بحوث في علم الأصول - ج ٤

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

فتدلّ على حجية الرّأي والفقه والفتوى لا الشهادة والاخبار.

لا يقال ـ نثبت حجية الراوي غير المتبصر في المعنى والمتفقه في الدين بالملازمة وعدم القول بالفصل بينه وبين المتبصر.

فانَّه يقال : ليس المقصود انَّ الآية أخصّ من المدعى ، بل المقصود انَّها أجنبية عنه لأنَّها حتى في الراوي المتبصر تدلّ الآية على حجية رأيه ودرايته لا شهادته وروايته فلا معنى للتعدّي في حقّه فما ظنّك بغيره.

وهذا الاعتراض لا بأس به فانَّ الظاهر انَّ الآية غير ناظرة إلى مسألة الاخبار وحجيته بل تنظر إلى مسألة أُخرى هي لزوم وجود طائفة بين الأُمة تتحمّل مسئولية الجهاد العقائدي والفكري في سبيل الله عن طريق التفقّه في الدين وحمله إلى الأطراف والأجيال وهذه مسألة أجنبية عن حجّيّة خبر الواحد المبحوث عنها في علم الأصول.

الاستدلال بآية الكتمان :

ومن جملة الآيات التي يستدلّ بها على الحجية قوله تعالى ( الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) (١).

وتقريب الاستدلال بها يشبه الوجه الثالث من وجوه الاستدلال بآية النفر ، بدعوى انَّ تحريم الكتمان ووجوب الإظهار يستلزم وجوب القبول وإِلاّ كان لغواً فبدلالة الاقتضاء يثبت وجوب القبول وبمقتضى الإطلاق ثبت وجوبه حتى في صورة عدم حصول العلم من الإظهار فتثبت حجية خبر الواحد. وكون الكتمان لا يصدق مع عدم وجود مقتضٍ للاخبار كالسؤال ونحوه لا يقدح بالاستدلال إذ لو استفدنا الحجية في الاخبار المسبوق بالسؤال تثبت في مطلق الاخبار لعدم احتمال دخل خصوصية السؤال في حجية الخبر المبتنية على الكاشفية والطريقية.

وقد يورد على الاستدلال بأنَّ الكتمان هو الإخفاء الّذي يعني حجب الحقيقة عن الظهور مع توفّر مقتضيات ظهورها وهذا لا يكون إِلاّ في مورد يكون بحيث لو لم يكتم

__________________

(١) البقرة : ١٥٩.

٣٨١

يحصل العلم بالحقيقة لتمامية مقتضيات جلائها ووضوحها لكونها في طريق وصولها إلى المكلّفين وظهورها لو لا الكتمان وامَّا حيث لا يكون كذلك كما في موارد عدم حصول العلم من الاخبار فلا يصدق الكتمان لتدلّ الآية على حرمته وبالتالي على حجية الاخبار.

وفيه ـ انَّ الكتمان وإِنْ كان هو إخفاء الحقيقة إِلاّ انَّه الإخفاء النسبي لا المطلق أي الإبراز من ناحية المخبر لا مطلقا فمن لا يكون قوله مفيداً للعلم لعدم وثاقته مثلاً أيضا يصدق الكتمان على إخفائه للحقيقة.

والصحيح الإيراد على الاستدلال المذكور بوجوه أُخرى أهمّها ما يلي :

١ ـ ما أشرنا إليه في مناقشة الاستدلال بآية النفر من عدم المحذور في جعل وجوب الإنذار أو الإظهار مطلقاً مع كون الغاية و

الغرض منه وهو وجوب القبول مخصوصاً بصورة العلم وانَّما جعل وجوب الاخبار مطلقاً من جهة احتياط المشرع في مقام تحصيل ذلك الغرض.

٢ ـ من المحتمل قوياً انَّ التحريم في الآية الكريمة نفسي لا طريقي ، لأنَّ الكتمان كأنَّه عبارة عن تعمّد إخفاء الحقيقة وهذا نحو مقابلة مع الدين ومعاندة فيكون من المحرمات النفسيّة بل من أعظمها ولهذا صبّت في الآية على مرتكبها لعنة الله ولعنة اللاعنين ، ولا ملازمة بين التحريم النفسيّ للكتمان من باب كونه عناداً مع الدين ووجوب القبول كما لا يخفى.

٣ ـ انَّ كلمة ( الكتاب ) لعلَّ المراد منه القرآن الكريم لا التوراة والإنجيل فيكون المقصود انَّه بعد ما بيّنا في الكتاب الكريم انَّ النبيّ قد توفّرت بشائر نبوته في كتب العهدين وانَّ اسمه وأوصافه مذكورة ومسطورة عندهم في التوراة والإنجيل فمن ينكر أو يكتم علمه بذلك من أهل الديانتين مع كونه مطّلعاً عليه بحكم كونه من العلماء بما جاء في العهدين عداوة لهذا الدين وصاحبه فأولئك يلعنهم الله واللاعنون ، ومن الواضح انَّ الكتمان والسكوت من هؤلاء يعد تكذيباً لما جاء في القرآن الكريم لا مجرد عدم إظهار الحقّ ، فانَّ نفي العلم والاطلاع أو السكوت ممن يكون أهل الاطلاع بالنحو المذكور بنفسه تكذيب وتشكيك في صدق ما يدعيه القرآن الكريم من مجيء بشائر نبوة

٣٨٢

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتب العهدين وهو من أعظم المحرمات وأجنبي عن مسألة حجية الاخبار.

الاستدلال بآية الذّكر :

ومن جملة ما يستدلّ بها قوله تعالى ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (١).

وتقريب الاستدلال بها استفادة وجوب القبول بالملازمة من وجوب السؤال وبالإطلاق لصورة عدم حصول العلم من الجواب تثبت حجيته ، وقد فسّر أهل الذّكر بأهل العلم والاطلاع وهو صادق بالنسبة إلى كل فئة بحسبه فالرواة بالنسبة إلى المجتهدين أهل اطلاع وعلم والمجتهدين بالنسبة إلى العوام أهل العلم والأئمة والأنبياء بالنسبة إلى جميع البشر أهل الذّكر والعلم ، فيمكن أَنْ يستدلّ بها على حجية جميع ذلك كلّ بحسبه.

ويرد عليه وجوه نقتصر منها على ما يلي :

١ ـ ما أشرنا إليه من عدم الملازمة بين وجوب السؤال ووجوب القبول تعبداً.

٢ ـ انَّ سياق الآية لا يبقي مجالاً للشك في انَّها واردة في مقام المخاصمة مع المنكرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدعوى انَّه إنسان كسائر البشر في حاجاته وهو لا يناسب مع السفارة الربانية فيناقشهم القرآن الكريم في سياق الآية مؤكداً على انَّ الرسالات كلّها كانت على أيدي رجال من البشر ثمّ يحولهم في ذلك على مراجعة أهل الذّكر ، لأنَّ المشركين لم يكونوا من أهل الكتاب والنبوات السابقة لكي يعلموا مباشرة هذه الحقيقة ، ومن الواضح انَّ هذا المقام ليس مقام جعل الحجية والتعبد بوجه أصلاً بل مقام المخاصمة والإحالة الطبيعية إلى كيفية الوصول إلى الحقّ والحقيقة.

