بحوث في علم الأصول - ج ٤

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

موضوع للحرمة بالعنوان الثانوي.

واما الثاني ـ فلان مورد النقض تكون النسبة فيه بين الحكمين العموم من وجه لا المطلق فان وجوب الصلاة مع وجوب الوفاء بالنذر من الواضح ان النسبة بينهما عموم من وجه. اللهم إلا أن يكون المقصود إنكار أصل استحالة اجتماع حكمين مثلين في مورد واحد بعنوانين إذا كان أحدهما أعم من الاخر إلا ان ما ذكر ليس مصداقا له وانما الصحيح التمثيل بموارد الأمر بالجامع والأمر بالفرد والحصة فانه لا محذور فيه.

هذا مضافا : إلى ان النسبة بين الخمر الواقعي ومعلوم الخمرية في المقام أيضا العموم من وجه بحسب نظر القاطع لأنه يعلم انه ربما يكون شيء معلوم الخمرية ولو عند غيره أو في مرة أخرى مع عدم كونه في الواقع خمرا فيكون جعل حكمين معقولا من زاوية نظره أيضا.

المحاولة الثانية ـ ما ذكره السيد الأستاذ من ان حرمة التجري المستكشفة بالقبح لو فرض اختصاصها بفرض التجري فقط كان بلا موجب إذ ليس المتجري بأسوإ حالا من العاصي ، بل مثل هذا الحكم غير قابل للتنجز والوصول إلى المكلف لأن المتجري يجد نفسه عاصيا دائما ، وان فرض شموله للعاصي أيضا لزم التسلسل إذ لكل خطاب عصيان وباعتبار ذلك العصيان يتحقق خطاب اخر له عصيان اخر وهكذا (١).

ويرد عليه : اما بالنسبة إلى الفرض الأول فلما تقدم من إمكان وصول الحرمة إلى المكلف ولو في موارد التنجز بغير العلم واختصاص التحريم بالمتجري ليس بملاك أسوئيته ليقال انه بلا موجب بل بملاك مزيد الاهتمام والحفظ المولوي لملاك القبح بجعل خطاب شرعي في مورده واما موارد العصيان فالخطاب الشرعي موجود فيها فلا موجب لجعل خطاب اخر فيه.

واما بالنسبة إلى الفرض الثاني فاستحالة التسلسل انما هو في الوجودات الخارجية لا الاعتبارية فلتكن هناك مجعولات عديدة متسلسلة بعدد الالتفات إلى العناوين الثانوية المترتبة والتي يعتبرها العقل قبيحة كلما توجه والتفت إليها.

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٢٦.

٦١

المحاولة الثالثة ـ ما أفاده السيد الأستاذ أيضا من ان كبرى الملازمة بين ما حكم به العقل حكم به الشرع مخصوصة بما يدركه العقل في سلسلة علل الأحكام الشرعية كقبح الكذب وغصب مال الغير مثلا لا في مرتبة معلولات الأحكام الشرعية كحسن الإطاعة وقبح المعصية ، فانه في هذا القسم لا يعقل جعل حكم شرعي إذ لو كان حكم العقل بحسن الإطاعة وقبح معصية الحكم الواقعي كافيا في المحركية وإتمام الحجة على العبد وزجره عن المعصية ودفعه إلى الطاعة فلا حاجة إلى جعل الحكم الشرعي الثاني وإن لم يكن كافيا فلا فائدة في جعل حكم اخر إذ هو مثل الحكم الأول ولا يزيد عليه شيئا فيكون لغوا على كل تقدير ، ومحل كلامنا وهو حرمة التجري من هذا القبيل (١).

وفيه ـ ما تقدم لدى البحث عن كبرى الملازمة من انه كلما كان الشارع يهتم بحفظ الملاك بأكثر مما يقتضيه الحسن والقبح العقليين من الحفظ الذاتي وكان ذلك يحصل بجعل الشارع أمكن استكشاف جعل شرعي في مورد الحكم العقلي من غير فرق بين أن يكون حكم العقل في مرتبة علل الأحكام أو في سلسلة معلولاتها ، وفي مسألة التجري يمكن للشارع جعل خطاب تحريمي له لكي يحفظ ملاكات أحكامه الواقعية بمرتبة جديدة وزائدة من الحفظ ولو في حق من تنجز عليه التكليف الواقعي بغير العلم ، فانه إذا علم بحرمة التجري عليه على كل حال فقد يتحرك ولا يقدم على ارتكاب المخالفة لأن للانقياد والتحرك عن خطابات المولى درجات فقد ينقاد المكلف في موارد العلم بالتكليف ولكنه لا ينقاد في موارد الاحتمال أو الظن وان كان منجزا عليه فيكون جعل حرمة التجري لمزيد الحافظية وسد أبواب العدم بهذا الخطاب وفي هذه المرتبة فلا لغوية أصلا.

٣ ـ التمسك بالإجماع على حرمة التجري :

وقد يتمسك لإثبات حرمة التجري بالإجماع القائم في مسألة الظن بضيق وقت الواجب على حرمة تأخير الواجب ولو انكشف بعد ذلك بقاء الوقت ، وكذلك حكمهم

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ص ٢٦.

٦٢

بوجوب التمام على من سافر سفرا يظن فيه بالخطر لكونه سفر معصية ولو تبين بعد ذلك عدم الخطر من السفر.

وفيه ـ لو أريد الإجماع المنقول فليس بحجة ، وإن أريد المحصل فقد نقل الخلاف أولا. ولا حجة له بعد أن كانت للمسألة مدارك أخرى عقلية ونقلية ثانيا. على ان الثابت في المسألة الأولى في كلمات الأصحاب استحقاق العقاب وهو أعم من الحرمة. وفي المسألة الثانية يوجد كلام في حرمة الإقدام على الخطر والضرر المظنون بعنوانه لأنه من الإلقاء في التهلكة فيكون الظن أو القطع بالضرر مأخوذا بنحو الموضوعية في التحريم وهو خارج عن بحث التجري المرتبط بالقطع الطريقي ، واما البحث عن مدارك كل من المسألتين الفقهيتين فهو موكول إلى محله من الفقه.

