بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

فني في كيفية تخريج عدم المعارضة بين الأصول وعدم منجزية العلم الإجمالي بين العلم الإجمالي بالنجاسة الواقعية أو العلم الإجمالي بالنجاسة الظاهرية (١).

الفرق الثالث ـ وهو فارق عملي مترتب على الفرق الأول الّذي تقدم يظهر في الفرضية التي يقال فيها بجريان الأصل النافي الطولي في أحد الطرفين بلا معارضة مع الأصل النافي في الطرف الآخر ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة الماء أو التراب فانه بعد تساقط قاعدة الطهارة أو استصحابها فيهما معا تجري أصالة الحل في الماء بالخصوص لتجويز شربه بلا معارض اما للطولية كما يقول به المحقق العراقي ( قده ) ، أو لإجمال دليل الأصلين العرضيين كما يقول به السيد الأستاذ ، أو لمسانخة الأصلين المشتركين في الطرفين بخلاف الأصل المختص كما هو الصحيح. فانه على أحد هذه المباني يقال بالفرق بين العلم الإجمالي بالحكم الواقعي والعلم الإجمالي بالحكم الظاهري بالنجاسة وان هذه البيانات انما تتم في الأول دون الأخير لأنه بناء على الأخير لا يتعارض الأصلان العرضيان ليقال بجريان الأصل الطولي وعدم دخوله في المعارضة في رتبة واحدة أو يقال بإجمال دليلهما والانتهاء إلى دليل الأصل الطولي بلا معارض بل يكون حال الأصل الطولي وهو أصالة الحل في الماء حال استصحاب الطهارة أو قاعدتها من حيث الشك في تحقق موضوعها وكونه من باب اشتباه الحجة باللاحجة فلا يمكن الرجوع إليه لا ابتداء كما هو واضح ولا في طول إجراء استصحاب عدم قيام البينة في هذا الطرف لأنه معارض باستصحاب عدم قيامها في الطرف الآخر وهما عرضيان ومن سنخ واحد. بل بناء على القول بتقدم استصحاب الطهارة أو قاعدتها على أصالة الحل رغم موافقتهما في المؤدى يعلم بعدم جريان أصالة الحل لقيام الحاكم في موردها من البينة أو استصحاب الطهارة (٢).

واما القسم الثاني ـ وهو ما إذا كان الإجمال في نفس البينة والحكم الظاهري بان

__________________

(١) وقد عرفت ان هذا الفارق الفني أيضا غير موجود لجريان الأصل الترخيصي عن الواقع المشكوك في مرتبة الشك في وجود حكم الظاهري إلزاميّ حقيقة.

(٢) قد اتضح عدم تمامية هذه الثمرة لعدم تمامية الفرق الأول بل تجري أصالة الحل عن شرب الماء في هذه المرتبة أي مرتبة الشك في قيام البينة على الحرمة أو عن اهتمام الشارع بإيجاب الاحتياط والتحفظ على الملاك الإلزامي المفاد بالبينة في هذا الطرف بلا معارض لكونه طوليا أو غير مسانخ.

٢٦١

قامت الحجة على الجامع لا أكثر فيقع البحث عنه في جهتين :

الجهة الأولى ـ في وجوب الموافقة القطعية لها. ولا إشكال فيه بناء على مبنانا في تفسير حقيقة الحكم الظاهري وفهمه من انه عبارة عن إبراز اهتمام الشارع بالواقع على تقدير ثبوته في حال الشك كاهتمامه به في حال العلم بأي لسان كان بحسب الصياغة ومقام الإثبات فانه بناء على ذلك يكون معنى هذا الحكم الظاهري الإلزامي اهتمام المولى بالواقع على تقدير وجوده في هذا الطرف أو ذاك الطرف وهو يقتضي الاحتياط والخروج عن عهدة التكليف الواقعي على كل تقدير فتجب موافقته القطعية كما لو كان يعلم بالنجاسة الواقعية في أحد الطرفين.

واما بناء على مباني القوم فقد يشكل تخريج وجوب الموافقة القطعية على بعضها.

منها ـ مبنى المحقق الخراسانيّ ( قده ) القائل بجعل المنجزية والمعذرية في مورد الأمارات ، فانه على هذا إن كان دليل حجية البينة منجزا لهذا الطرف بالخصوص أو ذاك كان ترجيحا بلا مرجح لأن نسبة البينة إلى كل منهما على حد واحد ، وان كان منجزا لأحدهما المردد فالفرد المردد لا وجود له ، وان كان منجزا لأحدهما الواقعي فالمفروض ان البينة لا تشهد الا بالجامع وان التردد في نفسها بحث قد لا تعلم هي أيضا بنجاسة أحدهما بالخصوص ، وان كان منجزا للجامع بينهما أي أحدهما فهذا يوجب التخيير وجريان البراءة عن حرمة كل منهما بخصوصه. ولا يقاس بالعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما لأن العلم الإجمالي وان كان متعلقا بالجامع الا انه ينجز الواقع ، وفي المقام لا يمكن ادعاء ذلك إذ لو أريد ان البينة على الجامع تنجز الواقع عقلا فهو خلف كون المنجزية شرعية لا عقلية ، وان أريد انها تنجزه شرعا فهذا خلف ان البينة تشهد بالجامع لا بالواقع (١) فلا وجه لوجوب الموافقة القطعية على هذا المبنى.

__________________

(١) لا وجه لذلك فان دليل حجية البينة بناء على هذا المسلك تجعل لها نفس المنجزية الثابتة في مورد العلم بمؤداها والمفروض ان مؤداها الجامع الّذي يعلم فيه بالخصوصية المرددة لا جامع أحد الإناءين كما في التخيير الشرعي فيكون حالها حال العلم الإجمالي بمثل هذا الجامع من حيث المنجزية بدليل التنزيل.

نعم هنا إشكال ثبوتي يرد على كل المباني حتى المبنى المختار لا بد من حله وحاصله : ان دليل الحجية لو كان يجعل هذا القسم من البينة كالعلم الإجمالي بالواقع من حيث المنجزية ووجوب الموافقة القطعية كان معناه تكفله بنفسه لإلغاء جريان الأصول المرخصة في الطرفين ووجوب الاحتياط ولازمه عدم جريان الأصل الترخيصي حتى في الطرف الواحد وهذا أكثر من مفاد البينة الإجمالية لأنها لا تدل على نجاستهما معا ، والتحفظ على الأغراض الإلزامية الواقعية في موارد الأمارات انما يجب بأدلة حجيتها بمقدار

٢٦٢

ومنها ـ مبنى المحقق العراقي ( قده ) من ان الحكم الظاهري جعل للطريقية والعلمية التي هي في موارد العلم الإجمالي متعلقة بالواقع لا بالجامع فانه على هذا المبنى إذا احتمل كذب البينة لا مجرد خطئها فلا علم إجمالي للبينة متعلق بالواقع ليكون جعل الحجية لها بمعنى جعل العلم بما تعلق به البينة والّذي هو الواقع بحسب الفرض ، واما مفادها فهو الجامع الّذي يمتثل بأحدهما لا محالة فجعل الطريقية بمقدار مفادها لا يقتضي أكثر من التخيير ، نعم لو علم بعدم كذب البينة وانما احتملنا خطأ البينة فقط لم يرد محذور حيث يجعل علم البينة المتعلق بالواقع بحسب الفرض علما تعبديا لنا بالواقع (١) وكذلك بناء على الطريقية على مبنى الميرزا من كفاية العلم بالجامع في تنجيز

__________________

مفادها لا أكثر فلو أريد استفادة إيجاب الاحتياط في الطرفين من دليل حجية ابتداء كان هذا فوق طاقة دليل الحجية وإن أريد استفادة إيجاب الاحتياط بمقدار أحد الطرفين بالخصوص فالمفروض ان نسبة مفاد البينة إليها على حد واحد ، وان أريد استفادة إيجاب الاحتياط والتحفظ على الغرض الإلزامي بمقدار أحدهما فقط فهذا لا يثبت أكثر من حرمة المخالفة القطعية ولزوم الإتيان بالجامع ، وان أريد انه بمعنى إبراز اهتمام المولى بتكليف إلزاميّ واحد على تقدير وجوده في هذا الطرف أو ذاك كان معناه جعل إيجاب الاحتياط في كل طرف لاحتمال مصادفة ذاك التكليف فيه فيكون نافيا بنفسه للأصل الترخيصي حتى في طرف واحد ، ولا يقاس بموارد العلم الإجمالي بالتكليف الواقعي أو الظاهري المعين فانه هناك الاحتياط في كل طرف ليس بحكم الشارع بل بحكم العقل بعد عدم ثبوت الترخيص الشرعي فيه بأحد المسلكين في منجزية العلم الإجمالي.

