بحوث في علم الأصول - ج ٤

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

٣ ـ ان ما أفيد من لزوم آلية اللحاظ في تنزيل الأمارة مقام القطع الطريقي واستقلاليته في تنزيله مقام القطع الموضوعي لا معنى له في المقام ، فان هذا التقسيم انما يتعقل في القطع والظن بالحمل الشائع في نظر القاطع والظان ولا يتعقل في مفهوم القطع والظن الملحوظين في مقام الجعل من قبل الشارع. فانه حينئذ يتصور مفهوم الظن والقطع كغيرهما من المفاهيم الواردة في الخطابات الشرعية وتكون فانية في مصاديقها الخارجية.

نعم يمكن أن يغير التعبير ويقال : بان المراد باللحاظ الآلي والاستقلالي الصراحة والكناية بحسب المدلول الاستعمالي ، لأن تنزيل الظن منزلة القطع في موارد القطع الطريقي كناية عن تنزيل المظنون منزلة المقطوع باعتبار كون القطع مرآة في نظر القاطع دائما ، وفي موارد القطع الموضوعي يراد منه تنزيل نفس الظن منزلة القطع فيما له من حكم بالصراحة ، واستفادة كلا التنزيلين معناه الجمع بين الكناية والصراحة في كلام واحد وهو نظير استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.

ولكن هذا تقريب للإشكال ينتج محذورا إثباتيا لا ثبوتيا ، ويمكن تقريبه حينئذ بنحو فني بلا حاجة إلى إدخال مسألة الصراحة والكناية ليطالب بملاك الكناية ومناسبتها بل بالبيان التالي : ان الدليل الواحد المتكفل للخطاب التنزيلي اما أن يكون مفاده بحسب المدلول التصديقي إبراز شدة اهتمام المولى بالتكاليف الواقعية في مرحلة التحفظ عليها أو يكون مفاده الجعل النفسيّ والحكم الواقعي النابع عن ملاكات نفسية في متعلق الحكم ، وتنزيل الظن منزلة القطع الطريقي يكون المدلول التصديقي فيه هو الأول على ضوء ما تقدم في معنى الحجية وحقيقتها بينما تنزيل الظن منزلة القطع الموضوعي يكون المدلول التصديقي فيه هو الثاني ، والجمع بين المدلولين التصديقيين في خطاب واحد بأن يكون التنزيل الواحد كاشفا عنهما معا كشفا تصديقيا جديا أمر غير عرفي فان دليل الجعل الواحد يكشف عرفا عن سنخ مدلول تصديقي واحد أيضا لا عن سنخين.

وإن شئت قلت : ان المدلول التصديقي في موارد قيام الأمارة مقام القطع الطريقي مدلول إخباري بينما في موارد قيامها مقام القطع الموضوعي مدلول إنشائي فالجمع بينهما

٨١

في خطاب واحد واستعمال الواحد على حد استعمال اللفظ في الإنشاء والإخبار بحسب المدلول التصديقي لا التصوري ولا الاستعمالي وهو امر غير عرفي (١) ، نظير قوله ( تعيد ) مريدا بذلك إنشاء الأمر والإخبار عن الإعادة ولو كان المدلول التصوري للجمل المشتركة في الإنشاء والإخبار واحدا.

واما موقف كل من المحقق النائيني ( قده ) وصاحب الكفاية نفسه في الجواب على هذه الشبهة. فمدرسة المحقق النائيني ( قده ) حاولت التخلص عن الإشكال بافتراض ان المجعول في أدلة الحجية ليس هو التنزيل بل جعل الظن علما على حد المجاز الادعائي السكاكي. وقد استفادت هذه المدرسة من هذه الصياغة في باب جعل الحجية في المقام السابق للتخلص عن محذور المنافاة مع القاعدة العقلية ، واستفادت منها في هذا المقام في دفع شبهة الجمع بين اللحاظين ، فانه على هذا المبنى لا يوجد هناك تنزيل أصلا لكي يلحظ المؤدى تارة والقطع أخرى فيلزم الجمع بين اللحاظين المتنافيين.

والتحقيق : ان اعتبار الظن علما لو كان يحقق ورودا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعلى دليل الحكم المترتب على القطع حقيقة فما أفيد يكون تاما حينئذ ، إلا ان هذا مبني على افتراض ان البيان المأخوذ عدمه موضوعا للقاعدة والعلم المأخوذ موضوعا في دليل حكم القطع الموضوعي هو الأعم من الفرد الحقيقي من العلم والفرد الاعتباري الادعائي ، فان إنشاء العلمية واعتبارها حينئذ سوف يكون محققا لفرد من العلم بهذا المعنى الجامع حقيقة وهو معنى الورود إلا أن هذا الافتراض لا موجب له فلا يتم موقف مدرسة المحقق النائيني ( قده ).

توضيح ذلك ـ ان القاعدة العقلية موضوعها بحسب حكم العقل الّذي هو الحاكم بها لا يعقل أن يرتفع بمجرد إنشاء العلمية واعتبارها عنوانا. وانما يرتفع فيما إذا علم باهتمام المولى بالحكم على تقدير وجوده في مورد عدم البيان ، أي العلم بالقضية الشرطية كما تقدم توضيح ذلك مفصلا في المقام السابق ، فورود دليل الحجية على

__________________

(١) لعل هذا أشبه بالفرق في الملاك للحكم لا أصله فيمكن ان يجمع بين السنخين في جعل واحد بأن يقول « اعمل كما يعمل القاطع » ويكون المدلول التصديقي بمعنى الجعل والاعتبار أو البعث والتحريك واحدا وان كان في كل من القطعين الطريقي والموضوعي بملاك غير ملاك الآخر.

٨٢

القاعدة مبني على كون مدلوله التصديقي شدة اهتمام المولى بحفظ التكاليف الواقعية الأولية في موارد الشك.

واما دليل القطع الموضوعي فلأنه بحسب الفرض دليل قد أخذ في موضوعه عنوان القطع وهو على حد أي عنوان آخر لا يشمل إلا افراده الحقيقية لا الإنشائية الادعائية ، فمجرد إنشاء العلمية عنوانا لا يشكل إطلاقا لدليل القطع الموضوعي وهذا واضح ، فإذا أريد إسراء حكم ذلك الدليل كان لا بد من أن يكون دليل جعل العلمية ناظرا إلى ذلك الدليل لتنزيل ما ليس بعلم علما في حكمه فيكون حكومة تنزيلية بحسب حقيقته لا ورودا ، وهذا ما لا يرى المحقق النائيني إمكانه بلحاظ أحكام القطع الطريقي مضافا إلى ان هذا النّظر التنزيلي يختلف سنخا بحسب مرحلة المدلول التصديقي عن جعل الطريقية وإبراز شدة الاهتمام بالواقع لترتيب المنجزية العقلية ورفع قاعدة قبح العقاب بلا بيان فلا يمكن الجمع بينهما في دليل واحد ، وهذا هو نفس إشكال صاحب الكفاية ( قده ) بتقريبه العرفي الإثباتي المتقدم وإن كان الإشكال بصياغته الثبوتية غير وارد.

