بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

مباحث الحجج

أصالة البراءة

ـ البراءة العقلية

ـ تاريخ البراءة العقلية في الفكر

الفقهي

ـ أدلة القائلين بالبراءة العقلية.

ـ البراءة الشرعية

ـ الآيات التي يستدل بها على البراءة

الشرعية.

ـ الاستدلال بالسنة على البراءة

الشرعية.

ـ حديث كل شيء مطلق ـ حديث

الرفع.

ـ حديث الحجب ـ حديث كل شيء

حلال.

ـ الاستدلال بالاستصحاب على

البراءة.

ـ أدلة القول بالاحتياط

ـ أدلة الاحتياط العقلي.

ـ الآيات التي ادعي دلالتها على

الاحتياط الشرعي.

ـ الروايات التي ادعي دلالتها على

الاحتياط الشرعي.

ـ النسبة بين أدلة البراءة والاحتياط

ـ تنبيهات البراءة.

٢١
٢٢

أصالة البراءة

يقسم البحث عن أصالة البراءة إلى قسمين ، الأول ـ في البراءة العقلية ، والثاني ـ في البراءة الشرعية.

١ ـ البراءة العقلية :

وقد كادت انّ تكون إجماعية في العصر الثالث من عصور العلم أي منذ زمن الوحيد البهبهاني ( قده ) وقد اكتسب هذا الأصل صيغة فنية تحت قاعدة عقلية سميت بقبح العقاب بلا بيان ، وبحسب الحقيقة قد شكلت هذه القاعدة أحد الأسس الرئيسية للتفكير الأصولي المعاصر وطرازه ولهذا استحكمت القاعدة استحكاما شديدا ومنشأ هذا التفكير ما أشرنا إليه في مباحث القطع من انّ المحققين من علماء الأصول قد فصلوا بين امرين أحدهما مولوية المولى وحق طاعته واعتبروا المولوية وحق الطاعة كليا متواطئا لا تقبل الزيادة والنقصان وليست ذات مراتب وهي عبارة عن حق طاعة كل تكليف يصدر عن المولى واقعا إذا تمت عليه الحجة والبيان. والثاني ـ ميزان الحجية والمنجزية ، فقالوا بأنّ البحث في أصل المولوية موضعه علم الكلام وامّا البحث عن ميزان الحجية فهو وظيفة البحث الأصولي. وفي هذا المجال بينوا قاعدتين إحداهما حجية القطع وانّ كل حجة لا بدّ وانّ ترجع إلى القطع والحجية ذاتية للقطع ، والثانية

٢٣

انتفاء الحجية بانتفاء القطع لأنه من مستلزمات كون الحجية ذاتية للقطع وهذا هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان. وترتب على ذلك انّ الظن بنفسه لا يمكن انّ يكون حجة فلا بدّ لكي يكون حجة من جعل جاعل وعندئذ نواجه حيرة في انّ جعل الجاعل كيف يجعل الظن حجة ومنجزا وهل ذلك إلاّ تخصيص في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مع انّ الأحكام العقل غير قابلة للتخصيص ، ومن هنا برزت اتجاهات جعل الطريقية والعلمية للحكومة على حكم العقل وقال بعضهم بأنّ العقاب على مخالفة الحكم الظاهري المقطوع به لا الواقعي امّا مطلقا أو في خصوص ما لم يجعل له العلمية كقاعدة الاحتياط الشرعية.

وقد أوضحنا مفصلا في بحوث القطع انّ هناك خطأ أساسيا في هذا الطرز من التفكير ، حيث فصل بين الحجية والمولوية مع انه لا فصل بينهما بل البحث عن الحجية بحث عن حدود المولوية بحسب الحقيقة لأنّ المولوية عبارة عن حق الطاعة وحق الطاعة يدركه العقل بملاك من الملاكات كملاك شكر المنعم أو ملاك الخالقية أو المالكية ولكن حق الطاعة له مراتب وكلما كان الملاك آكد كان حق الطاعة أوسع ، فقد يفرض بعض المراتب من منعمية المنعم لا يترتب عليه حق الطاعة إلاّ في بعض التكاليف المهمة لا في كلها ، وقد تكون المنعمية أوسع بنحو يترتب حق الطاعة في خصوص التكاليف المعلومة ، وقد تكون مولوية المولى أوسع دائرة من ذلك بان كانت منعميته بدرجة يترتب عليه حق الطاعة حتى في المشكوكات والمحتملات من التكاليف. فهذا بحسب الحقيقة سعة في دائرة المولوية اذن فالحجية ليست شيئا منفصلا عن المولوية وحق الطاعة ومرجع البحث في قاعدة قبح العقاب بلا بيان إلى البحث عن انّ مولوية المولى هل تشمل التكاليف المحتملة أم لا. ولا شك انه في التكاليف العقلائية عادة تكون المولوية ضيقة ومحدودة بموارد العلم بالتكليف وامّا في المولى الحقيقي فسعة المولوية وضيقها يرجع فيها إلى حكم العقل العملي تجاه الخالق سبحانه ، ومظنوني انه بعد الالتفات إلى ما بيناه لا يبقى من لا يقول بسعة مولوية المولى الحقيقي بنحو تشمل حتى التكاليف الموهومة. ومن هنا نحن لا نرى جريان البراءة العقلية.

