بحوث في علم الأصول - ج ٤

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

المقصود نبأ الفاسق بالخصوص لا طبيعي النبأ يلزم أن تكون الجملة ( نبأ الفاسق إِن جاءكم به الفاسق فتبيّنوا ) وهذه شرطية مسوقة لتحقق الموضوع فلا مفهوم له لأنَّ نبأ الفاسق يكون مجيء الفاسق به محققاً له.

والجواب على هذا الاعتراض واضح فانَّ كون الموضوع طبيعي النبأ في الشرط والجزاء لا يعني وجوب التبين عن كلّ نبأ لمجرد تحقق مجيء الفاسق بطبيعي النبأ ، وانَّما يعني انَّ موضوع الحكم المذكور هو طبيعي النبأ وهو منحل لا محالة إلى أفراده فيكون كلّ نبأ له حكم مشروط هو وجوب التبين عنه إذا جاء به الفاسق فلا يثبت بمجيء الفاسق بنبإ وجوب التبين عن الحصص الأُخرى من النبأ التي لم يتحقق فيها الشرط بل وجوب التبين عنه بالخصوص وهذا واضح (١).

وهذا هو الجواب الصحيح لا ما في الدراسات من الالتزام باختلاف مقام الثبوت عن الإثبات وان كل قيد أو شرط في مقام الإثبات موضوع للحكم بحسب مقام الثبوت وان الحيثيات كلّها تقييدية ثبوتاً وإِن كانت بحسب مقام الإثبات تعليلية ، وعليه فالموضوع بحسب مقام الإثبات والدلالة طبيعي النبأ لا نبأ الفاسق فالشرطية غير مسوقة لبيان الموضوع ومع ذلك ثبوتاً ما يجب التبين عنه موضوعه خبر الفاسق لا طبيعي الخبر.

__________________

(١) يمكن أَن يصاغ الاعتراض بنحو آخر حاصله : ان أُريد بالنبإ القضية المخبر بها كان المعنى انَّ أيّ قضية إذا جاء بها الفاسق وجب التبين عنها حتى إذا جاء بها العادل أيضا ، وإِنْ أُريد منه نفس الإخبار والإنباء كان المعنى إِنْ أخبركم الفاسق فتبيَّنوا فيكون الشرط محققاً للموضوع لما تقدّم من انَّ خصوصية كون النبأ قد جاء به الفاسق التي هي الإنباء والإخبار إذا كانت هي الموضوع للجزاء فلا يعقل المفهوم ثبوتاً لأنَّ فرض مجيء العادل بالأخبار حينئذ فرض موضوع آخر غير ما يتعلّق به الحكم وينحل إليه في طرف الجزاء مع انَّ المفهوم لا بدَّ وأَنْ يكون انتفاء الحكم فيه عن نفس ما يتعلّق به حكم الجزاء. وإِنْ شئت قلت : استفادة المفهوم انَّما يكون على أساس تعليق المجعول في الجزاء على تحقق الشرط وهذا لا يعقل مع كون انتفاء الشرط محققاً لموضوع آخر غير ما يتعلّق به الحكم في طرف الجزاء إِذ معناه انَّ هذا ليس تعليقاً لحكم الجزاء بل تحديد لموضوعه وتخصيص له ببعض حصصه فتكون الشرطية بحسب الحقيقة مسوقة لتحديد موضوع الحكم وتقييده فلا يكون لها مفهوم.

والجواب : أولا ـ يمكن اختيار الشقّ الأول ودفع الإشكال بأنَّ النبأ الّذي جاء به الفاسق يجب التبين عنه إذا أُريد الاستناد فيه إلى إخباره وهذه الشرطية صادقة حتى مع فرض مجيء الفاسق بنبإ قد جاء به العادل أيضا. والحاصل : الجزاء وهو وجوب التبين ليس حكماً تكليفياً بل حكم وضعي بعدم حجية إخبار الفاسق فمدلول الآية النبأ إذا أخبر به الفاسق فلا يثبت باخباره وهذا صادق حتى في مورد مجيئه بما جاء به العادل.

وثانياً ـ يمكن اختيار الشقّ الثاني ودفع الإشكال بناءً على التقريب الآخر للمفهوم الّذي استقربه في الدراسات وهو التمسك بإطلاق المفهوم بناءً على انَّ المراد بالتبين تبين الحال لا الخبر.

٣٦١

إذ يرد عليه : أولا ـ انَّ ما ذكر من انَّ كلّ القيود لبّا راجعة إلى الموضوع صحيح فيما إذا أُريد بالموضوع ما يؤخذ مفروض الوجود في الجعل. وهو اصطلاح قد أسسه الميرزا ( قده ) ـ والموضوع بهذا المعنى منطبق على الشرط لأنَّه أيضا يؤخذ مفروض الوجود ، إِلاّ انَّ هذا غير الموضوع المراد في المقام وهو المقابل للشرط وهو بهذا المعنى لا برهان على إرجاع كلّ القيود إليه إذ يمكن لبّا جعل حكم تعليقي مشروط بشرط على موضوع بحيث يكون حكم ذلك الموضوع نفس القضية الشرطية التعليقية على ما تقدم في بحث الواجب المشروط حيث قلنا هناك انَّه لا برهان على رجوع كلّ الحيثيات التعليلية إلى التقييدية لبّا.

وثانياً ـ لو سلّم قيام برهان على ما ذكر فهو يقتضي تقييد الحكم لبّا بالشرط بمقداره لا أكثر وصاحب الشبهة في المقام يدعي انَّ الشرط مجيء الفاسق بطبيعي النبأ فيكون ذلك هو قيد النبأ لبّا أيضا لا أكثر والنتيجة كفاية مجيء فاسق بطبيعي النبأ لوجوب التبين عن كلّ نبأ حتى نبأ العادل ، وهذا نظير ما إذا قال أكرم كلّ فقير إذا نزل المطر فانه لا يتقيد وجوب إكرام الفقير إِلاّ بمجيء طبيعي المطر لا مجيء أمطار بعدد الفقراء.

وامَّا الأمر الثالث ، وهو إبراز المانع المنفصل عن مفهوم الآية فأهم ما ذكر بهذا الصدد انَّ مورد الآية هو الشبهة الموضوعية وخبر العادل ليس بحجة فيه جزماً لاشتراط البيّنة في الموضوعات وبما انَّ تخصيص المورد المتيقن غير ممكن فاما أَنْ تحمل الآية على معنى لا يكون لها مفهوم أو يقع التعارض بين مفهومها وما دلَّ على اشتراط البينة في الموضوعات وعلى كلّ حال لا يمكن إثبات الحجية في الشبهة الحكمية بها بعد ذلك.

وقد أجاب الشيخ ( قده ) على هذا الاعتراض بأنا نلتزم بدلالتها على حجية خبر العادل حتى في الشبهة الموضوعية غاية الأمر نقيدها بدليل اشتراط البينة بالتعدد وهذا من التقييد لإطلاق المفهوم في مورده وليس تخصيصاً له وهو جائز.