٤ ـ التمسك بالأخبار لحرمة التجري :

وقد يستدل على حرمة التجري بالروايات الدالة على العقاب بقصد المعصية ولا يبعد أن يكون ظاهر ذلك التجري في الشبهة الموضوعية بأن يكون أصل حرمة فعل ثابتا كبرويا ولكن يقصده المكلف خارجا ، كالنبوي الدال على انه ( إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول كلاهما في النار قيل هذا القاتل فما بال المقتول قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه أراد قتل صاحبه ) (١).

وقد ناقش في الاستدلال بها السيد الأستاذ بأنها على تقدير تماميتها سندا ودلالة لا تدل على أكثر من حرمة قصد المعصية الواقعية فلا ربط لها بالحرام الخيالي وما يعتقده المكلف حراما مع عدم كونه حراما في الواقع (٢).

وهذا الاعتراض غير سديد ، فانه إذا سلم دلالتها على حرمة قصد المعصية فلا فرق حينئذ بين قصد المعصية في مورد لو صدر الفعل منه كان مصادفا للواقع أو لا فانه من حيث قصد المعصية لا فرق بينهما أصلا كما لا يخفى ، كما انه إذا ثبتت حرمة التجري على

__________________

(١) وسائل الشيعة أبواب مقدمة العبادات.

(٢) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٢٩.

٦٣

مستوى القصد فتثبت في التجري على مستوى أشد وهو الإقدام على الفعل أيضا.

والصحيح في منع هذا الاستدلال ان هذه الروايات إن تم شيء منها سندا فبين ما لا يدل على أكثر من استحقاق العقوبة على القصد وهو أعم من الحرمة ، وبين ما يدل على حرمة نفس الرضا والنية السيئة أو نفس الالتقاء بالسيف بملاك قائم فيها مع قطع النّظر عن الفعل الخارجي الاخر.

ثم ان هناك طائفة أخرى من الروايات تدل بظاهرها على نفي العقاب على مجرد نية الحرام من دون التلبس به.

وقد جمع بينهما السيد الأستاذ بحمل الطائفة الأولى على ما إذا قصد المعصية ولم يرتدع من قصده حتى حيل بينه وبين العمل والطائفة الثانية على ما ذا ارتدع عن قصده بنفسه ، وذلك بتطبيق قاعدة انقلاب النسبة لأن النبوي المتقدم بمقتضى ذيلها يدل على العقاب فتخصص الطائفة الأولى بفرض عدم الارتداع لا محالة (١).

وهذا الجمع مضافا إلى عدم قبول مبناه ـ وهو كبرى انقلاب النسبة ـ غير صحيح لأن النبوي اما أن يستظهر منها حرمة نفس الالتقاء بالسيف كحرام مستقل ويفهم من إرادة القتل في ذيلها ذلك فيكون أجنبيا عن محل الكلام ، واما أن يحمل إرادة القتل فيها على مجرد قصد القتل فحينئذ لا وجه لدعوى اختصاصها بما إذا لم يكن يرتدع فان قصد القتل وإرادته أعم من ذلك اللهم إلا أن يقال ان القدر المتيقن من هذه الطائفة وموردها ذلك ، ولكنه قد حقق في محله ان مجرد وجود قدر متيقن بين الطائفتين المتعارضتين لا يكون وجها للجمع العرفي بينهما بتخصيص كل منهما بالمتيقن من مضمونه.

فالصحيح حمل الطائفة الثانية على نفي فعلية العقوبة تفضلا ومنة من الله سبحانه على عباده لأنها ليست ظاهرة في أكثر من نفي فعلية العقاب ، بل وفي ألسنة بعضها القرينة على ذلك من قبيل ما دل على ( ان الله تفضل على آدم على أن لا يكتب على ولده وذريته ما نووا ما لم يفعلوا ) وما دل على ان الملائكة الموكلين بتسجيل الذنوب

__________________

(١) الدراسات.

٦٤

يمهلون العباد ولا يكتبون بمجرد النية وقصد المعصية ، فان هذه الألسنة بنفسها تدل على ثبوت الاستحقاق الّذي تدل عليه الطائفة الأولى وانما لا فعلية ولا تسجيل منة وفضلا من الله سبحانه لعباده فلا تنافي بين الطائفتين أصلا. وهكذا يثبت عدم الدليل على حرمة التجري شرعا.

تنبيهات :

الأول ـ قد عرفت عدم اختصاص التجري بفرض القطع بالحرمة بل يجري في كل مورد يتنجز التكليف لعدم وجود مؤمن عن التكليف الواقعي المحتمل ولو جاء به برجاء عدم مصادفة الحرام الواقعي عليه بجميع حصصه وصوره حتى صورة رجائه لعدم المصادفة مع الحرام الواقعي لكون اقدامه تجريا وخروجا عن مراسم العبودية والطاعة لمولاه ومجرد رغبته ورجائه أن لا يصادف الحرام الواقعي لا يرفع موضوع حق المولى.

نعم وقع الكلام فيمن حصل على مؤمن على الارتكاب ولكنه أقدم على المشتبه برجاء مصادفة الحرام كمن شرب مستصحب الحلية برجاء أن يكون هو الحرام الواقعي فذكر المحقق النائيني ( قده ) ان هذا تجر أيضا ويترتب عليه أحكامه.

والتحقيق ـ انه لو أريد اعتبار نفس الفعل الّذي أقدم عليه تجريا وقبيحا فهو غير تام ، لأنه بحسب الفرض له مؤمن شرعي يستند إليه ، وإن أريد اعتبار حالته النفسانيّة وهو شوقه نحو الحرام الواقعي أو عدم مبالاته بحفظ أحكام الشارع وملاكاته تجريا فهذا صحيح فان حق الطاعة التي ندركها لمولانا وخالقنا يشمل مثل ذلك أيضا ، لأنه حق مطلق يستحق صاحبه الانقياد والطاعة المطلقة حتى على هذا المستوى ، إلا ان هذا لا ربط له بشرب المائع برجاء مصادفته للخمر الواقعي بل يرتبط بالفعل النفسانيّ والاستعداد والاهتمام.