وينحصر الجواب على هذه الشبهة بأحد بيانين :

الأول ـ ملاحظة المدلول الالتزامي للبينة في كل طرف على تقدير طهارة الطرف الآخر فيتشكل على إجمالي بوجود نجس في البين اما واقعي أو ظاهري فيجب الاحتياط بعد تعارض الأصول كما سوف يأتي في المتن.

الثاني ـ ان يقال : بأن المستفاد من دليل الحجية بعد ان كانت البينة حجة إثبات التكليف التعييني الإجمالي ظاهرا لأنه مفاد البينة لا التكليف التخييري وحينئذ مهما تكون صياغة الحكم الظاهري فسوف يكون هناك تناقض عقلي أو عقلائي بين هذا الحكم الإلزامي المعلوم أو المجعول تخييريا متعلقا بالجامع.

ودعوى : ان الاهتمام بمقدار الجامع لا ينافي مع جريان الترخيص في كل من الطرفين بخصوصه. يدفعها ، إن الاهتمام بمقدار الجامع غير التكليف التخييري بالجامع فان الّذي لا يكون منافيا مع الترخيصيين انما هو الثاني لا الأول إذا كان اهتماما بلحاظ التكليف واقعي تعييني فتأمل جيدا.

(١) قد عرفت ان الجامع المعلوم في موارد العلم الإجمالي غير الجامع التخييري ـ مهما فسرنا حقيقة هذا الجامع على ما تقدم في بحوث القطع ـ ومفاد البينة انما هو هذا الجامع سواء كان صادقا ومطابقا للواقع أم لا ، وليس المقصود من تعلق العلم بالواقع الواقع بالعرض ليقال بأنه غير موجود في موارد كذب البينة وانما الواقع المعلوم بالذات المحفوظ حتى في موارد العلم الإجمالي غير مطابق للواقع. وعليه فكما يمكن جعل علم البينة علما تعبديا بالواقع كذلك يمكن جعل مفاد البينة الكاشف عن مثل هذا العلم علما تعبديا بالواقع ، نعم لا بد من حل الإشكال المتقدم من ان مثل هذا الحكم الظاهري كيف يتناقض مع جريان الأصل الترخيصي في الطرفين. بخصوصيتهما اما إذا حل هذا الإشكال بأحد الوجهين المتقدمين لم يكن محذور في تسمية ذلك علما تعبديا بالواقع أو حكما مماثلا.

٢٦٣

كلا الطرفين.

ومنها ـ مبنى جعل الحكم المماثل للمؤدى عند احتمال مطابقته للواقع ، فانه على هذا ان فرض جعل حكم على طبق هذا الطرف أو ذاك بخصوصيته لم يكن مماثلا مع المؤدى ، وان فرض جعل الحكم على الجامع لم تجب الموافقة القطعية مضافا إلى ان هذا لا يحتمل مطابقته للواقع لأنا نعلم بان الواقع ليس هو الجامع بنحو التخيير بل هذا بخصوصه أو ذاك بخصوصه.

وكل هذه الإشكالات انما تنشأ باعتبار تقيد هذا المباني واشتغالها بالصياغات اللفظية في تفسير حقيقة الحكم الظاهري.

وقد يجاب بناء على هذه المباني بان البينة لها دلالات التزامية على انه إذا لم يكن هذا الطرف نجسا فالطرف الآخر نجس وهكذا بالعكس فيمكن جعل الحكم المماثل أو المنجزية أو غير ذلك من الألسنة طبقا لهذه القضايا الشرطية الالتزامية لأن الأمارة لوازمها حجة أيضا وحينئذ يتشكل علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين على الأقل اما واقعا أو ظاهرا لأنه لو لم يكن شيء منهما طاهرا فهناك نجس واقعي وان كان أحدهما طاهرا على الأقل فالآخر نجس ظاهرا فيعلم بوجود نجس في البين اما واقعي أو ظاهري وهذا علم إجمالي بالتكليف فيكون منجزا لا محالة.

وهذا الجواب صحيح فيما إذا كان علم البينة ناشئا من برهان أو ما بحكمه لا ما إذا كان حاصلا من تجميع حسابات الاحتمال في عدد الأطراف كما إذا شهدت بنجاسة آنية الكافر نتيجة تراكم الاحتمالات والظنون بمساورته لأحدها على الأقل فانه في مثل ذلك لا يستلزم العلم الإجمالي تلك العلوم والقضايا الشرطية لأنه على تقدير فرض انتفاء باقي الأطراف لا يوجد لنا احتمالات نضم بعضها إلى بعض حتى يتولد علم بقضية شرطية (١) ، فهذا الجواب لا يتم في تمام الفروض.

__________________

(١) هذا المطلب رجع عنه السيد الأستاذ قدس‌سره في الدورة الثانية في بحث الإجماع المنقول حيث تقدم هناك في مسألة نقل السبب ان الصحيح تشكل قضية شرطية في المعلوم الناشئة من حساب الاحتمالات أيضا لجريانه في قضية كلية أسبق من ذلك المورد يكون له مدلول التزامي فراجع.

ولكن يرد على أصل هذا الجواب بأنه يربط منجزية الأمارة الإجمالية بحجية لوازم الأمارة بحيث لو ثبت عدم حجية لوازمها لم تكن الأمارة الإجمالية منجزة مع أنه لا إشكال في منجزيته كالعلم الإجمالي مع قطع النّظر عن مسألة حجية اللوازم مما يكشف عن ضرورة وجود جواب آخر كما أشرنا.

٢٦٤

الجهة الثانية ـ بعد الفراغ عن منجزية البينة من هذا القسم في نفسه قد يقال بإيقاع التعارض بين دليل الحجية ودليل الأصل الترخيصي في كل من الطرفين لأن البينة لم تقم على نجاسة أحدهما بالخصوص ـ كما في القسم الأول ـ ليقال بان الأصل الترخيصي مقيد بعدمها بعد ورود أو حكومة دليل حجيتها على دليل حجيته فدليل الأصل تام الاقتضاء في نفسه في الطرفين فيقع التعارض بين إطلاق وإطلاق دليل حجيتها ولا يقاس بموارد العلم الوجداني بالحكم الواقعي فان دليل الأصل هناك مناقض عقلا أو عقلائيا مع الحكم الواقعي المعلوم وحيث لا يمكن رفع اليد عنه للزوم التصويب فيقع التعارض بين الأصول في الأطراف بخلاف المقام فإن الحجية للبينة كالأصل مجعول ظاهري شرعي فإذا لم يكن دليل البينة رافعا لموضوع الأصل حكومة أو ورودا لكونهما في موضوعين وعنوانين ـ كما ذكرناه ـ فلا محالة يقع التعارض بين إطلاق دليلهما.