وفيما يلي نتكلم في جهتين :

٢٤

أولاهما ـ استقراء الجانب التاريخي للمسألة.

الثانية ـ في استعراض ما استدل به على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

اما الجهة الأولى ـ فقبل الشيخ الصدوق ( قده ) لم يكن لهذه القاعدة عين ولا أثر وامّا في عصره فيظهر منه انه يقول بالإباحة عند الشك في الإلزام ولكن لم يظهر منه انه يقصد البراءة العقلية فلعل مراده الإباحة الشرعية. واما فيما بعد الصدوق فالشيخ المفيد والطوسي ( قد هما ) لم يظهر منهما تبني هذه القاعدة العقلية بل قد يستشم من كلامهما العكس فانه كانت هناك مسألة أصولية يبحث فيها عن حكم الأصل في الأشياء هل هو الحظر أو الإباحة فيما إذا لم يستقل العقل فيه بالقبح أو الحسن فقيل فيه بالحظر لأنه لا يؤمن من وقوع المفسدة بسبب الإقدام وهذا الطرز من التفكير لا يناسب مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وبعد الشيخ الطوسي ( قده ) بفترة قرن من الزمان تقريبا نجد انّ ابن زهرة ( قده ) يذكر البراءة العقلية ولكن بحسب الظاهر لم يكن يقصد بها قبح العقاب بلا بيان بالمعنى المعروف حاليا وانما كان يقول بقبح التكليف مع عدم العلم لأنه من التكليف بغير المقدور ومن هنا تحير المتأخرون عنه في كيفية تفسير ذلك وانه كيف يكون الجهل موجبا لانتفاء القدرة فحملوا كلامه على انّ المقصود انّ الامتثال التفصيليّ غير مقدور.

وبعد ذلك جاء دور المحقق ( قده ) فاستدل على البراءة بتقريبين :

الأول ـ استصحاب حال العقل ، وفي هذا التقريب ارجع البراءة إلى كبرى الاستصحاب ، ومن الواضح انّ الاستصحاب غير قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

الثاني ـ انّ التكليف بشيء مع عدم نصب دليل عليه قبيح وعدم وصول الدليل دليل على عدم وجوده ، وهذا أيضا غير القاعدة.

وبعد المحقق شاع إدراج البراءة في الأدلة العقلية ، لأنّ كلا التقريبين المتقدمين عن المحقق ( قده ) يدرجها في الأدلة العقلية لأنّ الاستصحاب عندهم كان بحكم العقل كما انّ التقريب الثاني عقلي وقد ذهب صاحب المعالم ( قده ) إلى التقريب الثاني ونقل في الرسائل ذلك عن القوانين واستغرب منه.

٢٥

ثم بعد ذلك في العصر الثالث من علم الأصول تبلورت البراءة العقلية بعنوان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ثم شكك جملة منهم في جريانها في الشبهات المفهومية لأنّ البيان العرفي قد يكون تاما فيها على تقدير شمول المفهوم وانّ كان غير تام عند الشاك ، ورد من قبل الآخرين بأنّ المراد من البيان العلم عند المكلف نفسه فلا بدّ من تمامية البيان عند الشاك. كما انه ذهب بعضهم إلى عدم جريانها في الشبهات الموضوعية لأنّ المولى ليس من وظيفته بيان الموضوعات وتعيين المصاديق ، وردّ بأنّ المقصود العلم بالمجعول وهو غير حاصل في الموضوعات أيضا وليس المقصود البيان والخطاب الشرعي لكي يقال بأنّ ذلك مختص بالشبهات الحكمية.

وكل هذه التشكيكات توحي بأنّ القاعدة ليست فطرية ومسلمة.

الجهة الثانية ـ استدل على قاعدة قبح العقاب بلا بيان بوجوه عديدة.

الأول ـ الإحالة إلى الوجدان العرفي والعقلائي في باب المولويات العقلائية ، حيث نرى انهم لا يؤاخذون على ارتكاب مخالفة التكليف الواقعي في موارد الجهل وعدم العلم بالحكم الواقعي ولا الظاهري الإلزامي. فيكون هذا منبها مثلا على ارتكازية قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعقليتها.

وهذا الوجه غير تام ، لأنه مبني على انّ يكون حق الطاعة والمولوية أمرا واحدا لا درجات لها ولا مراتب ، وقد عرفت خلافه وانّ المولويات العرفية والعقلائية باعتبارها مجعولة وليست ذاتية أو بملاكات ضعيفة فالمقدار المجعول من المولوية عقلائيا ليس بأكثر من موارد العلم بالتكليف وامّا في المولى الحقيقي والّذي تكون مولويته ذاتية بملاك بالغ كامل مطلق وهو المنعمية التي لا حد لها بل والمالكية والخالقية للإنسان فالعقل لا يرى أي قصور في مولويته وحق طاعته بل يرى عمومهما لتمام موارد التكليف حتى موارد عدم العلم به.

وبذلك يظهر انّ التقريب المذكور قد وقع فيه الخلط بين المولويات الاعتبارية المجعولة والمولوية الحقيقية الذاتيّة وبالالتفات إلى التمييز بينهما لا يبقى في الإحالة إلى السيرة العقلائية أو الوجدان العرفي أيّة دلالة أو منبهية على حقانية قاعدة عقلية باسم قبح العقاب بلا بيان.

