بحوث في علم الأصول - ج ٤

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

القضايا النظرية الأخرى ، غاية الأمر : ان هذه القضايا قضايا واقعية تحققها بنفسها لا بوجودها الخارجي نظير مقولات الإمكان والاستحالة والامتناع من مدركات العقل النظريّ هذا هو المجمل ، وتفصيل الحال في المقام ان هنا مطلبين :

أحدهما ـ حسن الفعل وقبحه. والآخر : استحقاق العقاب. وقد يختلط أحدهما بالاخر فيتصور ان أحدهما عين الآخر فالقبح ما يستحق فاعله الذم والعقاب والحسن ما يستحق عليه المدح والثواب إلا ان هذا خطأ ، فان الحسن والقبيح معناها ما ينبغي أن يقع وما لا ينبغي كأمرين واقعيين تكوينيين من دون جاعل ، وحينئذ تارة يطبق ذلك على فعل الإنسان نفسه فيقال انه ينبغي في نفسه أولا ينبغي ، وأخرى يطبق على فعل الآخرين ومواقفهم تجاه فاعل القبيح فيقال ان عقابه أو ذمه مما ينبغي أو لا ينبغي ، فاستحقاق العقاب والثواب تطبيق اخر لنفس الأمر الواقعي المدرك على مواقف الآخرين تجاه فاعل الفعل الحسن أو القبيح فهناك قضيتان لا قضية واحدة.

اما القضية الأولى ـ فانهم أرجعوها إلى قضية قبح الظلم وحسن العدل ، ولكن هذه القضية رغم صحة مضمونها فيها خطأ منطقي فان قضية الظلم قبيح يعني انه لا ينبغي والظلم عبارة عن سلب ذي الحق حقه ، وهذا يعني افتراض ثبوت الحق في موضوع القضية وهذا الحق ليس جعليا إذ الكلام في مدركات العقل العملي التي هي أمور واقعية بحسب هذا المسلك ، وهذا الحق الواقعي لا معنى له إلا أن يرجع إلى ما ينبغي فعله وما لا ينبغي ، وهذا يعني ان الحكم بعدم الانبغاء مأخوذ في الظلم الواقع موضوعا لقضية الظلم قبيح أي لعدم الانبغاء فتكون القضية بشرط المحمول ، فلا يمكن أن تكون هذه القضية إلا تجميعا للقضايا الأولية وإشارة إليها ، وإلا فالصحيح أن يقال مثلا الخيانة قبيحة والكذب قبيح وهتك المولى قبيح وهكذا.

واما القضية الثانية ـ فقد جعلوها عين القضية الأولى ، وقد عرفت انها قضية أخرى موضوعها فعل العقلاء ومواقفهم تجاه من صدر منه القبيح.

ثم ان القضية الأولى ـ الفعل القبيح ـ قد يقع الخطأ في تشخيصه ، وهذا الخطأ قد يكون بنحو التضييق وقد يكون بنحو التوسعة ، ونقصد بالخطإ بنحو التضييق أن يتصور عدم ثبوت القبح مع ثبوته ، والخطأ بنحو التوسعة بالعكس. وعلى كلا

٤١

التقديرين قد يكون الخطأ في الكبرى بمعنى انه لا يرى حسنا وقبحا في مخالفة شخص أصلا أو في حالة معينة كحالة عدم البيان مثلا ، وقد يكون في الصغرى بأن يشتبه فيتصور ان فلانا هو المنعم عليه وليس كذلك أو بالعكس. والسؤال هنا ـ هل هذا الخطأ بأحد هذه الأقسام الأربعة يوجب ارتفاع القبح عن الفعل وكون المكلف معذورا عقلائيا أم لا؟.

والجواب ـ هو التفصيل بين الخطأ في الكبرى والخطأ في الصغرى ، فانه في الأول لا يمكن افتراض أخذ العلم بالقبح كبرويا في موضوع القبح لاستلزامه أخذ العلم بشيء في موضوعه وهو مستحيل لأنه دور أو خلف ولا يقاس ذلك بأخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول الّذي اخترنا إمكانه ، لأن هذا انما يعقل فيما إذا كان هناك امران جعل ومجعول كما في الإنشائيات فيمكن أخذ العلم بالإنشاء في موضوع المنشأ واما الأمور الواقعية نفس الأمرية فليست الا مطلبا واحدا ولا يعقل أخذ العلم بها في ثبوتها بل لا بد من افتراض واقعيتها وثبوتها مع قطع النّظر عن العلم بها ، فمن تصور عدم ثبوت كبرى المولوية وقبح المخالفة لشخص إطلاقا أو في مورد ـ كمن يقول بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ كانت المخالفة الصادرة منه قبيحة واقعا وإن كان مخطئا ـ بنحو التضييق ـ وغير عالم به ، لعدم إمكان أخذ العلم بذلك في موضوع القبيح ، وكذلك من يخطئ بنحو التوسعة فيعتقد مولوية الجار مثلا وثبوت حق الجوار وهو مخطئ.

نعم في الخطأ بنحو التضييق الكبروي نلتزم بعدم ثبوت القضية الثانية وهي استحقاق العقوبة بشهادة الوجدان العقلي والعقلائي بمعذورية المخطئ المذكور فيستكشف أخذ العلم بقبح الفعل في موضوع هذه القضية ، ولا إشكال فيه بعد أن عرفت انها قضية أخرى وفي موضوع آخر هو فعل العقلاء فلا مانع من أن يؤخذ فيه علم الفاعل بقبح فعله وإلا لما استحق العقاب والذم منهم.

كما انه في الخطأ بنحو التوسعة كبرويا نلتزم بثبوت قبح اخر طولي لا بعنوان انه خالف مولاه واقعا ليقال بأنه مخالفة من تخيل انه مولاه بل بعنوان الإقدام على مخالفة مولاه ، وذلك بشهادة حكم الوجدان الّذي تقدمت الإشارة إليه من اعتبار مثل هذا الفاعل مرتكبا لعمل قبيح ومذموم عند العقلاء ، وبما ان هذا القبح لا يمكن أن يكون

٤٢

هو نفس القبح الأولي المحفوظ في موارد عدم الخطأ فلا محالة يستكشف كونه قبحا ثانويا طوليا (١).

واما الخطأ في الصغرى ، فالصحيح أخذ العلم وعدم الخطأ فيها في موضوع القبح ، فمن تخيل ان زيدا ليس هو الّذي أنعم عليه ، أو تخيل ان هذا ليس بحرام عند الله تعالى ـ وهذا من الخطأ بنحو التضييق ـ أو تخيل ان زيدا قد أنعم عليه أو ان هذا حرام عند الله تعالى ـ وهو التجري والخطأ بنحو التوسعة ـ لا يكون ارتكابه في الأول قبيحا ولا مستحقا للعقاب وفي الثاني قبيح يستحق عليه العقاب ، لأن العلم بالصغرى مأخوذ في موضوع الحكم بالقبح بمخالفة المولى ، بل هو تمام الموضوع فيه ـ كما تقدم في التصور

__________________

(١) هذه المنهجة في تحليل قضايا الحسن والقبح بناء على المسلك الأول يستلزم بعض المفارقات التي يصعب الالتزام بها وجدانا.

