لم يتحصص الفعل إلى حصتين مقدور وغير مقدور جرى ذلك في طرف الواجب المردد بين طرفين أحدهما غير مقدور للمكلف مع انه لا إشكال في عدم تمامية الركن الأول من أركان العلم الإجمالي فيه.

فانه يقال : في طرف الوجوب يمكن ان تكون القدرة شرطا في الاتصاف بحيث من دونها لا حاجة للمولى إلى الفعل فلا محبوبية لا ان المحبوب لا يتحقق وهذا بخلاف الحرام أو المبغوض فان القدرة عليه التي تعني القدرة على العصيان لا يمكن ان تكون دخيلة لا في المبغوض ولا في البغض ، نعم يمكن ان تكون الحصة الاختيارية لا الاضطرارية هي المبغوضية الا ان هذا معناه بحسب الحقيقة ان القدرة على امتثال الحرمة وترك الحرام دخيلة في الاتصاف كما لا يخفى.

نعم يمكن ان يناقش في تمامية الركن الأول من أركان منجزية العلم الإجمالي في المقام بأحد امرين :

الأول ـ ربما يكون الملاك في النهي من جهة المصلحة في الترك الا المفسدة في الفعل فإذا احتمل ذلك كان الشك في الاتصاف واردا بان يكون الترك غير الاضطراري القهري هو الواجد للملاك كاحتمال اختصاص الملاك بالفعل الاختياري في الواجب فلا يكون العلم بروح التكليف فعليا على كل تقدير.

الثاني ـ ان الركن الأول انما هو تعلق العلم الإجمالي بما يدخل في العهدة ويتنجز على المكلف ـ سواء كان خطابا أو ملاكا ـ فإذا كان العجز مانعا عن الخطاب الشرعي كان مانعا لا محالة عن حكم العقل بالتنجيز وحق الطاعة ـ كما اعترف به سيدنا الأستاذ قدس‌سره في تخريج عدم المنجزية في المقام على مسلك العلية ـ ومعه لا يكون العلم الإجمالي في المقام علما إجماليا بما يدخل في العهدة ويقبل التنجيز على كل تقدير بل بلحاظ ما يصلح للدخول في العهدة تكون الشبهة بدوية فلا يتوقف التأمين في المقام على اختلال الركن الثالث بل تجري حتى البراءة العقلية على القول بها.

ودعوى : انه بعد العلم بفعلية الملاك في أحد الطرفين يكون الشك في تحققه لو اقتحم الطرف المقدور فيحكم العقل بالاشتغال فيه لو لا الترخيص الشرعي.

مدفوعة : بأن المنجز عقلا ما إذا شك في تحصيل امتثال التكليف المعلوم تعلقه بفعل كما في موارد الشك في المحصل لا ما إذا كان الشك في تعلقه بالطرف المقدور أو غير المقدور كما في المقام فان هذا من الشك في التكليف وانه فيما يكون مقدورا ليكون منجزا أو فيما لا يكون مقدورا فلا يكون منجزا.

٢٨٦

ان وصف الدخول في محل الابتلاء كالعجز الحقيقي لا يمكن ان يكون دخيلا في الملاك لأن هذا الوصف لا يمكن ان يكون محصصا للفعل إلى حصة داخلة في محل الابتلاء وحصة غير داخلة فيه إذ فرض وقوعه هو فرض دخوله في محل الابتلاء لا محالة (١) ، وعليه فالملاك محرز على كل حال وهذا وحده كاف في التنجيز ولو فرض اشتراط التكليف والخطاب بوصف الدخول في محل الابتلاء لما عرفت من ان إحراز روح التكليف ومباديه يكفي في التنجيز ولو فرض عدم النهي لاستهجانه أو لغويته على ان الصحيح عدم اشتراط التكليف بمعنى الخطاب بالدخول في محل الابتلاء إذ لا وجه لذلك فانه إن ادعي استهجان إطلاق الخطاب للفقير المستضعف بالنهي عن جباية الضرائب مثلا التي هي خارجة عن محل ابتلائه ومن شئون السلاطين فمن الواضح ان هذا الاستهجان مربوط بجهات عرفية في باب المحاورة ولهذا يثبت هذا الاستهجان حتى مع تقييد النهي بالدخول في محل ابتلائه ويرتفع بافتراض الخطاب عاما وبنحو القضية الحقيقية للناس جميعا كما إذا قال لا يجوز لأحد ان يظلم.

وان ادعي لغوية الخطاب بمعنى الجعل والاعتبار أو بمعنى التحريك المولوي باعتبار ضمان عدم صدور الفعل الخارج عن محل الابتلاء فيكون صدوره من المولى عبثا ولغوا.

__________________

(١) قد تقدم المناقشة في ذلك في العجز الحقيقي. ونضيف هنا بأنا إذا سلمنا عدم التحصيص في مورد العجز العقلي فلا نسلمه في المقام لأن تحصيص الفعل بالدخول في محل الابتلاء وعدمه بنحو بحيث يكون الملاك مخصوصا بالحصة الداخلة في محل الابتلاء يتصور بأحد أنحاء.

الأول ـ ان يراد بعدم الدخول في محل الابتلاء المنافرة مع الطبع كما في أكل الخبائث فان هذه الحيثية لا إشكال في انها تصلح لتحصيص الفعل إلى حصة تصدر من المكلف على خلاف طبعه وحصة تصدر منه بمطاوعة طبعه ورغبته فيمكن ان تكون هذه الحيثية دخيلة في ملاك النهي بحيث تكون المفسدة في الفعل المطاوعي.

الثاني ـ ان تكون المفسدة والملاك في الحصة الخارجة عن محل الابتلاء والتي يكون تحقيقها بحاجة إلى مقدمات بعيدة شاقة مزاحمة مع مصلحة الترخيص لمن تحمل المشقة وفعل تلك المقدمات بحيث بعد الكسر والانكسار لا تكون المفسدة غالبة فلا ملاك في تحريمه.