ولنا في المقام ثلاث كلمات :

١ ـ انَّ هذا الإشكال لا موضوع له أساساً لأنَّ الصحيح عندنا فقهيّاً حجية خبر الثقة في الموضوعات أيضا.

٢ ـ ان تقييد المورد عن المفهوم جائز وإِن لم يجز عن المنطوق ، لأنَّ دلالة المفهوم على

٣٦٢

الانتفاء انَّما كان ببركة إجراء الإطلاق في الحكم المعلّق لإثبات انَّه طبيعي الحكم وما يلزم من إخراج المورد عن المفهوم مجرد تقييد هذا الإطلاق فلو قال ( هل أكرم زيد؟

فقال : إذا كان الإنسان فقيراً فأكرمه ) ودلَّ دليل على انَّه حتى إذا كان زيد غير فقير يجب إكرامه لأنَّه هاشمي مثلاً فغاية ما يلزم منه تقييد إطلاق الحكم بوجوب الإكرام المعلّق على الفقير بغير الوجوب الثابت بعنوان الهاشمي.

٣ ـ وامَّا ما أفاده الشيخ ( قده ) فلو فرض انَّ النبأ المأخوذ في موضوع الآية آخذ كاسم جنس جامع بين الواحد والكثير ـ كما لو كان معناها النبأ إذا جاء به الفاسق فتبينوا ـ كان قيد التعدد بحسب الواقع تقييداً لطبيعي النبأ الواقع موضوعاً لا إِلغاءً كما أفاد الشيخ ( قده ) وامَّا إذا كان مأخوذاً بقيد الوحدة المستفادة ولو من التنوين فيكون مفاد الجملة النبأ الواحد لو جاء به الفاسق فتبيّنوا ومفهومه النبأ الواحد لو جاء به العادل فهو حجة وحينئذ يكون اعتبار التعدد والبيّنة إِلغاءً لقيد الوحدة لا تقييداً للطبيعي (١).

حجيّة الاخبار مع الواسطة :

ثمّ انَّ المحقّقين تعرضوا في ذيل البحث عن آية النبأ إلى مطلب كلّي لا ربط له بالآية وهو الإشكال المعروف في شمول دليل حجيته للاخبار مع الواسطة كما إذا أخبر علي بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم بن هاشم عن الإمام عليه‌السلام والإشكال يمكن تقريره بأحد تقريبين :

الأول ـ لزوم محذور اتحاد الحكم مع موضوعه وأخذه فيه وهو محال لأنَّ الحجية موضوعها الخبر الّذي يترتّب على ثبوت مفاده أثر شرعي عملي امَّا لكونه بنفسه أثراً

__________________

(١) إِلاّ انَّه لا إِشكال في انَّ اعتبار التعدد في الطبيعة المأخوذ معها قيد الوحدة بالتنوين ليس إلغاء بل تقييد كما إذا قال ( لو ظاهرت فأعتق رقبة ) ودلَّ دليل على اشتراط عتق رقبتين في الظهار.

ولعلَّ الأولى أن يقال : بأن اعتبار التعدد معناه بحسب الحقيقة ان موضوع الحجيّة هو اتفاق المخبرين على شيء واحد لا أصل إخبارهما وهذا عنوان آخر بحسب الفهم العرفي غير حجية خبر الواحد. إِلاّ انَّ هذا لا موجب له أيضا فانَّ المراد بالخبر الواحد لا بدَّ وأن يكون بحسب المتفاهم العرفي الخبر غير المفيد للعلم وهو صادق على البيّنة أيضا فاشتراط التعدد ليس إِلاّ تقييداً زائداً.

٣٦٣

شرعياً أو موضوعاً له وهذا يعني انَّ موضوع الحجية مركّب من جزءين الاخبار بشيء وترتّب الأثر على ذلك الشيء ، وفي المقام الخبر المباشر لنا وهو اخبار علي بن إبراهيم لا يكون اخباراً عن أثر شرعي لأنَّه يخبر عن اخبار أبيه وهو ليس أثراً شرعياً وانَّما هو اخبار عن موضوع لأثر شرعي إِلاّ انَّ هذا الأثر هو نفس حجية الخبر المراد ترتيبه على خبر علي بن إبراهيم وهذا يعني انَّ موضوع الحجية في الخبر مع الواسطة قد أخذ فيه نفس الحجية فاتّحد الحكم مع موضوعه.

الثاني ـ لزوم تأخر الموضوع عن حكمه وكونه في طوله وهو أشنع محذوراً ممّا سبق وذلك لأنَّ المطلوب من تطبيق دليل الحجية على خبر علي بن إبراهيم ـ مع الواسطة ـ إثبات الخبر المباشر وهو اخبار إبراهيم بن هاشم لتطبيق دليل الحجية عليه ثانياً للتوصّل إلى حكم الشارع ، ومن الواضح انَّ إثبات خبر إبراهيم بن هاشم لا يكون إِلاّ في طول الحكم بحجية الخبر إذ لا طريق لنا إلى اخباره إِلاّ حجية اخبار ابنه وهذا يعني انَّ خبر الواسطة الّذي هو الموضوع يكون في طول نفس الحجية التي هي الحكم وهذا محال.

والتقريبان للإشكال كما يلاحظ مختلفان ملاكاً ومورداً لأنَّ ملاك الأول اتحاد الحكم مع موضوعه وأخذه فيه وملاك الثاني طولية الموضوع عن الحكم ، كما انَّ الأول يجري في الخبر مع الواسطة لا الخبر المباشر فإذا كانت هناك وسائط مختلفة فالإشكال بتقريبه الأول جار فيها جميعاً عدا الخبر الأخير المتّصل بالإمام لأنَّه اخبار للأثر الشرعي مباشرة بينما الإشكال بتقريبه الثاني يجري في الخبر الواسطة دون الخبر الّذي نحرزه وجداناً لأنَّ إحرازه وجداني وليس في طول الحجية.

كما انَّ التقريب الثاني يبتني على خلط بين عالم الثبوت والإثبات فان ما هو في طول الحجية الوجود الإثباتي الإحرازي لخبر الواسطة وما يكون موضوعاً للحجية خبر الواسطة بوجوده الواقعي وهو ليس في طول الحجية.

والإشكال بكلا تقريبيه انَّما يرد فيما إذا افترض وحدة جعل الحجية للخبر وامَّا إذا فرض تعدد الجعول بعضها للواسطة وبعضها للخبر مع الواسطة فلا محذور كما هو واضح. ومنه يعرف انَّه لو كان دليل الحجية لبياً كالسيرة العقلائية فلا إشكال لأنَّها لو كانت غير قائمة على العمل بالأخبار مع الواسطة فالمحذور

٣٦٤

إثباتي وإِن كانت قائمة على العمل بها استكشفنا من ذلك تعدد الجعل لا محالة.