الثاني ـ ما تمت صياغته في مدرسة المحقق النائيني ( قده ) وحاصله : انّ القاعدة

٢٦

مرجعها إلى انه يقبح العقاب على ترك التحرك حيث لا موجب للتحرك وقد عده من القضايا التي قياساتها معها ، وتوضيح الفكرة كبرويا بأنه لا معنى لتسجيل العقاب على ترك التحرك في مورد لم يكن فيه موجب للتحرك ، وامّا الصغرى فباعتبار انّ الأمور الواقعية ومنها التكاليف انما تكون محركة بوجوداتها الواصلة لا الواقعية فالعطشان انما يتحرك نحو ماء يعلم به لا مالا يعلم به.

وهذا البيان أيضا غير تام ، لأنّ المحرك على قسمين :

١ ـ المحرك التكويني وهو الّذي ينشأ من وجود غرض تكويني نحو الشيء ملائم مع قوة من قوى الإنسان أو رغبة من رغباته.

٢ ـ المحرك التشريعي وهو عبارة عن حكم العقل بلا بدّيّة التحرك سواء كان لدى الإنسان غرض فيه أم لا.

فان كان النّظر إلى التحرك التكويني فالشيء بوجوده الواقعي وان لم يكن هو المحرك التكويني بل بوجوده الواصل لأنّ وجوده الواقعي لا يكون أحد مبادئ الإرادة والتحرك ولا يتدخل في تكوين غرض نفساني له وعملية التحرك عملية شعورية نفسانية بحاجة إلى الوصول إلاّ انّ الوصول له مراتب من جملتها الوصول الاحتمالي وبحسب تفاوت درجات أهمية الشيء تختلف المحركية فقد يفرض تحقق المحركية من احتمال وجود المطلوب كما هو واضح.

وامّا المحرك التشريعي فمرجعه إلى حق الطاعة ، فانه الّذي يلزم بتطبيق العمل على وفق ما أمر به المولى ويحكم بلا بديته ، والكلام بعد في هذا الحق وحدوده فمن يقول به حتى في حالات الشك وعدم العلم بالتكليف يرى وجود المحرك المولوي وثبوت الموجب له حتى مع الوصول الاحتمالي.

الثالث ـ ما وجد في كلمات المحقق الأصفهاني ( قده ) حيث ذكر في مقام تقريب القاعدة بأنها فرد من افراد حكم العقل في باب الحسن والقبح العقليين اللذان مرجعهما إلى قضيتي حسن العدل وقبح الظلم وفي المقام بعد افتراض المولوية نرى انّ مخالفة تكليف تمت عليه الحجة خروج عن زي العبودية فيكون ظلما قبيحا وامّا مخالفة ما لم تتم عليه الحجة فليس ظلما ولا يستحق فاعله العقاب واللوم. وهذا الكلام من الواضح انه مصادرة إذ ما ذا يراد بالحجية ، إذ لو أريد بها ما يصحح العقاب كانت

٢٧

القضية بشرط المحمول وانّ أريد بها العلم فهو أول الكلام فيكون الدليل عين المدعى نفسه وبمنهجة غير فنية لأنه التزم فيها بأنّ مرجع قضايا الحسن والقبح إلى قاعدة أولية بديهية هي حسن العدل وقبح الظلم وقد تقدم في بحث الدليل العقلي انّ قضية قبح الظلم وحسن العدل لا يمكن ان تكون أولية ـ لأنّ الظلم عبارة عن سلب ذي حق حقه فلا بدّ من تشخيص الحق الّذي هو من مدركات العقل العملي نفسه في المرتبة السابقة عليه.

الرابع ـ ما ذكره المحقق المذكور أيضا مبنيا على مصطلحه في باب الحكم والتكليف ، حيث انه قسم الحكم إلى إنشائي وحقيقي والأول ما يحصل بالجعل والإنشاء من دون ان يفرض فيه داعي البعث والتحريك الأمر المحفوظ حتى في الأوامر الاستهزائية فضلا عن الاختبارية ، والثاني ما يحصل بالجعل بداعي التحريك والبعث الحقيقي وهو الّذي يكون حكما حقيقيا. ومن الواضح انّ كل خطاب لا يعقل ان يكون باعثا إلاّ ان يصل إلى المكلف إذ لا يمكن ان يكون الحكم مجعولا بداعي البعث والتحريك إلاّ إذا كان وأصلا لعدم الباعثية في غير صورة الوصول اذن لا يكون الحكم حكما حقيقيا إلاّ في حالة وصوله ومن دون ذلك فلا وجود حقيقي للحكم فيقبح العقاب على تركه لأنه لا وجود له.

وفيه : أولا ـ انّ الإنشاء يمكن ان يكون محركا في حالة الوصول الاحتمالي بناء على سعة دائرة حق الطاعة ، فهذا الوجه يتوقف على دعوى ضيق حق الطاعة في المرتبة السابقة فلا يكون إلاّ مصادرة.

وثانيا ـ انّ غاية ما تقتضيه عدم وجود الحكم بالمعنى المذكور واما ملاكات الحكم ومباديه من المصلحة والمفسدة والإرادة أو الكراهة فهي أمور تكوينية محفوظة في حالات العلم والجهل معا وهذه المبادئ هي روح الحكم وحقيقته وهي تكفي للحكم بالمنجزية وحق الطاعة للمولى في موارد احتمالها سواء سمي ذلك حكما اصطلاحا أم لا ، فانّ ذلك بحث لفظي في التسمية بحسب الحقيقة.