الثالث ـ ان يكون الملاك والمفسدة في صدور الفعل من المكلف متكررا لا صدوره منه نادرا كما في الفعل الخارجي عن محل الابتلاء بطبعه أو بالنسبة إلى بعض المكلفين فلو فرض مثلا ان شرب التتن للغني متوفر بخلاف الفقير فانه لا يتمكن عادة من شرائه فيحرم شرب التتن على الغني دون الفقير لأن افتراض اقدامه عليه نادر لخروجه عن محل ابتلائه ولا مفسدة ملزمة في وقوع الفرد النادر.

وهكذا يظهر ان احتمال دخالة الخروج عن محل الابتلاء في الملاك والمفسدة بعنوانه أو بعنوان ملازم معه معقول في نفسه وعليه فلو فرض اشتراط التكليف به لم يكن وجه لإحراز فعلية الملاك.

٢٨٧

فالجواب : أولا ـ ان هذا لو تم فقد يتم في الخطابات الجزئية والتي فيها مئونة زائدة ولا يتم فيما إذا كان استفادة التحريم بالطلاق خطابه لحالة الخروج عن محل الابتلاء إذ ليس فيه مئونة زائدة.

وثانيا ـ يكفي فائدة للنهي والزجر تمكين المكلف من التعبد بتركه والإتيان به على وجه قربي حسن ، وقد نثبت في الفقه انه يكفي في العبادية وجود داع النهي وان انضم إليه داع آخر غير محرم.

وان ادعي استحالة الخطاب والتحريك المولوي لأنه تحصيل للحاصل فالجواب ـ مضافا إلى ما تقدم من فائدة تمكين المكلف من التعبد بتركه ان تحصيل الحاصل عبارة عن تحصيل امر في طول حصوله وهو المحال ، وما نحن فيه ليس كذلك وانما هو تحصيل في عرض تحصيل آخر فيصبح كل منهما بالفعل جزء للعلة فالمكلف يوجد له زاجران عن الفعل أحدهما الطبع والخروج عن محل الابتلاء والآخر النهي المولوي.

على ان إشكال تحصيل الحاصل في خطاب المولى لو أريد به اللغوية وعدم الفائدة في الزجر التشريعي رجع إلى الدعوى السابقة ، وان أريد به تحصيل الحاصل بمعناه الفلسفي المحال فمن الواضح ان التحصيل التشريعي هو المجعول بالخطاب والحاصل انما هو الحصول التكويني وأحدهما غير الآخر.

وهكذا يتضح : ان الخروج عن محل الابتلاء لا يكون شرطا في الخطاب والتكليف فضلا عن الملاك ومبادئ التكليف فالركن الأول من أركان منجزية العلم الإجمالي متوفر فيه الا ان الركن الثالث غير متوفر لأن وصف الدخول في محل الابتلاء شرط في جريان الترخيص الظاهري ، وبذلك يفسر عدم منجزية العلم الإجمالي في موارد خروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء لأن الأصل الترخيصي تعيين للموقف العملي تجاه التزاحم بين الأغراض اللزومية والترخيصية والعقلاء لا يرون تزاحما من هذا القبيل بالنسبة إلى الطرف الخارج عن محل الابتلاء بل يرون الغرض اللزومي المحتمل مضمونا بحكم الخروج عن محل الابتلاء بدون تفريط بالغرض الترخيصي وهذا يعني ان الأصل الترخيصي في الطرف الداخل في محل الابتلاء يجري بلا معارض فأدلة الأصول العملية لا تجري عن التكليف المحتمل في الطرف الخارج عن محل الابتلاء.

٢٨٨

نعم لو اخترنا مسلك العلية في منجزية العلم الإجمالي لم يفد ما ذكرناه في المنع عن المنجزية لما عرفت من ان قيد الدخول في محل الابتلاء ليس شرطا في التكليف فضلا عن مباديه فكيف يعقل ان يكون شرطا في التنجيز.

وهكذا يتضح : اننا نوافق المشهور في المقام حيث ذهبوا إلى عدم منجزية العلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجا عن محل الابتلاء ولكن لا على أساس ما استندوا إليه من انثلام الركن الأول واشتراط فعلية التكليف بذلك بل على أساس عدم المعارضة بين الأصول الترخيصية في الأطراف.

وينبغي الإشارة إلى أمور :

منها ـ ان المحقق العراقي ( قده ) بعد ان استند في عدم منجزية العلم الإجمالي في المقام إلى شرطية الدخول في محل الابتلاء وعدم كونه أجنبيا عن المكلف بحيث يعد عرفا عاجزا عنه في صحة التكليف ذكر ان ذلك شرط في الوجوب أيضا فكما لا يصح نهي المحكوم عن ارتكاب مظالم الحاكم كذلك لا يمكن امره بما هو من شئونه فلو علم إجمالا بوجوب ذلك أو وجوب فعل آخر داخل في محل ابتلائه لم يكن منجزا عليه.

وفيه : مضافا إلى ما عرفت من ان الدخول في محل الابتلاء ليس شرطا في التحريم والنهي ، ان أمر المولى الحقيقي غير مقيد عقلا وعرفا الا بالقدرة على امتثاله تكوينا اما مجرد صعوبة المقدمات أو كثرتها فلا تمنع من صحته فضلا عن تنجيزه لأن مولوية مولانا ذاتية ومطلقة وليست كالمولويات العرفية التي ربما يدعي ضعفها وعدم ثبوتها في موارد الأفعال الشاقة.

فلو أريد دعوى عدم الأمر من قبل الشارع بالفعل الشاق الخارج عن محل الابتلاء لعدم تعلق غرض له بذلك فهو بلا موجب لوضوح ان الشارع قد يتعلق غرضه بذلك كما امر نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنشر الدين وفتح العالم ومقارعة المستكبرين وإذلال القياصرة والأكاسرة مع ان مثل هذا العمل كان بحسب النّظر البدائي غير مقدور له وان التكليف به لغو.

ولو أريد دعوى انه لا يتنجز على المكلف فقد عرفت ان التنجيز مرتبط بدائرة المولوية وحق الطاعة وهي مطلقة في حق مولانا سبحانه فقياس الوجوب في المقام بالتحريم في غير محله.

