بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

المولوية وحق الطاعة للمولى الحقيقي في مورد الشك والجهل بحكمه أم لا ، وبمراجعة هذا الحكم العقلي نجد انه يحكم بحق الطاعة وتمامية مقتضي التنجيز لأحكامه في ذلك من دون فرق بين الشبهتين.

واما البحث في الجهة الثانية ـ فقد ذكر المحقق النائيني ( قده ) في رسالته في اللباس المشكوك كلاما محصله : ان الضابط في جريان البراءة أو الاشتغال في الشبهات الموضوعية انه إذا كان الشك فيما يستتبع التكليف كان مجرى للبراءة لأن الشك في المستتبع يوجب الشك في المستتبع فيكون الشك في أصل التكليف وان كان تمام ما يستتبع التكليف معلوما ولكن كان الشك في امر خارجي لا يستتبع التكليف بكل التكليف يستتبعه فهو مجري للاحتياط لأن الشك حينئذ في الامتثال بحسب الحقيقة.

ولتفصيل هذا الضابط في مجال التطبيق يقال : بان التكليف له ثلاثة أطراف ، المتعلق كشرب الخمر والصلاة ، والموضوع أي متعلق المتعلق كالخمر في ( لا تشرب الخمر ) والعالم في ( أكرم العالم ) والقيود المأخوذة في نفس التكليف كالبلوغ والعقل والقدرة ـ وهي شرائط عامة ـ ودخول الوقت والاستطاعة ـ وهي من الشرائط الخاصة ـ.

والشك إذا فرض في أصل التكليف بقطع النّظر عن أطرافه كانت الشبهة حكمية لا محالة وهو خروج عن موضوع البحث ، وإذا فرض الشك في أحد الأطراف المذكورة أمكن ان تكون الشبهة موضوعية حينئذ ، فإذا كان شكا في الطرف الثالث أي في تحقق شرائط التكليف العامة أو الخاصة فلا إشكال في جريان البراءة لأنه شك فيما يستتبع التكليف فيشك في أصله ، وإذا كان شكا في الطرف الثاني أي موضوع التكليف فإذا فرض الموضوع أمرا جزئيا فرغ عن وجوده خارجا وانما الشك في إضافة المتعلق إليه كما في القبلة فالشك بحسب الحقيقة ليس في الموضوع المستتبع للتكليف لأنه مفروض الوجود بحسب الفرض بل في الامتثال وتحقيق الواجب ، وإذا فرض الموضوع امرا كليا لا جزئيا فرغ عن وجوده فتارة يكون مأخوذا بنحو صرف الوجود كما في مثل ( توضأ بالماء ) وأخرى يكون مأخوذا بنحو مطلق الوجود كما في ( إكرام العالم ) ، ففي الأول إذا كان الشك في أصل وجود ذلك الموضوع خارجا ـ وهو الماء في المثال ـ كان من الشك في الموضوع المستتبع للتكليف فتجري البراءة ، وإذا كان أصل وجود الماء معلوما وانما الشك في فرد آخر منه فليس الشك في الموضوع المستتبع للتكليف

١٤١

بحسب الحقيقة لأن الموضوع صرف الوجود وهو معلوم على كل حال فالشك في سعة دائرة الامتثال وإمكان تطبيق الواجب على الفرد المشكوك فيجب الاحتياط.

وفي الثاني أي الموضوع المأخوذ بنحو مطلق الوجود يكون الشك في كل فرد منه شكا في موضوع مستتبع لتكليف زائد لأن الحكم ينحل حينئذ إلى عدة قضايا شرطية شرطها تحقق فرد من ذلك الموضوع وجزاؤها فعلية الحكم كما هو مقتضي نهج القضية الحقيقية فمع الشك في كل فرد يتحقق شك في تكليف فعلي زائد مرتبط بذلك الفرد فتجري البراءة عنه.

واما إذا وقع الشك في الطرف الأول أي المتعلق ، فتارة يفرض ان المتعلق ليس له طرف ومتعلق كما في مثل حرمة الفناء أو وجوب التكلم من دون ان يتعلق بشيء فالشك فيه يعني الشك في فعل المكلف نفسه وهذا لا يعقل الا إذا كان امرا تسبيبيا لا فعلا مباشريا إذ لا معنى لأن يشك الفاعل في فعله المباشري الا بعد العمل الّذي هو مجرى قاعدة الفراغ وهو خارج عن البحث ، والشك في تحقق الفعل التسبيبي كالقتل مثلا بإطلاق رصاصة أو رصاصتين من الشك في المحصل وهو من أوضح موارد الشك في الامتثال الّذي هو مجرى الاشتغال لا فيما يستتبع التكليف.

وأخرى يفرض ان المتعلق له طرف فيعقل الشك في المتعلق بلحاظ طرفه ، كما إذا شك في ان هذه النقطة من عرفات ليكون الوقوف فيه وقوفا بعرفة أم لا ، وفي هذه الحالة إذا كانت الشبهة موضوعية لا بد من التفصيل بين الشبهة الوجوبية كما في وجوب الموقوف بعرفة والشبهة التحريمية كما في حرمة الإفاضة من عرفات ، ففي الأولى يجري الاشتغال لأن الشك في سعة الامتثال لا فيما يستتبع التكليف لأن التكليف بوجوب الوقوف بعرفات فعلي معلوم على كل حال ، وفي الثانية تجري البراءة لأن الشك في انطباق عنوان الإفاضة من عرفات في ذلك المورد يستتبع الشك في التكليف لأن هذا الانطباق على نحو مفاد كان الناقصة من قيود التكليف بالحرمة وفعليته لأن المولى انما يحرم ما يصدق عليه ان يكون إفاضة من عرفات أو انه شرب الخمر أو انه كذب فصدق هذه الشرطية من قيود التكليف بالحرمة بخلاف التكليف بالوجوب فان مطابقة الفعل الخارجي مع العنوان الّذي تعلق به الأمر يكون في عهدة المكلف لأنه تحت الأمر والطلب الوجوبيّ بحسب الفرض.

١٤٢

وهكذا يكون الميزان والضابط في جميع هذه الصور والتطبيقات ان يكون الشك والشبهة الموضوعية فيما يكون مستتبعا لفعلية التكليف من قيوده أو موضوعه لا في سعة دائرة الامتثال وما يستتبعه التكليف بعد الفراغ عن فعليته. هذا حاصل ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) بتوضيح وتنقيح منا.