وهكذا يتلخص انه لا أساس لقاعدة قبح العقاب بلا بيان فلا موجب للذهاب إلى البراءة العقلية في الشبهات بل العقل يحكم بلزوم الاحتياط فيها جميعا لأنّ حق إطاعة مولانا الحقيقي ثابت بنحو مطلق ما لم يحرز اذن المولى في المخالفة فيرتفع موضوع الحق

٢٨

المذكور. ومن هنا يكون الأصل الأولي في الشبهات هو الاحتياط ولا نخرج عنه إلاّ بمقدار ما يثبت من الترخيص الشرعي والحكم الظاهري في موارد الأمارات أو الأصول الشرعية.

٢٩
٣٠

٢ ـ البراءة الشرعية

وامّا البراءة الشرعية فقد استدل عليها بالكتاب والسنة.

« الاستدلال على البراءة الشرعية بالكتاب »

اما الكتاب فبآيات :

منها ـ قوله تعالى ( لا يكلّف الله نفسا إلاّ ما آتاها ) (١) بناء على شمول الموصول فيها للتكليف؟(٢) وعدم الموجب لتقييده بالفعل أو بالمال بالخصوص وانّ فرض موردها المال لأنها مسوقة مساق الكبرى الكلية المعلّل بها وهذا لا يناسب التقييد بالمورد وعليه فيكون المعنى لا يكلف الله نفسا بتكليف إلاّ ما آتاها وإيتاء التكليف إيصاله إذ إيتاء كل شيء بحسبه.

وقد استشكل في هذا الاستدلال بإشكال معروف حاصله : انّ المراد بالموصول إن

__________________

(١) سورة الطلاق : ٧.

(٢) الظاهر انّ المفعول الّذي استثني منه اسم الموصول هو المفعول المطلق أي لا يكلف الله نفسا كلفة الا ما آتاها لا المفعول به لأن التكليف لا يتعدى إليه بدون الباء فلا يقال كلّفه بمعنى كلف به وحيث لم يرد حرف الجرّ في الآية فيكون المراد المفعول المطلق ومعنى الإيتاء هنا هو الإقدار على الكلفة والجهد لأن هذا هو المتفاهم من إضافة الإيتاء إلى الكلفة وشمول الآية لمورد المال بهذا الاعتبار وعليه تكون الآية أجنبية عن محل الكلام رأسا.

٣١

كان هو الفعل أو المال كان الموصول مفعولا به لفعل ( يكلف الله ) بينها لو أريد به التكليف كان مفعولا مطلقا ، ونسبة المفعول به إلى الفعل مباينة مع نسبة المفعول المطلق إليه فلا يمكن الجمع في كلام واحد بينهما لأنه من استعمال اللفظ في معنيين وهو ان لم يكن غير معقول فلا إشكال انّه مما لا يمكن إثباته بالإطلاق في اسم الموصول وبما انّ إرادة المال متيقن منه على كل حال لكونه موردها فيتعين ان تكون النسبة المذكورة هي نسبة المفعول به إلى فعله.

وقد أجيب عليه بجوابين :

الأول ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) من دعوى استعمال الهيئة في نسبة جامعة بين النسبتين.

وهذا إن أريد به وجود نسبة جامعة بين النسبتين حقيقة فهذا خلاف ما برهن عليه في المعاني الحرفية من تباين النسب ذاتا وعدم وجود جامع ذاتي ماهوي فيما بينها ، وان أريد وجود نسبة ثالثة مباينة ذاتا مع كل من النسبتين وتكون ملائمة مع إطلاق الموصول للتكليف فهذا ممكن ثبوتا إلاّ انه لا يمكن إثباته بإجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة في الموصول بل تكون النتيجة على الأقل الإجمال.

الثاني ـ ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) من انّ المصدر قد ينظر إليه بنحو الاسم وهو بهذا النّظر يكون ذاتا فيصح ان يقع مفعولا به لأنه بهذا اللحاظ لا يكون مصدرا وحدثا بل ذاتا كسائر الذوات.

وهذا الجواب أيضا غير تام ، لأن المصدر وان كان يمكن ان يراد به اسم المصدر بعناية إلاّ انّ هذه عناية في كيفية لحاظ المصدر وليس هناك شيئان حقيقيان خارجا أحدهما المصدر الحدث والآخر اسم المصدر الذات والإطلاق ومقدمات الحكمة في اسم الموصول لا تثبت الا عمومه لما هو ثابت حقيقة في الخارج وليس واقع التكليف كحدث في الخارج صالحا لذلك بحسب الفرض.

والصحيح : انّ هذه المشكلة نشأت من وهم لغوي وقع فيه علم الأصول حيث اعتاد على ان يعبر عن الحكم بالتكليف وقد ورد في الآية ( لا يكلف الله ) فتوهم انه لا يمكن ان يشمله إلاّ كمفعول مطلق مع انّ مادة الكلفة في الآية مباينة مع الحكم والجعل مفهوما فيصح وقوعه مفعولا به لفعل لا يكلف على حد المال والفعل.