بل بحسب مقام الإثبات نواجه في هذا الموقف إشكالا أشد مما سبق فانه حتى لو فرض إمكان الجمع بين المدلولين المختلفين سنخا في دليل واحد اتجه هنا إشكال إثباتي آخر من ناحية ان دليل الحجية بعد أن لم يكن بلسان التنزيل بل بلسان جعل الطريقية واعتبار ما ليس بعلم علما ـ مسلك الميرزا ـ فلا تنزيل ليتمسك بإطلاق التنزيل لجميع آثار القطع وانما لا بد وأن يستفاد ترتب آثار القطع على ما ليس بعلم حقيقة بل اعتبارا وإنشاء بقرينة عقلية كدلالة الاقتضاء لكي لا يكون الاعتبار لغوا ، فصونا لكلام المولى عن اللغوية لا بد وأن يحمل اعتبار العلمية على انه بداعي ترتيب ما للقطع من الأثر ، ومن الواضح ان دلالة الاقتضاء دلالة عقلية لا تثبت إطلاقا أو عموما إذ يكفي في دفع اللغوية ثبوت أثر في الجملة ، وفي المقام باعتبار ان ترتب آثار القطع الطريقي متيقن على أي حال بحيث لا يحتمل العكس فلا لغوية ولا مقتضي لدلالة الاقتضاء. هذا كله مضافا إلى ما أشرنا إليه في النقطة الأولى في مستهل هذا البحث من انا لا نواجه عبارة واردة في دليل لفظي ليبحث عن إمكان التمسك بإطلاقه

٨٣

لقيام الأمارة مقام القطعين الطريقي والموضوعي معا بجعل واحد وصيغة واحدة ، وانما مهم الدليل على الحجية في الشبهات الحكمية تتمثل في السيرة العقلائية التي هي دليل لبي فلا بد من ملاحظة مقدار ما انعقدت عليه السيرة وهذا لا ربط له بالجعل الواحد والعبارة الواحدة ، فقد تكون هناك عبارة واحدة وافية بالمطلبين معا ، ولكن السيرة غير وافية بذلك وقد يكون بالعكس. والطريق ان المحقق النائيني ( قده ) في بحث كيفية الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية بعد أن حاول الجمع بينهما على أساس نفس نكتة جعل الطريقية والكاشفية استدل على إثبات كون المجعول في الأمارات هو الطريقية بأن مهم الدليل على حجيتها هو السيرة العقلائية وأما الأدلة اللفظية إذا تمت فهي إمضائية لا أكثر والسيرة منعقدة على جعل الأمارات علما ولا ندري كيف استكشف من السيرة ان الصياغة المجعولة لدى العقلاء هي جعل الطريقية لا الإلزام بالعمل مع ان المراد من سيرة العقلاء بنائهم بما هم موالي عرفية لهم إلزامات وتكاليف ، واما الأدلة اللفظية الآمرة بالاخذ بخبر الثقة فاستفادة جعل الطريقية والعملية منها بهذا المعنى أبعد وأوضح. فالصحيح مراجعة هذه السيرة ليرى هل انها منعقدة على اعتبار الأمارة علما في المقامين أو في خصوص موارد القطع الطريقي؟

ولسنا نواجه دليلا لفظيا لكي يقال بأنه بعد فرض ان المجعول هو الطريقية نتمسك بإطلاقه في الموردين ، وانما نواجه دليلا لبيا لا بد من البحث عن مقدار مدلوله سواء كان جعلا واحدا أو جعلين فإتعاب النّفس في تشخيص صياغة المجعول وكيفيتها لا طائل تحته.

وحينئذ نقول : انه لا يستفاد من السيرة العقلائية على حجية الأمارات أكثر من قيامها مقام القطع الطريقي في التنجيز والتعذير ، لأن العقلاء ليست لهم أحكام يؤخذ فيها القطع موضوعا بنحو شايع معروف بحيث تنعقد سيرتهم على معاملة الأمارات في موارد تلك الأحكام معاملة القطع الموضوعي ، وانما المعروف والشائع عندهم في المولويات العرفية الآداب والالتزامات القائمة فيما بين الموالي والعبيد والآباء والأبناء والتي يكون القطع فيها مجرد طريق إليها وقد انعقدت سيرتهم على الاعتماد على الطرق وبعض الأمارات الظنية بدلا عن القطع بها. فان أريد استفادة قيام الأمارات مقام

٨٤

القطع الموضوعي بدعوى ان السيرة قد انعقدت على اعتبار الأمارة علما حتى بلحاظ أحكامهم العقلائية في موارد القطع فقد عرفت انه لا توجد أحكام عقلائية كذلك واضحة وشائعة ليستفاد انعقاد سيرتهم العملية على إقامة الأمارة مقام القطع فيها وترتيب آثاره عليها.

وإن أريد ان سيرتهم منعقدة على اعتبار الأمارة علما في الأحكام الشرعية التي قد أخذ في موضوعها القطع الموضوعي فهذا غير معقول في نفسه ، فان شأن كل مشرع أن يتصرف في دائرة تشريع نفسه لا أحكام غيره.

وعليه فلا يمكن أن يستفاد من أدلة الحجية في الشبهات الموضوعية أكثر من قيام الأمارة مقام القطع الطريقي فحسب.

واما موقف صاحب الكفاية ( قده ) فقد حاول في حاشيته على رسائل الشيخ الأنصاري ( قده ) أن يحل الإشكال بافتراض ان دليل تنزيل المؤدي منزلة الواقع المثبت بالمطابقة قيام الأمارة مقام القطع الطريقي يدل بالالتزام على تنزيل القطع بالواقع التنزيلي التعبدي الحاصل ببركة التنزيل الأول منزلة القطع بالواقع الحقيقي الواقع موضوعا للحكم شرعي ، وبذلك يندفع الإشكال لعدم اجتماع التنزيلين في مدلول واحد وجعل واحد كي يلزم محذور اجتماع اللحاظين المتنافيين أو نحو ذلك. اما وجه اللزوم مع وضوح عدم التلازم عقلا فيمكن أن يقرب تارة عرفيا ـ كما هو ظاهر عبارته في الحاشية ـ بدعوى ان العرف من باب عدم دقة نظره ومسامحته بعد أن يرى ان المؤدى واقع يتخيل ان القطع به قطع بالواقع أيضا. وأخرى عقليا ـ كما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) ـ من باب الاقتضاء حيث ان تنزيل المؤدى في مورد يكون فيه الواقع جزء الموضوع للحكم لغو لو لا تنزيل لشيء آخر منزلة القطع بالواقع ، والعرف بحسب مناسباته وذوقه يشخص ان الأمر الآخر الدائمي الوجود والمناسب لتنزيله منزلة القطع بالواقع انما هو القطع بالواقع التنزيلي.