وكذلك لو كان دليل الحجية لفظيّاً غير ظاهر في وحدة الجعل كما إذا كان خبرياً غير ظاهر في الاخبار عن جعل واحد ، فانه حينئذ يتمسّك بإطلاق الخبر للخبر مع الواسطة أيضا ويستكشف منه تعدد الجعل لبّا.

والجواب عن الشبهة بكلا تقريبيها نوقعه في مقامين :

المقام الأول ـ في الإجابة على الشبهة بنحو فنّي يرفع موضوع الإشكال ويجعل من الخبر مع الواسطة خبراً بلا واسطة في إثبات قول المعصوم عليه‌السلام.

وهذا ما يكون بأحد وجهين :

الوجه الأول ـ انَّ المدلول الالتزامي للخبر مع الواسطة ـ ولنفترضها واسطة واحدة ـ كأخبار الشيخ الكليني ( قده ) عن الصفار عن المعصوم عليه‌السلام قضية شرطية هي انَّه لو لم يكذب الصفار فقد قال المعصوم عليه‌السلام هذا الحديث ، وحينئذ بالإمكان تطبيق دليل الحجية على خبر الكليني ( قده ) بلحاظ هذا الأثر الشرعي الّذي هو قول المعصوم عليه‌السلام لا بلحاظ حجية خبر الصفار ليلزم المحذورين المتقدّمين في الإشكال فنثبت بتطبيق دليل الحجية على خبر الكليني المحرز لنا وجداناً القضية الشرطية المزبورة ثم نثبت شرطها وهو عدم كذب الصفار ببيان انَّه يعلم إجمالاً امَّا قد أخبر الصفار أو لم يخبر ـ لاستحالة ارتفاع النقيضين ـ فلو كان قد أخبر واقعاً فهو لا يكذب بمقتضى دليل حجية خبر الثقة وهذا تطبيق له على موضوعه الواقعي فلا محذور فيه ، ولو كان لم يخبر أصلاً فهو لم يكذب أيضا وهذا يعني انَّه يعلم إجمالاً بأنَّ الصفار لم يكذب امَّا وجداناً أو تعبداً وبذلك ننتهي إلى إثبات الجزاء الّذي هو قول المعصوم عليه‌السلام.

وقد يستشكل في هذا الوجه بأحد إِشكالين :

١ ـ انَّ شأن هذه القضية الشرطية شأن أي مدلول التزامي للدليل يكون منوطاً ومشروطاً بثبوت مدلوله المطابقي لأنَّ الدلالة الالتزامية بحسب الحقيقة من دلالة المدلول على المدلول وهذا يعني انَّه لا بدَّ في المرتبة السابقة من إثبات خبر الصفار الّذي هو المدلول المطابقي لخبر الكليني بدليل الحجية لكي يثبت مدلوله الالتزامي ويتوصّل منه إلى قول المعصوم فيعود المحذور من رأس كما لا يخفى.

٣٦٥

والجواب ـ انَّ إناطة الدلالة الالتزامية بالمطابقية لا تعني انَّ الدلالة الالتزامية دلالة تقديرية مشروطة بثبوت المدلول المطابقي وجداناً أو تعبداً وانَّما تعني انَّ الدلالة والاخبار بالمدلول المطابقي هي المناط والحيثية التعليلية في الدلالة على المدلول الالتزامي وانَّ ملاك الكاشفية فيها واحد بحيث لو كذب ذلك الملاك سقطت الكاشفية فيهما معاً مع كون كلتا الدلالتين والإخبارين فعليين في عرض واحد. وعليه فلا تتوقّف حجية الاخبار عن المدلول الالتزامي على ثبوت المدلول المطابقي وجداناً أو تعبداً ليرجع المحذور.

٢ ـ انَّ المدلول الالتزامي دائماً هو الحصّة الخاصة من اللازم المقيد بالملزوم فالاخبار عن شرب زيد للسمّ اخبار عن موته بالالتزام ولكنه الموت الحاصل من شرب السمّ لا مطلق الموت ، وفي المقام أيضا يكون المدلول الالتزامي متقيّداً بالمطابقي أي انَّ الكليني ( قده ) يخبر بالملازمة عن المعصوم عليه‌السلام على تقدير عدم كذب الصفار لا مطلقاً بل مقيداً بصدور الاخبار منه الّذي هو المدلول المطابقي لخبر الكليني ، وهذا يعني ان الشرط في القضية الشرطية عدم كذب الصفار مع اخباره لا مطلق عدم كذبه ولو من باب السالبة بانتفاء الموضوع وهذا الشرط لا يمكن إثباته إِلاّ بتطبيق دليل الحجية على خبر الكليني بلحاظ مدلوله المطابقي فيعود المحذور.

والجواب : انَّه لو سلّم بكبرى هذا الكلام ـ ولم نسلم بها في محلّها مطلقاً ـ فالتخصيص والتقييد انَّما يكون في ما هو المدلول الالتزامي لا غير وفي المقام ما هو المدلول الالتزامي لخبر الكليني نفس الشرطية والملازمة مع بقاء الشرط على إطلاقه وهذا يعني انَّ الشرطية تتقيد بنحو قيد الواجب بصدور الاخبار عن الصفار أي انَّه يدلّ على شرطية مقترنة مع اخبار الصفار وامَّا شرطها فهو مطلق عدم كذبه المحرز امَّا بالوجدان أو التعبد بالنحو المتقدّم (١).

__________________

(١) الملازمة أمر ذاتي ثابت من أول الأمر لا انَّها تتحقق وتوجد بوجود الاخبار خارجاً والقضية الثابتة من أول الأمر انَّه لو أخبر الصفار ولم يكذب في اخباره لكان النصّ صادراً من المعصوم عليه‌السلام واخبار الصفار محقق لجزء من الشرط وجزؤه الآخر عدم كذبه فيه لا انَّ اخبار الصفار محقق لنفس الشرطية وعليه فالشرط عدم كذب الصفار في اخباره وهذا القيد لا يمكن إثباته إِلاّ بدليل الحجية إذ لا نحرز وجداناً انَّه قد أخبر وإحرازه بدليل الحجية رجوع إلى المحذور.

٣٦٦

الوجه الثاني ـ انَّ حجية خبر الثقة انَّما تكون على أساس كاشفية الوثاقة عن عدم كذب المخبر الجامع بين عدم كذبه من باب السالبة بانتفاء الموضوع أو السالبة بانتفاء المحمول. وهذه الكاشفية والطريقية مصبّها الحقيقي وثاقة المخبر لا اخبار الثقة وهي كما تقتضي الكشف عن صدق ما أخبر به المخبر ، كذلك وبنفس الدرجة تقتضي الكشف عن عدم صدور الاخبار من الثقة إذا ما أحرز عدم صدق القضية وعلم الثقة بذلك. وعلى هذا الأساس نقول في المقام بأنَّنا بمجرد وجدان الخبر مع الواسطة وهو خبر الكليني نعلم بقضية شرطية هي انَّه إذا لم يكذب الكليني ولم يكذب الصفار فقد صدر الحديث عن المعصوم عليه‌السلام والشرط في هذه الشرطية مجموع أمرين عدم كذب الكليني وعدم كذب الصفار.