الثاني ـ ذهب صاحب الفصول ( قده ) بناء على ان الحسن والقبح يختلفان بالوجوه والاعتبارات إلى القول بوقوع الكسر والانكسار بين قبح التجري وبين المصالح الواقعية للمولى فيقدم الأقوى والغالب منهما ، فربما يرتفع قبح التجري إذا صادف واجبا واقعيا فيه مصلحة كبيرة وربما يشتد قبحه فيما إذا صادف مكروها واقعيا وربما يتعدد

٦٥

القبح إذا صادف الحرام الواقعي.

وأجاب المحقق العراقي ( قده ) عليه بان قبح التجري مرتبته متأخرة عن مرتبة الحكم الواقعي لأن مرتبته مرتبة العصيان المتأخر عن الحكم فلا يقع بينهما المنافاة ، وكأنه طبق في المقام الجواب المذكور في مبحث كيفية الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري.

ويرد عليه : مضافا إلى بطلان هذا الوجه للجمع ودفع المنافاة هناك على ما سوف يأتي في محله ، ان صغرى التأخر في الرتبة انما هو بلحاظ تعلق القطع بالحكم الواقعي وتأخره عنه وهذا انما يكون بلحاظ الحكم المقطوع به لا الحكم الواقعي الاخر كالوجوب ومصلحته التي أوقع صاحب الفصول بينه وبين قبح التجري الكسر والانكسار.

والصحيح في الجواب ما تقدم من ان الحسن والقبح ليسا مجعولين من قبل العقلاء وبملاك حفظ المصلحة ودفع المفسدة بل هما بابان عقليان مستقلان عن المصلحة والمفسدة ، فرب ما فيه مصلحة يكون اقدام المكلف عليه قبيحا ورب ما فيه المفسدة يكون الإقدام عليه حسنا ، والبابان يختلفان موضوعا ومحمولا ، فان المصلحة والمفسدة امران واقعيان وجوديان بخلاف الحسن والقبح فانهما امران ذاتيان حقيقيان في لوح الواقع الّذي هو أوسع من لوح الوجود ، كما ان المصلحة والمفسدة لا يشترط في تحققهما وموضوعهما العلم أو الالتفات بخلاف الحسن والقبح فانهما متقومان بذلك على ما تقدم مفصلا فلا ينبغي الخلط بينهما.

نعم ربما يكون إحراز المصلحة في مورد رافعا لموضوع القبح كما في ضرب اليتيم لمصلحة تأديبه ومنه يعرف ان ما صنعه صاحب الفصول من التعامل مع المصلحة والقبح كأمرين واقعيين يقع بينهما الكسر والانكسار مع قطع النّظر عن إحراز المكلف للمصلحة غير سديد.

الثالث ـ ذكر المحقق العراقي ان ثمرة القول بقبح التجري تظهر في العبادات فيما إذا تنجز على المكلف حرمة عبادة ما ـ كصلاة الجمعة ـ بالحرمة الذاتيّة مثلا ومع ذلك جاء بها المكلف برجاء صحتها وعدم حرمتها ثم انكشف عدم حرمتها ، فبناء على قبح

٦٦

التجري لا يقع الفعل صحيحا بل باطلا لعدم إمكان التقريب بالقبيح وان لم يكن محرما شرعا واما بناء على عدم القبح فتقع صلاته صحيحة ومجزية.

وفيه ـ ان الفعل العبادي يقع باطلا على كل تقدير لأن المقصود من التقرب والإتيان بالفعل من أجل المولى أن يفعله بداعي المولى ، أي أن يكون حال المولى بحسب نظره على تقدير الفعل أحسن منه على تقدير الترك ومع فرض تنجز الحرمة عليه كيف يتأتى للمكلف أن يأتي بالفعل بداعي المولى فهذه الثمرة غير تامة.

٦٧
٦٨

أقسام القطع ومدى قيام الأمارة مقامه

الجهة الثالثة ـ في تقسيمات القطع وقيام الأمارات والحجج مقامها فقد قسم إلى الطريقي والموضوعي ، والأول ما كان الحكم ثابتا في مورده مع قطع النّظر عنه سواء كان قطعا بصغرى الحكم كالخمرة أو بكبراه كتحريم كل خمر ، والثاني ما كان للقطع نفسه دخل في ترتب الحكم ومنه يظهر انه يمكن أن يكون قطع بحكم طريقا إلى ذلك الحكم وموضوعا لحكم آخر وهذا واضح وانما البحث في عدة مقامات.

١ ـ تقسيمات القطع الموضوعي :

المقام الأول ـ في أقسام القطع الموضوعي ، وقد قسم القطع الموضوعي إلى أقسام أربعة فقد قسم الشيخ الأعظم القطع الموضوعي إلى قسمين ما أخذ موضوعا بما هو طريق إلى الواقع وما أخذ موضوعا بما هو صفة في النّفس. وأضاف صاحب الكفاية ( قده ) انقساما آخر حيث قسم كل من القسمين إلى ما يكون القطع تمام الموضوع لذلك الحكم وما يكون جزء الموضوع والواقع المقطوع به جزءه الآخر.

وقد أثير الإشكال على كل من التقسيمين.

اما بالنسبة إلى تقسيم الشيخ ( قده ) فقيل بان القطع الموضوعي دائما يكون مأخوذا

٦٩

بما هو كاشف ولا يمكن أخذه بما هو صفة وبقطع النّظر عن حيثية الكشف لأن الكاشفية ذاتية للقطع بل ليس القطع شيئا زائدا على الكشف ليعقل أخذه بما هو صفة وبقطع النّظر عن كاشفيته ، اذن فليس القطع الموضوعي مأخوذا إلا بنحو الكاشفية غاية الأمر تارة يكون بنحو تمام الموضوع وأخرى بنحو جزء الموضوع والواقع جزؤه الاخر.