وقد أورد صاحب الكفاية نفسه على هذا الموقف في كفايته بما يتألف من مقدمتين :

أولاهما ـ ان التنزيلين المذكورين طوليان ، حيث انه قد أخذ في موضوع التنزيل

٨٥

الثاني القطع بالواقع التنزيلي وهو في طول الواقع التنزيلي لا محالة فيكون تنزيله منزلة القطع بالواقع الحقيقي أيضا في طول الواقع التنزيلي المتحقق بالتنزيل الأول.

الثانية ـ انه يشترط في تنزيل شيء منزلة جزء موضوع حكم مركب من جزءين أو اجزاء أن يكون هذا التنزيل في عرض إحراز الجزء الاخر أو تنزيل شيء آخر منزلة ذلك الجزء ، ويستحيل أن يكون في طوله كما هو الحال في المقام ، لأن واقع التنزيل في باب موضوعات الأحكام عبارة عن إسراء حكم موضوع إلى موضوع اخر ، وجزء الموضوع ليس له حكم حتى ينزل منزلته وانما الحكم للمجموع فتنزيل شيء منزلته لا يكون إلا ضمن تنزيل واحد بلحاظ تمام الموضوع ، فأخذ تنزيل جزء الموضوع في موضوع تنزيل الجزء الاخر خلف وحدة الحكم المنزل عليه وكون التنزيل بلحاظ تمام اجزاء موضوعه تنزيلا واحدا.

ولعل هذا التفسير لكلام صاحب الكفاية ( قده ) أحسن مما يتراءى من ظاهر عبارته من الاعتراض بإشكال الدور ، على ان في العبارة تشويشا في كون الدور بين الدلالتين أو المدلولين.

اما تقريب الدور بين الدلالتين فبأن يقال : ان دلالة دليل الحجية على تنزيل المؤدى منزلة الواقع فرع ثبوت دلالة أخرى على تنزيل الشيء الاخر منزلة الجزء الاخر إذا كان التنزيل في الجزءين معا إذ لو لم تتم الثانية كانت الأولى لغوا فتكون غير منعقدة ، والدلالة الأخرى في المقام باعتبارها دلالة التزامية تكون فرع الدلالة الأولى ومتوقفة عليها وهذا دور.

وفيه : ان هذه المغالطة بنفسها جارية في التنزيلين العرضيين أيضا ، فان كلا من الدلالتين تكون متوقفة على الأخرى وإلا كانت لغوا وهو دور. وحلها واضح حيث ان ثبوت كل من الدلالتين فرع سد باب عدم الأخرى من النواحي الأخرى لا من هذه الناحية ، أي فرع ثبوت قضية شرطية مفادها لو ثبت هذا كان ذاك أيضا ثابتا فان هذا كاف في دفع اللغوية الّذي هو ملاك هذه الدلالة كما لا يخفى.

واما تقريب الدور بين المدلولين : فباعتبار ان تنزيل المؤدى منزلة الواقع يتوقف على تنزيل القطع بالواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي وإلا كان لغوا ،

٨٦

والتنزيل الثاني متوقف على التنزيل الأول توقف الحكم على موضوعه إذ لو لا التنزيل الأول لما كان قطع بالواقع التنزيلي وهذا دور.

وهذا أيضا مغالطة جارية في التنزيلين العرضيين أيضا ، فانه إذا كان كل من الدلالتين بنكتة دفع اللغوية متوقفة على الأخرى لزم الدور. والجواب واحد أيضا وهو ان هذا التوقف ليس من التوقف على فعلية التنزيل الاخر بل على ثبوته في فرض ثبوت الأول دفعا للغوية ، أي ان كلا منهما لا بد وأن يكونا معا وضمن تنزيل واحد لأنه إسراء واحد بحسب الحقيقة. فصياغة الإشكال بتقريب الدور غير سديد ، وانما الصحيح صياغته بالنحو الّذي ذكرناه.

وقد أفاد المحقق العراقي ( قده ) انتصارا لما جاء في الحاشية ودفعا لمحذور استحالة طولية التنزيلين في المقام بان كل جزء من اجزاء الموضوع أيضا له حكم ولكن معلقا على انضمام الجزء الأخرى ، المولى في مقام التنزيل لا يطلب أكثر من إسراء هذا الحكم التعليقي على المنزل ، وبما ان هذا الحكم التعليقي تمام موضوعه نفس الجزء أمكن أخذه في موضوع التنزيل الاخر للجزء الاخر

من دون محذور.

والتحقيق : اننا تارة نبني على الاتجاه الصحيح والمختار في نظرية الحكومة والتنزيل من انها مجرد صياغة لفظية في مقام الإثبات يكشف عن مدلول تصديقي هو التخصيص ، وأخرى نبني على انها عملية إنشائية ثبوتية كما هو المنسجم مع تصورات صاحب الكفاية ومدرسته.

فعلى الأول فلو نزل الشارع مثلا الرشد منزلة البلوغ في وجوب الحج مثلا ، والبذل منزلة الاستطاعة فحقيقة هذا التنزيل هو حقيقة التقييد والتنزيل مجرد بيان وتعبير عن القرينة المنفصلة ، ومن الواضح انه على هذا الأساس لا يكون التنزيل إسراء وجعلا للحكم وانما هو طرز لبيان سعة الحكم فتعدد التنزيل معناه تعدد البيان والقرائن المنفصلة في مقام تحديد ما هو موضوع الحكم الشرعي في الدليل المنزل عليه. فلا يبقى موضوع لأصل شبهة المحقق الخراسانيّ فضلا عن جواب المحقق العراقي.

وانما ينفتح موضوع لهذا البحث بناء على الاتجاه الثاني القائل بأن التنزيل حقيقة ثبوتية بنفسها وجعل للحكم بعنوان الإسراء ، فإشكال المحقق الخراسانيّ ( قده ) مبني

٨٧

على هذا الافتراض وحينئذ لا يتم ما أورده المحقق العراقي عليه وذلك.

أولا ـ لأن التنزيل بلحاظ الحكم التعليقي المرتب على جزء الموضوع غير معقول ، لأن هذا الحكم بحسب حقيقته مدلول إخباري منتزع عقلا عن جعل الحكم الشرعي الواحد وترتيبه على الموضوع المركب لا انه بنفسه حكم شرعي ، وإلا لزم تعدده عند اجتماع الجزءين لثبوته في كل منهما ، فالتنزيل منزلة الجزء بلحاظ هذا الحكم بنحو ينتج النتيجة المطلوبة لا يعقل ـ بناء على ما هو المفروض من ان التنزيل عملية ثبوتية ـ إلا بلحاظ منشأ الحكمين الانتزاعيين وهو حكم واحد لا محالة فلا يعقل الطولية بين اجزائه في التنزيل.