٣٢

ثم ان هذا المفاد هل هو سنخ مفاد ينفي وجوب الاحتياط لو ثبت بدليل أو يكون محكوما له؟ تشخيص ذلك مبني على ان نعرف ان المنفي بالآية الكلفة في مورد الشيء أو بسببه فان كان المعنى ان الشيء الشيء الّذي لم أوت به لا أكلف بسببه فلا يكون نافيا للاحتياط الشرعي لأن دليله يثبت الكلفة بسبب إيجاب الاحتياط وان كان المعنى ان الشيء الّذي لم يؤت لا كلفة في مورده كان منافيا لإيجاب الاحتياط الشرعي والأقرب هو ذلك كما هو المناسب مع مورد الآية.

نعم ان هذا اللسان قد يقال انه لا يشمل الشبهات الموضوعية لأن إيتاء الحكم من الشارع خاص بالحكمية. ولكن الصحيح ان المراد بالإيتاء في الآية الإتيان التكويني أو الأعم منه ومن التشريعي لا التشريعي خاصة لأن موردها المال وإيتاؤه يكون تكوينيا فالآية تدل على نفي وجوب الاحتياط في الشبهتين معا. نعم لا يبعد عدم إطلاقها للشبهة قبل الفحص لأن الإيتاء يحتمل تحققه فيه إذا كان المدرك عليه موجودا في أيدينا فان إيتاء كل شيء بحسبه.

ومنها ـ قوله سبحانه ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) (١) تقريب الاستدلال : ان المولى نفى التعذيب الا في حالة إرسال الرسول وهو وان كان بمعنى بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الا انه بعد حمله على المثالية يكون المعنى حتى نتم البيان والحجة فيستنتج ان العقاب منوط بالبيان فلا عقاب من دونه.

وقد يستشكل بان الآية تنفي فعلية العقاب لا الاستحقاق وهو أعم من المقصود.

والجواب : ان سياق الجملة وتركيبها يدل على ان المنفي ليس من شأن المتكلم لا ينبغي كما يظهر بمراجعة الأشباه والنّظائر (٢) وان شئتم قلتم : ان هذا اللسان من السنة الترخيص والإباحة ورفع المسئولية عرفا.

وقد يعترض بان المراد بالعذاب فيها العذاب الدنيوي لا الأخروي فيكون أجنبيا عن المطلوب.

والجواب : مضافا إلى عدم وجود ما يدل على تقييد العذاب فيها بالدنيوي عدا

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٥.

(٢) قد يقال ان هذه النكتة بنفسها تكون قرينة على ان المراد عدم التعذيب قبل إتمام الحجة ولو عقلا وهذا غير البراءة الشرعية والإباحة الظاهرية ، كيف وعدم البراءة الشرعية ليس فيه ما لا يكون من شأن المولى.

٣٣

استعمال فعل الماضي والّذي أشرنا إلى ان سياقه سياق نفي الشأنية لا الاخبار عن الأمم الهالكة بل ان سياقها يناسب إرادة العذاب الأخروي لأنها وردت في سياق ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) وهي تنظر إلى عالم الإدانة والمسئولية والعقاب الأخروي أي إلى عالم التشريع لا التكوين. ان النكتة واحدة بعد فرض ان المستفاد من الآية نفي الشأنية.

هذا ولكن ينبغي ان يعلم ان المقدار الّذي يثبت بها البراءة ما لم يصدر من الشارع البيان لا ما لم يصل إلى المكلف لأن بعث الرسول غاية ما يمكن ان يحمل عليه هو الكناية عن صدور التشريع لا وصوله إلى المكلف والمطلوب لنا إثبات البراءة فيما لم يصل إلى المكلف فالآية غاية ما تدل عليه إناطة العقاب بالصدور والتشريع لا بالعلم والوصول وهو مطلب آخر لا يمكن إحرازه في الشبهات وإحرازه باستصحاب عدم الصدور رجوع إلى الاستصحاب الّذي يمكن إجراؤه في عدم جعل الحكم ابتداء وان كان الأول موضوعيا وسوف يأتي مزيد بحث في هذه النقطة.

ومن جملة الآيات قوله تعالى ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير. ) (١). وتقريب الاستدلال : ان الله سبحانه قد علم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الآية كيفية المحاجة مع أهل الكتاب في تحريمهم ما لم ينزل بها من سلطان بأنه لا يجد فيما أوحي إليه محرما غير ما ذكر فكأن عدم الوجدان يكفي في التخلص عن تبعات التكليف.

وفيه : أولا ـ ان عدم الوجدان من مثل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يوحى إليه يكون دليلا قاطعا على عدم التحريم واقعا فليس الآية في مقام جعل حكم ظاهري بل هذا لا يناسب مقام التخاصم مع أهل الكتاب.

وثانيا ـ ان عدم وجدان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أقل تقدير يكون دليلا قاطعا على عدم صدور التشريع فلو فرض دلالتها على البراءة فهي منوطة بعدم الصدور لا الوصول وهو مطلب آخر لا يمكن إحرازه في الشبهات كما أشرنا إليه.

وثالثا ـ يحتمل ان يكون قد لوحظ عدم وجدان الحرمة منضما إلى الأدلة الاجتهادية

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٤٥.