وكأن المحقق الخراسانيّ ( قده ) أراد الإجابة على هذا الإشكال بعبارة في الكفاية يحتمل فيها أحد وجهين كلاهما غير تام :

الأول ـ ان العلم كما اشتهر بين الحكماء نور في نفسه ونور لغيره فله جنبتان نورية ، فقد تلحظ نوريته لنفسه فيكون صفتيا ، وقد يلحظ نوريته لغيره فيكون بنحو الكاشفية.

وفيه ـ ان المقصود ان العلم نفسه النور والظهور فكل شيء يوجد ويظهر في النّفس بالعلم واما العلم فظهوره بنفسه ، وحينئذ إن أريد من أخذ العلم بنحو الصفتية أخذه بما هو حالة حاضرة في النّفس ومع قطع النّظر عن نوريته فما أكثر الأمور غيره من حالات النّفس أيضا كالحب والبغض فيكون الموضوع مطلق ما يحضر في النّفس من المجردات وهو خلاف المفروض ، وإن أريد خصوصية النورية فهي عين الكاشفية.

الثاني ـ ان العلم من الصفات الحقيقية ـ أي المتأصلة لا الاعتبارية ـ ذات الإضافة ـ أي ليست كالإعراض تحتاج إلى موضوع فقط بل تحتاج إلى ما تضاف إليه وتتعلق به أيضا ـ فان أخذ العلم موضوعا للحكم بقطع النّظر عن إضافته إلى متعلقه كان صفتيا ، وإن أخذ بما هو مضاف إلى متعلقه كان على نحو الكاشفية.

وفيه ـ ان أريد إضافة العلم إلى المعلوم بالذات فإضافته إليه إضافة إشراقية ـ بحسب مصطلح الحكماء لا مقولية أي لا تعدد بينهما ولا تغاير إلا بالاعتبار والتحليل ـ فهي عين العلم وليس شيئا اخر زائدا عليه ، وإن أريد إضافته إلى المعلوم بالعرض خارجا فهما وإن كانا شيئين ووجودين ولكنه ليست هذه الإضافة من مقومات العلم ولا لازما فيه بدليل انه قد لا يكون مصادفا للواقع أصلا ، بل في فرض المصادفة أيضا ليست الإضافة حقيقية بل مجازية ، وبالعرض. وسوف يأتي مزيد تعليق على إرادة هذه الإضافة.

٧٠

والصحيح في تصوير هذا التقسيم أن يقال : ان العلم وإن كان بنفسه انكشافا لكن له ملازمات في الخارج وجودية أو عدمية كراحة النّفس واطمئنانها واستقرارها وسكونها وغير ذلك ، وحينئذ تارة يؤخذ العلم بما لها هذه الخصوصيات الصفتية الموضوعية ، وأخرى يؤخذ بما هو انكشاف وظهور بالذات للمعلوم ، والأول هو الموضوع على نحو الصفتية والثاني هو الموضوع على نحو الكاشفية.

وإن شئت قلت : ان العلم فيه جنبتان جنبة انه انكشاف للعالم وجنبة انه انكشاف فيه أي انكشاف لغيره ، والخصيصة الثانية ليست مقومة للعلم بدليل ثبوت العلم للباري مع انه نفس المنكشف له لا غيره ، وعليه فإذا لوحظ العلم بما هو انكشاف في النّفس كان صفتيا ، وإذا لوحظ بما هو انكشاف للعالم كان على نحو الكاشفية. وظاهر دليل أخذ العلم موضوعا أخذه بما هو انكشاف له لا بما هو انكشاف فيه. فهذا التقسيم لا غبار عليه.

واما بالنسبة إلى تقسيم الكفاية لكل من القسمين إلى ما أخذ تمام الموضوع وما أخذ جزء الموضوع والجزء الاخر هو الواقع المنكشف به. فقد اعترضت عليه مدرسة المحقق النائيني ( قده ) بان العلم المأخوذ بنحو الكاشفية لا يكون إلا جزء الموضوع ولا يعقل أخذه بنحو تمام الموضوع لأن معنى كونه تمام الموضوع انه لا دخل للواقع في الحكم ، ومعنى كونه مأخوذا بنحو الطريقية ان للواقع دخلا في الحكم فالجمع بين الأمرين تناقض (١).

والواقع ان صاحب هذا الإشكال يفهم من الكاشفية غير ما يريده صاحب التقسيم الرباعي وغير ما افترضه صاحب الإشكال المتقدم ، فالكاشفية التي يريدها صاحب التقسيم للعلم الانكشاف الذاتي الحاصل للعلم سواء كان مصادقا للواقع أم لا ، والكاشفية التي تفترضها مدرسة الميرزا الانكشاف بالعرض والمجاز أي الإصابة للواقع ، فلو أريد أخذ هذه الحيثية العرضية في العلم موضوعا فهذا كما أفيد لا يمكن أن يكون إلا بنحو جزء الموضوع بحسب النتيجة لا تمام الموضوع لأن فرض الإصابة

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ص ٣٣.

٧١

لا يمكن إلا مع فرض وجود الواقع. إلا ان هذه الحيثية ليست من مقومات العلم ولا يكون أخذ مفهوم العلم واليقين في موضوع حكم مساوقا مع أخذ اصابته للواقع وكاشفيته بهذا المعنى المجازي. بل على العكس يكون مقتضى إطلاق دليل أخذ العلم موضوعا نفي الكاشفية بهذا المعنى لأنه يقتضي أخذ مطلق العلم سواء كان مطابقا للواقع أو مخالفا له ، فكما يتمسك بإطلاق العلم بلحاظ مناشئه وأسبابه كذلك يتمسك بإطلاقه من حيث الإصابة وعدم الإصابة.