٢٨٩

ومنها ـ إذا شك في خروج أحد طرفي العلم الإجمالي عن محل الابتلاء وعدمه فبناء على التفسير الّذي اخترناه لعدم منجزية العلم الإجمالي في موارد خروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء من عدم جريان الأصل المؤمن في الطرف الخارج بالارتكاز العقلائي فمع الشك في خروجه يكون من موارد الشك في الارتكاز وبالتالي الشك في وجود المعارض للأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء.

وحينئذ تارة يكون الشك في الخروج عن محل الابتلاء بنحو الشبهة المفهومية كما إذا شك في ان هذا المقدار من البعد بين المكلف وبين مورد التكليف كاف في صيرورته عرفا بحكم العاجز أو الأجنبي عن الفعل حسب تعبير المحقق العراقي ( قده ) أم لا ، وأخرى يكون الشك بنحو الشبهة المصداقية كما إذا شك في ان الإناء الآخر في بلد بعيد خارج عن ابتلاء المكلف أو في بلد قريب.

والشبهة المفهومية على أقسام ، لأنه تارة يكون بمعنى شك العرف نفسه بما هو عرف في الارتكاز أعني ارتكاز عدم جريان الأصل لهذه المرتبة من الخروج عن محل الابتلاء فانه يعقل ذلك بالنسبة للعرف أيضا لكون هذه الأمور تشكيكية ، وأخرى يكون بمعنى شك العرف في نكتة الارتكاز ونقصد به ان العرف بما هو عرف لا يشك في وقوع التزاحم الحفظي بين الغرض اللزومي حتى إذا كان في الطرف المشكوك وبين الغرض الترخيصي ولكن يحتمل ان المولى لا يهتم بهذا المقدار من التزاحم لضآلته فيحتمل ان نكتة الارتكاز عند المولى تختلف عن العرف ، وثالثة يكون بمعنى ان شخصا يحتمل ثبوت الارتكاز وعدمه لدى العرف وانما لا يكون ذلك واضحا لديه لاحتمال انه شذ عنهم لجهة من الجهات.

ففي القسم الأول لا يجري الأصل في الطرف المشكوك لأن احتمال الارتكاز لدى العرف كاف في الإجمال وعدم إمكان التمسك بالدليل في الطرف المشكوك فيجري الأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء بلا معارض (١)

__________________

(١) الظاهر ان إجمال الارتكاز لدى العرف وعدم وضوح التزاحم بين الغرض اللزومي والغرض الترخيصي في الطرف المشكوك يستوجب الإجمال في ارتكاز المناقضة المانع عن انعقاد إطلاق دليل الأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء أيضا لأن الارتكازين متصلين بدليل الحجية فمع إجمال أحدهما يسري الإجمال إلى الآخر لا محالة ولا وجه للطولية بينهما نعم يتم هذا الكلام فيما إذا كان الأصل في الطرف الداخل من غير سنخ الأصل في الطرف المشكوك خروجه لأن إطلاق دليل الأصل في الأول.

٢٩٠

وفي القسم الثاني يكون أصل الارتكاز الموجب لانصراف الدليل عن الطرف المشكوك مقطوع العدم بحسب الفرض لوقوع التزاحم بحسب نظر العرف وانما الشك والاحتمال في عدمه بنظر الشارع وهو لا يقدح بجريانه في كلا الطرفين فيتعارضان ويتساقطان فلا يثبت الترخيص حتى في الطرف الداخل في محل الابتلاء.

وفي القسم الثالث يكون من موارد احتمال المعارض للأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء لأن الميزان نظر العرف فلو كان الطرف المشكوك عند العرف مجرى للأصل في نفسه لوضوح عدم الارتكاز عندهم بهذا المقدار من البعد عن الابتلاء لم يكن الأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء بلا معارض فيكون من موارد احتمال المعارض المتصل وهو يوجب الإجمال (١).

__________________

منعقد في نفسه بخلاف الثاني فتشمله الحجية بلا مزاحم.

نعم هنا نكتة أخرى سوف يشار إلى روحها في كلام سيدنا الأستاذ ( قده ) في الشبهة المصداقية يمكن جعلها جوابا مستقلا وهي ان ارتكاز المناقضة مع الحكم الواقعي لدى العرف مقيد بوصول الترخيصين إلى المكلف في نفسه وبقطع النّظر عن هذا التعارض فإذا لم يكن الأصل الترخيصي في أحد الطرفين محرز الجريان في نفسه لا وجه لإسقاط إطلاق دليل الأصل في الطرف الآخر لأن ارتكاز التناقض ليس بلحاظ جريانهما الواقعي بل الواصل لا من جهة ان الحكم الظاهري لا قوام له الا بالوصول كما ذهب إليه المشهور لما عرفت مرارا ان الحكم الظاهري عبارة عن درجة الاهتمام بالأغراض الواقعية المتزاحمة في مرحلة الحفظ وهذا له حقيقة ثبوتية بقطع النّظر عن الوصول ، وعلى هذا سوف يجري الأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء كلما لم يمكن التمسك بدليل الأصل الترخيصي في الطرف الآخر في نفسه سواء كانت الشبهة مفهومية أو مصداقية وسواء كان الترخيصان من سنخ واحد أو سنخين.

(١) يبقى هنا كلامان :.

الأول : ان هذا يتم حتى إذا كان الأصل في الطرفين من سنخين بحيث كان من موارد احتمال المعارض المنفصل لا المتصل لأن الحجة على كل حال ما هو الظهور عند العرف لا عند الشخص فلا بد عليه من إحرازه وإحراز عدم القرينة والمعارض المتصل والمنفصل عليه.