٣٤

اللفظية الدالة على الحلية في باب المطعومات مثل قوله تعالى ( خلق لكم ما في الأرض جميعا ) (١) مثلا فلا معين في ان يكون النّظر إلى إناطة الترخيص العملي بعدم الوجدان.

ومن الآيات قوله تعالى ( وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ) (٢) وتقريب الاستدلال بها : ان الإضلال سواء أخذ بمعنى تسجيلهم في الضالين أو خذلانهم والاعراض عنهم المؤدي إلى الضلال قد أنيط بالبيان لهم وظاهره إناطة العقوبة والتبعة بالبيان لهم وهو معنى البراءة ومن ألسنتها بعد ان كان السياق سياق نفي الشأنية ، بل بناء على المعنى الأول تكون مادة الضلال دالة على ذلك ولو لم يكن السياق المذكور. كما ان البيان لهم ظاهر في الوصول والعلم وليس كبعث الرسول كناية عن مجرد الصدور فالاستدلال بها على المطلوب تام. نعم يبقى الكلام في ان مفادها سنخ براءة منافية مع دليل الاحتياط أو محكومة له.

والظاهر انه لو أريد بما يتقون ما يتقونه بالعنوان الأولي فهو مختص ببيان الحكم الواقعي ، ولو أريد به ما يتقونه ولو بعنوان ثانوي استطراقي شمل بيان الحكم الظاهري بإيجاب الاحتياط فتكون البراءة المستفادة من هذه الآية مرتفعة بدليل الاحتياط ، ولا يبعد ان يكون ظاهر ما يتقون هو الأول لا الثاني بقرينة ان الإضلال والعقاب انما يكون بلحاظ مخالفة الواقع دائما (٣).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٩.

(٢) سورة التوبة : ١١٥.

(٣) الإنصاف ان هذا خلاف الظاهر ، فان ظاهر الآية ان الله لا يضل قوما من دون ان يبين لهم ما ينبغي ان يفعلونه ويتقونه وهذا صادق حتى إذا كان ذلك البيان بيانا لحكم طريقي يحفظ فيه أغراض المولى الواقعية لأن الآية ظاهرها ان المولى لا يؤاخذ أو يخذل من دون بيان واما سنخ البيان فمطلق يشمل كل ما يكون بيانا لما ينبغي الاتقاء منه سواء كان بعنوان أولي أو ثانوي ، نعم ظاهرها عدم الاكتفاء بمجرد حكم العقل بالاحتياط بل لا بد من البيان الشرعي عليه. ثم ان هناك تفسيرا آخر للآية يخرجها عن مجال الاستدلال رأسا وذلك بأن يراد منها ان الله لا يترك أمة بعث فيها نبيا وهداها إلى الإيمان بل سوف يشرع لهم شريعة ورسالة لكي يتقوا ما ينبغي اتقاءه وما يصلح شأنهم فليس النّظر إلى المسئولية والتبعة ليستفاد منه الحكم بالبراءة ومما يشهد على ذلك التعبير بقوله تعالى ( بعد إذ هداهم ) والتعبير ( بأن الله لا يضل قوما ).

٣٥

« الاستدلال على البراءة بالسنة »

واما السنة ـ فقد استدل بعدة روايات.

« حديث كل شيء مطلق »

منها ـ الحديث المعروف ـ ( كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ) (١) وتقريب الاستدلال به : ان مفاده الإطلاق والتوسعة ما لم يرد نهي وهذا هو التقريب الساذج بالحديث.

والتحقيق : ان الاستدلال بهذا الحديث يتوقف على تتميم مرحلتين :

المرحلة الأولى ـ ان يكون المراد من الورود الوصول لا الصدور ومع الإجمال لا يتم الاستدلال أيضا.

وهناك وجهان يمكن ذكرهما لاستظهار إرادة الوصول.

الأول ـ ما قيل من ان الورود سنخ معنى يستبطن الوفود على الشيء فهو معنى نسبي بحاجة إلى طرف يضاف إليه فلا يطلق على مجرد الصدور.

وفيه : لا معين لأن يكون الملحوظ وفود النهي على المكلف بل لعل الملحوظ وفوده على الشيء نفسه كما يناسبه قوله يرد فيه نهي وارد على المادة والمادة هي المورود عليه. مضافا إلى ان من المحتمل قويا ـ لو فرض لحاظ الورود على المكلف ـ إرادة الوفود على جنس المكلفين أي الأمة لا كل مكلف مكلف فيكون بمعنى الصدور ومعه لا يكون مساوقا مع البراءة المطلوبة.

الثاني ـ ان الإطلاق في قوله كل شيء مطلق اما آن يراد به الإرشاد إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان أو الترخيص المولوي الواقعي أو الترخيص الظاهري ، والأول خلاف ظاهر مولوية الخطاب الصادر من الشارع والثاني لا يناسب مع كون الغاية ورود النهي سواء أريد به الوصول أو الصدور إذ الأول يستلزم تقييد الحكم الواقعي بالإباحة بعدم العلم بالحرمة وهذا يعني تقيد الحرمة الواقعية بالعلم بها وهو من أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه ، والثاني ان أريد به تقييد الإباحة الواقعية بعدم

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ، الباب الثامن من أبواب المقدمات ، ح ١٥.