وهكذا يتضح انه يصح تقسيم القطع الموضوعي إلى الأقسام الأربعة كما أفاد صاحب الكفاية.

نعم أضاف في الكفاية قسما جديدا للقطع المأخوذ على نحو الصفتية وهو القطع المأخوذ بما هو صفة للمقطوع به حيث قسمه إلى ما يكون على نحو جزء الموضوع أو تمامه.

وفيه ـ إن أراد من المقطوع به المعلوم بالذات فليس هذا قسما اخر للقطع الصفتي في قبال ما مضى ، فان القطع المأخوذ بنحو الصفتية للقاطع تكون خصوصية المعلوم أيضا مأخوذة فيه وإلا لزم ثبوت الحكم عند القطع بأي شيء من الأشياء ، فإضافة العلم إلى معلوم معين كإضافته إلى العالم مأخوذ في موضوع الحكم عليه وإلا كان كل قطع ومن كل قاطع محققا لموضوع الحكم في حق غير القاطع أيضا. وان أريد من المقطوع به المعلوم بالعرض فقد عرفت ان هذا هو الكاشفية بالمعنى المجازي والّذي ذكرنا ان مفهوم القطع ليس مساوقا معه. على انه حينئذ لا يصح تقسيمه إلى ما يكون تمام الموضوع وما يكون جزء الموضوع لأن هذه الإضافة المجازية مساوقة مع الإصابة ولزوم وجود الواقع فلا يكون الحكم ثابتا من دونه.

ومن مجموع ما تقدم يتضح ان كيفية أخذ القطع في موضوع حكم شرعي يعقل بأحد أنحاء خمسة :

١ ـ أخذه بما هو تمام الموضوع.

٢ ـ أخذه بما هو صفة جزء الموضوع.

٣ ـ أخذه بما هو انكشاف بالذات تمام الموضوع.

٤ ـ أخذه بما هو انكشاف بالذات جزء الموضوع.

٧٢

٥ ـ أخذه بما هو انكشاف للواقع بالعرض والمجاز وهو يساوق كونه جزء الموضوع.

كما اتضح ان ظاهر أخذه بنحو الكاشفية أخذه بما هو انكشاف بالذات لا بالعرض والمجاز.

٢ ـ قيام الأمارة مقام القطع الطريقي :

المقام الثاني ـ في قيام الأمارات مقام القطع الطريقي ، وبالرغم من عدم الإشكال في قيام الأمارة مقام القطع الطريقي إثباتا لكونه هو المتيقن من دليل الحجية بل هو الغاية من جعلها ، إلا انه قد وقع الإشكال في ذلك ثبوتا حيث قد يتوهم استحالة ذلك من باب أن الأمارة إذا قامت مقام القطع الطريقي فان نجزت الواقع المشكوك مع كونه مشكوكا فهو خلاف قانون قبح العقاب بلا بيان العقلي ، وإن أنشأت حكما ظاهريا ونجزته ففيه :

أولا ـ انه خلاف ما سوف يأتي من ان الحكم الظاهري ليس له تنجيز مستقل عن الحكم الواقعي المشكوك.

وثانيا ـ ان هذا ليس معناه التنزيل وقيام شيء منزلة القطع الطريقي المنجز للحكم الواقعي بل هو تنجيز بملاك حكم آخر وهو الحكم الظاهري وقد وصل إلى المكلف بالعلم الوجداني.

وهذه الشبهة مع شبهة ابن قبة هما الشبهتان اللتان حركتا الفكر الأصولي في باب الأمارات والأحكام الظاهرية باتجاه التماس تخريجات وتفسيرات لحقيقة هذا الحكم وكيفية الجمع بينه وبين الحكم الواقعي.

والصحيح : ان هذه الشبهة لا أساس لها على مبنانا وانما ينتهى إليها كشبهة بناء على مسالك القوم ـ أي بناء على الاعتراف بقاعدة قبح العقاب بلا بيان كحكم عقلي مستقل عن مسألة حق الطاعة ـ والوجه في ذلك واضح فانه بناء على مسلك حق الطاعة للمولى في موارد الشك والجهل بالواقع لا إشكال في الأمارات المنجزة لكونها بحسب الحقيقة مؤكدة للحق المذكور وموجبة لمزيد مسئولية العبد تجاه مولاه في تلك الواقعة التي دلت الأمارة على الالتزام الشرعي فيها. واما الأمارة المؤمنة الدالة على

٧٣

الترخيص فهي أيضا لا تكون منافية مع حكم عقلي لأن العقل وإن كان يحكم بالتنجيز لو لا قيام الأمارة المرخصة إلا ان ذلك كان من باب حق الطاعة والمولوية ، وواضح ان هذا مرتفع موضوعا مع قيام طريق قد اذن الشارع على أساسه في الإقدام ، فانه مع هذا الاذن يكون الإقدام جريا على طبق العبودية وقانون الرقية ولا يكون سلبا لحق مولوي كما هو واضح. نعم يبقى الإشكال في كيفية تعقل صحة الاذن المذكور المعبر عنه بالحكم الظاهري واجتماعه مع الحكم الواقعي بنحو لا يلزم منه التضاد أو محذور آخر ، وهذا هو الشبهة الأخرى التي آثارها ابن قبة وسوف يأتي التعرض لها وحلها.

واما على مسالك المشهور فقد يجاب على الشبهة بجواب مبتن على تصورات مدرسة المحقق النائيني ( قده ) وذلك بأن يقال : ان البيان المأخوذ عدمه موضوعا في قاعدة قبح العقاب بلا بيان قد تم ووجد بقيام الأمارة لأن دليل الحجية قد جعل الأمارة علما وبيانا.