وثانيا ـ لو تعاملنا مع القضيتين التعليقيتين كحكمين مجعولين مع ذلك لا يصح ما أفاده المحقق المذكور ، لأن المقصود من هذا التنزيل إسراء حكم الموضوع المركب من جزءين ـ كالاستطاعة والبلوغ أو الواقع والقطع به ـ إلى موضوع اخر مركب من جزءين أيضا بدلا عن الجزءين المذكورين ـ كالبذل والرشد أو المؤدى والقطع بكونه واقعا تنزيليا ـ وليس المقصود تنزيل أحد الجزءين منزلة الجزء الاخر منضما إليه جزؤه الأول الحقيقي ، فان هذا مما لا إشكال فيه عند أحد فانه في فرض إحراز جزء الموضوع المركب لحكم لا مانع من تنزيل شيء منزلة جزئه الاخر كما صرح به صاحب الكفاية نفسه ، فموضوع الكلام والإشكال ما ذا أريد التنزيل منزلة كلا جزئي الموضوع ـ كما هو المقام فان المؤدى مع القطع بالواقع الحقيقي لا يجتمعان ـ وحينئذ نقول : الحكم التعليقي لكل من جزئي الموضوع في المنزل عليه انما هو ترتب الأثر الشرعي ـ كوجوب الحج ـ على تقدير انضمام الجزء الاخر من موضوع المنزل عليه ، فإذا أريد التنزيل بلحاظ هذا الحكم وان البذل مثلا ينزل منزلة الاستطاعة في انه إذا انضم إليه البلوغ وجب الحج فهذا لا ينتج المقصود إذ المطلوب إسراء الحكم لفرض اجتماع البذل مع الرشد لا اجتماعه مع البلوغ ، وإن أريد تنزيله منزلة الاستطاعة في انه لو انضم إليه الرشد لوجب الحج الثابت بمقتضى التنزيل الاخر في الجزء الاخر أعني تنزيل الرشد منزلة البلوغ ، فهذا مضافا إلى انه لم يكن ثابتا في المنزل عليه بقطع النّظر عن دليل التنزيل ودليل التنزيل ناظر دائما إلى الحكم الثابت في المنزل عليه بقطع النّظر عن نفسه مستحيل لأنه يستلزم

٨٨

نظر كل من التنزيلين إلى مدلول الاخر وتوقفه على ثبوته وهذا دور.

ولا يقال : ـ كما تصدق القضية التعليقية القائلة بان الاستطاعة إذا انضم إليها البلوغ ثبت وجوب الحج كذلك تصدق قضية انها إذا انضم إليها ما ينزل شرعا منزلة البلوغ ثبت وجوب الحج ، وهذه قضية صادقة حتى لو لم يثبت تنزيل شيء منزلة البلوغ ، فان صدق الشرطية لا تستلزم صدق الطرفين ، فإسراء هذا الحكم التعليقي في كل من الجزءين الأصليين إلى الجزءين التنزيليين لا يتوقف على ثبوت تنزيل فعلي لكي يلزم الدور وتوقف مفاد كل من التنزيل على الاخر.

فانه يقال : ـ على هذا التقدير يكون كل من التنزيلين في الجزءين مثبتا للحكم التعليقي المذكور على الجزءين التنزيليين من دون إمكان إثبات فعلية التنزيل في شيء منهما بحيث يثبت بالفعل إسراء الحكم إلى صورة اجتماع الرشد مع البذل ، لأن ذلك متوقف على ثبوت حكم لفرض اجتماع كل واحد من الجزءين الأصليين مع الجزء التنزيلي للآخر ولا مثبت لذلك بحسب الفرض غير هذا الدليل الّذي لا يفي بذلك بحسب الفرض.

والحاصل ـ ان تنزيل المؤدى منزلة الخمر الواقعي لا بد وأن ينظر فيه إلى حكم ثابت للخمر اما فعلي أو تعليقي ليسري بالتنزيل إلى المؤدى ، فلا بد وأن يكون نظر دليل التنزيل إلى حكم ثابت للخمر الواقعي يكون المقصود إسراؤه إلى المنزل عليه وإلا فالتنزيل غير معقول ، والحكم الثابت في المنزل عليه هنا إن كان هو الحكم المعلق المستفاد من الجعل الأولي للحكم على الخمر المقطوع الخمرية فهذا خلف ، لأنه معلق على انضمام الجزء الأصلي الاخر ، فلو أريد إسراؤه لما انتج المقصود ، بل هو في نفسه غير معقول في خصوص المقام لأن الجزء المعلق عليه في المقام هو القطع بالخمرية ومع حصوله لا يبقى موضوع التنزيل الظاهري في المؤدى ، وإن كان هو الحكم المعلق على القطع التنزيلي الثابت ببركة التنزيل الثاني فهذا أيضا خلف ، فان هذا معناه ان التنزيل الثاني قد ضم فيه الجزء التنزيلي الثاني ـ وهو القطع بالواقع التنزيلي ـ لا الجزء الأصلي من الاخر ـ وهو الخمر الواقعي ـ ، بل يلغو التنزيل الأول حينئذ لأن الجزء التنزيلي الثاني دائما في خصوص المقام يكون مع التنزيلي الأول لكونه في طوله ،

٨٩

فلا يبقى إلا أن يكون التنزيل بلحاظ حكم غير ثابت للمنزل عليه بل يثبت بنفس دليل التنزيلين وهذا محال ، لأنه لو أريد فيه النّظر إلى إسراء الحكم الثابت في نفس هذا الدليل فهو محال في نفسه لأن معناه افتراض ثبوته قبل ثبوته وإن أريد فيه عدم النّظر إلى حكم موضوع أصلا فهو خلف فرض التنزيل.

وثالثا ـ ان تنزيل القطع بالواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي معناه أخذ القطع بالواقع الجعلي في موضوع الحكم المذكور الّذي هو حكم شرعي واحد وهذا معناه أخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه وهو محال عندهم. نعم لو فرض ان الحكم متعدد كما ان التنزيل متعدد فالمأخوذ في أحد الحكمين العلم بالحكم الاخر ولا مانع منه إلا انه خلف وحدة الحكم الشرعي المقصود بالتنزيل.