الثاني : ليس المقام من مصاديق احتمال المعارض حقيقة ، لأن التعارض بين الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي ليس بملاك التكاذب كما أشرنا في بحث سابق وانما هو من باب ان الدليل الحجية والحكم الظاهري لا يشمل الترخيص في الطرفين لأنه مقيد لبا اما بقبح الترخيص في المخالفة أو بارتكاز المناقضة وهما بمثابة القيد اللبي المتصل بدليل الحجية والأحكام الظاهرية وحينئذ في المقام يوجد ارتكازان ارتكاز عدم شمول الترخيص لموارد الخروج عن محل الابتلاء وارتكاز عدم شموله لكلا طرفي العلم الإجمالي الداخل في محل الابتلاء. وهذان الارتكازان إذا لوحظا بالنسبة إلى دليل أصل ترخيصي من سنخ واحد في الطرفين كان المقيد اللبي المتصل به مجموعهما لا محالة أي ان لا يكون التكليف المشكوك طرفا لعلم إجمالي طرفه الآخر داخل في محل الابتلاء أيضا فإذا شك في خروج الطرف الآخر أو دخوله في محل الابتلاء بنحو الشبهة المفهومية أو المصداقية سرى الإجمال المفهومي أو المصداقي إلى الدليل بلحاظ الطرف الداخل في محل الابتلاء أيضا فيصبح مشكوكا أيضا بنحو الشبهة المفهومية أو المصداقية الا ان نبرز ما تقدم من ان القيد عدم وصول الأصل المؤمن في الطرف الآخر بالفعل.

٢٩١

واما الشبهة المصداقية فهي ملحقة بالقسم الأول من الشبهة المفهومية دائما أي يجري الأصل المؤمن في الطرف الداخل في محل الابتلاء بلا معارض لأن الطرف المشكوك لا يمكن التمسك فيه بدليل الأصل لأنه تمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

إن قلت : ما الفرق بينه وبين القسم الثالث من الشبهة المفهومية ، فان احتمال المعارض المتصل محتمل هنا أيضا وهو يوجب الإجمال ، والحاصل ان احتمال المعارض المتصل إن كان كاحتمال القرينة المتصلة يستوجب الإجمال فهو في القسمين يوجب الإجمال ، وان لم يكن كاحتمال القرينة المتصلة يوجب الإجمال ففي القسمين كذلك فلما ذا التفصيل.

قلنا ـ ان ارتكاز المناقضة بين الترخيصين في طرفي العلم الإجمالي وبين الإلزام الواقعي المعلوم مقيد بفرض وصول الترخيصين الظاهرين إلى العرف ، وبتعبير آخر بين الترخيصين المطلق كل منهما من حيث تمامية البيان من قبل المولى على الترخيص الآخر لا المقيد بفرض عدم وصول الآخر إلى العرف بما هو عرف وعدم تمامية البيان من قبل المولى عليه. وحينئذ إذا كانت الشبهة مفهومية بالنحو الثالث فيحتمل تمامية البيان على الترخيص الآخر عند العرف بخلاف ما إذا كانت الشبهة مصداقية فانه لا يتم بيان الترخيص في الطرف المشكوك فيه للعرف بما هو عرف لأن نسبة الشبهة المصداقية إلى المولى والمكلف على حد واحد وليس البيان متكفلا لتحديدها.

اما تحقيق ان احتمال المعارض المتصل هل يكون كاحتمال القرينة بلحاظ الشبهة المصداقية أو المفهومية فيوكل بحثه إلى مجال آخر (١).

__________________

وإذا لوحظ هذا الارتكاز بالنسبة إلى دليلي أصلين غير مسانخين في الطرفين كان إجمال ارتكاز الدخول في محل الابتلاء موجبا لإجمال دليل الأصل في الطرف المشكوك دخوله في محل الابتلاء فقط وهو منفصل عن دليل الأصل في الطرف الآخر فيجري بلا معارض على كل تقدير ، وعلى كل حال لا ينبغي ربط المقام بما إذا شك في موضوع المعارض المتصل بالخطاب بنحو الشبهة المفهومية أو المصداقية كما إذا قال ( أكرم كل عالم ولا تكرم الفساق ) وشك في ان زيدا العالم فاسق أو لا بنحو الشبهة المصداقية أو المفهومية والّذي قد يفصل فيه بالعكس وان الشبهة إذا كانت مصداقية فلا يجوز التمسك بعموم ( أكرم كل عالم ) لأن إطلاقه للفاسق قد سقط بالمعارضة على كل حال فهو تمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، واما إذا كانت مفهومية فقد يقال بصحة التمسك بعموم ( أكرم كل عالم ) لفاعل الصغيرة باعتبار ان المانع عن انعقاد العموم فعلية دلالة المعارض المتصل والمفروض عدمها.

(١) وقد أفاد ( ١ الشريف ) خارج البحث : ان مقتضي الطبع والظهور الحالي العقلائي في مقام المحاورة انه إذا لم يرد معنى من معاني اللفظ فهو يختار أحد أمور ثلاثة ، السكوت عن ذكره رأسا أو التكلم به مع نصب القرينة على الخلاف أو الإتيان على الأقل بما يعارض ذلك فإذا تكلم المتكلم بكلام وهو لا يريد ظاهره ومعناه ولم يتخذ أحد المواقف الثلاثة كان خارجا عن

٢٩٢

هذا كله بناء على مبنانا في تفسير عدم منجزية العلم الإجمالي إذا كان أحد أطرافه خارجا عن محل الابتلاء.

واما إذا بنينا على التفسير المشهور لعدم منجزية العلم الإجمالي في موارد خروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء من عدم فعلية التكليف على كل تقدير لاشتراط الدخول في محل الابتلاء في التكليف فقد يقال بان النتيجة في موارد الشك في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء عدم التنجيز أيضا لأنه سوف يشك على كل حال في

__________________

الطبع العقلائي ومخالفا لمشيهم على ان الأمر الثالث ليس في عرض الأمرين الأولين بمعنى ان مقتضي الطبع العقلائي اختيار أحد الموقفين الأولين واما الاكتفاء بالمعارض فهو انحراف عن الطبع الأولي وإن كان أحسن من تركه أيضا لما فيه من نحو إبهام وإيهام وهو أفضل من الإغراء بخلاف الواقع.