٣٦

النهي الواقعي فهو محال لأنه من أخذ عدم الضد قيدا في موضوع الضد الاخر وان أريد مجرد بيان مطلب واقعي وهو انه متى ما لم يكن هذا الضد موجودا وهو الحرمة والنهي فالضد الاخر وهو الإباحة ثابت فهذا لغو من الكلام. وهكذا يتعين ان يراد من الإطلاق الترخيص الظاهري وهو لا يناسب ان تكون الغاية فيه عدم صدور النهي وتشريعه بل عدم وصوله والعلم به لأن الأحكام الظاهرية مغياة بالعلم لا بالواقع.

وفيه : أولا ـ ان إرادة الترخيص الواقعي لا محذور فيه ، لأن المراد بالنهي الخطاب المبرز لا الحرمة لأنه اسم له فغاية ما يلزم تقيد الحرمة الواقعية بالعلم بخطابها وقد تقدم في محله إمكان ذلك.

ثانيا ـ لو فرض استحالة التقييد بذلك أيضا ، قلنا انه مجرد بيان لثبوت الحلية واقعا كلما لم يصدر التحريم ولا يلزم منه اللغوية بل يفيد الكشف عن ثبوت الحلية الواقعية شرعا عندئذ كلما لم يصدر خطاب شرعي بالتحريم. نعم هذا قد يكون منافيا مع ظهور الغاية في المولوية إذ فيه نوح إرشاد إلى ما هو ثابت واقعا فيكون خلاف الظاهر.

ثالثا ـ يمكن إرادة الترخيص الظاهري ومع ذلك لا معين لأن يكون الورود بمعنى الوصول بل الصدور ويكون مفاد الحديث جعل الترخيص الظاهري والإباحة في الأشياء قبل نزول الوحي بالتحريم والنهي.

فكما ان الاحتمال الثالث يناسب الوصول يناسب الصدور أيضا ولا يلزم تقيد الترخيص الظاهري بعدم الحرمة الواقعية بل بعدم صدور ما يدل على الحرمة وتشريعها فيكون مفاد الحديث مفاد القاعدة المشهورة من ان الأصل في الأشياء الإباحة قبل صدور النهي.

المرحلة الثانية ـ لو فرضنا استظهار الوصول من الورود فهل تكون البراءة المستفادة من الحديث محكومة لدليل الاحتياط لو تم أو معارضة معه ، وهذا يتوقف على تشخيص ان المراد بالنهي في الغاية هل هو الواقعي أو الأعم منه ومن الظاهري ، فعلى الأول تكون البراءة معارضة مع دليل الاحتياط لأنه لا يثبت النهي الواقعي وعلى الثاني تكون محكومة ومتأخرة عنها لا محالة. ولا ينبغي الإشكال في ان الظاهر هو الأول ، لأن النهي قد أضيف إلى موضوع القضية في الحديث وهو الشيء فقيل ( حتى يرد فيه نهي ) وهذا ظاهر في ورود النهي فيه بما هو شيء لا بما هو مشكوك النهي والحرمة فان هذا

٣٧

الجزء من الموضوع وهو الشك في الحرمة انما يستفاد بملاحظة الغاية في الحديث مع ان موضوع النهي في الغاية لا بد وان يكون ملحوظا بقطع النّظر عنها. فالمرحلة الثانية من الاستدلال تامة الا ان المرحلة الأولى قد عرفت عدم تماميتها.

ثم ان صاحب الكفاية ( قده ) بعد ان فرض ان المراد من الورود في الحديث الصدور لا الوصول اقترح تتميم الاستدلال بضم استصحاب عدم الصدور فيتنقح موضوع البراءة قبل الصدور وهو من الاستصحاب الموضوعي الجاري في امر خارجي وهو صدور الخطاب لا الحكمي الجاري عن الحرمة ابتداء ، وهو لا يتم الا إذا ثبتت البراءة الظاهرية قبل الصدور. وبهذا نصل إلى النتيجة المطلوبة وهي البراءة في تمام الشبهات.

ثم علق عليه بان هذا لا يثبت تمام المطلوب ، إذ لا يمكن إثبات البراءة في موارد العلم بصدور النهي والإباحة ولكن يشك في المتقدم منهما والمتأخر.

وهذا التعليق قد يفسر بما لعله ظاهر من عدم جريان استصحاب عدم صدور النهي في هذه الحالة للعلم بصدوره بحسب الفرض. وقد يفسر ـ كما عن المحقق الأصفهاني ( قده ) ـ بأنه لا يجري استصحاب عدم الصدور لكون المورد من توارد الحالتين فلا يجري فيه الاستصحاب اما للمعارضة أو في نفسه لعدم اتصال زمان اليقين بزمان الشك ، وحينئذ يعترض عليه : ـ كما عن المحقق المذكور ـ بان التوارد في المقام غير معقول لأن العلم بطرو الحرمة والإباحة معا لا يكون الا بان تكون هناك إباحة بعد الحرمة والا فلو كانت الحالة الثانية هي الحرمة فلا إباحة إذ لا يعقل طرو إباحة قبل الحرمة على الإباحة الثابتة بمقتضى هذا الحديث قبل كل نهي فانه من اجتماع إباحتين وهو محال.