وقد حاول المحقق العراقي ( قده ) الجواب على هذا الإشكال بأنه لو أريد إجراء الأصل في كل من الطرفين مطلقا أي حتى على تقدير طهارة الآخر فهذا محكوم أو مورود للمدلول الالتزامي للبينة فانها كما عرفت تدل على نجاسة كل واحد منهما بخصوصه على تقدير طهارة الآخر ، وان أريد إجراؤه في كل طرف بدلا عن الآخر فهذا الاحتمال انما نشأ في طول حجية البينة فلا يمكن ان يكون إطلاق دليل الأصل له معارضا مع دليل حجية البينة.

وفيه : ان احتمال طهارة كل من الطرفين في نفسه بالفعل ليس في طول حجية البينة بل احتمال ثابت من أول الأمر وإطلاق دليل الأصل شامل له فيكون معارضا مع إطلاق دليل البينة في عرض واحد.

وهذا الإشكال يمكن الجواب عليه بوجوه :

الأول ـ ان هذا التعارض لو سلم قدم إطلاق دليل البينة على إطلاق دليل الأصل لكونه ، مقدما عليه بالأخصية والأظهرية أو بالحكومة فان إطلاق الدليل الحاكم أو الأخص والأظهر مقدم على إطلاق الدليل المحكوم أو غير الأخص. وهذا انما يتم على غير مباني القوم من ان التقديم بملاك جعل العلمية والطريقية ورودا أو حكومة من باب نفي الموضوع.

٢٦٥

الثاني ـ ان مجموع الأصلين مقيد عقلا أو عقلائيا بعدم العلم بالحكم وقد علمنا بالحكم ببركة البينة فيقع التعارض بين الأصلين والتساقط حتى على مسالك المشهور.

وفيه : ان كان المراد من العلم بالحكم العلم الوجداني بالحكم الظاهري فالأصلان لا ينفيان هذا الحكم الظاهري لكي تكون نسبتهما إليه نسبة الأصول النافية للحكم الواقعي المعلوم بالإجمال بل هما في عرض هذا الحكم الظاهري ويقع التعارض بين الجميع. وان كان المراد من العلم بالحكم العلم التعبدي بالحكم الواقعي فيدعى ان المجعول في دليل حجية البينة هو العلم فيكون حاكما على مجموع الأصلين على حد حكومة البينة الإلزامية في مورد خاص على الأصل الترخيص فيه ، فيرد عليه : ان الأصل في مورد البينة القائمة في مورد خاص مقيد بحسب لسان دليله بعدم العلم فيقال بحكومة دليل البينة عليه ، واما في ما نحن فيه فليس مجموع الأصلين بحسب لسان الدليل مقيدا بعدم العلم بالخلاف وانما يكون مقيدا بذلك بالارتكاز العقلي أو العقلائي ، والمشهور يفصلون في الحكومة بين كون قيد عدم العلم لفظيا في لسان الدليل أو لبيا فيثبتونها في الأول دون الأخير. وبهذا دفعوا شبهة انه لما ذا تحكم الأمارة على الاستصحاب دون العكس مع ان المجعول فيهما معا الطريقية وكون حجية الأمارة أيضا مقيدة بعدم العلم لبا حيث قالوا بان دليل الاستصحاب لما كان مقيدا لفظا بالشك وعدم اليقين بخلاف دليل حجية الأمارة وان كان مقيدا به لبا أيضا كان الأخير حاكما على الأول.

الثالث ـ اننا نعلم إجمالا بوجود حكم إلزاميّ اما واقعي أو ظاهري في أحد الطرفين وحينئذ تكون نسبة الأصل الترخيصي في الطرفين إلى هذا المعلوم الإجمالي نسبة الأصول الترخيصية إلى المعلوم بالإجمالي الواقعي فتتعارض وتتساقط (١).

٩ ـ العلم الإجمالي بالتدريجيات :

إذا علم إجمالا بتكليف الآن أو في الزمان المستقبل سمي بالعلم الإجمالي بالتدريجات ، كما إذا علمت المرأة المستحاضة التي ضاعت عليها أيام عادتها بان بعض

__________________

(١) قد عرفت أن هذا الجواب ليس كافيا بل لا بد من جواب آخر على ما تقدم.

٢٦٦

الأيام من الشهر تكون أيام حيضها فيحرم مكثها في المسجد خلال تلك الأيام إجمالا. وقد وقع البحث في منجزية مثل هذا العلم الإجمالي وعدم منجزيته.

وليعلم ان التكليف في الطرف المنوط بزمان متأخر تارة يكون استقباليا خطابا وملاكا ، وأخرى يكون استقباليا خطابا فقط لا ملاكا ـ ولو من جهة القول باستحالة الواجب المعلق ـ ، وثالثة يكون استقباليا أداء فقط أي ان زمان الواجب متأخر مع فعلية التكليف خطابا وملاكا من أول الأمر. لا إشكال في منجزية العلم الإجمالي في الصورة الثالثة لكونه علما بتكليف فعلي على كل تقدير بل والصورة الثانية أيضا بناء على ان الّذي يدخل في العهدة ليس هو الجعل والخطاب من حيث هو اعتبار بل من حيث هو كاشف عن الملاك والإرادة والمفروض العلم بفعليتهما على كل تقدير.

وانما البحث في الصورة الأولى ، وما يمكن ان يذكر في مقام المنع عن منجزيته أحد تقريبين :

التقريب الأول ـ دعوى اختلال الركن الأول من أركان منجزية العلم الإجمالي لأن المكلف لا يعلم بتكليف فعلي في حقه على كل تقدير وانما يحتمل ذلك والمنجز الّذي تشتغل به الذّمّة هو العلم بالتكليف الفعلي.

وفيه : ان المقصود بالتكليف الفعلي ليس وجود التكليف في هذا الآن بل وجوده فعلا في عمود الزمان احترازا عما إذا كان المعلوم جزء الموضوع للتكليف دون جزئه الآخر فانه في مثل ذلك لا علم بتكليف فعلي ولو في عمود الزمان فالجامع بين التكليف في هذا الآن وتكليف يصبح فعليا في آن متأخر لا يقصر عقلا وصوله عن وصول الجامع بين تكليفين كلاهما في هذا الآن لأن مولوية المولى لا تختص بهذا الآن.

وان شئت قلت : ان المنجزية ليس كوجوب المقدمة حكما شرعيا تابعا للتكليف النفسيّ ليقال بعدم ثبوته قبل فعلية التكليف النفسيّ ، وانما هو حكم العقل بحق الطاعة والمولوية بهذا المقدار من الانكشاف ، ولا إشكال في ان الانكشاف بالعلم الإجمالي لا فرق فيه بين كونه دائرا بين تكليفين كلاهما في هذا الآن أو أحدهما في هذا الآن والآخر في الآن القادم ، فمن ناحية الركن الأول لا قصور في العلم الإجمالي بالتدريجات.

التقريب الثاني ـ دعوى اختلال الركن الثالث أي جريان الأصل في الطرف

٢٦٧

الحالي دون محذور. اما بناء على مسلك الاقتضاء وتوقف منجزية العلم الإجمالي على تعارض الأصول وتساقطها في الأطراف فباعتبار ان الأصول لا يجري فعلا الا عن الطرف الحالي واما الطرف الاستقبالي فهو وان كان مشكوكا الا انه ليس مجرى للأصل الا في زمانه فلا معارض بالفعل للطرف الحالي ليمنع عن جريانه. واما على مسلك العلية فلأن التكليف المتأخر لا يصلح ان يكون منجزا الآن لأن تنجز كل تكليف فرع ثبوته وفعليته فلا يصلح العلم الإجمالي بالتدريجيات لتنجيز معلومه بالفعل على كل تقدير.