وهذا المدعى تارة يبين بلسان الحكومة وان دليل الحجية ينزل الظن الخبري مثلا منزلة العلم فيكون حاكما على دليل قبح العقاب بلا بيان على حد حاكمية دليل ( الطواف بالبيت صلاة ) على دليل ( لا صلاة إلا بطهور ) وحينئذ يكون الإشكال فيه واضحا ، فانه يرد عليه :

أولا ـ ان الحكومة انما تتصور بلحاظ أحكام مشرع واحد بأن يحكم دليل تشريع من تشريعاته على دليل تشريعه الاخر ولا تتصور بين أدلة أحكام مشرع بالنسبة لأحكام العقل العملي كما في المقام.

وثانيا ـ ان الحكومة ليست في روحها إلا التخصيص ، غاية الأمر انه بلسان التنزيل والتعبد برفع الموضوع من دون أن يكون الموضوع مرتفعا حقيقة ، ولذلك أرجعنا الحكومة إلى القرينة الشخصية في بحوث التعارض ، وعليه فكون دليل الحجية بلسان الحكومة لا يغير من جوهر المسألة شيئا ولا يعالج الإشكال القائل بمناقضة الجعل المذكور مع الحكم العقلي بقبح العقاب بلا بيان.

وأخرى يبين المدعى بلسان الورود وان موضوع القاعدة هو البيان الأعم من

٧٤

الظاهري أو الواقعي. وإن شئت قلت : الأعم من العلم الوجداني والتعبدي فيجعل العلمية للأمارة يتحقق فرد من هذا الجامع حقيقة.

وهذا البيان وإن كان أحسن حالا من سابقه ولكن على أي حال سواء قرر المدعى به أو بالبيان المتقدم يرد عليه بأن هذا ليس علاجا لروح الإشكال وانما يتناول السطح الظاهري والصياغي للمسألة ليس إلا ، فان كون المجعول في باب الأمارة الطريقية والعلمية أولا مجرد تعابير صياغية لفظية لا يغير جوهر الحكم الظاهري المجعول شيئا ، ولا يمكن أن يكون مجرد هذا التعبير والاعتبار سببا لارتفاع المناقضة مع الحكم العقلي بقبح العقاب بلا بيان بل لا بد من التفتيش عن نكتة ثبوتية في نفس الحكم الظاهري المجعول لرفع التناقض حتى لو لم يكن الجعل بلسان جعل الطريقية والعلمية ، كما هو كذلك في موارد الأصول العملية الشرعية غير التنزيلية كأصالة الاشتغال الشرعية مثلا فانه لا إشكال عند أحد في انه على تقدير جعله في مورد تكون مقدمة على البراءة العقلية أيضا.

فالصحيح في العلاج أن يقال : انه لو تنزلنا عن إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان وسلمنا بها فلا بد وأن لا نسلم بها على إطلاقها بل في قسم مخصوص من الأحكام وهو الحكم المشكوك الّذي لا يعلم بأنه على تقدير ثبوته فالمولى لا يرضى بتفويته حتى من الشاك لمزيد اهتمامه به كما في مورد احتمال هلاك المولى نفسه مثلا ، واما الحكم الشرعي المشكوك الّذي يعلم في مورده بأنه على تقدير ثبوته فالمولى لا يرضى بتفويته فالعقل لا يحكم بقبح العقاب بل يحكم بالعقاب على تقدير التفويت ، كما يشهد بذلك مراجعة حكم العقلاء في مورد المثال المذكور ، ودليل الحكم الظاهري المنجز يكون بحسب الحقيقة دالا على ان التكليف في مورده من هذا القسم فيرتفع موضوع القاعدة العقلية لا محالة.

ووجه هذه الدلالة قد يقرب بطريق الإن ، وذلك بان يدعى كشف دليل الحكم الظاهري الإلزامي عن اهتمام الشارع بالحكم الواقعي المشتبه حتى في حال الاشتباه لكونه معلولا عن هذه المرتبة من الاهتمام ، إلا ان هذا موقوف على أن يضم إلى دليل الحكم الظاهري البراهين المذكورة في حقيقة الحكم الظاهري والتي تثبت ان الحكم

٧٥

الظاهري لا يعقل دفع محذور التضاد أو التصويب أو غير ذلك فيه إلا بافتراض انه حكم ناشئ عن ملاك التحفظ على الواقع والاهتمام به ، فيعلم من ذلك بان الحكم الواقعي المشتبه على تقدير وجوده في مورد الحكم الظاهري مما يهتم به المولى فيرتفع بالعلم بهذه القضية الشرطية موضوع القاعدة العقلية.

ويمكن أن يقرب بدلالة عرفية لا عقلية بدعوى بان هذا هو المستظهر من أدلة الأحكام الظاهرية اللفظية وهو النكتة العقلائية أيضا من وراء جعل الحجية العقلائية الممضاة شرعا في الأدلة اللبية.

وبما بيناه اتضح ان فذلكة دفع الشبهة انما هو بمقدار ما يبرزه الخطاب الظاهري من مرتبة الاهتمام المولوي بالملاكات الواقعية أيا كان لسان الإنشاء والجعل وصياغة الحكم الظاهري من جعل الطريقية أو المنجزية أو الحكم المماثل أو غير ذلك ، فان ذلك كله تفننات في الصياغة والتعبير ولا دخل لها في أصل المطلب.

ثم انه يظهر من بعض كلمات المحقق العراقي ( قده ) محاولة للجواب على هذه الشبهة بان الخطاب الظاهري في مورد الأمارة أو الأصل امره مردد بين أن يكون مطابقا للواقع فيكون خطابا واقعيا منجزا ، إذ لا نريد بالخطاب الواقعي المنجز عقلا إلا خطابا وراءه ملاكات ومبادئ حقيقية ، وبين أن يكون خطابا ظاهريا أجوف لا ملاك وراءه. وبما أن أصل الخطاب معلوم وجدنا فهذا يعني انه على أحد التقديرين وهو تقدير مطابقة الخطاب للواقع يكون البيان ثابتا في حقنا فيكون المقام شبهة مصداقية لقاعدة قبح العقاب بلا بيان فلا يصح التمسك بها.