إذا اتضحت هذه المقدمة قلنا بان الشك في المعارض المتصل يكون على أقسام :

الأول ـ ان يشك في أصل وجوده مع الكلام ، كما إذا احتمل صدور معارض من المتكلم ولم نسمعه وهنا لا شك في التمسك بالظهور الأولي للكلام وليس حاله حال احتمال القرينة المتصلة لما عرفت من ان مقتضي الطبع العقلائي عدم اعتماد أسلوب الإجمال وبيان المعارض وانما ظاهر الحال اعتماد أحد الطريقين الأول أو الثاني وهما منتفيان في المقام فإذا احتملنا عدم سماع ما كان قرينة فلا يمكن نفيه بالأصل لأنه ليس انحرافا عن الطبع العقلائي بخلاف ما إذا احتملنا ان ما لم نسمعه معارض مع ما سمعناه.

الثاني ـ ان تكون الشبهة مصداقية كما في المقام إذا شك في دخول أحد الطرفين في محل الابتلاء وفرض ان الارتكاز قائم على المناقضة بين الحكم الواقعي والترخيصي ولو فرض تقييد كل منهما بعدم وصول الآخر.

وهنا أيضا يصح التمسك بالعامّ والأخذ بظهوره الأولي للكلام في الطرف الداخل في محل الابتلاء لانتفاء الأمور الثلاثة اما الأولان فواضح واما الثالث فلان العام ليس له ظهور في رفع الشبهة المصداقية فالمولى بما هو مولى نعلم انه لم ينصب بيانا على خلاف العام ولا معارضا يعلم هو به فيؤخذ بالعموم في الطرف المعلوم دخوله وليس ارتكاز المناقضة قرينة على خروج هذا عن الأصل حتى يدخل في باب احتمال القرينة المتصلة وانما هو قرينة على عدم إرادة الأصلين معا فيقع التعارض بين الأصلين فهو داخل في احتمال المعارض وحيث انه لا يحتمل معارض قد نصبه المولى وهو عالم به بما هو مولى فيؤخذ بظاهر كلامه في الطرف الداخل في الابتلاء ويثبت بذلك ان الأصل في الطرف الآخر مقيد بفرض العلم بالدخول في محل الابتلاء في الشبهة المصداقية لأن هذا هو لازم الظهور المذكور.

الثالث ـ ان تكون الشبهة مفهومية كما إذا شك في دخوله في محل الابتلاء بنحو الشبهة المفهومية من القسم الثالث لا الأول الّذي يقطع فيه بعدم المعارض ولا الثاني الّذي يقطع فيه بالمعارض ، وهنا احتمال الإتيان بالمعارض لا يمكن نفيه إذ من المحتمل ان المولى يكون عموم كلامه في الترخيص شاملا لكلا الإناءين ولا يمكن إجراء أصالة عدم الإتيان بالمعارض وإرادة العموم في الإناء الداخل في محل الابتلاء لأن جهة الشك مربوطة باللغة وتحديد المفهوم وهو خارج عن باب المراد المولوي ليتمسك في نفيه بعموم كلامه بل هو نظير موارد الشك في الاستثناء الّذي لا يمكن التمسك فيها بأصالة الحقيقة لإثبات المدلول الحقيقي للفظ.

أقول : قد عرفت ان الشك في القسم الثاني والثالث ليس بحسب الدقة من الشك في المعارض المتصل بنحو الشبهة المفهومية أو المصداقية بل من الشك في حدود المقيد المتصل بالخطاب المجمل من حيث إخراجه لفردين أو فرد واحد وليس بابه باب نصب مفهوم معارض مع الخطاب بل التعارض بين الأصلين الترخيصين ليس من باب التكاذب بينهما ولا بين دليلهما كما عرفت بل من باب عدم جعل حكمين ظاهرين للقبح أو للارتكاز فلا بد من ملاحظة حدود المقيد والباقي بعد التقييد بلحاظ دليل أصل من سنخ واحد في الطرفين تارة ومن سنخين تارة أخرى بالنحو الّذي تقدم في التعليق السابق.

٢٩٣

فعلية التكليف على أحد التقديرين فلا علم بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، وفي قبال هذا البيان يذكر تقريبان لإثبات المنجزية.

التقريب الأول ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) بناء على تفسيره للخروج عن محل الابتلاء بعدم القدرة العرفية على الارتكاب ، فانه أفاد بأنه سوف تكون موارد الشك في خروج طرف عن محل الابتلاء من موارد الشك في القدرة المنجز عقلا فيكون علمنا الإجمالي علما بتكليف فعلي على أحد التقديرين ويكون منجزا عقلا على تقدير آخر فيكون منجزا لا محالة.

وقد أورد عليه المحقق الكاظمي في حاشيته على تقريره لدروس الميرزا بان الأستاذ كان يذهب في الدورة السابقة إلى منجزية هذا العلم الإجمالي لكون الشك فيه في القدرة لكننا أوردنا عليه بأنه لو تم لزم التنجيز حتى في فرض القطع بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء لأن الملاك معلوم إجمالا والشك في القدرة عليه حيث لا يدرى هل هو في الطرف الداخل في محل الابتلاء فيكون مقدورا أو الخارج فلا يكون مقدورا.

وهذا الاعتراض غير متجه على المحقق العراقي ( قده ) لأنه كما أفاده خلط بين فرض الشك في القدرة على شيء فيه الملاك وبين الشك في كون الملاك فيما يكون مقدورا أو ما لا يكون مقدورا والمنجز هو احتمال القدرة على فعل فيه الملاك يقينا لأن احتمال العجز عن تحصيل فعل معلوم المطلوبية لا يكون عذرا عقلا ولا يقاس به الشك في كون الملاك في طرف خارج عن العهدة يقينا أو طرف يمكن ان يدخل في العهدة يقينا وهذا واضح.