وفيه : عدم تمامية هذا التقريب أيضا لا على مسلك الاقتضاء ولا على مسلك العلية.

اما على مسلك الاقتضاء ـ فلأن الأصل المؤمن الّذي يراد إجراؤه عن الطرف الفعلي معارض بالأصل الجاري في الطرف الآخر المتأخر في ظرفه ، وليس التعارض بين الأصلين من قبيل التضاد بين شيئين حتى يشترط في حصوله وحدة الزمان بل مرده إلى العلم بعدم إمكان شمول دليل الأصل لكل من الطرفين بالنحو المناسب له من الشمول زمانا.

وان شئت قلت : ان قبح الترخيص في المخالفة القطعية الّذي هو القيد العقلي لأدلة الأصول المرخصة لا يختلف فيه بين ان يكون المخالفة المعلومة دفعية التحقق أو تدريجية فمن ناحية الانكشاف والوصول تكون هذه المخالفة قبيحة وان تأخر فعله وتحققه فان تأخر القبيح لا ينافي القبح ، هذا على مسالك القوم وكذلك على مسلكنا فان ارتكاز المناقضة عقلائيا وأهمية الإلزام الواقعي المعلوم بحيث لا يتصور عقلائيا ترجيح الملاكات الترخيصية عليه لا يختلف حاله بين كون ذلك الملاك الإلزامي الآن على كل تقدير أو الآن على تقدير وفي الغد على تقدير آخر فان ملاك الارتكاز ونكتته على حد سواء في الموردين.

لا يقال ـ محذور قبح الترخيص في المعصية أو ارتكاز التناقض انما يمنعان عن إطلاق دليل الأصل الترخيصي لمجموع الأطراف لا لطرف واحد والمفروض ان دليل الأصل لا يشمل بالفعل الا الطرف الحالي واما الطرف الاستقبالي فلا يشمله الآن لعدم ترتب أثر عليه بالفعل وانما يشمله في الزمان الاستقبالي وحينذاك يكون الطرف

٢٦٨

الأول خارجا عن محل ابتلاء المكلف ومنقضيا.

والحاصل لا يلزم من إجراء الأصل اجتماع الترخيصين المؤديين إلى المخالفة القطعية في زمان واحد بل في كل زمان يجري الترخيص في أحد الطرفين وليس ذلك ترخيصا في المخالفة القطعية.

فانه يقال ـ بل يشمل إطلاق دليل الأصل للطرف الاستقبالي أيضا ولكنه لا يثبت فيه ترخيصا حاليا بل استقباليا أيضا بالنحو المناسب معه ، والمحذور كما قلنا لم يكن مخصوصا بالترخيصين الدفعيين بل يعم الترخيص الفعلي والترخيص الاستقبالي بلحاظ عمود الزمان المؤديين إلى المخالفة القطعية.

واما على مسلك العلية ، فلأن المقصود من كون العلم الإجمالي صالحا لمنجزية معلومه على كل تقدير كونه صالحا لذلك ولو على امتداد الزمان لا في خصوص هذا الآن. وان شئت قلت : انه من ناحية الوصول يكون صالحا للتنجيز وتسجيله في العهدة على كل تقدير سواء كانت فعليته الآن أو في المستقبل وهذا متوفر في المقام.

وهكذا يتضح ان الصحيح منجزية العلم الإجمالي بالتدريجيات ، وان الشبهات التي حامت حول تنجيزه موهونة جميعا.

الا ان المحقق العراقي ( قده ) حاول الإجابة عليها بتصوير علم إجمالي آخر غير تدريجي الأطراف وتوضيحه : ان التكليف إذا كان في القطعة الزمنية المتأخرة فوجوب حفظ القدرة إلى حين مجيء ظرفه فعلى لما يعرف من مسألة وجوب حفظ المقدمات المفوتة وعدم جواز تضييع الإنسان لقدرته على الواجب قبل مجيء ظرفه ، فيعلم إجمالا بالجامع بين تكليف نفسي الآن ، أو وجوب حفظ القدرة للتكليف الاستقبالي وهو علم إجمالي بما يكون كلا تقديريه فعليا.

وهذا الجواب غير تام إذ يرد عليه :

أولا ـ ان وجوب حفظ القدرة انما هو حكم عقلي كما تقدم في محله ، وحكم العقل بوجوب حفظ القدرة لامتثال تكليف فرع تنجز ذلك التكليف فلا بد في المرتبة السابقة على وجوب حفظ القدرة من وجود منجز للتكليف الآخر ولا منجز له كذلك الا العلم الإجمالي في التدريجيات فان كان ذلك منجزا له كفانا في تنجيز الطرف الحالي والا لم يكن حفظ القدرة واجبا.

٢٦٩

وثانيا ـ ان هذا العلم الإجمالي الّذي أبرزه لا يقتضي أكثر من تنجيز التكليف الحالي وعدم تفويت القدرة واما تفويت ما يكلف به في ظرفه المتأخر بعد حفظ القدرة فلا يمكن المنع عنه بذلك العلم الإجمالي وانما يتعين تنجز المنع عنه بنفس العلم الإجمالي في التدريجيات وهو إن كان منجزا لذلك نثبت تنجيزه لكلا طرفيه.

وثالثا ـ ان حفظ القدرة لا يجب الا فيما إذا كانت القدرة على الواجب في زمانه غير دخيلة في الملاك أي من شرائط الوجود لا الاتصاف والا لا يجب حفظها كما حققنا ذلك في بحث الواجب المشروط.

وهكذا يتضح ان الصحيح منجزية العلم الإجمالي بالتدريجيات بلا حاجة إلى إبراز مسألة حفظ القدرة (١).

١٠ ـ الاضطرار إلى بعض الأطراف :

إذا وقع الاضطرار إلى اقتحام بعض أطراف العلم الإجمالي فهنا حالتان :

الحالة الأولى ـ الاضطرار إلى طرف معين من أطراف العلم.

الحالة الثانية ـ الاضطرار إلى ارتكاب أحد الأطراف لا بعينه.

اما الحالة الأولى ـ فتارة يكون الاضطرار مقارنا أو قبل حصول سبب التكليف كما إذا اضطر إلى شرب الماء ثم علم بوقوع قطرة نجس اما فيه أو في الثوب ، وهنا لا يتشكل

__________________

(١) أفاد سيدنا الأستاذ ( قدس‌سره الشريف ) على هامش البحث ان هذا المطلب واضح جدا فيما إذا فرض عدم احتمال العالم بالإجمال تبدل علمه وعدم بقائه إلى حين مجيء زمان التكليف الاستقبالي ، واما إذا علم أو احتمل ذلك ـ كما إذا علم أو احتمل انه إلى ذلك الحين سوف يقابل المعصوم مثلا فيسأله عن الواقع ـ فهل يشفع ذلك لجريان الأصل الترخيصي في الطرف الحالي رغم علمه الإجمالي بالفعل أم لا؟.

قد يقال : بجريانه في صورة العلم بالتبدل بناء على ان المحذور هو قبح الترخيص في المعصية لأنه لا يلزم الترخيص في المخالفة القطعية لا بلحاظ الحال لأن الترخيص فيه مخالفة احتمالية ولا بلحاظ المستقبل لأنه سوف يتبدل علمه إلى الشك الساري فلا موضوع للأصل فيه ، نعم لو لم يعلم بتبدل العلم الإجمالي وانما احتمل ذلك فيكون من موارد الشبهة المصداقية للمخصص فلا يمكن التمسك بالأصل.

واما بناء على ان المحذور هو ارتكاز المناقضة فيحتمل بقاء محذور التناقض في الصورتين.