وهذا الكلام بهذا المقدار يمكننا التعليق عليه بأمور ثلاثة :

الأول ـ وهو إشكال في تطبيق ورد في هذا التفصيل ـ ان ما ذكره في متعلق الحكم من انه لا يتصور الشك فيه إذا لم يكن له متعلق غير صحيح ، فانه يعقل شك المكلف في عمله حال الفعل من غير ناحية متعلق عمله كما إذا كلف برسم دائرتين أو كتابة جملتين متساويتين فشك المكلف حين الفعل انهما متساويتان أم لا (١) الثاني ـ ان البراءة لا تختص بما إذا كان موضوع الحكم المشكوك خارجا انحلاليا بل تجري حتى فيما إذا كان التكليف واحدا له موضوع واحد وهو المجموع ولكنه كان بنحو الشمولية كما إذا علم بوجوب إكرام كل العلماء بنحو المجموعية وشك في ان زيدا عالم أم لا ، فانه تجري البراءة فيه لأنه شك في سعة دائرة التحريك المولوي رغم انه لا يستتبع الشك في تكليف استقلالي بل ضمني ، وهذا بحسب الحقيقة من موارد الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطي بنحو الشبهة الموضوعية.

الثالث ـ ان جريان البراءة في الشبهة الموضوعية لا يختص بما إذا كان الشك في قيود الحكم أو في تحقق موضوعه أعني متعلق المتعلق المأخوذ قيدا في التكليف بحسب الحقيقة إذ ليس من الضروري دائما ان يكون متعلق المتعلق قيدا في التكليف سواء كان إيجابا أو تحريما ، وانما قد يفرض ذلك إذا كان امرا غير اختياري كالقبلة فإذا كان تحت اختيار المكلف فلا ضرورة لأخذه قيدا فيه ومع ذلك تجري البراءة عند الشك فيه ، فإذا كان الحكم بحرمة الخمر مثلا فعليا قبل تحقق الخمر خارجا بان كان يحرم إيجاد الخمر وشربه من أول الأمر ـ وثمرته الردع مولويا عن إيجاد الخمر أيضا إذا علم انه إذا أوجده اضطر إلى شربه أو نحو ذلك ـ جرت البراءة عن الحرمة التي تكون ثابتة

__________________

(١) يمكن ان يقال : بان كلا من الفعلين بلحاظ الآخر أصبح متعلق المتعلق ولهذا حصل الشك ، فدائما يكون الشك من ناحية إضافة الفعل وعلاقته بحيثية خارجة عن ذات الفعل الّذي يصدره المكلف وان كان ذلك الأمر فعلا آخر للمكلف.

١٤٣

على تقدير خمرية المائع المشكوك من أول الأمر وقبل وجوده ، فليس الشك في الخمرية مستتبعا للشك في التكليف ومع ذلك تجري البراءة لكون الحكم شموليا لا بدليا أي على تقدير الخمرية تكون هناك محركية مولوية زائدة من أول الأمر وهو مجرى للبراءة.

وعلى أساس هذين الإشكالين ربما يجعل الضابط الفني الجريان البراءة أحد امرين :

الأول ـ ان يشك في قيد من قيود فعلية الحكم ومنها موضوعه بحسب مصطلح الميرزا لكونه مستتبعا للحكم.

الثاني ـ ان يكون الحكم المشكوك شموليا لا بدليا ان كان الشك في المتعلق لا في الموضوع أو سائر قيود الحكم.

ولعل هذا الميزان الثاني هو منظور صاحب الكفاية ( قده ) حينما جعل الضابط في المقام وحدة الحكم المشكوك وتعدده ، فان كان واحدا كان المرجع الاشتغال ، وان كان متعددا جرت البراءة وان كان تعبيره قاصرا ، فان الشمولية لا تستلزم التعدد بل تجتمع مع وحدة الحكم كما أشرنا.

الا ان الصحيح إمكان إرجاع الميزان الثاني إلى الأول ، وذلك بان يراد مما يستتبع الحكم ما يستتبع محركية مولوية زائدة سواء كانت على شكل تكليف استقلالي أو ضمني فيندفع الإشكال الأول وان وجود متعلق المتعلق وهو الخمر في المثال وان لم يفرض قيدا للحكم بالحرمة الا ان اتصاف المائع بكونه خمرا أو اتصاف شربه بكونه شرب الخمر بنحو مفاد كان الناقصة شرط لفعلية تلك الحرمة لأن النهي عن شرب الخمر مرجعه إلى قضية شرطية مفادها كلما كان مائع ما خمرا فلا تشربه ففعلية حرمته مقيدة بان يكون المائع خمرا سواء وجد خارجا أولا ، وكذلك الحال في سائر موارد الشك في المتعلق فحرمة الكذب مثلا مفادها حرمة كلام يكون كذبا بنحو مفاد كان الناقصة فالشك في كونه كذبا شك في قيد من قيود التكليف الفعلي ، فيتم الميزان الّذي ذكره الميرزا ويندفع الإشكال الثاني.

وقد ظهر بذلك ان هذا لا يختص بباب النواهي والشبهات التحريمية ، بل يجري في الشبهات الوجوبية أيضا إذا كان الشك في سعة الحكم من جهة الشك في سعة متعلقه بنحو الشبهة الموضوعية خلافا لما جاء في الكلام المتقدم عن الميرزا ( قده ). وانما لا تجري

١٤٤

البراءة مع الشك في ان هذا المكان من عرفات بالنسبة لوجوب الوقوف بعرفات لكون التكليف فيه ليس شموليا ، أي كون هذا المكان من عرفات لا يستتبع سعة في الحكم إذا لا يجب الوقوف بكل أماكن عرفات.

وهكذا يتضح ان الميزان والضابط لجريان البراءة في الشبهة الموضوعية ان يكون الشك فيما يستتبع الحكم في مرحلة الفعلية ـ أي ما يستتبع الحكم الفعلي الّذي هو أمر وهمي تصوري لا تصديقي ـ الا ان ما يستتبعه ليس خصوص ما أخذ قيدا أو شرطا في لسان جعل التكليف ولا ما جعل موضوعا له بل ما يتوقف عليه فعلية ذلك التكليف خارجا واتصاف الفعل بكونه مصداقا لمتعلق التكليف بنحو مفاد كان الناقصة أيضا قيد عقلا لفعلية التكليف وتحققه خارجا ، فالميزان هو الشك في قيود الفعلية بهذا المعنى (١)

__________________

(١) والحاصل : ان التكليف كلما كان شموليا انطبق فيه الضابط الّذي ذكره الميرزا ( قده ) لأن فعلية ذلك الحكم في كل مورد منوط عقلا بما إذا انطبق عليه عنوان المتعلق بنحو مفاد كان الناقصة والا لم يكن الحكم شاملا له وهذا بخلاف ما إذا كان الحكم بدليا فالميزانان متلازمان.

وقد يناقش في هذا البيان بأحد وجهين :

الأول ـ ان اتصاف الفعل بعنوان المتعلق بنحو مفاد كان الناقصة منتزع من تعلق الحكم بذلك المتعلق فيكون في طوله فيستحيل ان يكون شرطا في فعليته وتعلقه لاستلزامه الدور.