ويؤكد هذا بل يدلّ عليه انَّ متعلّق السؤال في الآية محذوف ولكنه ليس مطلقاً كما قد يتوهم بل بقرينة التفريع نفهم انَّ السؤال عن بشرية الأنبياء في جميع الرسالات

__________________

(١) النحل : ٤٣.

٣٨٣

وهو من حقائق أصول الدين فلا معنى للتعبد فيها.

ويؤيد ذلك أيضا التعبير في ذيلها ـ إِنْ كنتم لا تعلمون ـ الظاهر في انَّ السؤال من أجل تحصيل العلم والإطلاق المفقود لديهم.

وبما ذكرنا ظهر انَّ المراد من الذّكر هو الكتاب والدين وقد استعمل في القرآن الكريم كثيراً بهذا المعنى حيث أطلق على الكتاب الكريم وعلى التوراة في عدة مواضع.

وامَّا ما ورد في تفسيرها من انَّ المراد بأهل الذّكر الأئمة عليهم‌السلام فلا شك في انَّهم هم أهل الذّكر الحقيقيّين لأنَّهم ورثة كلّ الرسالات والشرائع والكتب السماوية وورثة آدم ونوح وإبراهيم وإسماعيل وكلّ من تقدمهم من أنبياء الله ورسله ، إِلاّ انَّ هذا من التفسير بالباطن لا الظاهر وإِلاّ فلا معنى ولا مناسبة في إرجاع المشكّكين في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الأئمة عليهم‌السلام لإثبات حقانية الرسول ودفع شبهة بشريته.

وبهذا نختم الحديث عن الاستدلال على حجية خبر الواحد بالآيات الكريمة وقد ظهر انَّه لا توجد فيها آية تدلّ على ذلك.

الاستدلال على حجية خبر الواحد بالسنة :

لا بدَّ أَنْ نشير قبل استعراض الروايات التي يستدلّ بها على حجية خبر الواحد إلى انَّ الأصحاب ذكروا في تحديد منهج هذا الاستدلال بأنه لا بدَّ وأَنْ تكون السنة التي يراد إثبات حجية خبر الواحد بها متواترة قطعية. وقد عمّق صاحب الكفاية ( قده ) هذه الفكرة بأنه يكفي أَنْ يثبت ولو بالتواتر الإجمالي حجية خبر واحد واجد لأخص صفات الاعتبار كالعدالة مثلاً والظنّ أو الوثوق بصدق مضمونه إذ نثبت حينئذ حجية سائر اخبار الثقات التي لا تكون من الصحيح الأعلائي بالتمسّك بإطلاق رواية تدلّ على الحجية وتكون من حيث السند صحيحاً واجداً للشروط المتقدمة ، وهذا يعني انَّ حجية الصحيح الأعلائي يثبت بالقطع وحجية سائر المراتب من الموثق تثبت بالحجة وهذا منهج صحيح فنّي نظرياً ولكن المحققين لم يصرفوا الجهد بعد ذلك في ملاحظة تطبيقه على ما بأيدينا من الأحاديث والروايات الدالة على حجية خبر الواحد.

والمتتبع في الروايات التي صنفت تحت عنوان حجية خبر الثقة يرى انَّ أكثرها

٣٨٤

لا دلالة لها على الحجية أصلاً وما يتبقى منها بعد فرز ذلك لا يكاد يبلغ حد التواتر إذ لا يزيد على خمس عشرة رواية وفيما يلي نشير إلى الطوائف المستدلّ بها على الحجيّة في مجموع الاخبار التي ذكرت تحت هذا العنوان على ما جاء في كتاب جامع أحاديث الشيعة الّذي حاول أن يجمع كافة أحاديثنا في هذا المجال.

١ ـ ما ورد بعنوان تصديق الإمام لبعض الروايات بعينها على نحو القضية الخارجية ، كما في رواية أبي بصير حماد بن عبيد الله بن أسيد المروي عن داود بن القاسم انَّ أبا جعفر الجعفري قال أدخلت كتاب يوم وليلة الّذي ألّفه يونس بن عبد الرحمن على أبي الحسن العسكري عليه‌السلام فنظر فيه وتصفّح كلَّه ثم قال : هذا ديني ودين آبائي وهو الحقّ كلّه (١).

وواضح انَّ هذه الطائفة لا تدلّ على أكثر من التصديق الشخصي بنحو القضية الخارجية لبعض الروايات وهذا غير الحجية.

٢ ـ ما ورد بعنوان لزوم التسليم لما ورد عنهم والانقياد له ، من قبيل رواية الحسن بن جهم قال قلت للعبد الصالح هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إِلاّ التسليم لكم؟ فقال : لا والله لا يسعكم إِلاّ التسليم لنا.

وواضح عدم دلالتها أيضا ، لأنَّها تنظر إلى ما هو قول المعصوم وصادر عنه وانَّه لا بدَّ من التسليم والانقياد لهم وعدم إعمال الذوق والاجتهاد في مقابلهم كما كان يفعل العامة.

٣ ـ ما ورد بعنوان الحثّ على تحمل الحديث ونقله ، من قبيل رواية جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سارعوا في طلب العلم فو الّذي نفسي بيده لحديث واحد في حلال وحرام تأخذه عن صادق خير من الدنيا وما حملت من ذهب وفضة ... إلخ.

ومثلها أحاديث منقولة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( من حفظ من أُمتي أربعين حديثاً ممّا يحتاجون إليه في أمر دينهم بعثه الله عزّ وجلّ يوم القيامة فقيهاً عالماً ) (٢).

__________________

(١) ح ٢٦ من باب حجية اخبار الثقات ومثلها ح ٢٩ ، ٣٠ ، ٣١ ، ٣٣ ، ٣٥.

(٢) ح ٦ ـ ٧ ـ ٦٨ ـ ٦٩ ـ ٧٠ ـ ٧١ ـ ٧٢ ـ ٧٣ من نفس المصدر.

٣٨٥

وهي تدلّ على الحثّ على المعرفة الإسلامية ولا إشكال في انَّه من أفضل الأعمال بل مرتبة منه واجبة كفاية على الأمة ، وهو أجنبي عن محل الكلام اللهم إِلاّ من باب الملازمة التي تقدم جوابها.

٤ ـ ما ورد بعنوان الإحالة على أشخاص معينين ، من قبيل ما ورد في أحوال السيد الشريف عبد العظيم الحسني (ره) عن أبا حماد الرازي يقول دخلت على علي بن محمد عليه‌السلام بسرّ مَن رأى فسألته عن أشياء من الحلال والحرام فأجابني فيها فلمّا ودعته قال لي يا أبا حماد إذا أشكل عليك شيء من أمر دينك بناحيتك فسأل عنه عبد العظيم بن عبد الله الحسني وأقرئه منّي السلام (١).