أقول : الظاهر ان الميزان ملاحظة زمان العلم فانه في هذا الزمان يكون الترخيص في الطرف الحالي مع كون الطرف الآخر موردا للترخيص أيضا في نفسه بلحاظ هذا الزمان وإن كان وقته متأخرا فيه محذور القبح العقلي أو التناقض العقلائي وليس المحذور في ترتب أثر الترخيص خارجا بالفعل ولا في العلم بفعلية الأصلين الترخيصيين في عمود الزمان.

٢٧٠

علم إجمالي بالتكليف أصلا لزوال الركن الأول من أركانه لأن عدم الاضطرار جزء الموضوع للتكليف وحيث ان المكلف يحتمل ان النجس المعلوم هو المضطر إليه بالذات فلا علم له بالتكليف الفعلي فتجري الأصول المؤمنة بدون معارض. وأخرى يكون الاضطرار بعد حصول سبب التكليف وهنا يتشكل العلم الإجمالي بالتكليف لا محالة فالركن الأول محفوظ.

ولكن هنا تارة يفترض حصول الاضطرار بعد حصول العلم الإجمالي كما إذا علم بوقوع قطرة دم في الثوب أو الماء ثم اضطر إلى شرب الماء ، وأخرى يفرض حصول الاضطرار مقارنا مع العلم الإجمالي أو قبله سواء كان المعلوم بالإجمال ـ وهو التكليف الفعلي بفعلية سببه ـ متقدما عليهما أم مقارنا.

ففي الصورة الأولى قد يتوهم الانحلال بدعوى ان العلم الإجمالي بعد حصول الاضطرار إلى أحد طرفيه معينا لا يبقي علما إجماليا بتكليف فعلي بقاء لأن الطرف المضطر إليه لو كان هو مورد التكليف لارتفع بالاضطرار لا محالة فلا يبقى علم بتكليف فعلي بل يشك فيه والميزان في التنجيز في كل آن بقاء العلم فيه.

والجواب : ما ذكره المحقق الخراسانيّ في حاشيته على الكفاية وأوضحه المحقق العراقي ( قده ) من كفاية العلم الإجمالي المردد بين الطويل والقصير حيث يعلم المكلف بتكليف فعلي في هذا الطرف قبل حدوث الاضطرار أو في الطرف الآخر حتى الآن وهو علم حاصل من زمان التكليف القصير وإلى الآن.

نعم هذا العلم الإجمالي في بعض صوره يكون من العلم الإجمالي بالتدريجيات كما إذا كان التكليف في الطرف غير المضطر إليه أعني الطويل انحلاليا في كل آن وغير فعلي من أول الأمر.

واما في الصورة الثانية ، فالصحيح عدم منجزية العلم الإجمالي لانثلام الركن الثالث لأن التكليف على تقدير انطباقه على مورد الاضطرار فقد انتهى أمده ولا أثر لجريان البراءة عنه فعلا فلم يحصل علم إجمالي بالتكليف من أول الأمر فتجري البراءة في الطرف الآخر بلا معارض.

وقد نقل مقرر بحث المحقق النائيني ( قده ) انه كان يبني في الدورة السابقة على المنجزية ثم عدل إلى عدم التنجيز.

٢٧١

وتوهم المنجزية يمكن ان يقرب بأحد بيانين كلاهما غير تام :

البيان الأول ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من ان أصل فعلية التكليف من أول الأمر معلوم بحسب الفرض وانما الشك في سقوطه بطرو الاضطرار إليه والشك في السقوط مورد لأصالة الاشتغال لا البراءة.

وفيه : انه خلط بين الشك في سقوط تكليف منجز بالعجز أو بالامتثال وبين الشك في ان التكليف قد تعلق بالطرف المضطر إليه أو بالطرف الّذي ليس فيه اضطرار فانه هنا يكون الشك في موضوع التكليف وفعليته بقاء وهو مجرى الأصل المؤمن كالشك في فعليته حدوثا كما هو واضح.

البيان الثاني ـ ما ذكره السيد الأستاذ في الدراسات من اننا نعلم إجمالا بثبوت تكليف مردد بين الفرد القصير في الطرف المضطر إليه بلحاظ قبل الاضطرار وبين الفرد الطويل في الطرف الآخر فنستصحب ذلك ويكون من استصحاب جامع التكليف وهو من الكلي القسم الثاني نظير استصحاب الحدث بعد الوضوء عند التردد بين الحدث الأكبر والأصغر ، وبهذا وان كنا لا نحرز الفرد الطويل لأنه أصل مثبت الا ان ثبوت جامع التكليف أيضا منجز بحكم العقل فلا بد من الفراغ اليقيني عنه بامتثال الفرد الطويل.

ثم أجاب عنه بان استصحاب الجامع انما يتم فيما إذا لم يمكن نفي الفرد الطويل بالأصل المؤمن كما في مثال الحدث فان استصحاب عدم الحدث الأكبر معارض فيه بعدم الحدث الأصغر ، واما فيما نحن فيه فأصالة البراءة الجارية عن التكليف الطويل لا معارض لها إذ التكليف في الطرف الآخر ساقط جزما بعد الاضطرار وقبله كانت الشبهة بدوية غير مقرونة بالعلم الإجمالي لكي يوجب المعارضة فيجري الأصل في الطرف الطويل ويحكم على استصحاب الكلي من القسم الثاني لأن الشك فيه ناشئ من الشك في الفرد الطويل ، وبهذا ندفع أيضا شبهة استصحاب الكلي في موارد الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين بعد الإتيان بالأقل.

وأصل هذا البيان مع الجواب الّذي أفيد كلاهما غير فني.

اما أصل التقريب ، فباعتبار ان استصحاب جامع التكليف في المقام لا أثر له في نفسه لأنه استصحاب لجامع تكليف طويل أو قصير خارج عن القدرة بالاضطرار

٢٧٢

فلا يكون صالحا للتنجيز والدخول في العهدة ، والجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز لا يدخل في دائرة المولوية وحق الطاعة حتى إذا صرح به فضلا عما إذا أريد إثباته بالأصل ، وبهذه النكتة نمنع عن جريان استصحاب بقاء جامع التكليف في موارد الأقل والأكثر أو الدوران بين المتباينين بعد الإتيان بأحدهما ، وهذا بخلاف مثال الحدث المردد فانه يجري فيه استصحاب جامع الحدث لتنقيح موضوع التكليف الشرعي المشترك والمترتب على جامع الحدث كحرمة مس المصحف مثلا ـ هذا بقطع النّظر عن وجود أصل موضوعي حاكم في هذا المثال شرحناه في بحوث شرح العروة الوثقى ـ ومن هنا نفصل في جريان استصحاب الكلي من القسم الثاني بين ما إذا أريد به إثبات أثر شرعي مترتب على الجامع فيجري وما إذا لم يكن أثر كذلك وانما المقصود تنجيز الطرف الآخر أعني التكليف الطويل بإثبات جامعه فلا يجري ، هذا لو أريد استصحاب الكلي وجامع التكليف ، واما إذا أريد استصحاب واقع التكليف المعلوم على إجماله فهو من استصحاب الفرد المردد على ما هو موضح في محله.