منها ـ وجدانية عدم قبح الفعل في موارد الخطأ بنحو التضييق كمن يعتقد بقاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهات البدوية بعد الفحص خطا.

ومنها ـ أن يكون ذم العقلاء وحكمهم بالعقوبة غير مرتبط بقبح الفعل الّذي ارتكبه الفاعل أي لا يكون حكم العقل العملي بانبغاء العقوبة وصحة الذم مبنيا ومترابطا من حيث النكتة والحيثية بحكمه بعدم انبغاء صدور الفعل فهو بالرغم من حكمه بقبح الفعل لا يحكم بصحة العقاب والذم عليه وهذا خلاف الوجدان جدا فانه يقضي بان كل ما لا ينبغي صدوره ويقبح فعله يصح العقاب عليه ويذم فاعله بل لا يراد بالذم إلا نفي الانبعاث وليست العقوبة إلا تصعيدا له.

ومنها ـ يلزم ان من يخطأ في كبرى المولوية لشخص بنحو التوسعة كمن يتصور مولوية الزوجة فيخالفها يكون فعله قبيحا بل ظلما بعد إرجاع الظلم إلى القبح وعدم الانبغاء مع حكم الوجدان بعدم كونه ظالما لها وعدم قبح في فعله أصلا.

ولعل الأوفق أن يقال : بان القبح غير الظلم فهناك حكمان عقليان عمليان طوليان يشهد بتعددهما الوجدان :

أحدهما ـ الظلم وهو سلب الحق والّذي يكون بنفسه مدركا عقليا عمليا وهو عبارة عن السلطنة والولاية كحقيقة نفس أمرية يدركها العقل العملي على حد القدرة التكوينية التي يدركها العقل النظريّ.

الثاني ـ القبح وهو المعبر عنه بلا ينبغي أو استحقاق العقاب والذم ، والحكم العقلي الثاني أخذ في موضوعه العلم بالحكم العقلي الأول أي بالحق فمن لم يكن يعلم بحق الطاعة لشخص عليه سواء كان خطأ في كبرى الحق أو صغراه وخالفه فلا يحكم العقل بقبح مخالفته فالخطأ في الحكم الأول بنحو التضييق رافع لموضوع الحكم الثاني.

واما الخطأ فيه بنحو التوسعة فان كان في كبرى الحق كمن تصور ولاية الزوجة على الزوج فلا ينبغي الإشكال في عدم صدق الظلم بالمخالفة نعم تكشف المخالفة عن سوء سريرته واستعداده له حتى إذا كانت المولوية ثابتة واقعا. واما قبحه بملاك اخر ذاتي وهو قبح الإقدام على ما يتصور أنه ظلم على حد قبح الكذب مثلا ولو لم يكن ظلما على أحد فمبني على عدم إرجاع كل قبيح إلى قبح الظلم.

وان كان الخطأ بنحو التوسعة في صغرى الحق كما في مسألة التجري كان عمله ظلما وقبيحا لما تقدم من ان ملاك هذا الحق انما هو أدب العبودية والاحترام للمولى وهو يصادر ويهتك بمخالفة معلوم الحرمة لا واقع الحرام.

وان أبيت إلا من إرجاع الحكم الأول أعني الحق والسلطنة إلى الحسن والقبح بمعنى ينبغي له الأمر والإلزام قلنا بان حكم العقل العملي بانبغاء الإطاعة وقبح المخالفة على العبد مشروط بعلمه بالمولوية أي بأن الآمر ينبغي له الأمر والنهي وإحدى القضيتين غير الأخرى موضوعا ومحمولا فلا يلزم الدور ولا الخلف ولا يكون الفعل قبيحا في موارد الخطأ بنحو التضييق.

٤٣

الثاني ـ فإذا تخيل العدم ارتفع وإذا تخيل الثبوت ثبت القبح ولو لم تكن الصغرى في الواقع ثابتة.

ودليلنا على الأول حكم الوجدان بان أكبر الناس وأكثرهم أخلاقية أيضا قد يفرض له الخطأ في الصغرى بنحو التضييق فيخالف مولاه خطا ولا قبح في ذلك.

وعلى الثاني ما تقدم من ان حق المولى انما هو من أول الأمر حق أن لا يهتك وذلك بارتكاب ما يقطع بأنه مخالفة لا خصوص المخالفة الواقعية.

وهكذا نستنتج : انه قد يثبت في مورد القبح بالعنوان الأولي الواقعي فقط كما في المخطئ في الكبرى بنحو التضييق وهذا لا عقاب عليه ، وقد يثبت القبح بالعنوان الثانوي فقط وهو المخطئ في الكبرى بنحو التوسعة إذا خالفها ، وقد يثبت كلا القبحين وذلك فيمن لم يخطئ في الكبرى وقد خالف قطعه بالحكم ـ سواء كان قطعه بالحكم معيبا وهو المعصية أو مخطئا وهو التجري لأن القطع بالصغرى مأخوذ في الكبرى بحسب الفرض ـ لأن لازم ما ذكرناه من وجود قبح ثانوي طولي بعنوان مخالفة المولوية المقطوع بها غير القبح الأولي الواقعي ان يكون في حالة الإصابة بلحاظ الكبرى قبحان قبح أولي ثابت ثبوتا واقعيا لا يمكن أن يكون العلم به مأخوذا فيه ، وقبح ثانوي بعنوان الإقدام على مخالفة المولى.

ومن هنا يظهر ان صاحب التصور الثالث أي من يقول بان مخالفة التكليف واقعا من حيث الصغرى دخيلة كجزء الموضوع في القبح زائدا على القطع بها لا بد وان أن يلتزم بالفرق بين المتجري والعاصي في درجة القبح ، وإلا فلو سلم وجدانا عدم الفرق بينهما في درجة القبح كان لا بد له التنازل عن الوجه الثالث واختيار الثاني الّذي هو الصحيح والمختار. وما ذكرناه هناك من إلزامه بالقبح حتى على التصورين الأول والثاني كان جدليا مبنيا على المصطلحات المشهورة في قبح الظلم وحسن العدل ، واما حيث حللناها بالنحو المذكور فلا بدّ من الرجوع إلى التصور الثاني لأن قبح الإقدام على المعصية إن كان غير القبح الأولي لزم صدور قبحين من العاصي وإن كان نفس قبح الظلم فلا بدّ من افتراض ان موضوعه يشمل القاطع أي ان تمام موضوعه القطع وهو التصور الثاني.