واما كلام المحقق الخراسانيّ ( قده ) في الكفاية فيرد عليه :

أولا ـ بطلان المقدمة الثانية القائلة باستحالة الطولية بين التنزيلين لجزئي الموضوع الواحد ، فان التنزيل كما عرفت مجرد لسان إثباتي ولا يعني إسراء حقيقيا للحكم إلا بلحاظ المدلول التصديقي الجدي فتعدد التنزيل ليس إلا من باب تعدد القرينة المنفصلة الكاشفة عن جعل الحكم على الموضوع المركب.

ثانيا ـ بطلان المقدمة الأولى في كلامه وهي دعوى الطولية بين التنزيلين ، فان تنزيل القطع بالواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي ليس في طول تنزيل المؤدى ، لأن تنزيل شيء منزلة شيء آخر لا يتوقف على وجود المنزل خارجا بل يتوقف على مجرد افتراضه ، ولذلك ينزل الفقاع منزلة الخمر حتى لو لم يكن فقاع خارجا ، فتنزيل القطع بالمؤدى التنزيلي لا يتوقف على أكثر من فرض ذلك. نعم هنا إشكال اخر وهو إشكال أخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه حيث ان التنزيلين بلحاظ حكم واحد وإسراء واحد ، وهذا جوابه ما عرفت مرارا من إمكان أخذ القطع بالجعل في موضوع فعلية المجعول.

ودعوى : ان الجزء الثاني هو القطع بالخمر الواقعي خارجا فيكون الجزء التنزيلي الاخر أيضا هو القطع بالواقع التنزيلي أي العلم بفعلية التنزيل لا العلم بالجعل فان هذا هو المناسب عرفا تنزيله منزلة القطع بالواقع واما العلم بالجعل فليس علما

٩٠

بالخمرية لا الواقعية ولا التنزيلية.

مدفوعة ـ بان القطع بالحكم الفعلي وإن كان هو المناسب إلا ان مجموع القطع بالجعل والقطع بموضوعه كالقطع بالفعلة من حيث المناسبة فإذا كان ذاك مستلزما للدور ومحالا فهذا غير مستلزم وهو ملازم مع ذاك والمفروض ان منشأ الدلالة هو الاقتضاء وصون الجعل عن اللغوية لا الدلالة اللفظية لنعمل فيه هذه المناسبات العرفية.

ثالثا ـ لو سلمنا المقدمتين معا مع ذلك أمكننا تتميم كلام الحاشية بان الدلالة الالتزامية اما أن تكون عرفية أو عقلية بدلالة الاقتضاء ، فعلى الأول ننقل الكلام إلى مورد يكون الواقع فيه تمام الموضوع لحكم واقعي كحرمة الشرب مثلا ، ويكون القطع تمام الموضوع لحكم اخر كوجوب الإراقة مثلا ، ومعه يكون هناك تنزيلان مستقلان لا ربط لأحدهما بالاخر ويكون القطع بالواقع التنزيلي حاصلا بقطع النّظر عن التنزيل الثاني وبلا توقف عليه وملاك الدلالة الالتزامية العرفية وهي المسامحة وعدم الفرق بين القطع بالواقع الحقيقي والقطع بالواقع التنزيلي جار هنا أيضا فيتم المطلوب.

وعلى الثاني ـ فلو فرض ان تنزيل القطع بالواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي مستحيل فيستكشف ان امرا اخر هو الّذي نزل منزلة القطع بالواقع ، فان دلالة الاقتضاء لم تكن تعين ابتداء ما هو المنزل منزلة الجزء الثاني وانما عينا ذلك بالمناسبات العرفية فإذا كان ذلك محالا فليكن المنزل الظن بالواقع مثلا أو أمر اخر ملازم.

رابعا ـ ان الطولية لو كانت فهي بحسب الحقيقة بين التنزيل الثاني والتنزيل الأول ، أي اننا بالتدقيق سوف نلاحظ ان تنزيل المؤدى منزلة الواقع هو الّذي يكون في طول تنزيل القطع بالواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي ، وذلك باعتبار ان تنزيل المؤدى منزلة الواقع تنزيل ظاهري بينما تنزيل القطع به منزلة القطع بالواقع في أثر القطع الموضوعي تنزيل واقعي ، وكل تنزيل ظاهري يكون في طول التنزيل الواقعي لكونه مأخوذا في موضوعه الشك فيه ، وفي المقام التنزيل بلحاظ المؤدى ظاهري بحسب الفرض فان أدلة الحجية تثبت أحكاما ظاهرية قد أخذ في موضوعها الشك في

٩١

الحكم الواقعي في مواردها مع حفظ الواقع على واقعيته بحيث قد ينكشف الخلاف ، واما تنزيل القطع بالواقع التنزيلي فهو لا يكون تنزيلا ظاهريا لأن القطع الموضوعي الّذي هو المنزل عليه يقطع بعدمه لا انه مشكوك ـ كما في الواقع والمؤدى ـ وكلما كان دليل التنزيل يثبت حكما في مورد يقطع فيه بعدم حكم المنزل عليه كان تنزيلا واقعيا لا محالة وعلى هذا الأساس يترتب في المقام :

أولا ـ أن تكون طولية التنزيلين على عكس ما كان يتراءى لصاحب الكفاية ( قده ) أي يكون تنزيل المؤدى في طول تنزيل القطع به منزلة القطع بالواقع تنزيلا واقعيا لكي يعقل الشك في ثبوت ذلك الحكم الواقعي في مورد الأمارة فينزل مؤداه منزلة الواقع.

وثانيا ـ ان تعدد التنزيل وطوليتهما لا إشكال فيه لأنه يوجد بحسب الحقيقة حكمان أحدهما ظاهري والاخر واقعي فلا محذور في التعدد ولا في الطولية بين التنزيلي فالمشكلة المثارة من قبل صاحب الكفاية ( قده ) فرع أن يكون التنزيلان معا واقعيين وبلحاظ واحد ، وبهذا التحليل اتضح انه لا موضوع للمشكلة أساسا. نعم هنا إشكال اخر لو فرض أخذ القطع بالحكم الظاهري الفعلي في موضوع التنزيل الواقعي حيث انه فرع فعلية الحكم الظاهري وهي فرع ثبوت موضوع الحكم الظاهري وهو الشك في الحكم الواقعي وهو فرع ثبوت القطع التنزيلي وإلا كان يقطع بعدم الحكم الواقعي لأن التنزيل بلحاظ هذا الجزء واقعي كما قلنا. وهذا إشكال اخر ينحصر الجواب عليه بافتراض ان المأخوذ في التنزيل الثاني اما هو القطع بالجعل أو الظن بالواقع أي امر اخر ملازم.