ولكن مع ذلك لا يتم هذا التقريب من جهة انه خلط بين الشك في القدرة على الامتثال والشك في القدرة على العصيان فان الّذي لا يكون عذرا في ترك الامتثال احتمال العجز وعدم القدرة عليه بل لا بد له من التصدي للامتثال على كل حال لينكشف له اما القدرة عليه أو العجز عنه حقيقة ، وهذا لا ربط له بالمقام فان المطلوب فيه وهو ترك الحرام يتحقق على كل تقدير وانما يشك في القدرة على اقتحام الحرام وعصيانه ولا معنى لا يقال بأنه يجب عقلا التصدي للاقتحام كما هو واضح. فمورد وهذه القاعدة دائما هو ما إذا شك في القدرة على امتثال تكليف المولى كما إذا كان

٢٩٤

إلزاما بالفعل وشك في القدرة عليه أو إلزاما بالترك وشك بان عملا ما هل يحصل ذلك الفعل الحرام أم لا كما إذا شك في ان إطلاق رصاصة بهذا الاتجاه سوف يقتل مؤمنا أم لا؟

التقريب الثاني ـ التمسك بإطلاق دليل التكليف لإثبات فعليته حتى إذا كان في الطرف المشكوك خروجه عن محل الابتلاء فيتشكل لنا علم إجمالي بتكليف يكون فعليا وجدانا على أحد التقديرين وتعبدا على التقدير الآخر فيكون منجزا.

وقد وقع البحث عندهم في صحة التمسك بهذا الإطلاق وعدم صحته ، فبرزت اتجاهات ثلاثة.

١ ـ ما اختاره المحقق النائيني ( قده ) من صحة التمسك به مطلقا أي سواء كان الشك في الخروج عن محل الابتلاء بنحو الشبهة المفهومية أو المصداقية.

٢ ـ ما اختاره المحقق الخراسانيّ ( قده ) من عدم صحة التمسك به مطلقا.

٣ ـ ما اختاره المحقق العراقي ( قده ) من التفصيل بين الشبهتين فيجوز التمسك به في الشبهة المفهومية دون المصداقية.

والاختلاف بين القولين الأول والثالث ينجم عن الاختلاف بين العلمين في مبنى صحة الرجوع إلى العام في موارد الشك في المخصص اللبي حيث ذهب المحقق النائيني ( قده ) إلى جوازه في الشبهتين بينما اختار المحقق العراقي ( قده ) التفصيل فيه على ما تقدم في محله.

وانما الكلام في مأخذ الاتجاه الوسط الّذي شذ عنهما فيه المحقق الخراسانيّ ( قده ) فمنع عن الإطلاق مطلقا. ويمكن ان يذكر في وجه ذلك تقريبان :

التقريب الأول ـ ما أفاده في ظاهر عبارة الكفاية من ان التمسك بالإطلاق إثباتا فرع إمكانه ثبوتا ، والشك في المقام في إمكانه ثبوتا فلا معنى للتمسك به إثباتا.

وهذا التقريب بهذا المقدار نوقش فيه من قبل المحقق النائيني حلا ونقضا.

اما الحل ، فبان التمسك بالإطلاق ليس مشروطا بإحراز إمكانه ثبوتا في المرتبة السابقة بل الأمر بالعكس فانه بمجرد احتمال الإمكان يأتي احتمال صدق الإطلاق الإثباتي ومع احتمال صدق يكون حجة بدليل حجية الظهور ويثبت في طول ذلك بالمدلول الالتزامي إمكان مفاده ثبوتا.

٢٩٥

واما النقض ، فبسائر موارد التمسك بالإطلاق ، فانه كلما شك في صحة إطلاق لاحتمال عدم المصلحة أو المفسدة في ذلك المورد فهو مستلزم لاحتمال قبح التكليف أو استحالته وعدم إمكانه مع انه لا إشكال في صحة التمسك بالإطلاق فيها وعدم اشتراط إحراز إمكانه في التمسك به.

ولكن المحقق العراقي ( قده ) حاول تفسير عبارة الكفاية بما يسلم عن كلا هذين الإيرادين وحاصله : ان التمسك بالإطلاق يعني حجية الإطلاق وجعل الحجية يعني جعل الحكم الظاهري التعبدي بوجوب الاجتناب مثلا عن النجس المشكوك خروجه عن محل الابتلاء وحينئذ إذا كان ملاك الشك في الإمكان والاستحالة مشتركا بين الحكم الواقعي بوجوب الاجتناب أو الحكم الظاهري به لكون شرطية الدخول في محل الابتلاء بالنسبة إليهما على حد سواء فمع الشك فيه يشك في معقولية الحكم الظاهري والحجية أيضا فلا معنى للتمسك بالإطلاق في المقام بل لا بد من القطع بإمكانه كما إذا ورد نصّ من المعصوم عليه ولا يمكن إثبات ذلك بالملازمة كما أفاده الميرزا ( قده ) لأن مدرك حجية الظهور انما هو سيرة العقلاء وبنائهم والمفروض انهم يشكون في صحة جعل مثل هذا الحكم سواء كان واقعيا أو ظاهريا.

ثم ان المحقق العراقي ( قده ) أورد إشكالا على هذا التقريب الا ان عبارة المقرر غير واضحة. ولعل جوهر مقصوده : ان الحكم الظاهري ليس كالحكم الواقعي بحيث يكون احتمال الخروج عن محل الابتلاء مساوقا لاحتمال عدم إمكانه لأن الحكم الظاهري ـ أيا كان تفسيره أو صياغته ـ مبرر جعله هو الحفاظ على الواقع المحتمل على تقدير المصادفة وليس مبرر جعله فعلية حصول الغرض لتأتي شبهة تحصيل الحاصل أو نحو ذلك ، وعليه يكون جعل الحكم الظاهري في مورد احتمال عدم الحكم الواقعي ولو من ناحية احتمال عدم إمكانه معقولا وموجبا لتنجيز هذا الاحتمال وارتفاع حكم العقل بالتأمين ولزوم الاحتياط كما هو واضح.