وهناك محاولة للمحقق العراقي ( قده ) لتصحيح استصحاب جامع الوجوب بتقريب : ان استصحاب الجامع يثبت التكليف في الطرف الباقي لكونه لازما لنفس الاستصحاب لا للمستصحب ليكون من الأصل المثبت ، ولازم الاستصحاب لازم للدليل الاجتهادي الدال على كبرى الاستصحاب بحسب الحقيقة ، توضيح ذلك : ان الحكم الظاهري ببقاء الجامع لا يمكن ان يوجد الا ضمن ثبوت أحد الفردين ظاهرا فإذا علم بارتفاع أحدهما تقع الملازمة بين ثبوت الجامع وثبوت الفرد الآخر فيثبت باستصحاب الجامع الفرد الطويل ، وهذا نظير ما نقوله في بحث الماء النجس المتمم كرا بظاهر من ان استصحاب حال كل منهما يعارض مع استصحاب الآخر لعدم تعقل العرف لتحمل ماء واحد حكمين مختلفين سواء كانا واقعيين أو ظاهريين فيثبت باستصحاب طهارة كل من الجزءين طهارة الآخر وباستصحاب نجاسة كل منهما نجاسة الآخر بالملازمة لدليل الاستصحاب.

وفيه : أولا ـ ان هذا الكلام لا يتم في المقام الا بناء على القول بجعل الحكم المماثل ليقال بان جعل وجوب الجامع لا يكون مماثلا مع الوجوب الواقعي المعلوم ، فمثلا لو علم وجوب الجمعة أو الظهر فإذا جعل وجوب الجامع بينهما فهو ليس مماثلا فلا بد من جعل

٢٧٣

ظاهري متعلق بالظهر أو الجمعة ليكون مماثلا وحيث يستحيل ثبوت جامع الحكم ولو الظاهري الا ضمن أحد الفردين والمفروض القطع بعدم وجوب الجمعة للإتيان به مثلا فيتعين وجوب الظهر. واما بناء على ان الحكم الظاهري ليس جعلا كالجعل الواقعي بل روحه إبراز الاهتمام بالواقع على تقدير وجوده فيعقل ان يكون الاهتمام بمقدار الجامع لا أكثر.

وثانيا ـ حتى بناء على مبنى جعل الحكم المماثل لا يتم هذا البيان لأن إثبات شيء زائد على المستصحب لملازمته مع الحكم الاستصحابي نفسه انما يمكن إذا لم يلزم من ذلك خروج المستصحب عن المدلول المطابقي لدليل الاستصحاب والا لم يجز التمسك بإطلاقه ، وفي المقام الأمر كذلك لأن وجوب صلاة الظهر في المقام يحتمل كونه مباينا مع الوجوب الثابت بالعلم الإجمالي أولا كما إذا كان الواجب هو الجمعة فلا يكون الجامع الموجود ضمنهما الا مباينا عرفا مع ما كان واجبا سابقا لا انه نفس الجامع وزيادة كما في الماء النجس المتمم كرا ، والمفروض ان دليل الاستصحاب مدلوله المطابقي إبقاء ما كان بحيث يكون فرقه عن البقاء الحقيقي في تعبدية هذا ووجدانية ذاك مع كونه نفس المعلوم والمتيقن سابقا فإذا لم يحرز ان المشكوك على تقدير ثبوته نفس المتيقن لم يجز التمسك بدليل الاستصحاب للتعبد بثبوته.

واما عدم تمامية الإجابة فلوضوح ان الأصل النافي للفرد الطويل لا يكون نافيا لجامع التكليف الا بنحو الأصل المثبت فضلا من ان يكون حاكما عليه من باب السببية والمسببية ، فان الجامع لو فرض انه عين الفرد فلا تعدد ليكون أحدهما مسببا عن الآخر ، ولو فرض انه غيره ومسبب عنه فهو مسبب عقلي تكويني فليس انتفاؤه أثرا شرعيا ليثبت بجريان الأصل المؤمن عن الفرد الطويل. على انه لو كان أثرا شرعيا له فلا بد وان ينفي بمثل استصحاب عدم الفرد الطويل من الأصول التنزيلية لا بمثل البراءة عن التكليف في الطرف الطويل التي شأنها التأمين لا التعبد بانتفاء التكليف المحتمل ، وكأنه وقع خلط في مقام التقرير.

وهكذا يتضح انه في مورد الاضطرار إلى طرف بعينه لا بد من التفصيل بين ما إذا كان حصول الاضطرار بعد حصول العلم بالتكليف فيبقى العلم الإجمالي منجزا وما إذا كان طروه مقارنا مع العلم أو قبله فيسقط عن المنجزية.

٢٧٤

واما الحالة الثانية ـ وهي الاضطرار إلى طرف لا بعينه ، فلا إشكال في سقوط وجوب الموافقة القطعية فيها لأن الاضطرار إلى أحدهما يوجب الترخيص التخييري بلا إشكال ، وانما الكلام في حرمة المخالفة القطعية بعد ذلك بارتكاب الطرف الآخر وعدمها. وقد ذهب المحقق الخراسانيّ ( قده ) إلى العدم بدعوى ان الترخيص التخييري ينافي التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال فيرتفع العلم ويكون احتمال التكليف في الطرف الآخر شبهة بدوية.

والمحقق النائيني ( قده ) في أحد تقريري بحثه منع عن هذه المنافاة بأنه إن كان المدعى المنافاة مع الحكم الواقعي فهو غير صحيح ، لأن هذا الترخيص ليس ترخيصا واقعيا في الحرام الواقعي إذ لا اضطرار إلى الحرام الواقعي وانما نشأ في طول الجهل بالحرام الواقعي وتردده بين الطرفين فالترخيص التخييري في المقام لا يتنافى مع الحرام الواقعي ولا يقتضي رفع اليد عنه ، وان كان المدعى المنافاة مع الحرام المعلوم بما هو معلوم أي مع حكم العقل بقبح المخالفة فالمفروض ان الترخيص في المخالفة الاحتمالية في أطراف العلم الإجمالي لا بأس به سواء كان تخييرا أو تعيينا. وعليه فلا منافاة بين التكليف الواقعي والترخيص التخييري فالعلم الإجمالي بالتكليف ثابت على حاله غاية الأمر انه هنا لا يمكنه ان ينجز بدرجة وجوب الموافقة القطعية لفرض الترخيص في ارتكاب أحدهما لكن يبقى على تنجيزه بدرجة حرمة المخالفة القطعية وهذا ما يسمى بالتوسط في التنجيز.

وذكر المحقق العراقي ( قده ) ان هذا انما يتم على الاقتضاء لا العلية ، لأنه بناء على مسلك العلية لا يجوز الترخيص في المخالفة الاحتمالية للتكليف المعلوم أيضا فإذا ثبت ذلك كان منافيا لا محالة مع التكليف الواقعي وبارتفاعه لا وجه لحرمة المخالفة القطعية أيضا.

ولكنه مع ذلك حكم بوجوب الاجتناب عن الفرد الآخر باعتبار ان هذه المنافاة ليست لأصل التكليف رأسا بل لإطلاقه لما إذا صادف اختياره للحرام الواقعي لا أكثر فيكون العلم الإجمالي علما بالتكليف المقيد بذلك القيد وهذا ما يسمى بمسلك التوسط في التكليف

والتحقيق : انه لا منافاة بين التكليف الواقعي مع الاضطرار التخييري حتى على

٢٧٥

مسلك العلية ، لأن المقصود بالعلية عدم إمكان جعل الشك مؤمنا لأن الوصول بالعلم تام الا ان هذا لا ينافي وجود مؤمن آخر وهو العجز والاضطرار ، فلو كلف المولى عبده بما لا يقدر على بعض مراتب امتثاله أو تمامها عقلا أو شرعا وعلم بذلك لم يتنجز عليه تلك المرتبة من الامتثال أو تمامها إذ لا حق للمولى خارج نطاق قدرته من دون ان يتنافى ذلك مع منجزية العلم والوصول ، وفيما نحن فيه المكلف يضطر إلى عدم الموافقة القطعية عقلا أو شرعا ـ كما إذا كانت تؤدي إلى هلاك نفس ملاك حفظها أهم أو غير ذلك ـ مع بقاء التكليف الواقعي المعلوم على حاله لعدم الاضطرار إليه فترتفع مرتبة الامتثال القطعي وتبقى حرمة المخالفة القطعية على حالها ، وهو من التوسط في التنجيز لا التكليف.