والجواب : ان المنوط بالاتصاف المذكور تعلق الحكم في مرحلة الفعلية أي بوجوده الفعلي الوهمي بينما شرطية الاتصاف المذكور في طول تعلق الحكم بمتعلقه في مرحلة الجعل فالموقوف غير الموقوف عليه.

الثاني ـ النقض بصدق الميزان المذكور في موارد البدلية أيضا كما إذا وجب الوضوء بالماء ولم يكن الماء قيدا في التكليف به بل في المكلف به ولم يكن لدى المكلف شيء سوى هذا المائع المشكوك فانه بناء على الميزان المذكور يكون اتصاف وضوئه به بكونه وضوء بالماء بنحو مفاد كان الناقصة شرطا عقلا في تكليفه بالوضوء إذ لو لم يكن ذلك المائع المنحصر ماء سقط عنه التكليف جزما فالاستتباع العقلي حاصل مع انه لا تجري البراءة لكون التكليف بدليا يجب فيه الاحتياط عند الشك في القدرة على امتثاله.

والجواب : ان سقوط التكليف البدني في المقام من جهة عدم القدرة لا من جهة عدم كون المائع ماء والمفروض ان الشك في الحكم من ناحية القدرة لا يكون مجرى للتأمين وقد ينقض بموارد الشبهة التحريمية إذا كانت حرمة واحدة متعلقة بصرف وجود الطبيعة فان الحرمة فعليه خارجا وغير منوطة بمصداقية الفرد المشكوك فيه مع انه تجري فيها البراءة لكون التكليف مشموليا. والجواب : ان الحكم إذا كان شموليا ولو في مرحلة التطبيق كان انبساطه على الفرد المشكوك منوطا باتصافه بالموضوعية فيكون الاتصاف قيدا في التكليف الضمني لا محالة وهكذا يتضح ان الميزانين متلازمان بالدقة.

ثم انه كان من المناسب ان يبحث ضمن هذا التنبيه استثناء موارد الشك في القدرة على الامتثال ـ والتي هي من الشبهة الموضوعية دائما ـ عن قاعدة البراءة خصوصا على المبنى المختار عند سيدنا الأستاذ ( قدس‌سره الشريف ) من ان قيد القدرة مأخوذا لبا في الخطابات بحسب مقام الإثبات ، إذ سوف يكون حال هذا القيد حال سائر القيود المأخوذة لفظا في التكاليف فلما ذا لا تجري البراءة عند الشك فيه. وسوف يأتي ضمن تفاصيل جملة من البحوث القادمة اعتراف سيدنا الأستاذ بعدم جريانها في

١٤٥

ثم ان المحقق الأصفهاني ( قده ) قد أورد على كلام المحقق النائيني ( قده ) في المقام بعد ان استفاد من كلامه اشتراط ان يكون الموضوع المشكوك مأخوذا في الحكم على نحو مطلق الوجود بنحو القضية الحقيقية ، بأنه لا يلزم ان تكون القضية حقيقية بل تجري البراءة حتى إذا كانت القضية خارجية كما إذا قال ( أكرم كل العسكر ) وشك في ان زيدا هل كان معهم أم لا.

والصحيح ان عنوان العسكر إذا كان مجرد عنوان مشير إلى واقع الافراد الخارجية فالشك في وجوب إكرام زيد يكون شبهة حكمية بحسب الحقيقة وليست موضوعية ،

__________________

موارد الشك في القدرة على الامتثال ، وقصارى ما يبين هناك ان العقل يحكم بلزوم التصدي للامتثال وعدم صحة الاعتذار لمجرد احتمال عدم القدرة عليه ، وهذا المقدار من البيان الغاية ما يمكن ان يدل عليه المنع عن جريان البراءة العقلية فيها لا إطلاق دليلي البراءة الشرعية. وما يمكن ان يستند إليه في المنع عن هذا الإطلاق أحد وجوه :.

الأول ـ دعوى ان ارتكازية الاشتغال في موارد الشك في القدرة حتى عند الموالي العرفية القائلين بقبح العقاب بلا بيان تمنع ان انعقاد الإطلاق في أدلة الرفع ونحوها من أدلة البراءة لموارد الشك في التكليف من ناحية الشك في القدرة لأنها كالأدلة الإمضائية من هذه الناحية.

الثاني ـ دعوى ان المقيد اللبي الإثباتي للخطابات من أول الأمر مخصوص بمورد العلم بالمعجز عن الامتثال لا أكثر ، إذ لا موجب لأكثر من ذلك بعد فرض ارتكازية لزوم التصدي عقلا وعقلائيا للامتثال في موارد احتمال العجز عن الامتثال.

لا يقال ـ هذا يجعل إطلاق الحكم في مورد الشك في القدرة ظاهريا ، وهو خلاف ظهور الخطابات الأولية في ان مدلولاتها أحكام واقعية لا ظاهرية أخذ في موضوعها الشك وعدم العلم.

فانه يقال : لا يلزم ذلك بل يكون إطلاق الحكم بمعنى الجعل والاعتبار لحالة الشك ف ـ في القدرة مع عدمها واقعا لمزيد التحفظ والاهتمام بمبادئه وروحه المحفوظة حتى في هذا الحال ، نعم هذا يستلزم عرفا ثبوت مبادئ الحكم وروحه في مورد العجز وعدم دخالة القدرة في الملاك ولا بأس بذلك وبعبارة أخرى يكون ثبوت الحكم في حال الشك خطابا وملاكا واقعيا على كل حال غاية الأمر لا تنجز له ولا استحقاق للعقوبة على تقدير انكشاف العجز ولا بأس به لأن الاعتبار يمكن ان يجعل واقعا وداعي التحريك يكفي فيه التحريك الاقتضائي وبلحاظ تحصيل الملاك الثابت على كل حال.

الثالث ـ أن يقال : بأن الخطابات الشرعية وان كانت مقيدة لبا بالقدرة فلا تشمل موارد العجز كما ان سقوط الخطاب في مورد يوجب سقوط الدلالة على الملاك فيه أيضا بحيث لا يمكن إحرازه بلحاظ المدلول الالتزامي للخطاب ولكن باعتبار ان الغالب والمعهود عرفا عدم دخالة القدرة في الملاك في موارد العجز أيضا وأن قيد القدرة مجرد رافع للتكليف خطابا فقط لا ملاكا وروحا. وبناء عليه يكون روح الحكم أعني الملاك العقلي معلوما في موارد الشك في القدرة وانما المجهول القدرة على امتثاله وتحقيقه خارجا وأدلة البراءة موضوعها الشك في الخطاب بروحه لا بصياغته فحسب فلا تشمل المقام.