والجواب ـ بعد الفراغ عن ان الخطاب الظاهري ليس بنفسه منجزا يكون المعلوم هو الخطاب المردد بين كونه واقعيا منجزا أو ظاهريا غير منجز والعلم بالجامع بين ما يتنجز ولا يتنجز ليس بمنجز ، وإن شئت قلت : ان ما هو موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان انما هو كونه واقعيا فمن دون العلم بذلك يقبح العقاب بلا بيان.

ومن مجموع ما أوضحناه اتضحت عدة أمور :

١ ـ ان صاحب الكفاية ( قده ) في بحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي قد اختار ان المجعول في باب الأحكام الظاهرية هو المنجزية والمعذرية ، وقد استشكل

٧٦

عليه من قبل مدرسة المحقق النائيني ( قده ) بان جعل المنجزية والمعذرية غير معقول ، إذ لو أريد واقع المنجزية فهو حكم عقلي لا معنى لجعله من قبل الشارع ، وإن أريد عنوان المنجزية ومفهومها فالإنشاء وإن كان سهل المئونة إلا ان مثل هذا الإنشاء لا يعقل أن يكون مستتبعا للمنجزية حقيقة لأنه على خلاف قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وقد تبين مما ذكرناه ان هذا الاعتراض في غير محله وهو جري وتعامل مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان كدليل من الأدلة اللفظية بحيث لا يمكن رفع اليد عنها إلا بتبديل موضوعها من اللابيان إلى البيان والعلم ، وقد عرفت ان هذا التصور غير تام وان تنجيز الأمارة للواقع المشكوك روحه وملاكه ان الخطاب الظاهري يكشف عن اهتمام المولى بخطابه الواقعي على تقدير وجوده بنحو القضية الشرطية ، وهذا لا يفرق فيه أن يكون إبراز ذلك بلسان جعل الأمارية والطريقية أو بلسان جعل المنجزية أو غير ذلك فلصاحب الكفاية أولا ـ اختيار ان المجعول عنوان المنجزية والمعذرية وذلك كاف في رفع موضوع القاعدة باعتبار مدلوله التصديقي المستكشف من خلال هذه الجعل.

وثانيا ـ اختيارا ان المجعول واقع المنجزية فانه وإن كان امرا واقعيا مدركا بحكم العقل إلا انه قابل للجعل تبعا وبالتسبيب وذلك بإيجاد ملاكه ومنشئه وهو إبراز اهتمام المولى وعدم ترخيصه في المخالفة الاحتمالية ، كما وقع ذلك في أدلة الأحكام الأولية الواقعية ، حيث كثيرا ما يبرز الحرمة ببيان مدى العقاب المترتب على الارتكاب والمخالفة ، فمسلك جعل المنجزية كسائر المسالك المتبناة من قبل المحققين يمكن أن يكون صياغة معقولة لجعل الحكم الظاهري.

٢ ـ بعد أن فرغوا عن استحالة جعل المنجزية للأمارة رتبوا على ذلك انه لا يمكن تنزيل الظن منزلة العلم ابتداء لأن التنزيل معناه إسراء حكم المنزل عليه على المنزل ، وقد فرضنا ان الحكم في المقام وهو المنجزية غير قابل للجعل ومن هنا حاولوا تخريج قيام الظن والأمارة منزلة العلم على أساس اخر.

وقد اتضح على ضوء ما تقدم ان لسان التنزيل أيضا لسان من ألسنة الحجية وجعل الحكم الظاهري اما بأن يفرض ان هذا التنزيل بلحاظ حيثية شدة اهتمام المولى فيكون مرجعه إلى الإخبار عن اهتمام بالتكاليف المظنونة كالمقطوعة ، واما بأن

٧٧

يكون تنزيلا بلحاظ المنجزية التي قد عرفت انها قابلة للجعل تبعا وتسبيبا ، أو عنوانا ، واما أن يكون بمعنى إنشاء نفس التنزيل فان هذا أيضا صالح لإبراز الاهتمام ، فكل هذه الصياغات والتفننات معقولة في نفسها وتؤدي غرضا ثبوتيا واحدا.

٣ ـ انهم حاولوا تخريج قيام الأمارة مقام العلم الطريقي على أحد أساسين :

١ ـ ما صنعته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من ان المجعول في الأمارات هو الطريقية واعتبار الأمارة علما من دون تنزيل وإسراء فيرتفع اللابيان وينقلب بيانا وعلما.

وقد اتضح مما سبق ان هذا كله مرتبط بالألفاظ ونظر إلى عالم الصياغة فان مجرد جعل الحكم الظاهري إن كان يكشف عن اهتمام المولى فهذا هو ملاك لرفع موضوع القاعدة سواء أنشأه بعنوان جعل العلمية أو جعل الحكم المماثل أو جعل المنجزية ، وإلا فمجرد اعتبار ما ليس بعلم علما لا يغير واقعا ولا يرفع موضوع الحكم العقلي كما لو فرضنا ان المولى انما جعل العلمية لا من أجل التحفظ على الواقع بل لأن شخصا أعطاه دينارا لكي يعتبر ما ليس بعلم علما. نعم هذا مجرد لسان فني للصياغة بل من أجود ألسنة صياغة الحكم الظاهري. والغريب ان هذه المدرسة أشكلت على المحقق الخراسانيّ ( قده ) القائل بجعل المنجزية في الأمارات بأنها غير قابلة للجعل إلا عنوانا وهو لا يرفع موضوع القاعدة لأنه مجرد اعتبار ، مع انك عرفت ان المنجزية قابلة للجعل العنواني وللجعل الحقيقي التبعي ، واما جعل الطريقية والعلمية للأمارة فلا يعقل إلا بنحو الجعل العنواني والإنشائي الّذي هو سهل المئونة فكيف وافقت هذه المدرسة بارتفاع موضوع قاعدة قبح العقاب بهذا الجعل العنواني الإنشائي ولم توافق على ما كان يعقل فيه الجعل الحقيقي والعنواني معا؟.