وهي حوالة على أشخاص معيّنين ، فحتى لو سلّم دلالتها على انَّ الإحالة المذكورة أعمّ من الإحالة على الفقيه في أخذ الفتوى بحيث تشمل الإحالة على الراوي مع ذلك لا تدلّ على الحجية المطلوبة في المقام ، إذ لعلَّ ذلك باعتبار علم الإمام عليه‌السلام بأنَّ أولئك الأشخاص لا يكذبون لكونهم على مرتبة عظيمة من التقوي والجلالة ، وهذا أمر قد يتّفق حصول العلم به لغير المعصوم عليه‌السلام فكيف به ، نعم لا بأس بأَنْ يستأنس منها حجية أصالة عدم الغفلة الثابتة عقلائياً أيضا.

٥ ـ ما أُمر فيها بنقل الحديث وتداوله ، من قبيل رواية أبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال يا أبان إذا قدمت الكوفة فاروِ هذا الحديث : من شهد انَّ لا إِله إِلاّ الله مخلصاً وجبت له الجنة (٢).

وهي أيضا لا تدلّ على المطلوب إِلاّ بتوهّم الملازمة بين الأمر بالرواية ووجوب القبول تعبداً وقد مرَّ تفنيدها.

٦ ـ ما دلَّ على الثناء على المحدثين ورواة أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام وتراثهم ، من قبيل رواية عيسى بن عبد الله العلوي العمري عن أبيه عن آبائه عن علي عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اللهم ارحم خلفائي ثلاثاً قيل يا رسول الله ومن خلفاؤك قال

__________________

(١) نفس المصدر والباب ح ١٢ ـ ١٣ ـ ٢٠ ـ ٢٣ ـ.

(٢) نفس المصدر والباب ح ١٥ ومثله حديث ١٦ ـ ١٧ ـ ٤٠ ـ ٤٧.

٣٨٦

الذين يبلغون حديثي وسنّتي ثمّ يعلمونها أمّتي (١).

وهي أيضا لا دلالة فيها على المطلوب ، لأنَّها ناظرة إلى وجوب حفظ التراث وتعليمه الناس وذلك لا يدلّ على الحجية إِلاّ على الملازمة غير الصحيحة على ما تقدم.

٧ ـ ما دلَّ على انَّ انتفاع السامع للحديث قد يكون أكثر من انتفاع راويه ، من قبيل ما عن غوالي اللئالي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انَّه قال : رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها فربّ حامل فقه ليس بفقيه وفي رواية ـ فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه (٢) والاستدلال بها مبني على دعوى انَّ انتفاع السامع فرع الحجية.

وفيه : انَّها ليست في مقام بيان انَّه متى يثبت صدور الحديث عن المعصوم وانَّما يتعرّض بعد الفراغ عن ثبوته إلى انَّه ربما يكون السامع أفضل فهماً وأكثر ورعاً من المتحمل للحديث المطلع عليه مباشرة وأين هذا من الحجية؟

٨ ـ ما دلّت من الأحاديث على انَّ على رأس كلّ قرن يبعث الله من يحفظ هذا الدين ويحميه ويرد عنه الإشكالات والشبهات ويتمّ الحجة على الناس لتبقى كلمة الله وحجته قائمة إلى يوم الدين (٣) ، وهي أيضا أجنبية عن الحجية التعبدية بل تدلّ على الحجية الحقيقية والتمييز بين الحقّ والباطل ودحضه بالبرهان المبين ، وهذا شيء ثابت بالتجربة الخارجية أيضا.

٩ ـ ما دلَّ على الترغيب في حفظ الكذب وكتابة الأحاديث ، كما في حديث عبيد بن زرارة قال ، قال : أبو عبد الله عليه‌السلام احفظوا بكتبكم فإنَّكم سوف تحتاجون إليها (٤).

والاستدلال بها مبني على دعوى الملازمة بين وجوب الحفظ والكتابة الطريقي ووجوب القبول والحجية وقد عرفت تفنيدها بل في الأمر بالحفظ والكتابة لوحظ صيانة نفس الراوي ، الأمر الّذي فيه غرض نفسي سواءً كان نقله حجة للغير أم لا.

__________________

(١) نفس المصدر ح ٤٥ ومثله ح ٤٨ ـ ٥٢ ـ ٥٣.

(٢) نفس المصدر ح ٣٩.

(٣) نفس المصدر ح ٦٥.

(٤) نفس المصدر ح ٧٥ ومثله ح ٧٧.

٣٨٧

١٠ ـ ما دلَّ على التحذير من التحريف في نقل الحديث ، من قبيل رواية أبي بصير عن أحدهما عليهما‌السلام في قول الله تعالى فبشّر عباد الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.

قال هم المسلِّمون لآل محمد صلوات الله عليهم إذا سمعوا الحديث أدّوه كما سمعوه لا يزيدون ولا ينقصون (١).

وهي أيضا أجنبية عن المدّعى ، لأنَّها تنظر إلى وظيفة الراوي وانَّه لا يجوز له التحريف وهو أمر واجب في نفسه سواءً كان نقله حجة أم لا.

١١ ـ ما دلَّ على جواز نقل الحديث بالمعنى ، من قبيل رواية محمد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام اسمع الحديث منك فأزيد وأنقص؟ قال إِنْ كنت تريد معانيه فلا بأس (٢).

وهي أيضا لا تدلّ على المطلوب ، لنظرها إلى تحديد وظيفة الراوي في مقام النقل وتحمل الحديث.

١٢ ـ ما دلَّ على وجوب السماع من صادق ، من قبيل رواية المفضل بن عمر قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام من دان الله بغير سماع عن صادق ألزمه الله التيه إلى العناء ومن ادّعى سماعاً من غير الباب الّذي فتحه الله فهو مشرك وذلك الباب المأمون على سرّ الله المكنون ومثلها غيرها (٣).

وواضح انَّ المراد بالصادق فيها الإمام عليه‌السلام لا مطلق الثقة ، ولهذا عبر عنه ( بمن دان الله ) أي المراد الصادق بقول مطلق الّذي هو المعصوم ويشهد بذلك ذيل الحديث.

١٣ ـ ما دلَّ على حجية نقل ثقات الإمام عليه‌السلام ، من قبيل رواية المراغي وقد ورد في ذيلها ( لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما روى عنّا ثقاتنا قد عرفوا بأنَّنا نفاوضهم بسرنا ونحمله ( إِيّاه ) إِليهم وعرفنا ما يكون من ذلك إن شاء الله ) (٤).

وهي أيضا لا تدلّ على حجية خبر الثقة ، لأنَّ الوارد فيه عنوان ثقاتنا وعنوان ثقتي

__________________

(١) نفس المصدر ح ٩٢.

(٢) نفس المصدر ح ٩٤.

(٣) نفس المصدر ح ١١٤.

(٤) نفس المصدر ح ٣.

٣٨٨

أخص من عنوان الثقة المطلق بل يدلّ على انَّ أولئك ممن اصطفاهم الإمام عليه‌السلام وجعلهم حملة علمه وسرّه ومثله لا إشكال في صدقه وعدم تطرّق احتمال الكذب إليه.