وان شئت قلت : أن أدلة البراءة تؤمن عن التكليف من ناحية عدم العلم به لا من ناحية الشك في القدرة على تحصيله بعد العلم به. وهذا الوجه يتوقف صغرويا على قبول أصله الموضوعي ، كما ان نتيجته كبرويا اختصاص الاشتغال في موارد الشك في الأقدرة بما إذا لم يحتمل دخلها في الاتصاف ولا يبعد التزامهم. كما ان الوجهين السابقين لا يثبتان قصور إطلاق أدلة البراءة الشرعية أكثر من هذا المقدار فتأمل جيدا.

١٤٦

وان كان عنوان العسكر موضوعا للحكم ولكنه بنحو لا يشمل الافراد المقدرة بل الموجودة بالفعل فقط فهذا يعني بحسب الحقيقة ان هذه الحيثية شرط في الحكم بوجوب الإكرام غاية الأمر لم تصغ الجملة بنحو القضية الشرطية بل الحملية لتحقق الشرط في حق من كان في العسكر ، والشرطية لا تخرج عن كونها شرطية بتحقق شرطها خارجا ومراد المحقق النائيني ( قده ) بل ظاهر كلامه المتقدم ان العبرة في جريان البراءة بكون القضية شرطية فعليتها تتبع فعلية الشرط على نهج القضايا الحقيقية لأن ان شرط جريانها ان تكون القضية المجعولة حقيقية وان كانت الأحكام الشرعية خارجا كلها من القضايا الحقيقية.

ويقع الكلام بعد هذا في تطبيقات هذا الميزان ، فانه ربما يقع فيها الالتباس فنقول باختصار :

ان وقوع الطبيعة متعلقا للتكليف إيجابا أو تحريما يتصور بأحد أنحاء :

النحو الأول ـ ان يجعل ذات الطبيعة بلا أي مئونة متعلقا للحكم وهو الّذي يعبر عنه بالطبيعة الصرفة ، وهنا إذا كان الحكم إيجابا فسوف يكون بدليا لا تجري البراءة عند الشك في انطباقه خارجا وإذا كان نهيا كان شموليا تجري البراءة عنه لدى الشك في انطباقه خارجا. الا ان الشمولية في النهي لها معنيان وقع الخلط بينهما في كلمات بعض المحققين ، وقد شرحنا ذلك مفصلا في مباحث الألفاظ ونشير إليهما هنا فنقول :

المعنى الأول ـ شمولية النهي في عالم الجعل بمعنى انحلاله إلى نواهي وأحكام عديدة بعدد المصاديق لكل منها امتثال وعصيان مستقل بخلاف الأمر فانه لا يدل الا على وجوب واحد متعلق بصرف وجود الطبيعة يسقط بإتيان أول الوجود ، وهذا فرق بينهما بلحاظ عالم الجعل.

المعنى الثاني ـ شمولية النهي في عالم الامتثال بمعنى اننا لو فرضنا دلالة النهي على حرمة واحدة للطبيعة تسقط كالأمر بإتيانها فلا يحرم الفرد الثاني منها بعد ارتكاب الفرد الأول مع ذلك بينهما فرق في كيفية الامتثال فان الأمر الواحد يكفي في امتثاله الإتيان بمصداق منه بينهما النهي الواحد لا يمتثل الا بترك تمام الافراد.

ونكتة الفرق الأول بين الأمر والنهي نكتة إثباتية ناشئة من غلبة نشوء النهي عن المفسدة وكونها انحلالية بعدد الافراد العرضية والطولية والتي على أساسها نخرج عن

١٤٧

ما هو مقتضى القاعدة في متعلقات الأحكام من كونها صرف الطبيعة فلا بد وان يكون الحكم بدليا بلحاظها دائما خلافا للموضوعات.

ونكتة الفرق الثاني بينهما ثبوتية ناشئة من ان الطبيعة توجد بوجود فرد واحد ولا تنعدم الا بانعدام تمام افرادها. وقد شرحنا مفصلا هاتين النكتتين مع دفع الاعتراضات التي أثارها بعض المحققين في قبال كل منهما في بحث المرة والتكرار وبحوث النواهي بما لا مزيد عليه. وانما الّذي نشير إليه هنا هو ان الشك في انطباق متعلق النهي بلحاظ كل من الفرقين مجرى للبراءة فانه بعد أن كان الطبيعة عين الفرد ومنطبقا عليه أصبح الشك في الشبهة التحريمية شكا في سعة دائرة المحركية المولوية باعتبار شمولية النهي من الناحيتين معا وهذا هو سر الفرق بين الشبهتين الوجوبية والتحريمية فتأمل جيدا.

النحو الثاني ـ ان يتعلق الحكم بالطبيعة على نحو مطلق الوجود أي العام الاستغراقي ـ كما هو مقتضي القاعدة بالنسبة إلى متعلق المتعلق على ما حققناه في محله ـ وهذا معناه انحلال الحكم إيجابا أو تحريما بعدد المصاديق فيكون مجرى للبراءة فيهما معا.

النحو الثالث ـ ان يتعلق الحكم بالوجود الأول من الطبيعة ، وهنا يكون الأمر والوجوب بدليا كالقسم الأول ويكون النهي شموليا بلحاظ الافراد العرضية من الوجود الأول لأن إعدام الوجود الأول من الطبيعة لا يتحقق الا بترك جميع الافراد العرضية بخلاف إيجاده ، وعلى هذا فلو شك في المصداق الخارجي كان مجرى للبراءة في الشبهة التحريمية دون الوجوبية لأنه شك في سعة دائرة التكليف والمحركية المولوية.

النحو الرابع ـ ان يكون متعلق الحكم مجموع افراد الطبيعة بنحو العموم المجموعي فيكون هناك حكم واحد إيجابا أو تحريما لا أحكام عديدة. وفي هذا الفرض تجري البراءة في الشبهة الوجوبية ـ كما تقدم ـ بيانه ـ لأنه من الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين. وفي الشبهة التحريمية يكون معنى النهي عن المجموع حرمة المجموع وهو يعني حرمة ارتكاب الأخير منه فلو شك في مصداقيته فهل يجوز فعل ما عداه المتيقن مصداقيته للطبيعة أم لا.

الصحيح هو الجواز لأنه أيضا من الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين في المحرمات وهو على عكس الأقل والأكثر في الواجبات ، فان تعلق التكليف بالأقل

١٤٨

متيقن في الواجبات وانما الشك في الأكثر ، واما في المحرمات فحرمة الأكثر متيقنة والشك في حرمة الأقل ، فارتكاب العشرة حرام وتركها داخل في العهدة على كل حال ويشك في لزوم ترك التسعة أيضا فتجري البراءة.