نعم جاء في التقرير الآخر لأبحاث المحقق النائيني ( قده ) تقريب آخر للتوسط في التكليف في المقام حاصله : ان الاضطرار وان كان إلى الجامع واحد الطرفين تخييرا لا تعيينا الا ان أي فرد يختاره المكلف يكون بحسب نظر العرف هو المضطر إليه فيكون الترخيص في اقتحامه واقعيا رافعا للإلزام الواقعي على تقدير وجوده فيه بمقتضي أدلة رفع الاضطرار فتقع المنافاة بين الترخيص بملاك الاضطرار وبين إطلاق التكليف الواقعي فيقيد بصورة ما إذا لم يختر ذلك الفرد فيحصل التوسط في التكليف.

وفيه : انه لا وجه لما ذكر من سريان الاضطرار من الجامع إلى الفرد عرفا بل الاضطرار عقلا وعرفا ليس إلى الحرام الواقعي فلا موجب لرفع اليد عن إطلاق دليله أصلا.

ثم انه بناء على التوسط في التكليف اختلفت كلمات العلمين في كيفية تصوير هذا التكليف المتوسط وتنجيزه للطرف الآخر الباقي بعد رفع الاضطرار.

فالمحقق النائيني ( قده ) ذهب إلى ان التكليف يصبح مشروطا بعدم اختيار الحرام الواقعي لدفع الاضطرار ، وفصل في استلزام ذلك لتنجيز الفرد الآخر بين ما لو فرض ذلك شرطا متأخرا بحيث مهما اختار الفرد الحرام لدفع الضرورة كشف ذلك عن عدم حرمة ذلك الفرد من أول الأمر أو فرض شرطا مقارنا بحيث ترتفع حرمته من حين الاختيار ، فعلى الأول لا تنجيز في البين للشك في التكليف من جهة الشك في شرط

٢٧٦

فعليته من أول الأمر ، وعلى الثاني يكون أصل التكليف معلوما بلحاظ قبل الاختيار غاية الأمر يرتفع بقاء فيكون من حالات العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين الفرد القصير في الطرف الّذي اختاره بلحاظ قبل الاختيار وبين الفرد الطويل في الطرف الآخر ، واختار هو ( قده ) الفرض الثاني لأن المتيقن سقوطه من التكليف بالضرورة انما هو ذلك لا أكثر.

واعترض عليه السيد الأستاذ بأنه لا يعقل التكليف المشروط بعدم اختيار مخالفته فان التكليف انما يكون لتوجيه اختيار المكلف أو عدم اختياره فلو جعل مغيا بالمخالفة أصبح لغوا.

والصحيح ان كلا الفرضين يقيدان التنجيز كما لا يرد على الفرض الثاني ما ذكره السيد الأستاذ بعد تعديل القيد الّذي جاء في كلام المحقق النائيني للتكليف المتوسط بان يكون المقصود من عدم اختيار الفرد الحرام واقعا عدم اختياره وحده فالحرمة تثبت في فرضين فرض اختيار الآخر وفرض اختيارهما معا ، وهذا مساوق لكون الشرط في الحرمة بعدم اختيار الفرد الآخر في مقام دفع الاضطرار فانه حينئذ لو اقتحم كلا الطرفين كان شرط فعلية الحرمة ثابتا حتى على الفرض الأول كما انه لا يلزم منه تقييد الحرمة بعدم اختيار مخالفته الّذي يكون لغوا لأن الغاية حصة خاصة من المخالفة وهي مخالفته مع عدم ارتكاب الفرد الآخر ، وان شئت قلت : انه مغيا بعدم ارتكاب الفرد الآخر وهذا لا يوجب سقوط التكليف عن كونه توجيها لاختيار المكلف وعدم اختياره كما لا يخفى.

واما المحقق العراقي ( قده ) فلم يرجع القيد للتكليف بل لمتعلقه فكأن وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ليس بمعنى سد جميع أبواب عدمه بل سد بعض أبواب عدمه وهو عدمه بارتكاب كل الأطراف فيكون الحال كما لو انقلب وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي من التعينية إلى التخييرية ، ولعله انما لم يرجع القيد إلى الحرمة لأحد المحذورين المتقدمين في كلام المحقق النائيني ( قده ) والسيد الأستاذ وقد عرفت عدم تمامية شيء منهما.

ولكن يرد على هذا التصوير حينئذ انه لا دليل إثباتا على أخذ قيد من هذا القبيل في الخطاب الواقعي لأن ظاهره التعيينية ولزوم سد جميع أبواب العدم فإرجاعه إلى

٢٧٧

التخييرية يحتاج إلى دليل خاص ولا يكفي فيه الإطلاقات الأولية (١) نعم تقييد الخطاب الواقعي بالنحو الّذي أفاده المحقق النائيني لا يحتاج إلى دليل خاص بل يكفي فيه إطلاق دليل التكليف بعد ضمه إلى دليل رافعية الاضطرار بناء على منافاته مع الحرام الواقعي بأحد البيانين المتقدمين في إثبات التوسط في التكليف ، ولكنك عرفت عدم تمامية شيء منهما فالتكليف المعلوم بالإجمال باق على إطلاقه وانما التوسط في التنجيز فقط.

__________________

(١) أفاد السيد الأستاذ ( قدس‌سره الشريف ) ان هذا الاعتراض لو كان يورد على المحقق العراقي ( قده ) فأكبر الظن انه كان يعالجه على مبانيه بدعوى ان الدليل عليه نفس دليل التكليف التعييني لأنه بالمطابقة يدل على الحكم التعييني وبالالتزام يدل على الملاك وقد سقطت دلالته المطابقية بالاضطرار وتبقى الدلالة الالتزامية على الحجية بناء على مسلكه من عدم التبعية بينها وبين الدلالة المطابقية في الحجية وحينئذ نستكشف من بقاء الملاك الإلزامي خطابا بسد بعض أبواب العدم بعد ان وجد مانع عن الخطاب الّذي يسد جميع أبواب العدم ، وهذا نظير ما يقال في جملة من الموارد التي لا يكفي المدلول المطابقي للدليل فيها لتحصيل الملاك من استكشاف الخطاب من ناحية فعلية الملاك كما في خطاب وجوب حفظ القدرة.

أقول : لا وجه لاستكشاف الخطاب التخييري لأن الملاك المستكشف بالملازمة تعييني أيضا وهو يقتضي الخطاب التعييني والتنجيز التعييني أعني تنجيز الموافقة القطعية فإذا ما سقط الخطاب التعييني والتنجيز فلا وجه لاستفادة خطاب آخر كما لا وجه لبقاء التنجيز فان العلم الإجمالي بعد ان كان علة تامة للموافقة القطعية وعدم جواز المخالفة الاحتمالية وهو مناف مع الترخيص التخييري الثابت بالاضطرار فهذا لا يختلف حاله بين كون المعلوم خطابا شرعيا أو ملاكه ، نعم يبقى دعوى الشك في القدرة على تحقيق الملاك المعلوم من خلال الاجتناب عن الطرف الباقي وقد عرفت انه ليس من الشك في القدرة على الامتثال لكي يجب الاحتياط فيه عقلا. أو دعوى منجزية الملاك المعلوم بمرتبة حرمة المخالفة القطعية وان لم يكن منجزا بمرتبة وجوب الموافقة القطعية وهذا بحسب الحقيقة رجوع إلى الاعتراض الموجه ضد أصل دعوى التوسط في التكليف بناء على مسلك العلية وانه حتى على هذا المسلك يكون من التوسط في التنجيز مع فعلية الخطاب الواقعي فضلا عن الملاك.