وثالثا ـ ان التنزيل الأول في نفسه غير معقول على تقدير ولا يمكن استفادته من دليل الحجية على تقدير اخر ، توضيح ذلك : ان تنزيل المؤدى ان لم يكن معلقا على جزء اخر فلا يعقل مطابقته للواقع لأن الواقع وحده لم يمكن له حكم واقعي لكي يجعل بلحاظ الشك فيه حكم ظاهري ، وإن فرض انه معلق على حصول الجزء الاخر فان كان الجزء الاخر هو القطع بالواقع فهو أيضا غير معقول ، لأن فرض القطع بالواقع فرض ارتفاع موضوع التنزيل الظاهري في المؤدى ، وإن فرض انه معلق على القطع

٩٢

بالواقع التنزيلي الجعلي فالمفروض انه بقطع النّظر عن دليل الحجية لا دليل على توسعة الحكم الواقعي لفرض اجتماع الخمر الواقعي مع شيء اخر غير القطع بالواقع ، واما استفادة ذلك من نفس دليل الحجية بدلالة الاقتضاء فهذه عناية زائدة من الواضح انه لا يمكن استفادتها بدلالة الاقتضاء إذ دلالة الاقتضاء فرع تمامية موضوع دليل في مورد ولكن يكون معقولية الحكم فيه متوقفا على ثبوت حكم آخر ، ولا يمكن أن ينقح بدلالة الاقتضاء أصل موضوعية مورد الدليل وشمول دلالته له ، وفي المقام التنزيل الأول بعد أن كان ظاهريا فهو موضوعا قد أخذ فيه الشك في الحكم الواقعي فكل مورد لا يوجد فيه شك في الحكم الواقعي لا يكون مشمولا لإطلاق دليل الحجية ولا يمكن إحراز الشك بدلالة الاقتضاء. وفي المقام الأمر كذلك فانه بقطع النّظر عن التنزيل الثاني الواقعي المراد استفادته بدلالة الاقتضاء يقطع بعدم الحكم الواقعي فلا يكون مشمولا لإطلاق دليل الحجية والتنزيل أصلا.

واما كلام الخراسانيّ ( قده ) في الحاشية. فيرد عليه :

أولا ـ ان الدلالة الالتزامية المذكورة غير ثابتة لا بترتيبها العرفي ولا بتقريبها العقلي.

اما الأول ، فلوضوح ان الدلالات الالتزامية العرفية دلالات واضحة قريبة من الفهم العرفي ملازمة مع مدلول اللفظ تصورا أو تصديقا ، وتزيل القطع بالواقع التنزيلي الّذي يصعب تصوره في نفسه كيف يعقل أن يكون مدلولا عرفيا التزاميا لدليل الحجية؟

واما الثاني ، فهو أوضح بطلانا فان دلالة الاقتضاء انما تكون فيما إذا كان أصل مفاد الدليل لغوا من دون افتراض امر زائد عليه لا ما إذا كان إطلاقه لمورد لغوا كما في المقام وإلا فلا ينعقد الإطلاق لأنه مقيد لبا بوجود الأثر العملي أو عدم اللغوية ففي مورد لا يكون أثر عملي لا إطلاق في نفسه لكي تضم إليه دلالة الاقتضاء.

وثانيا ـ انه لا يتم لإفادة قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي فيما إذا كان القطع تمام الموضوع للحكم فانه في مثل ذلك لا يكون المؤدى منزلا منزلة الواقع لتكون الأمارة منزلة منزلة القطع.

وثالثا ـ ان حق المطلب أن يعكس ويقال انه لو ثبت بدليل قيام الأمارة مقام

٩٣

القطع الموضوعي دل ذلك بالالتزام على قيامه مقام القطع الطريقي. وذلك لأن القطع قد أخذ عدمه في موضوع دليل البراءة الشرعية فلو حكم الشارع في مورد بقيام الأمارة منزلة القطع كان بإطلاقه رافعا لموضوع ( رفع ما لا يعلمون ) وهذا وإن كان مدلوله المطابقي مجرد ارتفاع الحكم الشرعي بالبراءة ولكن يمكن أن يدعى ان المستفاد منها عرفا ولو بالالتزام جعل إيجاب الاحتياط في مورد تلك الأمارة الّذي هو معنى حجيتها. ولكن يرد على هذه الاستفادة بعض ما قلناه على استفادة الحاشية.

وبهذا انتهينا من الكلمات الثلاث. وقد تلخص من مجموع ما تقدم عدم إمكان استفادة قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي من نفس دليل الحجية. نعم أشرنا في مستهل البحث إلى ان دليل القطع الموضوعي لو أخذ القطع في موضوعه بما هو حجة لا بما هو قطع قامت الأمارة مقامه بنفس دليل الحجية للورود لا الحكومة ، ولهذا لا يحتاج إلى إثبات نظر في الدليل الدال على الحجية إلى دليل القطع الموضوعي فيصح التمسك حتى بالسيرة العقلائية على ذلك ، ولكن الصحيح مع ذلك التفصيل بين ما إذا كان المؤدى موضوعا مستقلا لحكم شرعي وما إذا لم يكن كذلك سواء كان القطع تمام الموضوع أو جزء منه فانه في الفرض الثاني لا تكون الأمارة حجة ليتحقق الورود إذ لا أثر لمؤداها لتكون حجة في إثباته (١).

__________________

(١) الدليل الّذي أخذ فيه القطع بما هو حجة في موضوع حكم شرعي بحسب المناسبات العرفية قد يكون ظاهرا في أخذ ما يكون حجة شأنا أي بنحو القضية التعليقية القائلة بأنه لو كان لمؤداه أثر كان مترتبا به وهذا ثابت في الصور الثلاث.

ولو تنزلنا فلا وجه لاشتراط الحجية بلحاظ حكم آخر يكون المؤدى تمام الموضوع فيه بل إذا كان مؤدى الأمارة جزء الموضوع للحكم فسوف تكون الأمارة حجة بالفعل في إثبات الحكم الشرعي المترتب على القطع من ناحية هذا الجزء للموضوع وهذا المقدار كان في قيامها مقام القطع بما هو حجة لأنها حجية فعلية في حال قيامها قيام القطع ولا يشترط الحجية الفعلية بقطع النّظر عن قيامها مقام القطع ، بل لو أريد الحجية الفعلية بقطع النّظر عن الجزء الآخر بلحاظ نفي الحكم الّذي أخذ في موضوعه القطع بما هو حجة فهذا لا يعقل الا في القطع فيكون معناه اعتبار خصوص القطع لا مطلق الحجة وهو خلف استفادة عدم الاختصاص بالقطع وان أريد الحجية الفعلية بلحاظ حكم آخر مترتب على المؤدى فمن الواضح ان مثل هذه الخصوصية لا دخل لها في تنجيز الحكم المترتب على نفس القطع بما هو حجة فالمتعين بعد فرض استفادة ان القطع بما هو حجة موضوع للحكم إرادة الحجية بمقدار إحراز الجزء الآخر للموضوع أو كانت قائمة مقام القطع لا بقطع النّظر عنه وهذا ثابت فيما إذا كان الواقع جزء الموضوع.