٤٤

المسلك الثاني ـ هو المسلك الّذي يدعي أصحابه بان الحسن والقبح من القضايا المشهورة الداخلة في صناعة الجدل لا القضايا البرهانية. وهناك فرضيتان لتفسير هذا المسلك.

الفرضية الأولى ـ ما يتراءى من كلمات السيد الأستاذ في شرح هذا المسلك ، وهو يرجع إلى دعوى ان الحسن والقبح قضية إنشائية من قبل العقلاء لا خبرية ، فهي على حد ساير المجعولات العقلائية غاية الأمر قد تطابق العقلاء عليها باعتبار إدراكهم للمصالح والمفاسد من ورائها. ومثل هذه الفرضية أيضا مدعى من فسر الحسن والقبح بأنهما موقفان عقلائيان عمليان مدحا أو قدحا.

إلا ان هذه الفرضية لا تنطبق على كلمات أصحاب هذا المسلك من الحكماء ، فانهم يصرحون بان المشهورات قضايا مقرونة بالتصديق الجازم كالقضايا الضرورية غاية الأمر ان التصديق الجازم في الضروريات مضمون الحقانية بخلافه هنا ، ومن الواضح ان فرض التصديق الجازم يستلزم افتراض القضية خبرية تصديقية لا إنشائية جعلية.

ثم ان هذه الفرضية أعني دعوى ان قضايا الحسن والقبح مجعولات عقلائية قد يكون مبررها دعوى ثبوتية هي إقامة البرهان على استحالة كونها قضايا خارجية ، لأنها لو كانت كذلك لاحتاجت إلى محل تعرض عليه كما في البياض مثلا مع وضوح ان الفعل الحسن أو القبيح قبل وجودهما متصفان بذلك.

والجواب حينئذ ما تقدم مرارا من ان لوح الواقح أوسع من لوح الوجود.

وقد يكون مبررها دعوى إثباتية حاصلها : انا لا ندرك شيئا آخر في الخارج وراء المصلحة والمفسدة في الأفعال ، نعم نجد ذم العقلاء ومدحهم تبعا للمفسدة والمصلحة.

وقد حاول السيد الأستاذ النقض على هذه الدعوى بأنها لو كانت قضايا مجعولة من قبل العقلاء فما شأن العاقل الأول قبل وجود العقلاء وتشريعاتهم فانه ينبغي أن يقال بعدم قبح الظلم وحسن العدل في حقه مع انه خلاف الوجدان ، فلا بدّ وأن تكون هذه القضايا واقعية.

ولكن هذا الكلام لا بد من إرجاعه إلى تكذيب وجداني للشبهة من ان هناك من

٤٥

وراء مواقف العقلاء قضايا واقعية يدركها العقل العملي هي قضايا الحسن والقبح وإلا فان أريد إقامة البرهان على الخلاف فمن أين يعرف حال العاقل الأول وانه كان يدرك الحسن والقبح أولا؟ فلعل إحساسنا بهذا الوجدان من تأثير بناء العقلاء.

والصحيح : بعد وجدانية ان قضايا الحسن والقبح ليست مدركة على أساس انها تشريعات لمواقف اعتبارية عقلائية ، ان هذه الفرضية تربط بين القبح والحسن والمفسدة والمصلحة وتجعل إدراك الأخيرين سببا لجعل الأولين وهذا لا ينسجم مع الوجدانات الأخلاقية في باب الحسن والقبح لأنها تبرهن على انهما باب مستقل ومفصول عن باب المصلحة والمفسدة ، ولهذا كان التجري قبيحا رغم عدم المفسدة في نفس الفعل وهناك كثير من موارد الحسن والقبح قد لا يكون في الفعل مفسدة أو مصلحة ، ومما ينبه إلى هذا عدم إجراء باب التزاحم بين القبيح والمصلحة أو الحسن والمفسدة ، فالظلم لا يكون حسنا مهما ترتب عليه مصلحة والعدل لا يكون قبيحا مهما نتج منه ضرر وخسارة خارجا طالما هو عدل.

الفرضية الثانية ـ ان الحسن والقبح قضايا مشهورة بمعنى انها تصديقات جازمة ولكن غير مضمونة الحقانية ، أي ليس التصديق الجازم فيها ناشئا من أحد المناشئ في القضايا المضمونة التي حصروها في القضايا الست الأولية المعروفة في المنطق ، فان إدراك العقل لحسن العدل وقبح الظلم ليس من المدركات الأولية لا للعقل ولا للحس ولا للوهم ، وانما يحصل التصديق الجازم بها نتيجة التأديب والتربية الاجتماعية العقلائية. وقد صرح ابن سينا بان الإنسان لو خلق فريدا وحيدا لما أدرك بعقله حسن العدل أو قبح الظلم.

وتقريب عدم كونها من القضايا الأولية المضمونة مبني على تشخيص الميزان في كون قضية أولية أم لا ، وهذا الميزان يمكن أن يجعل أحد امرين.

١ ـ ان القضية الأولية هي التي تكون جهة القضية ضرورية أي ضرورية المدرك لا الإدراك نفسه ، فان القضية إذا كان ثبوت الحكم فيها للموضوع بالضرورة كما في الأربعة زوج قضية أولية مضمونة الحقانية.

وهذا الميزان منطبق في قضايا العقل العملي فان العدل حسن بالضرورة والظلم

٤٦

قبيح كذلك ، على ان الميزان ليس بصحيح لأنه لا ينطبق على أكثر ما اعتبروه من القضايا الأولية الست.

٢ ـ ان الضرورة تلحظ بالنسبة إلى الإدراك نفسه لا المدرك ، فمتى ما كان إدراك قضية ناشئا من حاق القوة العاقلة لا بأسباب غير عقلائية كالفرح والغضب والعاطفة والتلقين كانت القضية ضرورية.

وهذا الميزان يدعى عدم انطباقه على قضايا الحسن والقبح اما للقطع أو احتمال أن تكون هذه القضايا نتيجة تلقين العقلاء وتأديبهم لنا ـ كما يشعر بذلك كلام ابن سينا المتقدم ـ واما لأنا بسير القضايا الست وملاحظتها لا نجد ان شيئا منها يمكن أن ينطبق على المقام ، لأن ما يحتمل أن تندرج فيه هذه القضايا العملية من تلك القضايا الست انما هو الأوليات والفطريات لا التجربيات والمتواترات والحسيات والمشاهدات ، والفطريات هي ما يكون قياسها مستبطنا في القضية كما في قولك الأربعة زوج باعتبارها تنقسم إلى متساويين ، وهذا من الواضح عدم انطباقه على العدل حسن والظلم قبيح لعدم استبطان برهان فيهما والأوليات ما يكون مجرد إدراك الطرفين والنسبة فيها كافيا للتصديق الجازم بها ، وهذا أيضا غير منطبق عليهما بدليل وقوع الاختلاف فيهما من قبل الناس مع ان الأوليات لا يقع فيها اختلاف لكون تصور أطرافها كافيا للتصديق بها.