النحو الخامس ـ ان يكون متعلق الحكم امرا مسببا حاصلا من مجموع افراد الطبيعة ـ بنحو مطلق الوجود ـ أو من فرد منها ـ بنحو صرف الوجود ـ وهنا لا تجري البراءة في الشبهة الوجوبية والتحريمية معا ، لأنه شك في المحصل الا إذا فرض ان متعلق التكليف امر اعتباري منطبق على نفس الفعل فانه حينئذ تجري البراءة أيضا فيما إذا لم يكن وجوبا متعلقا بصرف الوجود كما في الأقسام السابقة.

٥ ـ جريان البراءة في التكاليف غير الإلزامية :

وقع البحث عندهم في جريان البراءة في المستحبات. ولا إشكال في عدم جريان البراءة العقلية فيها ، لأنها فرع ثبوت العقاب في مورد الشبهة ولا عقاب في ترك المستحب.

واما البراءة الشرعية فقد ذكر السيد الأستاذ في الدراسات ناظرا في كلامه إلى حديث الرفع ان البراءة لا تجري عند الشك في أصل الاستحباب الاستقلالي ، إذ معنى جريانها فيه نفي الاستحباب ظاهرا الملازم مع نفي استحباب الاحتياط ظاهرا ، كما ان معنى جريانها في الواجبات نفي وجوب الاحتياط بالنسبة إليها ، ومن المعلوم ان استحباب الاحتياط ثابت عند الفريقين بلا كلام. نعم تجري البراءة عند الشك في الاستحباب الضمني أي عند الشك في شرطية أو جزئية امر للمركب المستحب ، فانه تجري البراءة عنه استطراقا إلى جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر بالعمل المطلق وعدم لزوم التشريع منه. وان شئت قلت : تجري البراءة عن الوجوب الشرطي لذلك الجزء أو الشرط لا الوجوب التكليفي.

ويرد عليه :

اما بالنسبة إلى الاستحباب الاستقلالي ، بأنا لا نسلم ثبوت استحباب الاحتياط ، فانه لو أريد من ذلك حسن الاحتياط عقلا أو استحبابه الواقعي شرعا الثابت باخبار من بلغ ـ بناء على استفادته منها ـ فهما أجنبيان عن مدلول البراءة الشرعية وحديث

١٤٩

الرفع لأنها تعني نفي الاستحباب الشرعي الظاهري الطريقي بملاك ترجيح غرض الإباحة الواقعية على الاستحباب أو الإلزام الواقعيين في مقام الحفظ وأي ربط لذلك بالحسن العقلي أو الاستحباب النفسيّ.

وان أريد منه استحباب الاحتياط شرعا في الشبهات كحكم ظاهري طريقي فمن الواضح ان مدرك ثبوت مثل هذا الحكم لا بد وان يكون مثل اخبار الأمر بالاحتياط ، وهي لدى الأخباريين تدل على وجوبه وفي خصوص الشبهات الإلزامية ، ولدى الأصوليين محمول على الإرشاد إلى حكم العقل في موارده ، واختصاص المهم منها بالشك في الإلزام واضح.

وهكذا يتضح انه لا مانع من نفي الاستحباب الواقعي المشكوك ظاهرا كحكم طريقي من هذه الناحية. نعم الصحيح عدم إمكان استفادة ذلك من أدلة البراءة الشرعية الناظرة جميعا إلى نفي الكلفة والإلزام والعهدة وبسياق الامتنان فتكون خاصة بالتكاليف الإلزامية المشتبهة.

واما بالنسبة إلى الشق الثاني من كلامه ، فيرد عليه إن أريد إثبات جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر بواسطة إثبات إطلاقه بالبراءة فهو من الأصل المثبت على ما سوف يأتي في بحث الأقل والأكثر ، وان أريد نفي حرمة التشريع في الإتيان بالباقي بقصد الأمر الجزمي فالحرمة التشريعية يكفي فيها مجرد الشك ولا تنفع البراءة في نفيها. ومنه يعرف الإشكال في التعبير الآخر لجريان البراءة بلحاظ الحكم الوضعي فانه لو أريد بذلك إثبات إطلاق الأمر الاستحبابي فهو من الأصل المثبت ، وان أريد إجراؤها بلحاظ الوجوب الشرطي بنفسه فمن الواضح ان الوجوب الوضعي الشرطي ليس تكليفا وانما هو انتزاع عقلي يعني ان صحة العمل ووقوعه طبقا للأمر الاستحبابي لا بد فيها من الإتيان بذلك الجزء أو الشرط وليس هذا تكليفا ولا مستتبعا من تكليف إلزاميّ بحسب الفرض.

١٥٠

مباحث الحجج

أصالة التخيير

ـ مورد أصالة التخيير.

ـ التخيير في الواقعة غير المتكررة.

١ ـ في التوصليات.

٢ ـ في التعبديات.

ـ التخيير في الواقعة المتكررة.

١٥١
١٥٢

أصالة التخيير

والمقصود بحثه تحت هذا العنوان حكم موارد الدوران بين المحذورين أي الوجوب والحرمة. وهما قد يفرضان توصليين معا وقد يفرض أحدهما على الأقل تعبديا كما ان الواقعة المشتبهة تارة تكون غير متكررة ، وأخرى تكون متكررة ، فالبحث في مقامات :

المقام الأول : فيما إذا كانت الواقعة غير متكررة مع كون الطرفين توصليين ، كما إذا علم بأنه حلف مثلا على سفر معين أو على تركه.

وقد اختلفت كلمات الأصحاب في المقام من حيث جريان البراءة العقلية أو الشرعية أو عدم جريانهما وجريان التخيير العقلي أو التفصيل في جريانهما على أقوال مختلفة.

والتحقيق ان يقال : لا ينبغي الإشكال في ان العلم الإجمالي بالتكليف الإلزامي في المقام على حد العلوم الإجمالية في سائر المقامات بيان تام على ثبوت التكليف ، فان بيانية العلم وكاشفيته ذاتية كما هو واضح ، وانما البرهان قائم على استحالة تأثير هذا العلم والبيان في تنجيز الفعل أو الترك في المقام وإدخاله في دائرة حق الطاعة والمولوية لأن هذا العلم لا يمكنه ان يقتضي وجوب الموافقة القطعية ولا حرمة المخالفة القطعية ولا وجوب الموافقة الاحتمالية ، إذ الأول والثاني غير ممكنين بحسب الفرض ، والثالث ترجيح بلا مرجح ، فاستحالة التنجيز وثبوت حق الطاعة فيما هو خارج عن القدرة

١٥٣

واستحالة الترجيح بلا مرجح حكمان عقليان يشكلان بمجموعهما البرهان على عدم اقتضاء العلم الإجمالي في موارد الدوران بين المحذورين لتنجيز شيء. هذا حال العلم الإجمالي بالإلزام.