وفيه : أولا ـ انه لا يلزم في فرض توارد الحالتين العلم بطرو إباحة أخرى يعلم بمغايرتها مع الأولى بل يمكن فرض زمانين يعلم بثبوت الإباحة في أحدهما وثبوت الحرمة في الاخر كما لو علم بحرمة الفعل في غزوة خيبر مثلا وبإباحته في السنة الرابعة للهجرة وشك في ان الغزوة المذكورة كانت قبل السنة الرابعة أو بعدها فان كانت قبلها فالإباحة أصلية قبل النهي وهي مرتفعة وان كانت بعدها فالإباحة طارئة على النهي وهي باقية فتصوير توارد الحالتين لا يتوقف على ما ذكره ( قده ) ليكون غير معقول.

٣٨

وثانيا ـ لو فرض العلم بإباحة أخرى طارئة مع ذلك لا استحالة في تقدمها على النهي ولا يلزم من ذلك اجتماع إباحتين لأن الإباحة المفادة بالحديث والمغياة بصدور النهي إباحة ظاهرية بحسب الفرض وليست واقعية فهي كما تجتمع مع الحرمة الواقعية كذلك تجتمع مع الإباحة كذلك.

ثم ان صاحب الكفاية بعد ان علق على الاستصحاب بما تقدم حاول إثبات البراءة في موارد توارد الحالتين بالإجماع المركب وعدم القول بالفصل في البراءة بين حالات عدم التوارد وحالات التوارد فاستشكل فيه بان هذا التعدي غير ممكن لأن المدرك للبراءة هو الاستصحاب.

وهذا الإشكال أيضا له تفسيران :

أحدهما : ما نفهمه نحن من عدم إمكان التعدي على أساس الإجماع لأن البراءة انما تثبت في موارد عدم التوارد بالاستصحاب المنقح لموضوع البراءة ولم تثبت البراءة في الشبهة بدليل اجتهادي لكي يضم إليه عدم القول بالفصل بين مورد ومورد ، وهذا هو الفرق بين محل الكلام وبين ما نقض به المحقق الأصفهاني ( قده ) في المقام من التعدي في البراءة عن الشبهات التحريمية إلى الوجوبية بعدم القول بالفصل.

ثانيهما ـ ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) من ان الإجماع قائم على انه إذا جرت البراءة في شبهة جرت في سائر الشبهات ولم تجر هنا البراءة بل الاستصحاب ، وكأنه يرى ان المراد بالإطلاق في الحديث الإباحة الواقعية المغياة بصدور النهي والاستصحاب حكم ظاهري ببقاء تلك الإباحة فليس في البين براءة تثبت لا بدليل اجتهادي ولا فقاهتي فلا موضوع للإجماع وعدم القول بالفصل ، نعم لو كان هناك إجماع على عدم الفصل بين مطلق التأمين في شبهة حكمية وسائر الشبهات لزم التعدي الا انه من الواضح فساد مثل هذه الدعوى.

هذا تمام الكلام في مفاد الحديث.

واما سنده ، فهو ساقط بالإرسال لأنه قد نقله الصدوق ( ره ) بعنوان قال الصادق ، والمختار عندنا سقوط المراسيل سواء كان بعنوان قال المعصوم عليه‌السلام الظاهر في تعهد الناقل بصدوره أم بعنوان روي عنه.

٣٩

« حديث الرفع »

ومنها ـ حديث الرفع المشهور وقد رواه في الخصال بلسان ( رفع عن أمتي تسعة وعد منها ما لا يعلمون وعطف عليه ما اضطروا إليه واستكرهوا عليه ... إلخ ) (١).

والكلام فيه يقع في أربعة مقامات.

الأول ـ في فقرة الاستدلال منه.

الثاني ـ في شمولها للشبهات جميعا.

الثالث ـ في فقه الحديث عموما وما قد يلقيه من ضوء على الاستدلال به على البراءة.

الرابع ـ في سنده.

اما المقام الأول ـ فالفقرة التي يستدل بها من الحديث قوله ( وما لا يعلمون ) المعطوف على ما رفع عن الأمة ، ودلالتها على البراءة الشرعية مبنية على ان يكون الرفع ظاهريا لا واقعيا فانه كما يوجد وضع ورفع واقعيان للتكاليف كذلك يتصور رفع ووضع ظاهريان لها ويعني رفع إيجاب الاحتياط من ناحيتها ووضعه.

ومن هنا يستشكل على الاستدلال بان هذا خلاف الظاهر الأولي للرفع في إرادة الرفع الواقعي ولا أقل من انه ليس ظاهرا في الرفع الظاهري فيكون مجملا.

وهذا الاستشكال ينحل إلى دعويين :

الأولى ـ ان ظاهر الرفع هو الواقعي لا الظاهري ، وذلك لأن إرادة الرفع الظاهري تتوقف على ارتكاب عناية اما في مادة الرفع بان لا يراد منه الرفع الحقيقي للحكم المجهول بل ما يكون كأنه رفع له أو في نسبة إلى ما لا يعلمون فيراد الرفع الحقيقي من المادة ولكن لا للحكم المجهول بل لإيجاب الاحتياط من ناحيته وكلتا العنايتين على خلاف الأصل.

الثانية ـ انه لو أريد الرفع الواقعي فلا يمكن إثبات ما هو المطلوب ، إذ في موارد الشبهات نعلم عادة بأنه لو ثبت الحكم الواقعي في حق العالم فهو ثابت في حق الجاهل

__________________

(١) الخصال : باب التسعة ، ح ٩.

٤٠