وكلا الدعويين والتطبيقين مما لا يمكن المساعدة عليهما :

اما الأول ـ فبأنه لو فرض القطع أو احتمال كون منشأ قضايا الحسن والقبح التلقين لزم من ذلك زوال التصديق عندنا بمجرد الالتفات إلى ذلك مع انه خلاف الوجدان وخلاف تصريحهم واعترافهم بكونها قضايا فيها تصديق جازم ، إلا أن يقصدوا انها جازمة عند غيرهم.

واما الثاني فممنوع كبرى وصغرى.

اما الكبرى ، فلان القضية الأولية النابع إدراكها من حاق القوة العاقلة لا يلزم فيها تطابق الناس على إدراكها لأن القوة العاقلة لا تكون بدرجة واحدة عند الجميع بل تكون ذات مراتب مشككة كما هو الحال في القوة الحسية ، فكما لا يشترط في حسية

٤٧

القضية إحساس الكل بها حتى من يكون بصره مثلا ضعيفا كذلك الحال في القوة العاقلة. أضف إلى ان ارتباط قضايا الحسن والقبح كثيرا بمواقف الناس ومساسها بمصالحهم وعواطفهم يجعلها في معرض التشكيك فيها والتكذيب لها خلافا للقضايا النظرية البحتة ، فلا يكون الاختلاف فيهما اختلافا موضوعيا حقا.

واما منع الصغرى ، فنحن ندعي انه لا خلاف بين العقلاء في كبريات ومقتضيات الحسن والقبح وانما الخلاف والنقاش في صغرياتها أو في موارد التزاحم بين مقتضياتها ، على ما سوف نعود إلى الحديث عن ذلك في بعض البحوث القادمة.

ثم انه على ضوء ما تقدم في مسلكنا لإثبات قبح التجري لا يختلف الحال بين المسلكين ، أي بين أن تكون قضايا العقل العملي مضمونة الحقانية أم لا طالما هي قضايا مصدقة. نعم لو قيل بالفرضية الأولى في تفسير المسلك الثاني من انها قضايا مجعولة فالامر يتبع حينئذ مقدار ما هو المجعول فقد تجعل القضية بنحو تكون مخصوصة بموارد المعصية ولا تعم التجري.

هذا كله فيما هو التحقيق في مسألة قبح التجري عقلا.

واما البراهين والكلمات التي ذكرها الأصحاب لإثبات عدم قبح الفعل المتجري به ففيما يلي نتعرض لأهمها مع مناقشتها.

البرهان الأول ـ ما أفاده صاحب الكفاية ( قده ) في حاشيته على الرسائل من انه يستحيل اتصاف التجري بالقبح لأن القبح والحسن لا يتصف بهما الفعل إلا إذا كان اختياريا ، واختيارية أي عنوان فرع أن يكون ذلك العنوان مصبا لإرادة الإنسان وشوقه المؤكد المستتبع لتحريك العضلات وفي موارد التجري كمن شرب ماء بتخيل انه خمر توجد ثلاثة عناوين ، شرب الخمر ، وشرب الماء ، وشرب مقطوع الخمرية ، والأول منها غير متحقق بحسب الفرض والثاني ليس بقبيح في نفسه ولو صدر عن إرادة والثالث ليس باختياري ، لأن المتجري كان قد تعلقت إرادته بشرب الخمر لا بشرب مقطوع الخمرية.

والمحقق الأصفهاني ( قده ) أورد عليه بنقضين وأجاب عن كل منهما :

النقض الأول ـ ان لازمه لو شرب الخمر لا لشوق وإرادة له بما هو خمر بل بما هو بارد

٤٨

مثلا فلا يكون شربه للخمر اختياريا لأنه لم يكن يقصده وانما قصد التبريد.

وأجاب : بأنه باعتبار توقف التبريد على شرب الخمر فسوف تترشح إرادة غيرية نحوه أيضا فيكون اختياريا.

ولكن هذا الجواب واضح القصور ، إذ يمكن للناقض تبديل نقضه بما إذا كان فعل الحرام معلولا أو ملازما للمراد لا علة له ليقال بترشح إرادة غيرية عليه كما إذا كان غرضه إيصال الكهرباء للتجربة وهو يعلم انه يؤدي بالنتيجة إلى هلاك مؤمن.

النقض الثاني ـ لو تعلقت إرادته بالجامع بين الحرام وغيره كما لو توقف علاج مرضه على شرب المائع فطبقه على الخمر لا يكون صدور الحرام منه اختياريا.

وأجاب عنه على ضوء مسالكه الفلسفية من انه إذا تعلقت الإرادة بالجامع فتطبيقه على فرد لا يكون إلا لمرجح فيه وإلا لزم الترجيح بلا مرجح فتكون الخصوصية المرجحة مرادة لا محالة.

وفيه ـ انه قد يفرض اختيار الخمر لأن المائع منحصر فيه لا ان فيه مرجح ، وقد يفرض ان المرجح موجود ولكنه ليس هو خصوصية الخمرية بل خصوصية أخرى ملازمة.

والتحقيق : ان المحقق الخراسانيّ تارة يدعي ان إرادة أحد المتلازمين لا تسري إلى ملازماته ، وأخرى يفترض انه من القائلين بالسراية قياسا للإرادة التكوينية على التشريعية التي ادعى فيها ذلك.

فعلى الأول ترد النقوض المذكورة ولا مخلص عنها إلا برفع اليد عن مبانيه الفلسفية في باب الاختيار فان الاختيار ليس بمعنى تعلق الإرادة والشوق بل بمعنى كون الفعل صادرا عن سلطنة الفاعل بحيث كان له أن يتركه وهذا يكفي فيه مجرد الالتفات إلى العنوان وصدوره منه في حالة كان له أن يمتنع عنه على ما تقدم شرحه مفصلا في موضعه من بحوث الطلب والإرادة.

وعلى الثاني ، فالنقوض كلها مدفوعة لأنه في تمام تلك الموارد يكون الحرام متعلقا للإرادة بالاستلزام ولو لأجل انحصار المراد به ، وهذا غير جار في المقام أعني التجري لأن شرب مقطوع الخمرية لا يلازم شرب الخمر بل مباين معه بدليل انه شرب مقطوع

٤٩

الخمرية ولم يشرب الخمر. وإن شئت قلت : ان متعلق الإرادة هو شرب الخمر وشرب الخمر واقعا أعم من شرب مقطوع الخمرية إذ قد يتحقق ذلك بلا قطع بخمريته وقصد الأعم لا يستلزم قصد الأخص (١).

ولكن يرد أيضا على هذا الاحتمال.

أولا ـ عدم تمامية المبنى في معنى اختيارية الفعل كما تقدم على الشق الأول.

وثانيا ـ عدم تمامية مبنى استلزام إرادة شيء لإرادة لوازمه وملازماته كما لم يعترف بذلك صاحب الكفاية نفسه في الإرادة التشريعية.