واما احتمال كل من الوجوب والحرمة فتارة يلحظ اقتضاؤه للمنجزية بما هو طرف من علم إجمالي يستمد منجزيته منه ، وأخرى يلحظ اقتضاؤه للمنجزية في نفسه. اما الأول فقد عرفت ان العلم الإجمالي في خصوص المقام لا يعقل ان يكون منجزا عقلا.

واما الثاني فان قيل بمنجزية احتمال التكليف في نفسه وإنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ كما هو المختار ـ فكل واحد من الاحتمالين لو خلي ونفسه كان منجزا لمتعلقه من الفعل أو الترك ، فان الاحتمال انما ينجز متعلقه وهو معقول في المقام بالنسبة إلى كل من احتمال الوجوب واحتمال الحرمة في نفسيهما وانما يقع بينهما التزاحم في مقام التأثير والاقتضاء لأن تنجيز هما معا محال وتنجيز أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح فلا يتنجز شيء منهما وهو معنى التخيير عقلا.

وبهذا يتضح ان كلا من احتمال الوجوب واحتمال الحرمة لا يكون منجزا في المقام لا بملاك الطرفية للعلم الإجمالي ولا في نفسيهما ولو لم يكونا طرفا للعلم ـ كما هو كذلك فيما إذا احتمل الإباحة أيضا فلم يعلم بجنس الإلزام ـ لوقوع التزاحم بين المقتضيين ، هذا كله على مسلك حق الطاعة.

واما على القول بالبراءة العقلية فلا إشكال في البراءة والترخيص بملاك التخيير ، وانما المهم ملاحظة جريان البراءة العقلية أي الترخيص بملاك عدم البيان.

وقد أفاد المحقق العراقي ( قده ) عدم جريانها ببيان حاصله بتوضيح منا : ان العلم الإجمالي وان لم يكن منجزا وهذا يعني ترخيص العقل في الإقدام على الفعل أو الترك الا انه ترخيص بملاك الاضطرار وعدم إمكان إدانة العاجز عقلا من تحصيل الموافقة القطعية لا بملاك عدم البيان الّذي هو البراءة العقلية وعليه فان أريد إبطال منجزية العلم الإجمالي بنفس البراءة العقلية فهو مستحيل لأنها فرع عدم البيان ، فهي لا تحكم بان هذا بيان أو ليس ببيان لأنها لا تنقح موضوعها بل لا بد من إثبات عدم البيان في الرتبة السابقة عليها أي تجريدها من المنجزية والحجية ، وهذا لا يكون بقاعدة قبح

١٥٤

العقاب بل بقاعدة عقلية أخرى هي عدم إمكان إدانة العاجز المعبر عنها بالتخيير العقلي. وان أريد إجراء البراءة العقلية بعد إبطال منجزية العلم الإجمالي وبيانيته بالقاعدة العقلية المشار إليها فلا معنى لذلك ، لأن تلك القاعدة بنفسها تتكفل الترخيص العقلي ولا محصل للترخيص في طول الترخيص.

ويلاحظ على هذا الكلام ان المدعى إجراء البراءة ـ بعد الفراغ عن عدم منجزية العلم الإجمالي ـ عن احتمال الوجوب أو الحرمة في نفسه كما لو لم يكن علم إجمالي بالإلزام فنطبق البراءة العقلية لا ثبات التأمين من ناحيته فهذا ملاكه تام في نفسه ولو كان ملاك الاضطرار الّذي يسقط العلم الإجمالي عن البيانية تاما أيضا فما ينفي بالبراءة العقلية غير ما ينفي بملاك الاضطرار وعدم إمكان إدانة العاجز عن الوظيفة العلمية (١).

هذا كله بالنسبة إلى البراءة العقلية.

واما البراءة الشرعية ، فقد اختلفت كلمات الأصحاب أيضا في جريانها وعدمه ، ويمكن ان تذكر للمنع عن جريانها وجوه عديدة.

الوجه الأول ـ ما أفاده المحقق العراقي ( قده ) وهو وجه ثبوتي كالذي ذكره في المنع عن البراءة العقلية من ان جريانها فرع عدم منجزية العلم الإجمالي في المرتبة السابقة ، لأن منجزيته تمنع عن البراءة ، وسقوط العلم الإجمالي في المقام عن التنجيز انما يكون بملاك الاضطرار وعدم إمكان إدانة العاجز ، وفي طول ذلك لا معنى للبراءة والترخيص.

ويرد عليه : مضافا إلى ما تقدم من ان البراءة الشرعية تجري عن احتمال التكليف في كل من الطرفين في نفسه بعد الفراغ عن سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية ، ان معنى جريان البراءة الشرعية نفي إيجاب الاحتياط شرعا بلحاظ الوجوب أو الحرمة

__________________

(١) هذا مبنى على المنهج المشهور في فهم قاعدة قبح العقاب بلا بيان ومنجزية العلم أو الاحتمال ، واما على المنهج الصحيح والمختار من ان مرد كل ذلك إلى تحديد دائرة المولوية وحق الطاعة بلحاظ حالات العلم بالتكليف والشك فيه بنحو تكون نفس الحالة العلمية ودرجة الانكشاف والوصول موضوعا لحق الطاعة فينبغي ان يقال : بأنه لا موضوع لحق الطاعة والمولوية في موارد الدوران بين المحذورين ـ سواء علم بأصل الإلزام أم لا لأن هذا الحق كسائر مدركات العقل العملي موضوعه الاختيار وعدم الاضطرار فمع الاضطرار إلى المخالفة الاحتمالية على كل حال لا موضوع للإدانة وحق الطاعة من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فلا مقتضي للتنجيز لا ان هناك مقتضيين متزاحمين كما لا موضوع للبراءة العقلية.

١٥٥

وجعل إيجاب الاحتياط الّذي روحه ترجيح أحد الغرضين المحتملين على الآخر في مقام الحفظ معقول في موارد الدوران بين المحذورين ، فليست البراءة الشرعية كالبراءة العقلية من هذه الناحية.

الوجه الثاني ـ ما افادته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) وحاصله : ان أدلة البراءة الشرعية ما كان منها بلسان أصالة الحل لا يشمل المقام ، لأن الحلية غير محتملة للعلم بالإلزام بل الأمر مردد بين الوجوب والحرمة ، وما كان منها بلسان رفع ما لا يعلم لا يشمل المقام أيضا لأن الرفع هنا ظاهري يقابل الوضع الظاهري وهو إيجاب الاحتياط ومن الواضح ان إيجاب الاحتياط تجاه الوجوب والحرمة المشكوكين غير معقول فلا معنى للرفع والبراءة الشرعية أيضا.

وفيه :

أولا ـ ان إمكان جعل حكم ظاهري بالحلية لا يتوقف على ان تكون الحلية الواقعية محتملة لأن حقيقته كما عرفت ترجيح أحد نوعي الأغراض الواقعية المتزاحمة ، ودعوى ان الحكم الظاهري متقوم بالشك صحيحة ولكن لا يراد بها تقومه باحتمال مماثلة الحكم الواقعي له بل تقومه بعدم العلم بالحكم الواقعي الّذي يراد التأمين عنه أو تنجيزه إذ مع العلم به لا معنى لجعل شيء مؤمنا عنه أو منجزا له.