وكلا هذين الشرطين يثبتان بدليل الحجية عن طريق تطبيقه على وثاقة الرجلين المحرزة وجداناً فان مقتضى وثاقة الكليني انَّه لم يكذب ومقتضي وثاقة الصفار انَّه لا يكذب أيضا وبذلك يحرز كلا الشرطين فيحرز الجزاء ، والحجية موضوعها على هذا التقرير وثاقة المخبر لا اخباره وهي محرزة وجداناً في كلّ من المخبر بالواسطة والواسطة فيكون هذا التطبيق نظير تطبيق دليل حجية الخبر على خبرين مباشرين أخبر كلّ منها بجزء موضوع الأثر الشرعي. ومعه يرتفع موضوع الإشكال من رأس فانَّه كان مبنيّا على افتراض طولية الإخبارين الموضوعين لدليل الحجية.

ثمَّ انَّه في الدورة السابقة ذكرنا في هذا المقام وجهاً آخر مبنيّا على مسالك جعل الطريقية والعلمية وحاصله : انَّ الكليني ( قده ) يخبرنا عن علمه التعبدي بقول المعصوم عليه‌السلام وبما انَّ الاخبار عن العلم الوجداني كالاخبار عن الواقع في الحجية ـ إذ يمكن له الاخبار عنه استناداً إليه ولا خصوصية للتلفظ بالأخبار عن الواقع ـ فيكون اخباره عن علمه التعبدي اخباراً عن المعلوم وهو قول المعصوم عليه‌السلام بناءً على جعل

__________________

وإِن شئت قلت : انَّ الشرط هو اخبار الصفار اخباراً غير كاذب بنحو العدم النعتيّ لا المحمولي وليست الملازمة أمراً جعلياً شرعياً ليمكن أن يكون الجزء الثاني المأخوذ في موضوع الجعل هو العدم المحمولي.

ولك أَن تقول بأنَّ الملازمة المقترنة شرطها أيضا مقترن لا محالة فلا بدَّ من إحراز ذلك بينما المحرز هنا الجامع بين عدم الكذب المقترن أو عدم الكذب غير المقترن المساوق مع كذب الملازمة نفسها.

٣٦٧

الطريقية والعلمية فيكون حجة بهذا الاعتبار.

إِلاّ انَّ هذا البيان لا يدفع روح الإشكال إذ كون الكليني ( قده ) يخبرنا عن علمه التعبدي فرع أن يكون خبر الواسطة ـ الصفار ـ علماً وحجة فيكون شمول دليل الحجية لخبر الكليني ولو بلحاظ الأثر الشرعي الّذي هو قول المعصوم فرع ثبوت الحجية للخبر وهو رجوع إلى المحذور كما لا يخفى. فالصحيح هو أحد الوجهين السابقين.

وجاء في كلام للمحقق الأصفهاني ( قده ) نقلاً عن بعض أجلة عصره ( قده ) محاولة في دفع المحذور وكأنَّها ناظرة إلى هذا المقام أعني دفع المحذور بإخراج الخبر مع الواسطة إلى خبر بلا واسطة. حاصلها : انَّ الاخبار عن الاخبار أمارة على الأمارة والأمارة على الأمارة أمارة على الواقع أيضا.

وأصل هذا الاتجاه في مقام دفع الإشكال وإِن كان فلتة ذكية منه ( قده ) في حلّ الإشكال إِلاّ انَّ ما قرر به لا يمكن المساعدة عليه إذ لو أُريد من كون الخبر مع الواسطة أمارة على الأمارة أنَّها أمارة خبرية على الواقع فهو واضح البطلان ، وان أريد انَّه كاشف وطريق ظنّي إلى الواقع فهذا صحيح إِلاّ انَّ الحجية موضوعها لم يكن مطلق الطريق والظنّ بالواقع وانَّما هو الظنّ الخبري ولو ادعي وحدة مناط حجية هذا الظن مع الظنّ الخبري الحاصل من الخبر بلا واسطة رجع إلى كلام سوف يأتي عن المحقق صاحب الكفاية مع جوابه.

المقام الثاني ـ في الإجابة على الشبهة مع حفظ موضوعها. وقد ذكر في هذا المجال وجوه من الأجوبة أهمّها اثنان :

١ ـ ما ذكره المحقق الخراسانيّ ( قده ) من انَّ الإشكال لو سلم فغايته عدم إمكان شمول دليل الحجية بإطلاقه اللفظي للخبر مع الواسطة لاستحالة أن تكون الحجية أثراً شرعياً مصححاً لنفسها في دليل جعل واحد. ولكن يعرف من الخارج انه لا فرق في الحجية شرعاً بين أثر وأثر فكما انَّ الاخبار عن موضوع أي حكم شرعي يكون حجة كذلك الاخبار عن موضوع هذا الأثر فيتعدّى إلى الاخبار مع الواسطة من ناحية الجزم بوحدة المناط.

وفيه : انَّ المناط الحقيقي في جعل الحجية هو الطريقية والكاشفية بلحاظ أغراض

٣٦٨

المولى الواقعية التي يكشف عنها قول المعصوم عليه‌السلام ومن الواضح انَّ كاشفية الخبر بلا واسطة عن هذا الغرض أقوى وأشدّ من كاشفية الخبر مع الواسطة ومعه لا يبقى جزم بعدم الفرق وأي غرابة في جعل الحجية لخصوص الخبر بلا واسطة فليست المسألة مربوطة بوجود أثر شرعي لكي يقال لا فرق بين أثر وأثر.

٢ ـ الجواب المدرسي المعروف والّذي قد أشار إلى جانب منه المحقق الخراسانيّ وإلى جانب آخر منه المحقق النائيني ( قده ) حيث انَّ الأول لاحظ محذور اتحاد الحكم وموضوعه في عالم الجعل ، والثاني لاحظه في المجعول.