وثالثا ـ لو سلم المبنيان اتجه النقض بالتجري في الشبهة الحكمية كما لو اعتقد حرمة شرب التتن فشربه ، فان عنوان شرب معلوم الحرمة يكون أعم حينئذ من شرب التتن عند العالم بحرمته فيكون إرادة الأخص إرادة له بالاستلزام.

ورابعا ـ حتى التجري بنحو الشبهة الموضوعية قد يتعلق فيه غرض شخصي بشرب معلوم الخمرية فيكون اختياريا لا محالة.

وخامسا ـ ان التجري في شرب معلوم الخمرية اما أن يفترض فيه صدور حيثية من الفعل الخارجي عن الفاعل بالاختيار أو يدعى عدم صدور فعل اختياري منه أصلا ، اما الثاني فهو رجوع إلى البرهان الثالث المتقدم ، واما على الأول فتلك الحيثية الصادرة منه بالاختيار لا محالة ملازمة لعنوان شرب معلوم الخمرية قطعا فبناء على الاستلزام تسري الإرادة إليه أيضا.

البرهان الثاني ـ ما أفاده صاحب الكفاية ( قده ) أيضا وهو برهان غالبي لا دائمي

__________________

(١) لا يقال الإرادة التكوينية لا تحرك إلا نحو الجزئي لا الكلي بحده وهذا يعني ان إرادته الفعلية متعلقة بشرب هذا الخمر الّذي هو مقطوع الخمرية فيكون عنوان مقطوع الخمرية أعم من الخمر المقصود شربه إذ كل خمر مقصود مقطوع الخمرية فتسري الإرادة إليه بناء على الاستلزام.

فانه يقال : الاستلزام في خصوص الملازمات الأولية للملزوم لا الملازمات الثانوية المنتزعة في طول تعلق العلم والإرادة ، بل لعل ذلك محال لاستلزامه التسلسل فلا يكون مقطوع الخمرية متعلقا للإرادة ولو كان انطباقه لازما.

ثم ان هنا نقضا لطيفا وهو انه بناء على هذا لو فرض حرمة شرب مقطوع الخمرية لا الخمرية الواقعي لزم عدم القبح وعدم حرمة الشرب إذا قصد شرب الخمر وإن صدر منه بالاختيار لأنه ليس بحرام وانما الحرام شرب مقطوع الخمرية ولم يصدر عنه بالإرادة والاختيار وهذا النقض متجه على جميع براهين المحقق الخراسانيّ الثلاثة

٥٠

ويتألف من مقدمتين :

الأولى ـ ان الالتفات إلى العنوان شرط في اختياريته وهذا مطلب صحيح حتى على مبنانا في الاختيارية.

الثانية ـ ان عنوان مقطوع الخمرية لا يلتفت إليه غالبا في مقام العمل لأن القطع ينظر إليه بنظر آلي لا استقلالي اذن فلم يصدر منه شرب مقطوع الخمرية بالاختيار والإرادة لكي يكون قبيحا.

وأورد عليه المحقق النائيني ( قده ) : بان لازمه أن لا يعقل أخذ القطع موضوعا لحكم شرعي لاستحالة وصول ذلك الحكم وتنجزه حينئذ لأن تنجز الحكم فرع الالتفات إلى موضوعه والمفروض أخذ القطع فيه وهو لا يلتفت إليه.

ولكن هذا الإيراد غير متجه ، لأن صاحب الكفاية ( قده ) لم يدع انه يستحيل الالتفات إلى القطع نفسه وانما ادعى انه في موارد القطع الطريقي الّذي يكون غرض القاطع في المقطوع به فتمام نظره والتفاته إلى المقطوع به لا إلى القطع نفسه ، واما لو تعلق الغرض بنفس القطع فلا محذور في الالتفات إليه كما في موارد القطع الموضوعي الّذي يكون غرض المكلف إحراز نفس القطع الموضوع للحكم.

والصحيح في الإجابة على هذا البرهان أن يقال :

أولا ـ الالتفات المرآتي الآلي إلى القطع كاف في الاختيار ، لأن المقصود من الالتفات ما يقابل الغفلة المطلقة التي تنافي السلطنة والاختيار لا خصوص الالتفات التفصيليّ.

وثانيا ـ ان الفاعل كما يحسب حساب العناوين الأولية التي يتعلق بها غرضه كذلك يلتفت إلى العناوين التي سوف تنطبق على فعله وتكون مانعة عن أغراضه وفي المقام المكلف المتدين لا محالة يلتفت إلى كون الفعل مقطوع الحرمة وتكون حرمته منجزة عليه أم لا لأن غرضه متعلق بعدم عصيان المولى.

البرهان الثالث ـ أن في موارد التجري في الشبهة الموضوعية لا يوجد فعل صادر من المكلف اختيارا أصلا فيكون حال من شرب الماء بتخيل انه خمر حال النائم الّذي يشرب الخمر ، وذلك لأن ما قصده وهو شرب الخمر لم يقع منه خارجا وما وقع وهو

٥١

شرب الماء لم يقصده ولم يرده لكي يكون فعلا اختياريا له.

ثم أشكل على نفسه بأنه لو ادعي : ان الجامع بين ما وقع وما قصد وهو شرب مقطوع الخمرية كان مقصودا له فيكون قد صدر منه بالاختيار.

أجبنا عليه : بأن الجامع له حصتان حصة في ضمن الخمر الواقعي وحصة في ضمن الماء المتخيل كونه خمرا ، وإرادة القاصد للجامع انما تكون إرادة ضمنية أي إرادة للحصة المتضمنة في الفرد المراد وهي الحصة الأولى وهي لم تقع وانما الّذي وقع الحصة الثانية وهي لم تكن مقصودة لا استقلال لا ضمنا.

ولنا هنا كلامان :

الأول ـ نقض طريف ، حيث ان لازم هذا التحليل جواز ارتكاب المعصية في موارد يتعلق قصد العامي ببعض افراد الحرام ويكون الواقع فردا اخر منه ، كما إذا كان يريد شرب الخمر العنبي فجيء له بخمر تمري فانه لم يصدر منه فعل اختياري أصلا ليكون محرما أو قبيحا ومثل هذا واضح الفساد.

الثاني ـ ان بداهة الوجدان تحكم بالفرق بين فعل المتجري وفعل النائم ، وهذا بنفسه ينبغي أن ينبهنا إلى أحد امرين طوليين.

أحدهما ـ أن نرفع اليد عن المبنى الفلسفي في الاختيارية ونختار ما هو الصحيح من كفاية الالتفات والتوجه إلى العنوان المتحقق في الخارج بفعل الإنسان في صيروريته اختياريا يتحمل الفاعل مسئوليته وتبعات إيجاده عقلا وشرعا.