وثانيا ـ ان الرفع الظاهري في كل من الوجوب والحرمة يقابله الوضع في مورده وهو ممكن فيكون الرفع ممكنا أيضا ، ومجموع الوضعين وان كان مستحيلا ولكن كلا من الرفعين لا يقابل الا وضعا واحدا وهو ممكن كما هو واضح.

الوجه الثالث ـ المنع عن شمول أدلة البراءة الشرعية للمقام بنكتة إثباتية ، لأن المنساق منها خصوصا مثل أصالة الحل انها علاج مولوي لحالات التزاحم بين الأغراض الإلزامية والترخيصية في مقام الحفظ بتقديم الغرض الترخيصي على الإلزامي لا علاج التزاحم بين غرضين إلزامين كما في المقام (١).

__________________

(١) إذا تم هذا في دليل أصالة الحل فتماميته في مثل حديث الحجب مشكل ، لأن المدلول المطابقي لذلك هو رفع كل حكم مشكوك وهو صادق على كل من الوجوب والحرمة ، واما ملاك هذا الرفع الظاهري فهو بمثابة المدلول الالتزامي أو التصديقي للخطاب التابع لمدى إطلاق المدلول المطابقي ومقدار سعته ، وعلى هذا الأساس لا موجب الرفع إليه عن هذا الإطلاق ودعوى الانصراف.

١٥٦

لا يقال ـ إذا كان الوجوب عند مزاحمته مع مجرد الإباحة والترخيص لا يتحفظ المولى عليه ويجعل البراءة عنه فبالأولوية لا يتحفظ عليه عند مزاحمته مع الحرمة ، وكذلك يقال في طرف احتمال الحرمة ، وهذا يعني ان أدلة البراءة بالفحوى والأولوية تدل على البراءة في المقام.

فانه يقال ـ على ضوء فهمنا لحقيقة الحكم الظاهري يكون معنى جعل البراءة ترجيح مصالح الترخيص الواقعي على كل من مصالح الوجوب والحرمة في مقام الحفظ وهذا لا يعني الا أهمية المصالح الترخيصية على الإلزامية الوجوبية والتحريمية وهو لا يستلزم اندكاك المصلحتين الإلزاميتين في مقام الحفظ فقد يرجح المولى جانب الوجوب أو جانب الحرمة في مقام الحفظ فلا أولوية.

الوجه الرابع ـ المنع عن شمول أدلة البراءة للمقام بنكتة إثباتية أيضا ، اما دليل أصالة الحل فللقطع بعدم الحلية ، واما حديث الرفع فلان المراد من الموصول في رفع ما لا يعلمون ان كان عنوان الوجوب أو الحرمة فهو شامل للمقام لأن كلا من الوجوب أو الحرمة مما لا يعلم فيكونان مرفوعين ظاهرا. وان كان المراد بالموصول واقع الحكم المشكوك لا وجوده العنواني فالحكم الثابت في المقام واحد لا متعدد فلا يكون هنا الا رفع واحد لا رفعان ، وحيث ان الرفع الظاهري في قبال الوضع الظاهري فلا يدل الحديث عليه الا في مورد يعقل فيه الوضع الظاهري ، وفي موارد الدوران بين المحذورين لا يعقل الوضع لاستحالة الموافقة والمخالفة الواقعيتين وضرورة الموافقة والمخالفة الاحتماليتين.

وهكذا يتبرهن انه على التفسير الثاني للموصول لا يشمل حديث الرفع للمقام فيدعى ان الظاهر هذا التفسير لا التفسير الأول ، إذ ليس المقصود من العلم فيما لا يعلمون مطلق القطع حتى الجهل المركب بل الظاهر منه لحاظ جهة الانكشاف الصحيح المطابق للواقع ، بل ظاهر الموصول أيضا ان هناك حكما ثابتا في الواقع ولكن لا يعلمه المكلف ، وهذا نحو تصحيح لكلام الميرزا ( قده ) المتقدم في الوجه الثاني.

لا يقال ـ على هذا لا يمكن التمسك بحديث الرفع في موارد الشك في التكليف الا حيث يحرز موضوعه وهو التكليف الثابت في الواقع بحسب الفرض ومع إحرازه يرتفع الشك فأي فائدة لجعل مثل هذا الرفع؟.

١٥٧

فانه يقال ـ يتمسك بحديث الرفع لإثبات الرفع الظاهري في موارد الشك على تقدير ثبوت التكليف المشكوك واقعا ومعه يعلم بجامع الرفع الواقعي ـ إذا لم يكن هناك تكليف واقعا ـ أو الظاهري ـ إذا كان هناك تكليف واقعا ـ وهو كاف للتأمين (١) وهكذا يثبت عدم جريان البراءة في موارد الدوران بين المحذورين بنكتة إثباتية.

وهل يجري استصحاب عدم التكليف المنتج نتيجة البراءة في الطرفين أم لا؟ الصحيح هو جريانه لعدم تأتي المحذور الإثباتي المتقدم فيه إذ لا ظهور لدليل الاستصحاب في انه بملاك التسهيل ، ولكن ذهب المحقق النائيني ( قده ) إلى عدم جريانه لكون الاستصحاب أصلا تنزيليا ولا يجري أصلان تنزيليان مع العلم الإجمالي بالخلاف لأن الأصل التنزيلي قد طعم بشيء من الأمارية.

وهذا إشكال مبنائي وسوف يأتي التعرض إلى تفنيده في البحوث القادمة ، فالصحيح إمكان إثبات نتيجة البراءة في موارد الدوران بين المحذورين بالاستصحاب.

هذا كله فيما إذا لم تفرض مزية في أحد الجانبين بالنسبة إلى الجانب الآخر ، واما إذا فرضنا أقوائية الحرمة أو الوجوب احتمالا أو محتملا. فمن ناحية الأصل الشرعي من البراءة أو الاستصحاب لا كلام زائدا على ما تقدم ، ولكن من ناحية الأصل العقلي والوظيفة العملية سوف يختلف الحال على بعض المباني.