وأيّاً ما كان فتارة : نلاحظ عالم جعل الحجية ـ المجعول بالذات ـ فيقال بأنَّ موضوع الجعل انَّما هو الخبر الّذي له أثر شرعي وهذا الأثر الملحوظ في طرف موضوع الجعل لو فرض انَّه نفس الحجية لزم الاتحاد بين الحكم وموضوعه وهو مستحيل. وهذا المحذور هو الّذي كان يعالجه صاحب الكفاية بقوله انَّ القضية طبيعية أي انَّ الحكم بالحجية موضوعه طبيعي الخبر الّذي له طبيعي الأثر ولا يلزم أخذ كلّ أثر أثر بخصوصه في طرف الموضوع فانَّ الإطلاق ليس إِلاّ رفضاً للقيود لا جمعاً لها وعليه فلا يلزم وحدة الحكم والموضوع في مرحلة جعل القضية الحكمية ، ومنه يعرف انه ليس مقصوده من القضية الطبيعية ان الحكم متعلّق بالطبيعة بما هي طبيعة لا بما هي خارجية كالإنسان نوع ليقال بأنَّ هذا خلاف تعلّق الأحكام بموضوعاتها بما هي خارجية وانَّما المقصود انَّ الملحوظ في طرف الموضوع في عالم الجعل ليس إِلاّ طبيعي الأثر لا الحجية بعنوانها فلا يلزم الاتحاد في هذا العالم.

وأُخرى : نلاحظ عالم المجعول بالعرض الّذي هو عالم فعلية ذلك الجعل على كلّ خبر خبر في الخارج فيقال بأنَّ شمول الجعل وفعليته للخبر مع الواسطة مستحيل لأنه فرع فعلية موضوعه بأن يكون ذا أثر شرعي ولا يكون ذا أثر إِلاّ بلحاظ الحجية نفسها إذ لا أثر له غيرها. وهذا هو الّذي عالجه الميرزا ( قده ) بأنه في عالم الفعلية يتكثر المجعول بتكثر الموضوعات وحينئذ ما يكون في طول فعلية الموضوع في الخبر مع الواسطة الحجية المجعولة له وما يكون فعلية الموضوع في طوله لأنَّه مأخوذ فيه الحجية المجعولة لخبر الواسطة وإحداهما غير الأُخرى فلم يتحد فعلية الحكم مع فعلية موضوعه.

٣٦٩

وبهذا يظهر الجواب على التقرير الثاني للإشكال فانه إذا أُريد تقرير الإشكال بلحاظ عالم الجعل فواضح انَّه في عالم الجعل يكون الموضوع هو مفهوم الخبر لا وجوده الخارجي ومفهوم الخبر ليس في طول الحجية وانَّما الّذي يكون في طول الحجية وجود خبر الواسطة : نعم لو كان المأخوذ في الموضوع كلّ خبر بعنوانه لزم أخذ الخبر الّذي يكون في طول الحجية بعنوانه في موضوعها فيلزم التهافت أو الخلف بحسب لحاظ الجاعل ولكن عرفت انَّ المأخوذ طبيعي الخبر (١). ولو أريد تقريره بلحاظ عالم المجعول والفعلية فخبر الواسطة في طول حجية مجعولة لخبر الكليني وهي غير الحجة المجعولة لخبر الواسطة فالموقوف غير الموقوف عليه كما هو واضح. هذا إِلاّ انَّ الإشكال الثاني كما أشرنا إليه في مستهل البحث فيه خلط بين عالم الثبوت والإثبات يعني انَّ الّذي يكون في طول حجية خبر الكليني ليس هو الوجود الواقعي لخبر الصفار بل الوجود التعبدي الّذي يعني التعبد بوجوده ومعنى التعبد بوجوده ترتيب ما لوجوده الواقعي من أثر شرعي الّذي هو الحجية بحسب الحقيقة فلو كان هناك إشكال فهو الإشكال الأول وهو أخذ الحجية في موضوع الحجية لا الطولية وتولد الموضوع عن الحكم. والظاهر انَّه إلى هذا أشار صاحب الكفاية ( قده ) حينما أفاد بأنَّه لا وجه بعد دفع الإشكال الأول بالقضية الطبيعية إلى الاستشكال ثانياً بلحاظ خبر الواسطة.

وهذا الجواب صحيح لا غبار عليه.

يبقى انَّ الميرزا ( قده ) له كلامان آخران في المقام.

الأول ـ انَّه ادعى عدم مجيء المحذور رأساً بناءً على مسالكه في باب الحجية من انَّ المجعول فيها هو الطريقية والعلمية لأنَّها على هذا المسلك تكون الحجية مجرّد اعتبار

__________________

(١) لا يقال : يمكن جعل هذه النكتة جواباً آخر عن الإشكال بلحاظ عالم الجعل برأسه فيقال بأنَّه حتى لو كان المأخوذ في عالم الجعل كلّ خبر أو كلّ أثر بعنوانه إِلاّ انَّ المأخوذ مفهومه لا مصداقه الّذي هو الحجية بالحمل الشائع فلا تهافت وأيّ مانع من أن يؤخذ مفهوم شخص الحكم في موضوعه.

فانَّه يقال : هذا خلف في عالم اللحاظ لأن الجاعل يرى من خلال جعل القضية انَّ الموضوع مفروض ومقدر وجوده بقطع النّظر عن الحكم الّذي يراد ترتيبه عليه فلو فرض أخذ تصوره ومفهومه في طرف الموضوع كان معناه فرضه ثابتاً ومقدر الوجود وهو خلف ؛ والحاصل : أخذ مفهوم الحكم في طرف الموضوع معناه لحاظه بالنظر الفراغي وهو لا يجتمع مع نظارة الحكم التي تستدعي ملاحظته غير مفروغ عنه بل بنحو يراد إيقاعه وتفريعه فانه خلف أو تهافت في اللحاظ والنّظر.

٣٧٠

ما ليس بعلم علماً وهو ليس كتنزيل المؤدّى أو الظنّ أو جعل الحكم المماثل ممّا يحتاج فيه إلى ملاحظة أثر المنزل عليه أو الحكم المماثل بل يمكن الاعتبار بلا ملاحظة أي أثر غاية الأمر انَّ هذا الاعتبار يكون لغواً حيث لا يترتب عليه نتيجة عملية ويكون رافعاً لموضوع قبح العقاب بلا بيان حيث يكون متعلّقه تكليفاً ، وهذا حاصل في المقام إذ يلزم من اعتبار الخبر مع الواسطة علماً بخبر الواسطة وخبر الواسطة علماً بمؤدّاه ـ وهو قول المعصوم عليه‌السلام ارتفاع موضوع القاعدة كما هو الحال في العلم بالعلم بالتكليف فان هذا بيان أيضا رافع للتكليف وانَّما تلزم اللغوية حيث لا يكون جعل الطريقيات والعلميات منتهياً إلى العلم بالحكم أو العلم بالعلم به.