ثانيهما ـ أن يلتزم بأن الفرد الخارجي صادر منه اختيارا بعد أن طبق مراده عليه وشخصه فيه ، فتحركه نحو إيجاد ذلك الفرد المشخص بإرادته واختياره سواء كان تشخيصه مطابقا للواقع أم لا.

البرهان الرابع ـ انه لو فرض قبح التجري لزم قبح الفعل ولو صادف مصلحة مهمة لازمة للمولى ، كما إذا أنقذ ابن المولى بتصور انه عدوه مع ان كونه محبوبا للمولى من الواضحات ، فحينئذ أن التزم بقبح الفعل المتجري به مع كونه محبوبا للمولى ومطلوبا لزم اجتماع الضدين.

وفيه : انه خلط بين باب الحسن والقبح وباب المصلحة والمفسدة والحب

٥٢

والبغض ، فان الفعل هنا وإن كان فيه مصلحة أو حب ولكنه ليس بحسن بل قبيح.

العقوبة على التجري

المقام الثاني ـ في استحقاق العقاب على التجري وقد اتضح مما تقدم ان قضية استحقاق العقاب غير قضية قبح الفعل بل قضية ثانية مترتبة على الأولى والصحيح ان المتجري يستحق العقاب على الفعل المتجري به عقابا تأديبيا من العقلاء وعقابا قصاصيا من قبل المولى لأنه قد سلب حقه الّذي تقدم ان موضوعه الجامع بين العصيان والتجري وهذا مطلب مستنبط مما تقدم في المقام الأول.

وانما عقدنا له مقاما مستقلا باعتبار انهم تعرضوا إلى وجوه مستقلة لإثبات استحقاق المتجري للعقاب.

وقد ذكر المحقق النائيني ( قده ) أن السيد الشيرازي الكبير ( قده ) قد ذكر برهانا على استحقاق المتجري للعقاب مركبا من أربع مقدمات ، ولكن الأولى والثانية منهما لا ربط لهما بالمقام على ما يظهر لمن يراجعهما والثالثة والرابعة كل منهما يصلح أن يكون برهانا مستقلا نذكرهما فيما يلي مع إضافة الوجه المذكور في الرسائل فتكون البراهين على استحقاق المتجري للعقاب ثلاثة :

البرهان الأول ـ وهو المقدمة الثالثة من برهان الشيرازي ( قده ) وحاصله : ان المناط في حكم العقل باستحقاق العقاب هو ارتكاب ما يعلم مخالفته للتكليف لا ما يكون مخالفا واقعا ، فالمهم اذن هو العلم بالتكليف لا إصابة ذلك العلم للواقع وإلا لتعطلت الأحكام حيث لا يمكن إحراز الإصابة في مورد ، وعليه فالمتجري والعاصي على حد واحد من حيث توفر مناط استحقاق العقوبة فيهما.

وأورد عليه المحقق النائيني ( قده ) : بالفرق من ناحية ان المتجري ليس بعالم حقيقة لأن علمه جهل مركب في الواقع. وهذا الإيراد مع أصل البرهان كلاهما غير تام.

اما أصل البرهان ، فلأننا ننكر أن يكون العلم بالتكليف هو المناط بل نختار ان الإصابة للواقع هي المناط وهي محرزة لدى القاطع والمتجري معا ، لأن القاطع يرى

٥٣

قطعه مطابقا للواقع فهو دائما يحرز التكليف ويرى نفسه مستحقا للعقاب على تقدير المخالفة فلا يلزم تعطيل الأحكام.

واما الإيراد ، فلان الميرزا الشيرازي ( قده ) يريد دعوى ان المصادقة غير دخيلة بل تمام المناط بحكم العقل القطع بالواقع وعبر عنه بالعلم وليس النّظر إلى المصطلحات المنطقية لكي يقال ان هذا جهل مركب وليس بعلم.

والبرهان الثاني ـ وهو المقدمة الرابعة في كلام الميرزا الشيرازي ( قده ) ان الميزان في استحقاق العقوبة اما القبح الفعلي أو الفاعلي ، والأول واضح البطلان إذ يلزم استحقاق العقاب على شرب الخمر واقعا باعتقاد انه خل ، فيتعين الثاني وهو في التجري والعاصي على حد سواء.

وأورد عليه الميرزا ( قده ) بان هناك احتمال ثالث وهو أن يكون الميزان في استحقاق العقوبة هو القبح الفاعلي الناشئ من قبل القبح الفعلي ، أو بعبارة أخرى : مجموع القبحين فتكون التفرقة بين العاصي والمتجري صحيحة بلا لزوم النقض.

والتحقيق : ان أصل البرهان مع رده مبنيان على انقسام القبح إلى فعلي وفاعلي وقد عرفت ما فيه مفصلا فلا نعيد.

البرهان الثالث ـ ما ذكره الشيخ ( قده ) في الرسائل ، من ان عدم استحقاق المتجري للعقوبة معناه ان سبب العقاب في العاصي إصابة قطعه للواقع وإلا فلا فرق بينه وبين المتجري من سائر الجهات ، والإصابة وعدمها امر غير اختياري فكيف يمكن أن تناط به العقوبة؟.

وأجاب عنه بما يرجع إلى التفكيك بين المقتضي للاستحقاق والمانع عنه ، فالمقتضي يجب أن يكون امرا اختياريا واما المانع فلا يلزم فيه ذلك لوجود أمور مانعة غير اختيارية كالعجز مثلا ، وعليه فالمقتضي في المقام للاستحقاق هو التصدي للمعصية وهذا اختياري للمتجري والعاصي معا واما عدم المصادقة فهو مانع عن استحقاق العقوبة ولا ضير في كونه غير اختياري.

وإن شئت تقريب هذا البيان بوجه فني قلت : ان استحقاق عقاب من صادف قطعه الواقع ليس مستندا إلى ما هو خارج عن اختياره ولو فرض اختصاص العقاب به

٥٤

كما إذا قيل باختصاص حق الطاعة للمولى بموارد أحكامه وتكاليفه الواقعية فقط.

وتوضيح ذلك : ان الفعل لعدمه أبواب متعددة لا بد وأن تنسد كلها حتى يتحقق الفعل خارجا ، ولا يلزم ان يكون سد كل تلك الأبواب للعدم والتي منها إصابة القطع للواقع اختياريا للفاعل بل جملة منها قد تنسد بأسباب خارجة عن اختياره وانما يكلف إذا كان واحدا منها سده باختياره وإلا فليس في العالم معصية لم ينسد على المكلف أي باب من أبواب عدمها لا أقل من انسداد باب عدمها بعدم وجود الفاعل نفسه فانه بوجوده الّذي هو خارج عن اختياره قد انسد هذا الباب.