وإن شئت قلت : بان امتثال الملاك الواقعي لا يتوقف على ترك الفرد الآخر كما في موارد حفظ القدرة ليستكشف خطاب آخر بوجوبه ـ لو سلمت كبرى هذا الاستكشاف ـ فان أريد من الخطاب التخييري المستكشف بالملاك خطاب واقعي فهو خلف عدم التوقف واقعا ، وان أريد به خطاب ظاهري فهذا يرد عليه.

أولا ـ لا تقتضيه تلك الكبرى المزعومة في استكشاف الخطاب من الملاك لأن المدعى فيها استكشاف خطاب من سنخ الملاك وعلى أساس التوقف وثانيا ـ هذا مخالف مع مفاد أدلة الأصول الترخيصية لأنها تنفي بحسب الفرض هذه المرتبة من الحفظ لأغراض المولى أعني الحفظ في طول حصول الجهل والتردد ولا تكون نسبة أدلة الأصول إليه حينئذ كنسبتها إلى الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال كما هو واضح.

ثم انه يمكن تصوير التوسط في التكليف بإرجاع القيد إلى المتعلق ـ كما يريد المحقق العراقي ( قده ) ـ في خصوص باب الخطاب التحريمي بإرجاع ارتكاب الطرف الآخر ـ وهو شرب الطاهر في المثال ـ قيدا في الحرام لا في الحرمة فالمحرم من أول الأمر خصوص شرب النجس مع شرب الطاهر بنحو التقييد مع بقاء الحرمة على إطلاقها إذ لا وجه في خطاب الحرمة لرفع اليد عن إطلاق الحرمة والحرام معا وانما ترجع القيود إلى الحرام دائما مع بقاء الحرمة على إطلاقها بل هذا هو المتعين فيثبت من أول الأمر حرمة تلك الحصة من شرب النجس المقيدة بشرب الطاهر وهو معنى لزوم ترك أحدهما تخييرا ، نعم لا يتم ذلك في باب الخطاب الوجوبيّ كما لا يخفى وجهه.

٢٧٨

ثم انه ينبغي التنبيه على أمور :

الأول ـ ان الاضطرار يمكن ان يراد به أحد معان :

١ ـ العجز التكويني عن الامتثال.

٢ ـ العجز الشرعي ، أعني الاشتغال بالأهم أو المساوي كما لو اضطر إلى شرب النجس لأجل حفظ نفس محترمة يجب حفظها.

٣ ـ الحرج أو الضرر إذا اقتضيا الترخيص الشرعي وان لم يكن عجز في البين والاشتغال بواجب أهم.

والقسم الأول غير قابل للترخيص الشرعي أصلا وانما الترخيص فيه عقلي ، نعم يمكن للشارع التصرف في الترخيص بصرفه إلى طرف معين.

والقسم الثاني يكفي فيه علم المكلف بالمزاحمة بالأهم ولا حاجة إلى الترخيص الشرعي لكنه قابل له ولو من باب إيصال الأهمية.

واما القسم الثالث فلا يكون الترخيص فيه الا شرعيا.

وما تقدم من النكات في حكم الاضطرار كان المنظور فيها القسمان الأولان ، واما القسم الثالث فلو كان الضرر والحرج في طرف معين جرى فيه كل ما تقدم في حالة الاضطرار إلى طرف بعينه.

واما إذا كان الضرر أو الحرج يرتفع باقتحام طرف لا بعينه فقد يناقش حينئذ في أصل شمول أدلة نفي الحرج والضرر للمقام تارة بدعوى ان هذه الأدلة تنفي الحكم بلسان نفي موضوعه فلا بد من موضوع له حكم شرعي يستلزم منه الحرج وفي المقام الحكم الشرعي المعلوم بالإجمال ليس موضوعه حرجيا ولا ضرريا وانما الضرر في الاحتياط والموافقة القطعية باجتناب تمام الأطراف وهذا ليس موضوعا لحكم شرعي بل عقلي فلا تحكم عليه أدلة نفي الحرج أو الضرر ، وأخرى : بدعوى ان هذه الأدلة وان كانت تنفي منشأ كل حرج أو ضرر وهو هنا الحكم الإلزامي المعلوم بالإجمال ولو في طول حصول الإجمال الا انه يشترط فيه ان يكون حكما شرعيا لا عدم حكم أو ترخيص ، والضرر في المقام ينشأ من عدم الترخيص الشرعي في الأطراف لا من مجرد الحكم الواقعي الإلزامي ، وهذا الاعتراض بصيغتيه قد تقدم تفنيده وإبطاله في بحث دليل الانسداد وأوضحنا هناك شمول أدلة نفي الحرج والضرر لأطراف العلم الإجمالي

٢٧٩

الّذي تكون موافقته القطعية حرجية أو ضررية وهي بذلك تنفي اهتمام المولى بأغراضه الواقعية بمرتبة إيجاب الاحتياط التام.

وقد يناقش بعد الفراغ عن شمول أدلة نفي الحرج والضرر لموارد العلم الإجمالي الّذي يكون الاحتياط فيه حرجيا أو ضرريا بان لازم ذلك ارتفاع الحكم الواقعي الناشئ منه الضرر أو الحرج لأن المرفوع بهذه الأدلة لا بد وان يكون حكما شرعيا وليس الحرج أو الضرر كالعجز التكويني أو الاشتغال بالأهم الّذي يكون رافعا لمنجزية التكليف وعذرا عقليا فتكون النتيجة من التوسط في التكليف لا محالة لا في التنجيز.

الا ان الصحيح انه على هذا التقدير أيضا تكون النتيجة التوسط في التنجيز مع بقاء الحكم الواقعي على حاله لأن الحرج أو الضرر انما نشأ بحسب الحقيقة عن إيجاب الاحتياط التام واهتمام المولى بأغراضه المشتبهة بالعلم الإجمالي الّذي هو حقيقة الحكم الظاهري عندنا وليس الحرج أو الضرر من نفس الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال فالذي يرتفع بأدلة النفي هذه المرتبة من الاهتمام الشرعي والّذي هو حكم شرعي بحسب الحقيقة على حد الأحكام الواقعية وان كانت ملاكاتها طريقية فالنتيجة في هذا النحو من الاضطرار هي التوسط في التنجيز أيضا.

الثاني : ان ما ذكرناه في الاضطرار إلى طرف معين من أطراف العلم الإجمالي من التفصيل بين تأخر الاضطرار عن العلم فيبقى العلم الإجمالي منجزا وبين تقارنه أو تقدمه على العلم فلا منجزية للعلم لا يختص بفرض الاضطرار بل يطرد في تمام موارد سقوط التكليف في أحد الطرفين بالتلف أو الامتثال أو العصيان لأنه في الفرض الأول وان كان بلحاظ مرحلة البقاء لا علم إجمالي بالتكليف فعلا لاحتمال كونه في الطرف الساقط ولكن لنا علم إجمالي بالتكليف المردد بين القصير بلحاظ قبل زمن الاضطرار أو التلف والطويل في الطرف الآخر.

الا ان المحقق الخراسانيّ ( قده ) في الكفاية حكم بسقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بطرو الاضطرار إلى طرف معين من أطرافه مطلقا بخلاف فرض التلف فحكم فيه بالتنجيز ولكن في حاشيته على الكفاية استدرك وجعل الاضطرار الحاصل بعد العلم الإجمالي غير مؤثر في إسقاط منجزية العلم باعتبار العلم المردد بين القصير

٢٨٠