التقريب الثاني ـ ما جاء في تقريرات المحقق النائيني ( قده ) من ان المخصص اللبي في المقام متصل بالعامّ وعند إجمال المخصص المتصل لا يجوز التمسك بالعامّ لسريان إجماله إليه.

وأجاب عنه بأنا لو سلمنا كون المخصص كالمتصل مع انه ليس كذلك فحيث ان

٢٩٦

المخصص ليس مفهوما خارجا عن العام لفظا جاز التمسك به لأنه شك في مقدار الخارج من افراد العام فيتمسك فيما لا يجزم بخروجه بعموم العام.

وكأنه ضاع مراد المحقق النائيني ( قده ) على مقرر بحث المحقق العراقي ( قده ) فتخيل ان المقصود هو ان المفهوم الخارج عن محل الابتلاء ذو مراتب وقد خرج عن العام بجميع مراتبه وشك في ان مرتبته الضعيفة داخلة في محل الابتلاء أم لا ، فأورد عليه:بان هذا خلف فرض سريان إجمال المخصص المتصل إلى العام في تمام الموارد.

الا ان مقصود المحقق النائيني ( قده ) لم يكن ذلك ، بل المقصود ان بعض مراتب الخروج عن محل الابتلاء يفرض خروجه عن العام بالمخصص لوضوحه عند العقل وتضعف درجة الوضوح هذا إلى ان تنعدم في بعض مراتب الخروج عن محل الابتلاء فلا يحكم العقل بعدم صحة جعل الحكم فيه فلا يكون خارجا بالمخصص اللبي المتصل فيتمسك فيه بالعامّ مطلقا أو في خصوص الشبهة المفهومية حسب اختلاف المباني.

هذا الا ان الصحيح ما ذهب إليه المحقق الخراسانيّ ( قده ) من عدم جواز التمسك بإطلاق دليل التكليف في المقام مطلقا ، وذلك ما يمكن بيانه بعدة وجوه ترجع جميعا إلى روح واحدة :

الوجه الأول ـ ان الخارج عن العام ليس هو مفهوم الخروج عن محل الابتلاء بهذا العنوان إذ لم يرد ذلك في مخصص لفظي ، وانما المخصص المفترض هو حكم العقل بقبح التكليف في موارد الخروج عن محل الابتلاء وهذا يعني ان الخارج بالتخصيص عنوان ما يقبح التكليف به ومن المعلوم ان الشبهة المفهومية للخروج عن محل الابتلاء سوف تكون شبهة مصداقية لعنوان القبيح فيكون التمسك فيه تمسكا بالعامّ في الشبهة المصداقية فلا يجوز.

الوجه الثاني ـ لو فرضنا الشبهة مفهومية مع ذلك قلنا بعدم جواز التمسك فيه بالعامّ لما مضى في بحث العام والخاصّ من ان نكتة التفصيل بين الشبهة المفهومية والمصداقية هي ان نسبة المولى بما هو مولى ونسبة العبد إلى الجهة الدخيلة في الحكم المشكوك على حد سواء في الشبهة المصداقية فلا يجوز التمسك فيها بالعامّ بخلاف الشبهة المفهومية فان المولى أعرف بواقع موضوع حكمه فإذا كان للكلام عموم أو إطلاق فلعله اعتمد عليه لرفع احتمال دخل المرتبة المشكوكة في حكمه.

٢٩٧

وهذه النكتة لا تتم في المقام لأن المولى هنا بما هو مولى حاله حال العبد من جهة الشك في الحكم عند الشك في الخروج عن محل الابتلاء بنحو الشبهة المفهومية لأن ملاك هذا الشك هو حكم العقل بالقبح الّذي نسبته إليهما على حد واحد فيكون حال هذه الشبهة المفهومية حال الشبهة المصداقية من حيث عدم جواز التمسك فيه بالعامّ.

الوجه الثالث ـ ان غاية ما يمكن تحصيله بالإطلاق هو اعتقاد المولى ومرامه واعتقاد المولى بما هو مولى ليس هنا مساوقا مع إمكان جعل الحكم واقعا فلا يجدي التمسك بالإطلاق لإثبات الحكم. وهذا مبني على فرض كون المحذور في التكليف بالخارج عن محل الابتلاء استحالة تحصيل الحاصل مع فرض ان الحكم عبارة عن التحريك الحقيقي وبالحمل الشائع كما يقوله المحقق الأصفهاني فانه حينئذ يصح ان يقال بان اعتقاد المولى بإمكان التحريك والتكليف لا يجعله ممكنا حقيقة.

وكل هذه الوجوه ترجع إلى نكتة واحدة هي انه مهما كان القيد بوجوده الاعتقادي لدى المولى دخيلا في الحكم أمكن التمسك بالعامّ وكانت نسبة المولى إليه بما هو جاعل تختلف عن نسبة المكلف إليه وهما كان القيد بوجوده الواقعي دخيلا في الحكم لم يصح التمسك بالعامّ وكانت نسبة المولى بما هو جاعل إلى حيثية الشك تختلف عن نسبة المكلف إليها وفيما نحن فيه تكون الحيثية المشكوكة نسبتها إلى المولى والمكلف على حد واحد لأن قيد الدخول في محل الابتلاء كقيد القدرة بوجوده الواقعي يكون دخيلا في صحة الحكم.

ومنها ـ ان المحقق النائيني ( قده ) الحق بفرض خروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محل الابتلاء تكوينا خروجه عن محل ابتلاء شرعا ، ومثل لذلك بما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين مع العلم تفصيلا بغصبية أحدهما فالمغصوب خارج عن محل الابتلاء شرعا فيبقى الطرف الآخر مؤمنا عنه بقاعدة الطهارة أو غيرها.