١٤ ـ ما دلَّ على المنع من رفض الرواية لمجرّد رأي وذوق واستحسان ، من قبيل ما جاء في رواية الحذاء ( وأمقتهم ـ أي من أصحابه ـ للذي إذا سمع الحديث ينسب إِلينا ويروي عنّا فلم يقبله واشمأزّ منه وجحده وكفَّر من دان به وهو لا يدري لعلَّ الحديث من عندنا خرج وإِلينا أسند فيكون بذلك خارجاً عن ولايتنا ) (١).

وهي أيضا أجنبية عن المدعى ، لأنَّها تنهى عن إعمال الرّأي والاستحسان والذوق وردّ الحديث لمجرد ذلك بل تكفير من يدين به وجعل الدين ما يراه بحسب ذوقه ولا ينافي ذلك مع عدم حجية خبر الواحد.

١٥ ـ ما دلَّ على الترجيح عند التعارض بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، بدعوى انَّ ذلك دليل على حجية الخبر في نفسه وإِلاّ لما وقع تعارض بين حجتين.

وفيه : يمكن إرادة الحجية القطعية كما إذا كان الخبر قطعي السند ، وليست هذه الطائفة من اخبار الترجيح والعلاج في مقام البيان من ناحية حجية أصل الخبر ليتمسّك بإطلاقها كما هو واضح.

وهكذا يتّضح انَّ هذه الطوائف لا دلالة في شيء منها على المطلوب وبعد إفرازها لا تبقى لدينا أكثر من خمس عشرة رواية ممّا قد تتمّ دلالتها على الحجية وهو عدد لا يبلغ حدّ التواتر.

ولكن في خصوص المقام هناك بعض القرائن الكيفية التي قد توجب حصول الاطمئنان بصدور بعض هذه الروايات إذا ما لوحظت إلى جانب الخصوصية الكمية ، والميزان هو الاطمئنان لا صدق عنوان التواتر ، بل هناك رواية واحدة يمكن دعوى القطع أو الاطمئنان الشخصي بعدم تعمد شيء من رواتها للكذب فيها لخصائص في سندها على ما سوف يأتي شرحها ، ولو فرض عدم حصول ذلك منها فلا أقلّ من حصوله بها مع ضمّ الروايات الأُخرى إليه.

__________________

(١) نفس المصدر ح ٥.

٣٨٩

وفيما يلي نستعرض هذه الروايات جاعلين محور الاستدلال وأساسه تلك الرواية التي أشرنا إليها وهي رواية الحميري (ره) فنقول :

روى الكليني ( قده ) عن محمد بن عبد الله الحميري ومحمد بن يحيى العطار جميعاً عن عبد الله بن جعفر الحميري ، قال اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو ـ عثمان بن سعيد (ره) ـ عند أحمد بن إسحاق فغمزني أحمد بن إسحاق أَنْ أسأله عن الخلف ـ أي الحجة ( عجل الله فرجه ) ـ فقلت له يا أبا عمرو إنِّي أُريد أَنْ أسألك عن شيء وما أنا بشاك فيما أُريد أَنْ أسألك عنه فانَّ اعتقادي وديني انَّ الأرض لا تخلو من حجة إِلاّ إذا كان قبل القيامة بأربعين يوماً فإذا كان ذلك وقعت الحجة وأغلق باب التوبة فلم يك ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً فأولئك شرار من خلق الله عزّ وجلَّ وهم الذين تقوم عليهم القيامة ولكنّي أحببت أَنْ ازداد يقيناً وانَّ إبراهيم سئل ربّه عزّ وجلّ أَنْ يريه كيف يحي الموتى قال أو لمْ تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ، وقد أخبرني أبو علي أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن عليه‌السلام قال. سألته وقلت من أعامل أو عمّن أخذ وقول من أقبل فقال له العمري ثقتي فما أدّى إِليك عنّي فعني يؤدّي وما قال لك عنّي فعني يقول فاسمع له وأطع فانَّه الثقة المأمون ، وأخبرني أبو علي انَّه سئل أبا محمد عن مثل ذلك فقال له العمري وابنه ثقتان فما أديا إِليك عنّي فعني يؤديان وما قالا لك فعني يقولان فاسمع لهما وأطعهما فانهما الثقتان المأمونان فهذا قول إمامين قد مضيا فيك ، قال فخرَّ أبو عمرو ساجداً وبكى ثمّ قال سل حاجتك فقلت له أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمد عليه‌السلام فقال أي والله ورقبته مثل ذا ، وأومأ بيده. فقلت له فبقيت واحدة فقال هات قلت فالاسم؟ قال محرم عليكم أَنْ تسألوا عن ذلك ولا أقول هذا من عندي فليس لي أَنْ أحلل ولا أحرم ولكن عنه عليه‌السلام ، فانَّ الأمر عند السلطان انَّ أبا محمد عليه‌السلام مضى ولم يخلف ولداً وقسم ميراثه وأخذه من لا حق له فيه وهو ذا عياله يجولون ليس لأحد أَنْ يتعرف إليهم أو ينيلهم شيئاً وإذا وقع الاسم وقع الطلب فاتّقوا الله وأمسكوا عن ذلك (١).

__________________

(١) نفس المصدر ح ١.

٣٩٠

والكلام في هذا الحديث الشريف من حيث السند تارة والدلالة أُخرى.

امَّا من حيث السند فهي مظنونة الصدق ظنّاً شخصياً اطمئنانياً ، من ناحية عدم تعمد الكذب على الأقل بحيث نحتاج فقط إلى ضمّ أصالة عدم الغفلة العقلائية لقرائن سوف نذكرها ، ولو فرض عدم حصول الظنّ الاطمئناني المذكور من تلك القرائن الخاصة أمكن تكميل الظنّ المذكور بضمّ الروايات الأُخرى التي سوف نوردها. وإِنْ فرض التشكيك في كلّ ذلك وعدم حصول اطمئنان شخصي فلا إشكال انَّ هذا السند من أعلى الأسانيد الّذي أفراده كلّهم أصحاء بالوجدان لا التعبد فيكون هو القدر المتيقن من السيرة العقلائية الدالة على الحجية وبذلك تثبت حجية تمام مفاده فإذا كان مفاده حجية مطلق خبر الثقة أثبتنا به حجية مطلق خبر الثقة.