٩٤

٤ ـ قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي على وجه الصفتية :

المقام الرابع : في قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الصفتية ، وفي هذا المقام لا يوجد مزيد كلام فانه بناء على ما تقدم من الإشكال في قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية في المقام السابق يكون المنع هنا أوضح وأجلى.

واما بناء على مسالك القوم القائلين بقيامها مقام القطع المأخوذ على وجه الطريقية ، فائضا لا بد من المنع من قيامها مقام القطع المأخوذ على وجه الصفتية لأنه قد تقدم عند التعرض لأقسام القطع في المقام الأول ان صفتية القطع انما تتعقل بمعنى أخذ القطع بلحاظ معلولاته النفسانيّة من الاستقرار وزوال القلق موضوعا للحكم الشرعي ومن الواضح ان أدلة الحجية سواء استفيد منها اعتبار الأمارة علما ـ كما تقوله مدرسة المحقق النائيني ( قده ) ـ أو تنزيل المؤدى منزلة الواقع ـ كما هو مسلك صاحب الكفاية ـ لا تتضمن اعتبارها قطعا صفتيا بالمعنى المذكور أو تنزيله منزلة تلك المعلولات بل غايته اعتباره طريقا كالقطع أو تنزيله منزلة الطريق فيما أخذ موضوعا فيه. فلا بد من مزيد عناية تنزيل أو اعتبار وهي غير موجودة سواء كان دليل الحجية لفظيا أو لبيا.

وهكذا يتضح ان الأمارات فضلا عن الأصول العملية لا تقوم مقام القطع الموضوعي. وينبغي التنبيه على أمور :

١ ـ انه بناء على ما عليه المشهور من قيام الأمارة مقام القطع الطريقي والموضوعي معا تثبت في مواردها كل من أحكام المؤدى وأحكام القطع نفسه ببركة دليل الحجية ولكن لا بد من الالتفات إلى ان التوسعة والحكومة بلحاظ أحكام المؤدى حكومة ظاهرية وبلحاظ أحكام القطع نفسه حكومة واقعية ، وذلك لما تقدم من ان كل توسعة تثبت بلحاظ الشك في الحكم الموسع وفي مرحلة حفظه في مورد التزاحم تكون ظاهرية وكل توسعة تثبت في مورد يقطع فيه بعدم الحكم الموسع لو لا تلك التوسعة تكون واقعية ولهذا لا يعقل في الحكومة الواقعية انكشاف للخلاف كما إذا جعل الطواف بالبيت

٩٥

صلاة مثلا ، وهذا بخلاف موارد الحكومة الظاهرية وقد عرفت ان التوسعة الحاصلة في موارد الأمارات بلحاظ أحكام المؤدى انما هي بملاك الشك فيها فتكون ظاهرية واما بلحاظ أحكام القطع نفسه التي يقطع بعدمها لعدم موضوعها لو لا هذه التوسعة فالحكومة واقعية على حد الحكومة في دليل الطواف.

٢ ـ هناك بحث بناء على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي أيضا ـ في ان ذلك هل يكون في طول قيامها مقام القطع الطريقي بحيث لو لم يكن في مورد أثر للقطع الطريقي لا تقوم الأمارة هنالك مقام القطع الموضوعي أو لا تلازم بينهما بل هما عرضيان؟. ومن جملة ثمرات ذلك تخريج عملية إفتاء الفقيه بالاحكام التي تكون خارجة عن محل ابتلائه كأحكام النساء مثلا. فانه لا أثر بلحاظ مؤدى أدلة تلك الأحكام من الأمارات أو الأصول العملية بلحاظ نفس الفقيه إذ لا تكون منجزة عليه وانما الأثر بلحاظ نفس العلم بها الواقع موضوعا للحكم بجواز الإفتاء الّذي هو الحكم الداخل في ابتلائه (١). فان قيل بالطولية بين القيامين فلا يمكن للفقيه أن يفتي بالحكم الواقعي لعدم كونه عالما به ولا وجدانا ولا تعبدا بحسب الفرض وإن قيل بالعرضية بينهما جاز له الإفتاء لكونه عالما بالواقع اعتبارا أو تنزيلا.

والظاهر ان هذه النقطة تختلف باختلاف المسالك في مدرك القول بقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي ، فبناء على مسلك الميرزا ( قده ) من ان دليل الحجية يجعل الأمارة علما لا موجب للطولية بين آثار القطع الطريقي والموضوعي في قيام الأمارة مقامها ، واما إن مشينا على مسلك صاحب الكفاية ( قده ) في حاشيته على الرسائل من ان دليل الحجية يدل بالمطابقة على تنزيل المؤدى منزلة الواقع وبالالتزام على تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي فربما يقال باختصاص ذلك بما إذا كان للواقع أثر ولو ضمنا إذ من دون ذلك لا يكون لنا واقع جعلي لكي ينزل القطع به منزلة القطع بالواقع الحقيقي.

__________________

(١) قد يقال : بان جواز الإفتاء كجواز الاخبار موضوعه مطابقة الواقع لا مطابقة الاعتقاد وبناء عليه تكون الأمارة قائمة مقام القطع الطريقي أيضا بلحاظ هذا الحكم ومعه يندفع النقض القادم في التنبيه الثالث على مسلك الميرزا في مسألة الإفتاء وإن كانت كبراه متجهة.

٩٦

ودعوى : ان الواقع في هذه الحالة أيضا يكون له أثر وذلك لأن المفروض ان موضوع الحكم هو القطع بالخمرية مثلا لا القطع بكل شيء فتكون الخمرية قيدا في موضوع الحكم وإن لم تكن تمام الموضوع وهو كاف في صحة التنزيل.

مدفوعة : بان هذه القيدية عنوانية لا واقعية ، بمعنى ان ما هو قيد هو عنوان الخمر ولحاظه لا واقعه وحقيقته ولهذا يكون الحكم ثابتا ولو لم يكن خمر واقعا. وهذا لا ربط له بتنزيل المؤدى منزلة الواقع فان الأثر الملحوظ في هذا التنزيل انما هو أثر الخمر بوجوده الحقيقي وبالحمل الشائع لا بوجوده اللحاظي وهذا واضح.