وهذا الإلحاق غير صحيح كما نبه عليه المحقق العراقي ( قده ) اما على تفسير المشهور لعدم منجزية العلم الإجمالي في موارد خروج طرفه عن محل الابتلاء فواضح إذ لو أريد من العلم التفصيليّ بحرمة شرب أحد الطرفين العلم بحرمته من سنخ الحرمة المعلومة بالإجمال كما إذا علم تفصيلا بنجاسة أحد الطرفين بالخصوص فهذا ملحق بمسألة انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيليّ في أحد أطرافه انحلالا حقيقيا أو حكميا وقد

٢٩٨

تقدم ، وان أريد العلم بتكليف من سنخ آخر كما في المثال فحرمة شرب النجس المعلومة بالإجمال تكليف آخر وضيق جديد على عهدة المكلف يجري بلحاظه الأصل المؤمن حتى في الطرف المعلوم غصبيته لأنه بذلك يؤمن عن الضيق والعقاب الزائد فيكون معارضا مع الأصل المؤمن عن هذا التكليف في الطرف الآخر.

واما على تفسيرنا لعدم جريان الأصل في الطرف الخارج عن محل الابتلاء بالارتكاز العرفي فقد يقال : ان دليل الأصل منصرف عن الإناء المغصوب كما كان منصرفا عن الإناء الخارج عن محل الابتلاء تكوينا لكونه بحسب الدقة وان كان يوجب هنا أيضا تزاحم بين ملاك ترخيص في شرب الطاهر وملاك إلزاميّ في حرمة شرب النجس الا انه حيث لا يجوز شربه على كل حال لكونه مغصوبا فكأن العرف لا يتعقل مثل هذا التزاحم الحيثي فلا يرى شمول دليل الأصل الترخيصي له بلحاظ حرمة شرب النجس.

الا ان هذا الكلام لا وجه له ، فان مركوزية ان الأحكام الظاهرية انما جعلت لرفع الضيق والتوسعة وبالتالي رفع التنجز من ناحية التكاليف المشتبهة ومركوزية قاعدة قبح العقاب بلا بيان بين الموالي العرفية يوجب شمول هذه الأدلة المرخصة التي هي أدلة التوسعة والرفع لكل ضيق محتمل ولو كان في مورد ضيق آخر معلوم تفصيلا للتأمين عن عقوبة زائدة في اقتحامها فلا وجه لدعوى الانصراف خصوصا في مثل لسان قاعدة الطهارة التي تثبت الترخيص بعنوان الطهارة التي هي غير مطلق الحرمة والضيق.

هذا كله إذا لم يكن يوجد للأصل الترخيصي في الطرف معلوم الحرمة أثر آخر ، والا كما في أمثال الّذي تقدم حيث يترتب على جريان القاعدة في معلوم الغصبية جواز الوضوء أو طهارة ملاقية فتعارض الأصول وتساقطها في الطرفين واضح.

١٢ ـ ملاقي أحد طرفي العلم الإجمالي :

إذا لاقى شيء مع أحد طرفي العلم الإجمالي بالنجاسة فتارة يفترض وجود ملاق آخر مع الطرف الثاني ولا إشكال حينئذ في وجوب الاجتناب عنهما معا للعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما كالعلم بنجاسة أحد الطرفين. وأخرى يفرض عدم وجود ملاق

٢٩٩

للطرف الآخر وهنا يوجد علمان إجماليان علم إجمالي بنجاسة أحد الطرفين وعلم إجمالي بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقي ـ بالفتح ـ والكلام يقع في تنجز حرمة الملاقى بكل واحد من هذين العلمين الإجماليين فالبحث في مقامين :

المقام الأول ـ في تنجز حرمة الملاقى بالعلم الإجمالي الأول. وقد ذهب الأصحاب إلى عدم تنجزها به فلو بقينا وهذا العلم الإجمالي لجاز شرب الملاقى أو التوضي به مثلا إذا كان ماء. واستندوا في ذلك إلى كبرى كلية لبيان ما يتنجز بالعلم الإجمالي وحاصلها : ان العلم الإجمالي انما ينجز حكما ما إذا كان الشيء المعلوم تمام الموضوع لذلك الحكم لا جزء كما في حرمة شرب أحد المائعين اللذين يعلم خمرية أحدهما فان حرمة شرب الخمر تمام موضوعه الخمر وهو معلوم في البين بخلاف حكم الحد ثمانين جلدة مثلا فان من يشرب أحدهما لا يحكم بذلك في حقه لأن موضوعه مركب من جزءين خمرية شيء وشرب المكلف له والجزء الثاني غير معلوم وانما المعلوم بالعلم الإجمالي الأول فقط وهو لا يكفي لتنجيز هذا الحكم ، وفي المقام يقال أيضا بان حرمة شرب نفس النجس المعلوم ضمن أحد الطرفين أو التوضي به تتنجز بالعلم الإجمالي لكونه علما بتمام الموضوع لها واما حرمة الملاقي لأحدهما فلا يتنجز به لأنه موقوف على العلم بملاقاته مع النجس وهو غير معلوم.

ومنه يعرف انه إذا لم يكن شيء من الطرفين موضوعا لحرمة تكليفية أو وضعية فلا يكون العلم الأول منجزا أيضا كما إذا علم نجاسة أحد الدرهمين فان هذا لا ينجز شيئا إذ ليس الدرهم مأكولا أو ملبوسا في الصلاة ليتنجز ذلك به واما حرمة الشرب أو التوضي بملاقيه فلا علم بتمام موضوعه ، ونحوه ما إذا كان المعلوم بالإجمال في أحد الطرفين تمام الموضوع لحكم دون الطرف الآخر كما إذا علم بنجاسة الدرهم أو الماء فانه تجري أصالة الطهارة في الماء بلا معارض لعدم ترتب أثر على نجاسة الدرهم فليس مثل هذا علما إجماليا بموضوع تكليف فعلي على كل تقدير.

ومن هنا حكموا في الماءين المسبوقين بالكرية إذا نقص أحدهما غير المعين عن الكرية وعلم بملاقاة النجاسة لأحدهما المعين بجريان استصحاب الكرية فيه من دون ان يعارض ذلك باستصحاب كرية الآخر إذ ليس هناك أثر فعلي يترتب على كرية الآخر وعدمهما وليس العلم بعدم كرية أحدهما علما بتمام الموضوع للانفعال بل لا بد

٣٠٠