٢ ـ ما ذهبت إليه مدرسة الشيخ الأنصاري ( قده ) حيث ادعت ان التزيل بحسب الحقيقة لمؤدى الأمارة منزلة المقطوع لأن المؤدى اما حكم شرعي أو موضوع لحكم شرعي فيكون قابلا للإسراء الشرعي ، إلا ان هذا التخريج تبقى فيه نقطة فراغ حيث انه لا يوضح كيف يكون مثل هذا التنزيل رافعا لموضوع القاعدة العقلية.

وعلى كل حال قد عرفت ان كل هذه ألسنة وصياغات لا تمس روح الجواب

٧٨

بشيء وانما حقيقة الجواب ما شرحناه.

٣ ـ قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية :

المقام الثالث : في قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية. وقد وقع البحث في إمكانه ثبوتا لا من جهة الإشكال في إمكان التنزيل هنا شرعا لأن أثر القطع الموضوعي شرعي بحسب الفرض فيعقل التنزيل بلحاظه. بل من ناحية منع إمكان جعل ذلك بنفس دليل حجية الأمارة وقيامها مقام القطع الطريقي ، والغريب ان القوم اقتصروا على البحث الثبوتي دون مرحلة الإثبات وملاحظة أدلة الحجية وانها هل تفي بإثبات هذا التنزيل أو لا؟ فكأن توجههم إلى عالم الإمكان والاستحالة والصناعة.

وأيا ما كان فقد صاغ المحقق الخراسانيّ برهان الاستحالة على النحو التالي : ان قيام الأمارة مقام القطع الطريقي أو الموضوعي مرجعه إلى التنزيل ، كما عرفت ، والتنزيل إذا كان بصيغة تنزيل المؤدى منزلة المقطوع فهذا انما ينتج قيامها مقام القطع الطريقي لأن مفاده حينئذ جعل الحكم على طبق المقطوع لا القطع نفسه ، وإذا كان بصيغة تنزيل نفس الأمارة منزلة القطع فهو ينتج قيامها مقام القطع الموضوعي فيما له من الأحكام ولا ينتج قيامها مقام القطع الطريقي ، لأن الأثر المنزل عليه في الطريقي مترتب على المؤدى والمقطوع به دون نفسه وملاحظة القطع فيه تكون على نحو الطريقية والمرآتية لا الموضوعية فاستفادة التنزيلين معا يستلزم اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي على شيء واحد وفي لحاظ واحد وهو محال.

ثم استدرك بأنه لو كان هناك ما بمفهومه يمكن ان يكون جامعا بينهما أمكن ذلك ولكنه لا يوجد.

وهذه العبارة قد تحمل على إرادة وجود مفهوم جامع بين اللحاظين إلا انه ليس هو المقصود لوضوح ان الجامع بين اللحاظين مفهوما موجود ولو نفس عنوان اللحاظ ولكنه لا يجدي في حل الإشكال لأن مفهوم اللحاظ ليس لحاظا بالحمل الشائع فهو كغيره يتعلق به اللحاظ مع ان اللازم في التنزيل المطلوب وجود اللحاظ بالحمل الشائع

٧٩

كما هو واضح.

بل الظاهر ان المقصود وجود مفهوم يعم الظن والمؤدي والقطع والمقطوع بحيث يكون له مصداقان فيكون تنزيلا واحدا كليا لذلك العنوان منزلة العنوان الاخر فينحل إلى تنزيلين لا محالة وحيث انه لا جامع كذلك فتثبت الاستحالة.

والإشكال المذكور انما يتم فيما إذا لم يكن دليل الحكم الّذي ، أخذ في موضوعه القطع قد أخذه بما هو حجة ومنجز فانه حينئذ يكون دليل حجية الأمارة واردا على ذلك الدليل بلا حاجة إلى تنزيل آخر وهذا خارج عن البحث ، فمورد الإشكال ما إذا كان دليل الحكم الموضوعي قد أخذ القطع بما هو قطع موضوعا للحكم لا بما هو حجة لكي نحتاج إلى حكومة وتنزيل.

ولحل هذا الإشكال يوجد موقفان ، أحدهما للمحقق الخراسانيّ ( قده ) والاخر للميرزا النائيني ( قده ) وقبل التعرض لهما على نحو التفصيل نعلق على هذا المنهج بما يلي :

١ ـ ان هذا الاتجاه للبحث خطأ من أساسه ، لأنه يفترض وكأننا نتعامل مع دليل لفظي من أدلة الحجية لنمتحن قدرته على التنزيل مع ان مهم دليل الحجية عندنا هو السيرة العقلائية فان أهم الأمارات في الشبهات الحكمية الظهور وخبر الثقة ، ومن الواضح ان مهم الدليل على حجيتهما السيرة العقلائية وأما الأدلة اللفظية الواردة في هذا المجال فكلها مسوقة مساق الإمضاء لما عليه السيرة ، فمنهج البحث ينبغي أن يكون مراجعة السيرة وتحديد مفادها لنرى هل ان العقلاء بنائهم قد انعقد على إقامة الأمارة مقام القطع الطريقي فقط أو هو مع الموضوعي؟ ولا حاجة بعد ذلك إلى دفع إشكال ثبوتي إذ لسنا نواجه خطابا لفظيا واحدا ليقال علي فرض استحالة الجمع بين التنزيلين في خطاب واحد بعدم إمكانه ثبوتا. فالبحث إثباتي محض على ما سوف نتعرض له فيما يأتي.

٢ ـ لو فرضنا وجود دليل لفظي واحد فيمكن أن يقال ان تنزيل الظن منزلة القطع يفي بالتنزيلين معا ـ بقطع النّظر عن إشكال نحن سوف نورده ـ لأن المحقق الخراسانيّ اعترف بإمكان تنزيل الأمارة منزلة القطع في المنجزية وإن كانت حكما عقليا فيكون مرجع الأمر إلى تنزيل الظن منزلة القطع في تمام إثارة وأحكامه.

٨٠