٣ ـ ويتضح على ضوء ما تقدم في الأمرين السابقين انه يمكن النقض على مسالك مدرسة الميرزا وتصوراتها في كيفية استفادة قيام الأمارات والأصول المحرزة مقام القطع الموضوعي أن لا يكون العلم الإجمالي بمخالفة إحدى الأمارتين ـ أعني موارد التعارض بين الأمارتين بملاك العلم الإجمالي بكذب إحداهما ـ مبطلا لقيامهما مقام القطع الموضوعي وترتيب الأثر المترتب عليه على كل منهما رغم تعارضهما وتساقطهما بلحاظ الواقع وآثار القطع الطريقي. وهذه نتيجة غريبة لا يلتزم بها فقهيا فمثلا يجوز للفقيه أن يفتي بكل من الأمارتين اللتين يعلم بكذب إحداهما ، والوجه في ذلك هو ما تقدم في الأمر الأول من ان حكومة دليل الحجية بلحاظ أثر القطع الموضوعي بناء على جعل الطريقية واعتبار الأمارة علما ـ حكومة واقعية ـ لا ظاهرية كما هو الحال بلحاظ آثار القطع الطريقي ـ فلا انكشاف للخلاف بلحاظ هذا الأثر ولا يكون العلم الإجمالي بكذب إحداهما مانعا عن ترتب أثر القطع الموضوعي بعد فرض ان قيامها مقام القطع الموضوعي ليس في طول حجيتها في إثبات الواقع والمؤدى. وانما خصصنا النقض بموارد التعارض بملاك العلم الإجمالي دون التعارض بملاك التناقض لأنه في موارد التناقض بين المؤديين يدعى وضوح عدم إمكان اعتبار العلمية والكاشفية ولو عرفا بلحاظ النقيضين فكأن نفس اعتبار أحدهما علما ينفي بدلالة التزامية عرفية اعتبار الآخر علما أيضا فيقع التعارض في دليل الحجية بلحاظ إقامة الأمارة مقام القطع الموضوعي أيضا. ودعوى : انه في موارد التعارض بين الأمارتين بملاك العلم الإجمالي أيضا يوجد تعارض بملاك التناقض باعتبار حجية الدلالة الالتزامية في باب الأمارات فيكون كل منهما دالا بالالتزام على

٩٧

كذب الاخر بنحو التناقض ، مدفوعة : بأنا ننقل الكلام إلى الأصول المحرزة حيث لا تكون المداليل الالتزامية لها بحجة (١).

__________________

(١) لا يقال : ان هنالك للميرزا ( قده ) مبنى في باب جعل العلمية والطريقية يقول باستحالة جعل شيئين علما مع العلم إجمالا بكذب أحدهما وعليه بنى عدم جريان الاستصحابين التنجيزيين في أطراف العلم الإجمالي أيضا.

فانه يقال : نحن نورد هذا النقض على مدرسته ممن لا يقبل ذلك المبنى كالسيد الأستاذ.

٩٨

أخذ العلم بالحكم في موضوعه

الجهة الرابعة : في أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم ولا إشكال في إمكان أخذ القطع بشيء خارجي ـ كمجيء الحاج مثلا ـ في موضوع حكم شرعي ـ كوجوب الصدقة ـ واما القطع بالحكم الّذي يؤخذ في موضوع حكم أيضا ، فتارة يكون الحكمان متخالفين وأخرى متضادين وثالثة متماثلين ورابعة متحدين.

اما القسم الأول ـ فلا إشكال في إمكانه كما إذا أخذ القطع بوجوب الصلاة في وجوب الصوم مثلا.

واما القسم الثاني ـ وهو أخذ القطع بحكم في موضوع حكم مضاد كما إذا قال إذا قطعت بوجوب الصلاة حرمت عليك أو إذا قطعت بحرمة الخمر فهو حلال لك. فهذا مستحيل لأنه يعني جعل حكم رادع عن طريقية القطع وكاشفيته وقد تقدم انه لا يعقل لا على أن يكون حكما ظاهريا لعدم معقولية ملاكه في مورد القطع ولا واقعيا للزوم التضاد ونقض الغرض على ما تقدم شرحه فيما سبق مفصلا.

واما القسم الثالث ـ وهو أخذ القطع بحكم في موضوع حكم مماثل كما إذا قال إذا قطعت بحرمة الخمر حرمت عليك أو مقطوع الحرمة حرام فهذا بحسب الحقيقة هو البحث المتقدم في بحوث التجري عن إمكان جعل خطاب شرعي يشمل المتجري والعاصي

٩٩

معا بعنوان مقطوع الحرمة أو مقطوع الوجوب ، غاية الأمر ان موضوع البحث هناك خصوص القطع بالحكم الإلزامي الّذي يتصور بلحاظ التجري وهنا مطلق الحكم.

وهنا نزيد بيانا جديدا لم نذكره فيما سبق لإثبات الاستحالة.

وحاصله : انه قد يبرهن على استحالة أخذ القطع بحكم في موضوع حكم مماثل له ببرهان انه في مورد اجتماع الحكمين حينئذ اما ان يلتزم بتعددهما أو بتأكدهما وكلاهما مستحيل فالمقدم مثله.

اما بطلان التعدد فلمحذور اجتماع المثلين ، حيث ان الأحكام كالإعراض بلحاظ موضوعاتها فيستحيل اجتماع فردين متماثلين منها عليه.

واما بطلان التأكد فبأحد بيانين :

١ ـ ان الحكمين بحسب الفرض طوليان حيث انه قد أخذ في موضوع أحدهما القطع بالاخر ويستحيل توحد الحكمين الطوليين وتأكدهما لأن ذلك يعني وحدة وجودهما مع انهما في رتبتين فيلزم تأخر المتقدم وتقدم المتأخر بحسب عالم الرتبة وهو محال.

وهذا البيان سنخ ما يقال في باب المقدمات الداخلية من انه لا يمكن افتراض وجوبها الغيري مع كونها عين المركب الواجب النفسيّ لا بنحو التعدد لأنه من اجتماع المثلين ولا بنحو التأكد لأن الوجوب الغيري في طول الوجوب النفسيّ فيستحيل توحده معه.

٢ ـ ان التأكد بحسب عالم الجعل والحكم لا يعني بأن يندمج أحد الجعلين تكوينا في الاخر ، فان هذا غير معقول في نفسه بل يعني ان مادة اجتماع الحكمين تخرج عن كل من الجعلين ويجعل عليها جعل ثالث أكيد ومادة الاجتماع في المثال هو الخمر الحرام المقطوع حرمته ، ومن الواضح انه يستحيل إخراجها عن الجعلين الأوليين إذ يلزم تقييد جعل حرمة الخمر بالخمر غير المقطوع حرمته وتقييد جعل حرمة مقطوع الحرمة بغير المصادف للواقع وكلا هذين التقييدين محال ، إذ الأول من باب أخذ عدم القطع بالحكم في موضوعه وهو على حد أخذ القطع به فيه إشكال معروف عندهم ، والثاني من باب تقييد الحكم بالقطع غير المصيب وهو غير قابل للتنجيز أيضا إذ القاطع يرى قطعه مصيبا دائما.

١٠٠