والحديث موجود في الكافي الكتاب الّذي لا شك في انَّه للكليني ( قده ) لأنَّ أصله ثابت لنا بالتواتر القطعي ، واحتمال التصحيف والاشتباه من النساخ في خصوص هذه الرواية منتفٍ باتفاق النسخ الموجودة منه وتطابقها مع ما نقل أصحاب الكتب الأُخرى عنه ، إِذن فكان الرواية مسموعة من الشيخ الكليني ( قده ) وهو شخص لا يتطرق إليه احتمال تعمد الكذب وذلك واضح لمن تأمل جلالة مقامه واتفاق الفقهاء على ورعه وتقواه وإتقانه ، حتى انَّ الشيخ الطوسي ذكر في ترجمته انَّه ما ألف شخص كتاباً في الإسلام أثبت وأضبط من الكافي. ومثل هذه الشهادة موجودة من غير الشيخ الطوسي في حقّه أيضا ، واحتمال الخطأ منه ضعيف. مضافاً إلى إمكان نفيه بأصالة عدم الغفلة ، مع انَّ الرواية منقولة عن شخصين ممّا يبعد احتمال الخطأ فيه. وبعد الكليني يوجد شخصان محمد بن يحيى العطار الّذي هو ثقة جليل القدر مشهور بذلك مشهود له من قبل الشيخ الطوسي والنجاشي وغيرهما ولم يغمز فيه حتى من قبل المتوسعين في الغمز ، وقد عبر عنه النجاشي بأنَّه شيخ أصحابنا في عصره ومثله لا يحتمل تعمد كذبه جزماً بل يطمئن بصدقة ، هذا إذا كان وحده فكيف إذا انضم إليه محمد بن عبد الله الحميري الّذي هو مثله أيضا في اتفاق كلمة الأصحاب على توثيقه وجلالة قدره ومكانته وانَّه كان له مراسلات مع الإمام عليه‌السلام ، وبعدهما عبد الله بن جعفر الحميري الّذي كان من أجلاء الطائفة أيضا معروف بوثاقته وضبطه

٣٩١

حتى قال النجاشي انَّه شيخ أصحابنا في قم الّذي كان موطناً لحوزة معروفة بالنقد والحساسية تجاه من يروي عن الضعاف فضلاً عن الضعيف نفسه وهو ينقل فقرة الاستدلال في الرواية عن مجلس أحمد بن إسحاق وهو من أجلاء الأصحاب وقد كان جالساً فيه أيضا عثمان بن سعيد الّذي هو من خواص الإمام العسكري وثقاته وأبوابه وأحد النوّاب الأربعة ، إِذن فمثل هذه السلسلة الذهبيّة ممّا يطمئن بصدق تمام رواتها.

وامَّا من حيث الدلالة ففيها فقرتان يمكن الاستدلال بكل منهما :

الأُولى ـ ما صدر من الإمام أبي الحسن الثالث عليه‌السلام ( العمري ثقتي فما أدّى إليك فعني يؤدي وما قال لك عنّي فعنّي يقول فاسمع له وأطع فانَّه الثقة المأمون ).

وصدر هذه الفقرة وإِنْ كانت حوالة شخصية على العمري فتكون نظير الحوالة على السيد عبد العظيم الحسني في الطائفة الرابعة المتقدمة وقد ذكرنا انَّها لا تدلّ على المطلوب إذ يحتمل قوياً انَّه من جهة القطع العادي بصدق ذلك الشخص وعدم تعمد كذبه ، إِلاّ انَّ الاستدلال بذيلها حيث انَّه ورد فيه التعليل بقوله ( فاسمع له وأطع فانَّه الثقة المأمون ) وهو بمثابة كبرى كلية أُشير إِليها وهي انَّ كلّ ثقة مأمون يسمع له وهو معنى حجية خبر الثقة. وقد يلاحظ على هذا الاستدلال بتشكيكين.

الأول ـ انَّ هذه الحوالة حوالة على مرتبة عالية من الوثاقة لا مجرد كون الشخص ثقة متحرجاً بحسب طبعه عن الكذب ، وذلك بقرينة ما جاء في الصدر من انَّ العمري ثقتي فانَّ من ينصب من قبل الإمام يكون عادة على مكانة عالية من الوثاقة والعدالة والتعليل تفريع على ذلك ، هذا مضافاً إلى انَّ التعليل ورد بعنوان انَّه الثقة المأمون واللام في مثل هذا المقام كما أفاد علماء العربية تدلّ على الكمال كما في قولك انَّه الفقيه العالم ، فغاية ما يقتضيه التعليل هو التعدّي إلى الثقة المطلق أي من كان غاية في الوثاقة والأمانة ومثله قد يحصل الاطمئنان بقوله عادة.

وفيه : عدم تمامية القرينتين معاً ، امَّا الأولى فلأنَّ مجرد التفريع على الصدر لا يضرّ بعموم التعليل المشير إلى قاعدة كلية مركوزة والتمسك به لا بالصدر.

وامَّا الثانية ـ فلأنَّ اللام ليس من معانيها الكمال بل هي للجنس والعهد بل الجنس أيضا نوع عهد ذهني كما قال صاحب الكفاية ( قده ) ومنشأ استفادة الكمال

٣٩٢

مناسبة حمل اسم الجنس المعرّف باللام على الشخص فانَّه حيث لا معهودية لشخص معين ووضوح عدم كونه الجنس بما هو جنس معهود ذهناً فيشعر ذلك بوجود عناية ملحوظة في هذا الحمل ، وقد اعتبروا العناية الملحوظة كونه على مرتبة عالية من المعنى المفاد باسم الجنس التي تكون متعينة بذاتها لكونها مرتبة جلية واضحة. ولكن كما يمكن أَنْ تكون العناية ذلك يمكن أَنْ تكون العناية وضوح المصداقية للجنس وانطباقه عليه إثباتاً بل هذا هو المناسب في مقام التعيين (١).

الثاني ـ انَّ هذه الحوالة يحتمل في حقّها أَنْ تكون من باب الإرجاع إلى المقلَّد في مقام أخذ الفتوى لا الإرجاع إلى الراوي بقرينة قوله ( وأطع ).

وفيه : انَّ وجوب الإطاعة لا يناسب عرفاً بالنسبة إلى المفتي أيضا وانَّما يناسب الحاكمية والولاية ، فلا بدَّ وأَنْ يحمل على الإطاعة في استماع الاخبار التي ينقلها عن الإمام عليه‌السلام ولزوم تصديقه فيها. وممّا يدلّ على ذلك انَّ المأمور هو أَحمد بن إسحاق الّذي لم يكن من العوام بل من خواص الأئمة عليهم‌السلام ومن أصحاب الكتب والمقام وله تلاميذ كما يظهر من ترجمة حاله فلا يناسب إرجاعه إلى العمري في التقليد بل إرجاع له إليه في الروايات باعتباره كان يعيش في حوزة قم البعيدة عن موطن الإمام ( عجل الله فرجه ).

الفقرة الثانية ـ ما صدر عن الإمام العسكري عليه‌السلام في حقّ ( عثمان بن سعيد العمري وابنه ثقتان فما أديا إِليك عنّي فعنّي يؤدّيان وما قالا لك فعنّي يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنَّهما الثقتان المأمونان ).

وتقريب الاستدلال بها كما تقدّم ، بل الاستدلال بهذه الفقرة أولى وأوضح لعدم تفريع التعليل فيها على قوله ( ثقتي ) بل على قوله ( انَّهما ثقتان ) ، كما لا يحتمل أَنْ يكون هذا الإرجاع من باب الإرجاع إلى باب الإمام عليه‌السلام لأنَّ ابنه لم يكن باباً للإمام الحادي

__________________

(١) الإنصاف انَّ هذه المصداقية الا ثباتية انَّما تكون على أساس وبنكتة الكمال الثبوتي للمبدإ فيه ولهذا يفيد المبالغة فالتشكيك فيه غير عرفي.