وتوضيح ذلك : انه إذا بنينا على منجزية الاحتمال ـ كما هو المختار ـ فسوف يجب الإتيان بالأهم من الطرفين احتمالا أو محتملا إذ كما يحكم العقل بمنجزية أصل الاحتمال كذلك يحكم بمنجزية درجته الزائدة في أحد الطرفين كما يحكم بتنجز احتمال الملاك الزائد في أحد الطرفين. وان بنينا على البراءة العقلية وعدم منجزية الاحتمال في نفسه وانما المنجز هو العلم والبيان فلا بد وان يفصل بين القول بان العلم الإجمالي لا ينجز الا الجامع وحرمة المخالفة القطعية والقول بأنه ينجز الواقع المعلوم

__________________

(١) يمكن ان يقال : مضافا إلى ما تقدم من الأستاذ من ان كون الرفع ظاهريا لا واقعيا يناسب مع التفسير الأول لا هذا التفسير انه على هذا التفسير أيضا يكون الواقع مرددا بين واقعين وان كان يعلم بتحقق أحدهما فيكون هناك رفعان لا رفع واحد.

ثم ان هذه الوجوه الأربعة الأول والثالث منها يختصان بموارد الدوران بين المحذورين مع العلم بالإلزام ولا يمنعان جريان البراءة فيما إذا كان أصل الإلزام مشكوكا أيضا ، بينما الوجهان الثاني والرابع يمنعان عن جريانها حتى في ذلك فتأمل جيدا.

١٥٨

بالإجمال ويوجب الموافقة القطعية ، فعلى الأول لا يتنجز الا الجامع لا المزية المحتملة ، وعلى الثاني يمكن ان يدعى ان الموافقة القطعية إذا استحالت تصل النوبة إلى الموافقة الظنية أي الاحتمال الأقرب إلى الواقع ، هذا إذا كانت القوة في الاحتمال. واما إذا كانت المزية في المحتمل فيما ان نسبة العلم إلى كل من الطرفين على حد واحد والموافقة احتمالية على كل حال فلا يجب الإتيان بالطرف ذي المزية على كلا القولين في منجزية العلم الإجمالي ، ولا يقاس المقام بموارد الدوران بين التعيين والتخيير على القول بالتعيين ولا بموارد ترجيح أحد المتزاحمين على الآخر باحتمال الأهمية ، لأنه في الأول يمكن الموافقة القطعية بالاخذ بطرف التعيين فيجب بخلاف المقام الّذي لا يمكن فيه ذلك فلا يبقي الا احتمال مرتبة أهم من التكليف في أحد الجانبين وهو تحت التأمين بحسب الفرض. وفي الثاني يكون التمسك بحسب الحقيقة بإطلاق دليل الأهم أو محتمل الأهمية حتى لحال الاشتغال بالواجب غير الأهم بخلاف العكس لأن وجوبه مقيد بعدم الاشتغال بالأهم أو محتمل الأهمية.

المقام الثاني ـ فيما إذا فرض عدم تكرر الواقعة مع كون أحد الطرفين على الأقل تعبديا ، كما إذا فرضنا الوجوب تعبديا مثل المرأة التي تشك في حيضها فيدور الأمر بالنسبة إلى دخولها في المسجد الحرام في الحج بين الوجوب والحرمة.

وقد أفاد المحقق الخراسانيّ في المقام بان العلم الإجمالي حينئذ يؤثر في اقتضاء حرمة المخالفة القطعية لأنها تصبح ممكنة كما إذا جاء بالفعل لا بقصد القربة وان كانت الموافقة القطعية غير ممكنة فيبقي العلم الإجمالي منجزا بهذا المقدار.

واعترض عليه المحقق العراقي ( قده ) بان هذا مناقض مع مبناه في مسألة الاضطرار إلى أحد أطراف العلم الإجمالي لا بعينه القائل بسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز رأسا حتى بالنسبة للمخالفة القطعية لمنافاة الترخيص التخييري مع التكليف المعلوم بالإجمال لأن الترخيص في المقام تخييري أيضا ، وانما يتم ذلك على المبنى الآخر المختار القائل ببقاء المنجزية للعلم الإجمالي بلحاظ حرمة المخالفة القطعية حتى مع الاضطرار إلى بعض أطرافه (١)

__________________

(١) نهاية الأفكار ، القسم الثاني من الجزء الثالث ، ص ٢٩٧.

١٥٩

ولنا في المقام تعليقان :

الأول ـ ان القائلين بحرمة المخالفة القطعية في موارد الاضطرار إلى بعض الأطراف لا بعينه منهم من ذهب إلى ذلك من باب التوسط في التنجيز كالمحقق النائيني ( قده ) حيث ذهب إلى ان التكليف الواقعي ثابت على حاله وانما طرأ النقص على تنجيز العلم الإجمالي وهو ليس علة تامة للموافقة القطعية بل لحرمة المخالفة القطعية فحسب ، ومنهم المحقق العراقي الّذي يرى علية العلم الإجمالي للموافقة القطعية وانما ذهب إلى حرمة المخالفة القطعية في ذلك من باب التوسط في التكليف بمعنى تقيد التكليف في كل طرف بفرض مخالفة الطرف الآخر أي تحوله من التعيينية إلى التخييرية.

فإذا سلكنا المسلك الأول صح ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) في المقام ـ مع قطع النّظر عن التعليق القادم ـ واما إذا مشينا حسب المسلك الثاني ـ كما هو مختار صاحب الإشكال ـ فهذا المسلك للتنجيز لا يتم في المقام لا التوسط في التكليف بمعنى تخييريته وتقيده في كل طرف بمخالفة الطرف الآخر غير معقول هنا ، إذ لا يعقل ان يكون وجوب الفعل بقصد القربة مشروطا بمخالفة الطرف الآخر أي الحرمة لأنها مساوقة مع الفعل ، وقد تقدم انه مع فرض الفعل في المرتبة السابقة يستحيل محركية داعي القربة وهذا يعني انه لا بد من افتراض سقوط التكليف القربي لأن بقاءه مطلقا ينافي الترخيص التخييري وبقاءه مشروطا غير معقول فيكون على حد الاضطرار إلى أحد الأطراف معينا الموجب لسقوط التكليف على تقدير كونه في ذلك الطرف فتجري البراءة في الطرف الآخر لكونه شكا في أصل التكليف. وهكذا يتضح ان مثل المحقق العراقي ( قده ) القائل لمسلك التوسط في التكليف لا في التنجيز لا ينبغي ان يقول بحرمة المخالفة القطعية في المقام فضلا عن مثل صاحب الكفاية. نعم إذا كان الطرفان تعبديين أمكن ذلك لأن مخالفة الطرف الآخر يمكن ان يكون من دون الإتيان بالطرف الأول بل بصدور الترك غير القربي فيمكن الأمر بالفعل أو بالعكس فيمكن الأمر بالترك.

الثاني ـ ان المقام بحسب الدقة من قبيل الاضطرار إلى أحد الطرفين بعينه الّذي لا يكون العلم الإجمالي فيه منجزا وذلك لأنه في طول الاضطرار إلى المخالفة الاحتمالية بعدم إمكان الموافقة القطعية لا يبقي للمكلف قدرة على الإتيان بالعمل بقصد قربي

١٦٠