وفيه : انَّ أُريد جعل خبر الكليني ـ الخبر مع الواسطة ـ علماً بقول المعصوم عليه‌السلام مباشرة فهو لا يمكن لأنَّ دليل الحجية يجعل الخبر علماً بما هو مدلوله وليس مدلول خبر الكليني قول المعصوم عليه‌السلام وإِن أُريد جعله علماً بمدلوله فان أُريد انَّه علم بذات مدلوله وهو ذات اخبار الصفار فهذا لا يفيد في التنجيز أو التعذير فان حاله حال العلم الوجداني بذات خبر من دون علم بحجيّته ولا يلزم من اعتبار ذلك واعتبار واقع ذلك الخبر علماً اعتبار الاخبار به علماً بالعلم فان اللوازم والملازمات لا تثبت بين الاعتبارات وانَّما بين العلمين الواقعيين كما هو الحال في الأصول المثبتة. وإِن أُريد انَّه علم به بما هو حجة وعلم أي انَّ اخبار الكليني عن تحقق موضوع الحجية ـ وهو خبر الصفار ـ بما هو موضوع للحجية والعلمية أي اخباره عن المجعول الجزئي لدليل الحجية يعتبر علماً بالعلم فهذا معناه أخذ الحجية الّذي هو الحكم في موضوع شخصه فيعود المحذور.

نعم لو اكتفينا في رفع التأمين والتنجيز العقليين بالعلم بكبرى الجعل والعلم بصغراه بلا حاجة إلى العلم بالنتيجة التي هي فعلية المجعول تمّ ما أفاده ( قده ) لأنَّ اخبار الكليني علم بذات خبر الصفار الّذي هو صغرى لكبرى الحجية المعلومة بالوجدان والمفروض انَّ العلم بالصغرى وحده بيان رافع للتأمين في حال العلم بالكبرى فكذلك في المقام يكون العلم التعبدي بها رافعاً له إِلاّ انَّ هذا المبنى لا يقبله الميرزا ( قده ) فانه يشترط العلم بالمجعول الفعلي.

٣٧١

الثاني ـ أبرز الميرزا ( قده ) في المقام إشكالاً ثالثاً حاصله : لزوم اتحاد الحاكم والمحكوم لأنَّ حجيّة خبر الكليني منقحة لموضوع حجيّة خبر الواسطة وبذلك تكون حاكمة عليها فإذا كان دليل الحجّيتين واحداً لزم اتحاد الحاكم والمحكوم وهو محال.

وقد عرض هذا الإشكال في فوائد الأصول ببيان ساذج من دون أن يبيّن وجه المحذور في اتحاد الحاكم والمحكوم ، وكأنه لأن الحاكم والمحكوم متقابلان فلا يمكن اتحادهما ولهذا أجاب على الإشكال بأنَّ جواب الانحلال المتقدّم بنفسه جواب على هذا الإشكال لأن الحاكم انَّما هو حجية خبر الكليني والمحكوم حجية خبر الواسطة فلا اتحاد ، وبهذا يكون هذا الإشكال نفس إشكال الطولية المتقدم مع تغيير في العبارة إلى الحاكم والمحكوم.

ولكن في أجود التقريرات قد بيّن نكتة فنيّة للإشكال حاصله : انَّ الحكومة شأن باب الأدلة ومقام الإثبات والدلالة لا مقام الثبوت إذ الحكومة عبارة عن القرينيّة بلسان الحكومة والتفسير وهو انَّما يكون بلحاظ مقام الإثبات والكشف ومعه لا تكون الحكومة معقولة مع وحدة الدليل لأنَّ التفسير والقرينية فرع وجود كلامين ودالّين ليكون أحدهما قرينة على المراد من الآخر. وهذا البيان لا يكفي في دفعه مسألة الانحلال لأنَّ الانحلال انَّما هو من شئون عالم المجعول الّذي هو أجنبي عن مفاد الدليل والجعل.

وقد أجاب عليه بما حاصله : انَّ الحكومة على ثلاثة أقسام :

١ ـ الحكومة التفسيرية ـ كما إذا فسّر مراده من العالم مثلاً بالعارف.

٢ ـ الحكومة التي هي تخصيص بلسان رفع الموضوع كما إذا قال ( لا شك لكثير الشك ) وهذان القسمان لا بدَّ فيهما من وجود دليلين ولا يمكن اجتماع الحاكم والمحكوم فيهما في دليل واحد إذ لا يعقل مع وحدة الجعل والدليل المفسّر أو المخصص.

٣ ـ ما يكون حكومة لبّا ولساناً بأن يكون الحاكم متصرفاً في موضوع الدليل بمعنى انَّ الدليل الأول يدلّ على ثبوت الحكم على موضوعه المقدر الوجود والدليل الثاني ينقح في مجال تطبيق الدليل الأول وفعليته ـ الّذي هو أجنبي عن مدلول الدليل والجعل الكلّي ـ موضوعاً له نظير حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي والأمارات على

٣٧٢

الأُصول أو الأمارات والأُصول على الأحكام الواقعية المحرزة بها. ومثل هذا القسم لا بأس في وقوعه بدليل واحد ، ومحل الكلام من هذا القبيل فلا محذور إِذن في اتحاد الحاكم والمحكوم واجتماعهما في دليل واحد.

والتحقيق في تقسيم الحكومة ـ بالمعنى الأعم ـ من حيث ما يرتبط بالمقام أن يقال انَّها على أربعة أقسام :

١ ـ الحكومة بملاك النّظر إلى الدليل المحكوم وتفسيره ـ وهذا هو القسم الأول عنده ـ كما إذا قال أعني بالعالم الفقيه.

٢ ـ الحكومة بملاك النّظر إلى مدلول الدليل الآخر بما هو وفي نفسه مع قطع النّظر عن الدليل المثبت له ويكون الناظر بصدد علاج الشبهة الحكمية من قبيل قوله عليه‌السلام لا شك لكثير الشك ـ وقد جعله القسم الثاني ـ فانَّ النّظر هناك إلى أحكام الشك في الصلاة في نفسها وبقطع النّظر عن الدليل المثبت لها بافتراض ثبوتها في المرتبة السابقة في نفسها من أجل نفيها عن شك كثير الشك وكذلك لا ربا بين الوالد والولد ولا ضرر ولا حرج ، فانَّ كلّ هذه الأدلة تنظر إلى الأحكام الثابتة في موارد موضوعاتها بقطع النّظر عن نوع الدليل الدال عليها ـ وهذا هو القسم الّذي اصطلح عليه بالتخصيص بلسان الحكومة ونفي الموضوع ـ وهذا قد يكون بلسان نفي الموضوع وقد يكون بلسان نفي الحكم كما في لا حرج.

٣ ـ أن يكون الحاكم غير متصرّف في مفاد الدليل المحكوم أصلاً وانَّما هو رافع أو محقق لموضوعه حقيقة وهو المسمّى بالورود.

٤ ـ كالقسم الثالث مع فرض كون النفي والإثبات للموضوع تعبديّاً لا حقيقياً كما في إثبات موضوع الأحكام الواقعية أو الظاهرية بالأُصول والأمارات.