حرمة التجري

المقام الثالث ـ في حرمة التجري شرعا ، حيث قد يستدل عليها بإطلاقات الأدلة الأولية تارة ، وقاعدة الملازمة أخرى ، والإجماع ثالثة ، والاخبار رابعة فنقول :

١ ـ التمسك بالإطلاقات الأولية لحرمة التجري :

اما إطلاقات الأدلة الأولية فقد يتوهم إمكان التمسك بها لإثبات حرمة التجري في الشبهة الموضوعية أي الخطأ في التطبيق بتقريب مؤلف من ثلاث فقرات :

١ ـ ان الإرادة والاختيار لا يتعلقان بالواقع بل بما يراه الفاعل واقعا ، فشارب الخمر دائما يريد شرب مقطوع الخمرية لا الخمر الواقعي لأن المحرك نحو الفعل نفس القطع والإحراز لا الواقع ولا إصابة القطع له ، ولهذا نجد الإرادة والتحرك في موارد التجري والجهل المركب مع عدم وجود الخمر الواقعي ، بل تعلق الإرادة بالواقع غير معقول كما هو مقرر في محله.

٢ ـ التكاليف انما تكون من أجل المحركية والباعثية فمتعلقها بحسب الحقيقة إرادة الفعل واختياره.

٣ ـ لو كان متعلق التكليف الإرادة والاختيار المتعلقين بالفعل بوجوده الواقعي أي الإرادة المصادفة للواقع بما هي مصادفة للواقع كان تكليفا بالمحال فلا بدّ وأن يكون متعلق التكليف الإرادة واختيار ما يراه الفاعل واقعا وهذا صادق في موارد التجري

٥٥

على الفعل المتجري به أيضا فيكون حراما.

والجواب :

أولا ـ هذا خلط بين المراد التشريعي والمراد التكويني من التكاليف فان ما يقال من ان التكليف يجعل بداعي المحركية والباعثية يعني ان المراد التكويني ومقصود الآمر من تكليفه أن تنقدح الإرادة والشوق في نفس المكلف نحو ما كلف به لا ان التكليف والإرادة التشريعية متعلق بالإرادة والاختيار.

وثانيا ـ لو فرض ان التكليف متعلق بالإرادة والاختيار فان كان قيد إصابة الإرادة للواقع مأخوذا في متعلق التكليف بنحو قيد الواجب لزم محذور التكليف بغير المقدور ، واما إذا أخذ فيه بنحو قيد الوجوب بان جعل إصابة قطعه للواقع شرطا في التكليف فلا محذور في البين ولازم اختصاص التكاليف بموضوعاتها الواقعية انما هو ذلك كما هو واضح.

ثم ان السيد الأستاذ حاول الجواب على هذا الاستدلال بأمرين كلاهما لا يرجع إلى محصل (١).

اما الأول ـ فبالنقض بالواجبات بدعوى : ان لازم ذلك من صلى مع القطع بدخول الوقت ثم بان خلافه لا بد وأن تكون صلاته مجزية لتحقق المأمور به بالأمر الواقعي الأولي وهو اختيار ما قطع بكونه صلاة في الوقت.

وفيه : إذا فرض الواجب مضيقا كما إذا وجبت الصلاة في كل الوقت أو وجب إكرام كل عالم فتخيل ان زيدا عالم فأكرمه ثم بان عدم كونه عالما فيلتزم فيه القائل بحرمة التجري بثبوت الوجوب فيه وحرمة الترك ، وان فرض الواجب موسعا فتعلق التكليف بالإرادة المتعلقة بالفرد الواقعي من الصلاة في الوقت مقدور في حقه لا محالة فلا يسقط التكليف عنه.

واما الثاني فالحل بدعوى : ان الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها عند العدلية وهي في الأفعال بوجوداتها الواقعية كما هو مقتضى ظواهر أدلتها أيضا.

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٢٧.

٥٦

وهذا الجواب من الواضح انه لا يحل الإشكال شيئا فان المستدل يعترف بان ظاهر الخمر هو الخمر الواقعي وانما كان يستفيد شمول الخطاب للتجري من باب ظهور كل تكليف في انه بداعي التحريك والباعثية وان التكليف بإصابة القطع للواقع تكليف بغير مقدور لا يمكن أن يتقيد التكليف بها وهذا نظير الاعتراف باشتراط القدرة وعدم التكليف في موارد العجز رغم صدق عنوان الفعل فيها أيضا وتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في مذهب العدلية ، فان كل ذلك لا ينافي مع اشتراط تعلق التكليف بالمقدور والفعل الصادر عن الاختيار.

٢ ـ التمسك بقاعدة الاستلزام العقلي لحرمة التجري :

واما الاستدلال على حرمة التجري بقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع فحاصله : انه قد ثبت في مقام سابق قبح الفعل المتجري به عقلا فبناء على ان كل ما حكم العقل بقبحه ولزوم تركه حكم به الشرع أيضا يثبت في المقام حرمة التجري شرعا.

والبحث عن صحة صغرى هذا الاستدلال قد فرغنا عنه في المقام الأول المتقدم ويبقى الكلام عن صحة الكبرى وصحة تطبيقها في المقام.

اما البحث عن الكبرى وبشكل موجز يناسب المقام فقد ذكر المحقق الأصفهاني ( قده ) بان الملازمة بين ما حكم به العقل حكم به الشرع بديهية واضحة باعتبار ان الشارع هو سيد العقلاء ورئيسهم فإذا حكم العقلاء بحكم بما هم عقلا كان هو في طليعتهم وعلى رأسهم ، ومن هنا ذكر ان التعبير بالتلازم مسامحة والأصح هو التعبير بالتضمن لاندراج الشارع في العقلاء وضمن بناءهم الّذي هو مدرك هذه القضايا العملية.

وهذا الاستدلال مما لا يمكن المساعدة عليه لما تقدم من ان الحسن والقبح أمران واقعيان ثابتان في لوح الواقع الّذي هو أوسع من لوح الوجود وليسا امرين تشريعيين وحكم العقلاء لا يراد به سوى إدراكهم لهذه القضايا نفس الأمرية لا تشريعهم لها.

٥٧

ثم لو فرض ذلك جريا مع مشرب هؤلاء الحكماء فلا موجب لدعوى الملازمة بين حكمهم وحكم الشارع فضلا عن التضمن لأن حكمهم انما يصدر عنهم باعتبار وقوعه في طريق المصالح التي يشخصونها لحفظ نظامهم والشارع سبحانه خارج عن دائرة تلك المصالح فأي ملزم بأن يكون تابعا لأحكامهم وللنظام الّذي يشخصونه لأنفسهم.

وقد يدعى في قبال ذلك استحالة جعل حكم شرعي واستكشافه في مورد حكم العقل لأن حكم الشرع انما يكون بداعي التحريك بتوسيط حكم عقلي في النهاية بلزوم الإطاعة وقبح المعصية ، والمفروض في المقام ان الحكم العقلي بالقبح ثابت منذ البداية فإذا كان محركا للعبد كفى وحصل المقصود بلا حاجة إلى توسيط جعل شرعي وإلا فلا فائدة في جعله وتوسيطه في البين لأنه وحده لا يكون محركا من دون حكم العقل بقبح المعصية.