هذا مضافاً إلى أن الذيل يحتمل فيه قوياً انَّه شهادة من الإمام بوثاقة الرّجل وأمانته لأنَّها قضية خارجية فلا يكون ظاهراً في بيان الكبرى الكلية التي يراد الاستفادة منها.

٣٩٣

عشر لكي يحول أَحمد بن إسحاق عليه بل هي إحالة على الثقة في مقام قبول اخباره (١).

ومن جملة هذه الروايات صحيحة عبد الله بن أبي يعفور قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام انَّه ليس كلّ ساعة ألقاك يمكن القدوم ويجيء الرّجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه قال : فما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي فانَّه قد سمع أبي وكان عنده مرضياً وجيهاً (١).

وهي من حيث السند صحيحة ورواتها كلهم من الثقات بالوثاقة الوجدانية ، وهناك طريقان لها ممّا يعزز صدورها.

وامَّا الدلالة فالاستدلال بها لمكان التعبير الوارد فيها ( فما يمنعك. ). المشعر بالمفروغية عن كبرى مركوزة يراد تنبيه السائل وإلفاته إليها وليست هي إِلاّ حجية خبر الثقة ، وهذه الإحالة ليست من الإرجاع في التقليد لوضوح انَّ ابن أبي يعفور كان من أجلّة الأصحاب والعلماء وأصحاب المصنفات وكان ممّن يرجع إليه في الحلال والحرام كما هو يذكره في سؤاله من الإمام عليه‌السلام في هذه الرواية فليس الإرجاع إِلاّ بملاك الإرجاع إلى الأحاديث والروايات ، كما انَّ التعليل بالوجاهة يراد به الوجاهة الدينية المساوقة مع الوثاقة في النقل بحسب مناسبات الحكم والموضوع فتكون الرواية دالة على إمضاء كبرى حجية خبر الثقة.

ومن جملة هذه الروايات صحيحة يونس بن يعقوب ، قال كنّا عند أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) الإنصاف انَّ دلالة هذه الرواية على حجية خبر الثقة بالمعنى المطلوب مشكل ، فانَّه مضافاً إلى ما تقدّم في التعليق السابق انَّ الثقة قد أُطلق وأُريد منها مرتبة من المقام وشرف التوكيل والنيابة لا مجرد الوثاقة بالمعنى الأصولي المبحوث عن حجيته في المقام ، ويشهد على ذلك مضافاً إلى سياق المبالغة والاهتمام الواضحين في الفقرتين معاً شدة اهتمام الحميري بنقل ذلك مقدمة لاستجواب العمري وما ترتّب على ذلك من شكر العمري وبكائه من شوقه ، فانَّ مثل هذا لا يناسب إرادة الوثاقة الاخبارية ، هذا مضافاً إلى انَّ في مثل زمان أحمد بن إسحاق ولمثله وهو الفقيه المطلع على أصول أصحاب الأئمة عليهم‌السلام السابقين وتراثهم بشكل أضبط وأوسع من مثل العمري السمان لا يعقل أَنْ يكون النّظر من إحالته جانب الأخذ برواياته كحجة شرعية في المسألة بل المنظور إليه إطاعته في الأوامر الشخصية والوظائف السياسية والاجتماعية التي كان الأئمة في هذه المرحلة عاجزين عن الإعلان المباشر عنها ، فالمسألة مسألة التوكيل ونصب منافذ موثوقة مأمونة في مقام نشر سرّهم ومواقفهم العملية والاجتماعية ، وهذا أجنبي عن حجية الرواية لمجرد كون رواية ثقة الأمر البسيط الّذي قد يفترض توفره في أكثر الناس من جمهور المسلمين آنذاك.

(٢) نفس المصدر ، ح ١٩.

٣٩٤

فقال أما لكم من مفزع أما لكم من مستراح تستريحون إليه ما يمنعكم من الحرث بن المغيرة (١).

والاستدلال بها كالاستدلال بما سبقها وبنفس النكتة المشار إليها.

وهناك روايات أُخرى لا بأس بدلالتها أيضا على الحجية من قبيل رواية محمد بن عيسى عن الرضا عليه‌السلام قال قلت لأبي الحسن جعلت فداك إنِّي لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما احتاج إليه من معالم ديني أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال نعم (٢).

فانَّ ظاهرها انَّ السائل يشير فيها إلى الكبرى المركوزة ويطبقها على يونس بن عبد الرحمن والإمام عليه‌السلام يمضي ذلك ويأمره باتباعه وقبول قوله.

إِلاّ انَّ هذه الرواية وغيرها ممّا يمكن أَنْ يستدلّ بها على الحجية غير صحيحة السند فتكون قيمها الاحتمالية ضعيفة نسبياً فتصلح لأنْ تكون مؤيدة مكملة للقيمة التصديقية المطلوبة في الرواية التي جعلناها محور كلامنا.

الاستدلال بالإجماع والسيرة :

وهو بحسب روحه استدلال بالسنة إِلاّ انَّها تستكشف بالدليل القطعي المتمثل في سيرة المتشرعة وعمل الأصحاب أو سيرة العقلاء.

وقد ذكر الشيخ الأعظم ( قده ) في الرسائل وجوهاً عديدة لتقريب الإجماع أوجهها تقريبه بالسيرة فنقتصر عليها في المقام ، وهي تارة : تقرب كسيرة متشرعة وعمل أصحاب الأئمة. وأُخرى : كسيرة العقلاء وعلمهم. فهنا تقريبان تقدم نظيرهما في بحث حجية الظواهر وبيان منهجة الاستدلال بكلّ منهما ولذلك نوجز في المقام تلك النكات ضمن تطبيقه على خبر الثقة فنقول :

التقريب الأول ـ الاستدلال بالسيرة العقلائية ، ذلك انَّه لا ينبغي الإشكال في

__________________

(١) نفس المصدر ، ح ٢١.

(٢) نفس المصدر ، ح ٢٤.

٣٩٥

وجود مسوغات عقلائية تقتضي العمل بخبر الثقة في مقام تشخيص الوظيفة العملية وهذه المسوغات سواءً افترضنا نشأها عن استقرار عادتهم على الاكتفاء بخبر الثقة في مجال أغراضهم التكوينية أو استقرار بنائهم على حجيته في مجال الإدانة وتحميل المسئولية فهي على كلّ حال تشكّل للعرف العام عادة عقلائية تقتضي أو تعرض على الأقل العقلاء على الإقدام بالعمل بخبر الثقة ، فلو كان الشارع لا يرضى بذلك كان عليه أَنْ يردع عن مثل هذا الديدن ويمنع عن تعرض أغراضه الشرعية لمثل هذه العادة ، فيستكشف من عدم الردع الإمضاء بأحد التقريبات المتقدمة في مسألة حجية الظواهر ، كما انَّ عدم الردع نحرزه من عدم وصوله في مسألة من هذا القبيل توجد فيه مقتضيات الوصول ، وبهذا قد اتّضح انَّ الاستدلال بهذه السيرة لا يتوقّف على افتراض انعقادها على حجية خبر الثقة بعنوانه بل يكفي حصول العادة والطريقة بنحو يعرض أغراض الشارع إلى الخطر فيما إذا لم تكن طريقة مشروعة وتحقق هذه العادة لا ينبغي التشكيك فيها مهما شكك في مناشئها وجذورها.