تختلف هذه الأقسام للحكومة في الأحكام فالثلاثة الأُولى تكون الحكومة فيها واقعية والقسم الأخير تكون الحكومة فيه ظاهرية أي انَّ الأثر الشرعي لذلك الموضوع يثبت فيه ظاهراً وفي طول الشك لا واقعاً. كما انَّ القسم الرابع لا يحتاج فيه إلى نظر الدليل الحاكم لا إلى الدليل المحكوم ولا إلى مفاده بما هو هو بخلاف الأقسام الأُخرى فانَّه لا بدَّ فيها من النّظر امَّا إلى الدليل المحكوم أو إلى مفاد دليل أي إلى أثر وحكم

٣٧٣

شرعي مترتب على ذلك الموضوع لنفيه أو إثباته حقيقة أو تعبداً.

وبما ذكرنا ظهر انَّ الأمثلة المذكورة للميرزا ( قده ) لم تقع موقعها الفنّي فان حكومة أدلة الأمارات والأصول المنقحة لموضوع الأحكام الواقعية من القسم الرابع وامَّا حكومة الأمارات على الأصول أو الأصول السببي على المسببي فهي حكومة واقعية من القسم الثاني لأنَّ دليل الحجية للأمارة أو للأصل السبب مخصص لدليل الأصل.

وامَّا أصل الإشكال فنقول : انَّ اتحاد الحاكم والمحكوم محال في القسم الأول فقط أي الحكومة بين نفس الكلامين وامَّا الأقسام الثلاثة الأُخرى بما فيه القسم الثاني فوحدة الحاكم والمحكوم فيها بمكان من الإمكان لأن النّظر إلى ذات المدلول والأثر الشرعي بقطع النّظر عن الدليل المثبت له ، والمراد بالنظر مجرّد الفراغ عن ثبوته فيعقل أن يكون الأثر الثابت بإطلاق دليل محكوما لإطلاق آخر له لأنَّه قد أخذ في موضوعه طبيعي الحكم والأثر المجعول حتى بشخص هذا الجعل ومن هذا الباب ـ أي القسم الثاني ـ تقدّم الأصل السببي على المسببي رغم كونهما من سنخ واحد. ومحل كلامنا من القسم الرابع الّذي أيضا يعقل فيه وحدة الحاكم والمحكوم.

الاستدلال بآية النفر :

ومن الآيات التي يستدلّ بها على حجية خبر الواحد آية النفر وهي قوله تعالى في سورة التوبة ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (١).

وقد شدّد بعضهم على دلالتها حتى جعلتها مدرسة المحقق النائيني ( قده ) أوضح الآيات دلالة في مقابل من شدد على عدم دلالتها حتى جعلها كحديث ( من حفظ على أُمّتي أربعين حديثاً ... إلخ ) (٢) من حيث وضوح عدم دلالتها على الحجية.

وأيّاً ما كان فقد قرّبت دلالتها بوجوه عديدة بينها قدر مشترك هو انَّها تدلّ على

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) جامع أحاديث الشيعة ، ج ١ ، باب حجية اخبار الثقات ، حديث ٦٨ ـ ٧٣.

٣٧٤

وجوب التحذّر مطلقاً حتى في صورة عدم حصول العلم من اخبار المنذر وهو يلازم الحجية ، وتختلف بعد ذلك في كيفية استفادة وجوب التحذر مطلقاً من الآية على ما سيظهر من خلال استعراض الوجوه التالية :

الوجه الأول ـ استفادة وجوب التحذّر من كلمة ( لعلَّ ) الموضوعة للترجّي ، ومقتضى أصالة التطابق بين عالم الإثبات والثبوت وإِنْ كان انَّ الداعي هو الترجّي الحقيقي إِلاّ انَّ ذلك باعتباره مستحيلاً في حقّه تعالى يحمل على أقرب الدواعي الجديّة إِليه وهو المطلوبية والمحبوبية ، ومطلوبية التحذر تلازم وجوبه إذ لو كان هناك مقتضٍ له فلا محالة يجب ، لأنَّ المتحذر منه في المقام العقاب الأُخروي المساوق احتماله للتنجز ، وإِنْ لم يكن له مقتضٍ فلا معنى له ولا مطلوبية له حتى استحباباً إذ لا موضوع له ، وبالتمسّك بإطلاق الآية لحالات عدم حصول العلم من اخبار المنذر نثبت مطلوبية التحذّر حتى في حالة عدم العلم وهو يساوق حجيته.

الوجه الثاني ـ انَّ التحذر جعل في الآية غاية للإنذار الواجب ، وغاية الواجب واجبة كما إذا قيل توضّأ لتصلّي فيثبت مطلوبية التحذر وبمقتضى التمسّك بإطلاق الغاية والمغيَّا نثبت وجوبه حتى مع عدم حصول العلم من اخبار المنذر.

الوجه الثالث ـ انَّ وجوب الإنذار فيها مطلق شامل حتى لصورة عدم حصول العلم من اخبار المنذر ووجوبه يلازم وجوب القبول والتحذر وإِلاّ كان لغواً.

ولنا حول الاستدلال بالآية ثلاث كلمات :

الكلمة الأُولى ـ في ملاحظة القدر المشترك المفترض في كلّ الوجوه من انَّ وجوب التحذّر والقبول ملازم مع الحجية فانَّه يمكن أَنْ يناقش فيه بوجوه :

الأول ـ انَّ هناك حالتين لا بدَّ من التمييز بينهما :

الأُولى : حالة الشك في التكليف الّذي يكون مجرى للبراءة والتأمين عقلاً أو شرعاً بحيث يكون رفع اليد عنه وثبوت التنجيز بحاجة إلى قيام الحجة على التكليف.

الثانية ـ حالة الشك في التكليف الّذي يكون في نفسه مجرى لأصالة الاشتغال وعدم العذر كما في الشبهة قبل الفحص أو المقرون بالعلم الإجمالي ، وفي هذه الحالة يكون التنجيز لنفس الشك لا لقيام الحجة على الإلزام وإِنْ كان قيامها قد يؤدّي إلى

٣٧٥

مزيد التحريك وشدة اهتمام المكلّف بالواقع نتيجة قوة الاحتمال عنده.

ومن الواضح انَّ وجوب التحذّر عند قيام الخبر انَّما يكشف عن الحجية في مثل الحالة الأُولى لا الثانية ، فلا بدَّ من ملاحظة انَّ الآية ناظرة إلى أي الحالتين فنقول :