وهذه الدعوى مع أصل دعوى الملازمة كلتاهما باطلة.

أما الأولى فلان إعمال المولى لمولويته في موارد الحسن والقبح يوجب تحقق ملاك ثان للحسن والقبح زائدا على الحسن والقبح الثابتين بالعنوان الأولي لذلك الفعل إذ يتحقق بذلك عنوان وملاك جديد هو إطاعة المولى ومعصيته بحيث تكون مخالفته حينئذ ظلما له فيتأكد الملاك العقلي ويتعدد فقد يكون محركا حينئذ للمكلف.

واما دعوى الملازمة فبطلانها من جهة ان الشارع تارة يكون غرضه في مقام حفظ الفعل الحسن وترك الفعل القبيح بنفس درجة الحافظية والمحركية الذاتيّة الثابتة في الفعل من ناحية حسنة أو قبحه واستحقاق المدح والثواب أو الذم والعقاب عليه ، وأخرى يكون غرضه في حصول مرتبة أشد وأرفع من ذلك بحيث يكون له اهتمام أكبر ، فعلى الأول لا موجب لافتراض إعمال المولى لمولويته وجعل حكم شرعي على وزان ذلك الحكم العقلي وانما يرشد إلى حكم العقل ويؤكده. وعلى الثاني فلا محالة يتصدى من أجل مزيد الحافظية والاهتمام إلى إعمال مولويته والأمر بذلك الفعل الحسن أو النهي عن الفعل القبيح شرعا. وتشخيص هذه المرتبة من الاهتمام قد يكون على أساس استظهار من دليل شرعي أو على أساس مناسبات ذوقية وعقلائية لا يمكن

٥٨

التعويل عليها ما لم تبلغ مرتبة الجزم واليقين. وهكذا يظهر انه لا برهان على أصل الملازمة.

واما البحث عن إمكان تطبيق هذه القاعدة بعد الفراغ عن كبراها في المقام أو وجود مانع عن تطبيقها فقد أفيد عدة محاولات للمنع عن ذلك.

المحاولة الأولى ـ ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) من ان استكشاف خطاب شرعي لحرمة التجري اما أن يفرض فيه انه نفس الخطاب الأولي بحيث يكون ذلك الخطاب من أول الأمر يثبت الحرمة لشرب الخمر الواقعي والتجري في شرب الخمر مثلا ، أو يفرض انه خطاب اخر ، وعلى الثاني فتارة يفترض ان الخطاب الثاني مخصوص بموارد التجري ، وأخرى يفرض شموله لموارد التجري والعصيان معا فالفروض ثلاثة وكلها باطلة.

اما الأول فلان حرمة الفعل المتجري به ناشئة بحسب الفرض من قبح التجري الناشئ من وصول حرمة شرب الخمر الواقعي فيكون متأخرا عنها ولا يعقل أن يؤخذ المتأخر مع المتقدم في خطاب واحد.

واما الثاني فلان حرمة خصوص الفعل المتجري به يستحيل وصولها إلى المكلف لأن المتجري لا يرى نفسه متجريا بل عاصيا فيكون جعله لغوا.

واما الثالث فلان تحريم الجامع بين التجري والمعصية وإن كان قابلا للتنجز على المكلف إلا انه يكون في نظر القاطع أخص مطلقا من حرمة الخمر الواقعي ، فان النسبة بين حرمة الخمر الواقعي وحرمة مقطوع الخمرية واقعا وإن كانت العموم من وجه إلا انه بحسب نظر القاطع الّذي يرى قطعه مصيبا للواقع دائما النسبة عموم مطلق فيلزم اجتماع المثلين بحسب نظره وهو محال ، وانما يعقل تعدد الحكم لو كان بينهما تباين أو على الأقل العموم من وجه حتى يصح تعددهما بلحاظ موردي الافتراق.

وهذه المحاولة غير تامة لأن ما ذكر فيها في الفروض الثلاثة مما لا يمكن المساعدة عليه.

اما ما أفيد في الفرض الأول من لزوم أخذ التحريم المتأخر مع المتقدم فيرده ما هو مقرر في محله بمناسبة البحث عن حجية الخبر مع الواسطة من انه بلحاظ عالم المجعولات

٥٩

والأحكام الفعلية لا مانع من تأخر بعضها عن بعض وأخذ بعضها في موضوع البعض الاخر مع كونها جميعا مجعولة بخطاب واحد وجعل واحد ، وفي المقام يكون وصول الحرمة الفعلية للخمر الواقعي الّذي يريد شربه مأخوذا من موضوع الحرمة الفعلية للتجري ولا محذور وإن كانا مجعولين بخطاب واحد.

واما ما ذكر في الفرض الثاني من عدم إمكان وصول حرمة التجري بعنوانه إلى المتجري. فجوابه : انه لا يشترط في وصول التكليف الوصول التفصيليّ بل لو كان يمكن للتكليف أن يصل إلى المكلف ولو بالوصول الإجمالي أو بالحجة كفى ذلك في معقوليته ، وفي المقام التجري كما عرفت غير مختص بموارد العلم بالواقع بل يثبت في مطلق موارد تنجز الواقع ولو بغير العلم ـ كما اعترف بذلك المحقق النائيني نفسه ـ فإذا تنجز التحريم الواقعي بغير العلم وفرضنا حرمة الفعل المتجري به فالمكلف يحصل له العلم الإجمالي بحرمة هذا الفعل على كل حال اما بعنوانه الأولي أو بعنوان التجري فيكون مقطوع الحرمة.

واما ما ذكر في الفرض الثالث من لزوم اجتماع المثلين في نظر القاطع فقد حاول السيد الأستاذ الجواب عليه (١) تارة بأنه يمكن أن يفرض في مورد عدم وصول حرمة الخمر الواقعي للمكلف ووصول حرمة معلوم الخمرية إليه ويكفي ذلك لتعدد الحكم ، وأخرى بأنه لا مانع من تعدد الحكم على نحو العموم المطلق كما في مثل تعلق النذر بالصلاة الواجبة.

وكلا هذين الجوابين غريب في بابهما.

اما الأول ـ فلأنه لا يرفع مشكلة لزوم اجتماع المثلين بحسب نظر القاطع المحال إلا أن يدعى اختصاص حرمة شرب مقطوع الخمرية بمن لا يعلم بحرمة شرب الخمر وهذا غير محتمل وخروج عن محل الكلام. هذا مضافا : إلى ان هذا الجواب خلاف مبنى الإشكال إذ المفروض ان حرمة معلوم الخمرية ناشئة من القبح الناشئ من التجري الّذي لا يكون إلا بفرض وصول الحرمة الواقعية فمع عدم وصولها لا قبح ولا تجري فلا

__________________

(١) الدراسات.

٦٠