التقريب الثاني ـ الاستدلال بالسيرة المتشرعية من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام وعلماء الطائفة ، فانَّه لا إِشكال في انَّ الروايات التي بأيدينا ليس رواتها كلّهم من الأجلاء الذين لا يحتمل في حقّهم تعمد الكذب كيف وفي الرّواة من ثبت كونه وضّاعاً دجّالاً كما شهد بذلك الأئمة عليهم‌السلام في حقّ بعضهم وشهد بذلك النقّادون من علماء الرّجال وكبار الطائفة ، بل انَّ بعض الرّواة أيضا كان يتّهم بعضهم بعضاً ويكذبه ، وبين القسمين طائفة منهم كانوا وسطاً بين الطائفتين وهم أكثر الرّواة حيث لا يعهد انَّهم على تلك المرتبة العالية من التقوي والورع والضبط ولكن لا يعرف في حقّهم الوضع والدّس أو الكذب ، ولا إِشكال انَّ روايات مثل هذه الطائفة لم يكن يحصل منها العلم أو الاطمئنان والفقهاء وأصحاب الأئمة عليهم‌السلام كانوا يواجهون هذه الروايات في أكثر المسائل الفقهية ، لأنَّ الأحاديث هي أساس الفقه وعماده عند جميع المذاهب الفقهية الإسلامية فلا بدَّ لهم من موقف تجاهها ولا يحتمل أَنْ يكون موقفهم تجاهها الرفض من دون استعلام حالها عن الإمام عليه‌السلام إذ كيف يمكن افتراض ذلك مع انَّ العمل بخبر الثقة إِنْ لم يكن عقلائيّاً فلا أقلّ انَّه ليس مرفوضاً عقلائيّاً فكيف يفرض عدم استعلام حال حجيته

٣٩٦

عنهم عليهم‌السلام مع كون الشبهة حكمية بل أُمّ الشبهات التي يقوم عليها عماد الفقه ، كما لا يحتمل انَّهم رفضوها بعد استعلام حالها عن المعصومين عليهم‌السلام إذ كيف يمكن فرض ذلك مع عدم وصول رواية على المنع بل ما وصل امَّا دال على الحجية أو مناسب معها قابل للحمل عليها ، بل أساساً احتمال رفض العمل بهذه الاخبار غير وارد للقطع بعملهم بها وإِلاّ لم يقم للفقه عماد ولما وقع هذا الاهتمام بها في مقام النقل والضبط والإفتاء. كما انَّه لو فرض ممنوعية هذا العمل شرعاً كان لزوم الردع عنه أوضح من الردع عن القياس والاستحسان ، لأنَّ جميع المدارس الفقهية من أصحاب الرّأي والحديث كانوا معاً يذهبون إلى حجيته بخلاف القياس فكيف لم يرد ما يشعر بالردع بل ورد ما يدلّ على الإمضاء والقبول. وامَّا احتمال أَنْ يكونوا قد عملوا بها من دون سؤال جرياً على سليقتهم العقلائية أو الموروثة من عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة أو من جهة استعلام ذلك عن المعصومين عليهم‌السلام واستفادة أمرهم بذلك من الروايات المتقدمة وغيرها ممّا يحتمل صدوره عنهم ، فهذان الاحتمالان كلاهما بصالح الحجية فانَّ ذلك يكشف عن السنة المتمثلة في تقرير المعصوم لعمل أصحابه أو بيان موافق صادر منه إِليهم وامَّا احتمال انَّهم قد عملوا بها لحصول العلم أو الاطمئنان لهم منها فهو بعيد بل ممّا يقطع بعدمه على ما ذكره الشيخ الأعظم في رسائله وأبرز قرائن وشواهد عليه فراجع وتأمل.

وبهذا التقريب للاستدلال بالسيرة على الحجية لا يبقى مجال للإيراد المعروف من انَّ السيرة مردوع عنها بعمومات النهي عن اتباع الظنّ وغير العلم ، فانَّ التقريب المذكور يدلّ على انعقاد عمل المتشرعة من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام بالفعل على العمل باخبار الثقات ممّا يعني عدم كفاية وصلاحية تلك العمومات لردعهم ، فلا يحتمل أَنْ يكون الإمام عليه‌السلام قد اعتمد عليها في مقام الردع بل نفس انعقاد سيرتهم دليل قطعي على عدم شمول تلك النواهي للعمل بخبر الثقة. نعم على التقريب الأول من الاستدلال بالسيرة ينفتح مجال لمثل هذه الشبهة ويكون جوابنا عليها ما تقدّم في تأسيس الأصل من عدم صحة الاعتماد في مقام الردع عن سيرة عقلائية راسخة وطبع وسليقة مستحكمة بهذه الدرجة على مجرد إطلاق أو عموم من هذا القبيل والّذي قد وقع الخلاف في أصل دلالتها ، ولهذا نجد انَّ الشارع لم يكتف في مقام الردع عن العمل

٣٩٧

بالقياس بذلك بل أكّد وشدد النكير فيه حتى صار ذلك واضحاً جلياً فلو كان العمل بخبر الثقة كذلك أيضا لصار بصدد الردع عنه كذلك خصوصاً مع انَّ الحاجة إلى العمل به أشد وأركز وتورط الناس عموماً والمسلمين خصوصاً بالأخذ والعمل بأحاديث الثقات أكثر. هذا مضافاً إلى ما تقدّم من المناقشة في أصل دلالة هذه النواهي على عدم الحجية فراجع.

وقد واجه المحقّقون من علماء الأصول هذه الشبهة بنحو آخر فاتّخذت مدرسة المحقق النائيني جواباً عليها ومدرسة صاحب الكفاية جواباً آخر ، فذكرت الأولى بأنَّ السيرة في المقام حاكمة على الأدلة الناهية عن العمل بالظنّ لأنَّها تجعل الخبر حجة والحجية معناها جعل الطريقية وكونه علماً فيرتفع موضوعها.

وفيه : أولا ـ ما تقدّم مراراً في أصل دعوى حاكمية أدلة الحجية على الأدلة الناهية عن العمل بالظنّ من انَّ مفاد الأخيرة إِنْ كان هو نفي الحجية فتكون في عرض دليل إثبات الحجية فأحدهما ينفي العلمية والآخر يثبتها وهو معنى التعارض بينهما ، وإِنْ فرض انَّ مفادها أمر مترتب على نفي الحجية فمثل هذا المفاد يكون محكوماً لكلّ ما يدلّ على الحجية بأيّ لسان كان ولا يعقل أَنْ يكون رادعاً لأنَّها فرع عدم الحجية.

وثانياً ـ في خصوص المقام لا يعقل حكومة دليل الحجية على الآيات الناهية عن العمل بالظنّ ، لأنَّ الحكومة تصرف تصرّف من الدليل الحاكم في موضوع الدليل المحكوم إنشاءً وتعبداً وهذا انَّما يعقل فيما إذا كان الدليل الحاكم المتصرف من قبل نفس المشرع للدليل المحكوم ، وفي المقام حيث انَّ دليل الحجية هو السيرة العقلائية فلا يعقل أَنْ تكون مباشرة حاكمة على الآيات الناهية عن العمل بالظنّ شرعاً ، إذ لا يعقل للعقلاء بما هم عقلاء التصرّف في موضوع حكم الشارع وامَّا إذا أُريد جعل إمضاء الشارع لها حاكماً ومتصرّفاً في الآيات فهو صحيح إِلاّ انَّ الكلام بعد في كيفية استكشاف هذا الإمضاء وامَّا لو فرض ثبوته والفراغ عنه فلا محالة تثبت حجية خبر الثقة سواءً كان مفاد الحجية جعل العلمية أو لا (١).

__________________

(١) لا يقال ولكن حيث انَّ الآيات الناهية بحسب نظر العقلاء محكومة فلا يصحّ الاعتماد عليها في الرادعية ، فالميزان عدم.

٣٩٨

وامَّا مدرسة صاحب الكفاية فقد تطورت في مقام التخلّص عن رادعية الآيات في دعوى غريبة ، هي استحالة الرادعية لأنَّها دورية. إذ رادعية المطلقات عن السيرة فرع عدم تخصيص السيرة لها وإِلاّ لم يكن إطلاقها حجة ليكون رادعاً عن السيرة وعدم مخصصية السيرة فرع الرادعية فتوقفت الرادعية على نفسها.

ثم اصطدم صاحب الكفاية بدور آخر في جانب المخصصية انسياقاً مع نفس المنهج في التفكير ، لأنَّ مخصصية السيرة أيضا فرع عدم الرادعية وإِلاّ لم تكن حجة وعدم الرادعية فرع المخصصية وإِلاّ كانت المطلقات حجة فتوقفت المخصصية على نفسها.

والنتيجة الغريبة انَّ المخصصية ممتنعة وعدمها أيضا ممتنع مع انَّ هذا بنفسه ممتنع لأنَّ ارتفاع النقيضين ممتنع وفيما يلي نتكلّم في نقطتين :

الأُولى ـ في تحقيق حال أصل هذه التوقفات المذكورة في تقريب دورية كلّ من مخصصية السيرة ورادعية الآيات.

وليعلم انَّ مثل هذه المغالطة التي أوقعتهم في مثل هذا المأزق والدوران المغلق انَّما ينشأ من خطأ تورط فيه بعض المحققين عند تطبيق مشكلة الدور على بعض الموارد ، حيث تصور انَّ الدور المستحيل انَّما هو وجود ما يتوقّف على نفسه خارجاً ولهذا حاول إبطال وجوده وإثبات عدمه خارجاً لأنَّه لو وجد كان متوقّفاً على نفسه وهو محال ، مع انَّ المستحيل هو نفس توقّف الشيء على نفسه وعلّيته لنفسه سواءً وجد خارجاً أم لا فلا بدَّ من إبطال التوقّف في نفسه فنقول : امَّا دورية المخصصية من جهة توقفها على عدم الرادعية المتوقف على التخصيص ، فالجواب عليها : انَّ مخصصية السيرة تارة يدعى انَّها على تقدير ثبوتها تكون بنحو التخصيص بالمتصل لكونها قرينة لبّيّة كالمتصل بالخطاب المانع عن انعقاد إطلاق فيه ، وأُخرى يدعى انَّها على تقدير ثبوتها تكون بنحو التخصيص بالمنفصل الرافع

__________________

المحكومية بنظرهم لا في الواقع. ودعوى تمييزهم ذلك وانَّ الحكومة لا بدَّ وأَنْ تكون من قبل نفس المشرع كدعوى تمييزهم بين أحكامهم وأحكام الشارع فلا يكون سكوت الشارع عن أي سيرة كاشفاً عن إمضائها.

فانَّه يقال : انَّ هذا صحيح ، إِلاّ انَّه غير الحكومة المدعاة عند مدرسة الميرزا ( قده ) بل هو مؤيد لمنهجنا في أمثال المقام من عدم صلاحية إطلاق الآيات للرادعية.

٣٩٩

لحجية الإطلاق.

امَّا على التقدير الأول فمن الواضح انَّ مخصصية السيرة لا تتوقّف على شيء وانَّما تتوقف على أصل وجود السيرة تكويناً ، لأنَّها بوجودها التكويني الارتكازي يمنع عن انعقاد الإطلاق في الآيات سواءً استكشف إمضاؤها من قبل الشارع أو لا. وعليه فلا تتوقّف المخصصية بهذا المعنى على عدم الرادعية فلا دور بل تكون السيرة رافعة لموضوع الإطلاق.

وامَّا على التقدير الثاني ، فالمخصصية باعتبارها منفصلة فتتوقف على حجية السيرة بمعنى كاشفيتها عن ثبوت مفادها شرعاً وهو يتوقف على إحراز إمضائها شرعاً فلا يكفي مجرد وجودها تكويناً للمخصصية وحيث انَّ إحراز إمضائها متوقف على إحراز عدم رادعية المطلقات لها فتتوقف المخصصية على عدم الرادعية الموقوف على المخصصية فتأتي شبهة الدور ، ولكن هنا أيضا يجب أَنْ يقال بأنه تارة يُبنى على انَّ الكاشفية الوجدانية للسيرة متوقفة على عدم وجود دلالة وبيان من الشارع على الردع ولو لم يكن حجة على ما أشرنا إِليه في بحوث السيرة ، حيث قلنا انَّه يكفي في عدم حجية السيرة وجود اخبار وبيانات ولو ضعيفة السنة وغير حجة تردع عنها لأنَّ ذلك يكفي لتحقق احتمال الردع ولا بدَّ من إحراز عدمه وجداناً ، وأخرى يبنى على انَّ كاشفية السيرة فرع عدم وجود دلالة حجة على الردع فيكفي عدم ثبوت الردع ولو بحجة في تمامية كاشفية السيرة ، فعلى الأول لا تكون السيرة مخصصة ولا دورية لمخصصيتها ، لأنَّ مخصصيتها فرع عدم ذات البيان الرادع عن مفادها وهو موجود لتمامية إطلاق المطلقات ذاتاً على كلّ حال من غير أَنْ يكون متوقفاً على المخصصية. وعلى الثاني الّذي قد تستحكم شبهة الدور فيه ، لأنَّ المخصصية فرع عدم حجية الإطلاق وهو فرع المخصصية ، أيضا لا تكون السيرة مخصصة ولا مخصصيتها دورية ، والوجه فيه انَّ كاشفية السيرة تشبه البرهان الإنِّي أي كشف المعلول عن علته ، لأنَّه استكشاف للإمضاء من عدم الردع حيث انَّ عدم الردع معلول للإمضاء كما انَّ الردع كاشف عن عدم الإمضاء ومعلول له ومن الواضح انَّ عدم الردع الحجة المعلول لإمضاء الشارع للسيرة غير عدم الردع الحجة المعلول لحجية السيرة ومخصصيتها ، فانَّ الأول هو عدم الردع الحجة في نفسه بينما الثاني عدم

٤٠٠