هناك قرينة في الآية تقتضي ظهورها في النّظر إلى الحالة الثانية لا الأُولى وهي تعليل وجوب الإنذار بالتحذر في قوله تعالى ( لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ، فانَّ تعليل الأمر بشيء بعلّة ظاهر في انَّ ذلك الشيء المأمور به ليس تحققه شرطاً في مطلوبية تلك العلّة ومن مقدمات وجوبه بل شرط في وجوده ومن مقدمات وجوده ، ولهذا يصحّ قولك ( توضأ لكي تصلّي ) ولا يصحّ ( أنذر لكي تفي بنذرك ) ، لأنَّ الوضوء في الأول من مقدمات الوجود والنذر في الثاني من مقدمات الوجوب ولا معنى للأمر بإيجاد شرط وجوب شيء ثم تعليله به. إِذن فظاهر هذا التعليل انَّ تحذرهم مطلوب في نفسه بقطع النّظر عن الإنذار وإِنَّ الأمر بالإنذار لمجرّد تحقيق التحذّر المطلوب ومن شرائط وجوده خارجاً ، وهذا يعني انَّ الإنذار ليس هو سبب التنجيز ووجوب التحذر بل التنجيز ووجوب التحذر ثابت مطلقاً والإنذار ممّا يساعد على وقوعه خارجاً حيث يكون منبهاً ومحفزاً على تحرّك المكلّفين ومزيد تخوفهم من النتائج المترتبة على المخالفة وامَّا التنجيز فثابت من أول الأمر بنفس الشبهة والشك كما هو الغالب بالنسبة إلى أصحاب القرى في ذلك الزمان ، إذ كانوا يعلمون إجمالاً بوجود تشريعات ونزول الوحي باحكام في حقّ العباد وهو احتمال منجز امَّا للعلم إجمالاً بالتكاليف في ضمنها أو لكون الشبهة قبل الفحص ، وهكذا يثبت انَّ الآية ناظرة إلى الحالة الثانية التي لا يكون وجوب التحذّر فيها ملازماً مع الحجية.

الثاني ـ انَّ التحذّر قد رتّب على إنذار المخبر لا اخباره ، والإنذار هو الاخبار الموجب للخوف أي الاخبار عن أمر مخوف فإذا لم يكن هناك موجب للخوف في المرتبة السابقة على الاخبار لا يصدق عليه عنوان الإنذار. والملاك للخوف في المقام وإِنْ كان يحتمل فيه بدواً احتمالان أحدهما ـ العقاب الناجم عن تنجز التكليف ، والآخر ـ مخالفة الحكم الشرعي ولو لم يكن عقاب فانَّ الصديقين يرون مجرّد ذلك محذوراً يخاف منه ، إِلاّ انَّه لا إِشكال في انَّ الظاهر من الآية بحسب المتفاهم العرفي هو الأول لأنَّه الأمر

٣٧٦

المخوّف نوعاً وعموماً لا الثاني ولا أقلّ من عدم ظهورها في الثاني الكافي في الإجمال وعدم صحّة الاستدلال. وعليه لا يمكن استفادة الحجية من التحذّر المذكور لأنَّه تحذّر في مورد الإنذار لا الاخبار وهو لا يكون إِلاّ مع تنجز العقاب في المرتبة السابقة ومثله لا يكشف عن الحجية بل يستحيل أَنْ يكشف عنها لأنَّه في طول الحجية والتنجز ، وهذه قرينة أُخرى على انَّ الآية ناظرة إلى الحالة الغالبة على أهل القرى آنذاك من تنجز الشبهات لكونها قبل الفحص أو مقرونة بعلم إجمالي.

الثالث ـ انَّ غاية ما يلزم من الآية لو سلّم دلالتها وجوب التحذّر في مورد الخبر الدال على الإلزام ، وهذا غير الحجية المطلوبة وانَّما هو وجوب الاحتياط ولكن في خصوص الشبهة التي قام فيها خبر على الإلزام لأنَّها تأمر بالتحذر وهذا لا يعقل إطلاقه بلحاظ المدلول الترخيصي للخبر ، كما انَّ لسان الجعل فيها للخبر الإلزاميّ ليس لسان إثبات المؤدّى بل لسان التحذر ولزوم الاحتياط ، وممّا يؤيد ذلك مجيء الإنذار مطلقاً بلا فرض عدالة في المنذر أو وثاقة حتى اضطرَّ المستدلّ بها أَنْ يقيد مفادها بأدلة خاصة خارجية (١) مع انَّ هذا في نفسه غريب عرفاً وبحسب المرتكزات العقلائية في باب الحجية والأمارية بل يكون المناسب مع هذا الإطلاق أَنْ يكون الحكم المذكور روحه إيجاب الاحتياط وتنجز الأحكام الواقعية في مورد إنذار المنذرين.

الكلمة الثانية ـ في الإشكال على الوجوه الثلاثة التي تقدّمت في إثبات القدر المشترك فيرد على الوجه الأول منها.

أولا ـ انَّا لو سلّمنا دلالة كلمة ( لعلَّ ) على المطلوبية فالحذر المطلوب إِنْ كان هو الحذر من العقاب المساوق مع وجوب التحذر بلحاظه ولا بديته فهذا الفرض يساوق عرفاً كون الإنذار بلحاظ العقاب أيضا ، لأنَّ ظاهر الآية انَّ الحذر من نفس الشيء المخوف المنذر به وهو يعني انَّ الإنذار فرض في طول العقاب والمنجزية على ما تقدّم ، وإِنْ كان المراد الحذر من المخالفة للحكم الواقعي بعنوانها فمطلوبية هذا الحذر لا يلزم

__________________

(١) قد يقال : انَّ صدر الآية خطاب للمؤمنين ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) والمنذرين هم طائفة منهم بصريح الآية فيكون ذلك مساوقاً مع الوثاقة أو العدالة.

٣٧٧

منها وجوبه بل يمكن أَنْ يكون مستحبّاً كما هو مقتضى حسن الاحتياط دائماً.

وثانياً ـ ما أفاده المحقّق الأصفهاني ( قده ) من انَّ كلمة ( لعلّ ) ليست موضوعة للترجّي على ما يظهر من تتبع موارد استعمالاته بل موضوعة لترقّب مدخولها الّذي هو جزء من الترجّي سواءً كان محبوباً أو مكروهاً مخوفاً ، كما في الدعاء « لعلَّك عن بابك طردتني ولعلَّك وجدتني ألف مجالس البطالين فبيني وبينهم خليتني » ومعه لا يمكن استفادة مطلوبية التحذر من الآية.

وهذا الكلام متين ، إِلاّ انَّه بحاجة إلى تكميل ليكون إبطالاً لهذا الوجه ، إذ يمكن أَنْ يقال بأنا نستفيد مطلوبية مدخول الترقّب في المقام من السياق الدال على انَّه من الترقّب المطلوب لا المكروه. ووجه التكميل انَّ مدلول الكلمة إذا كان هو الترقّب فيكفي في إشباع حاجة هذا المدلول ترقّب حصول العلم من إيجاب الإنذار فلا يمكن إثبات مطلوبية التحذر حتى في صورة عدم حصول العلم من الإنذار.

وامَّا الوجه الثاني ـ فيرده انه إِنْ أُريد دعوى الملازمة العقلية بين وجوب شيء ووجوب غايته من باب انَّ الاهتمام بذي الغاية طريقي معلول للاهتمام النفسيّ بالغاية فلا محالة يكشف عن وجوب الغاية إِلاّ إذا كانت غير اختيارية والتحذر ليس كذلك. ففيه : إنكار الكبرى باعتبار انَّه قد يفرض انَّ المولى يأمر بسدّ باب عدم الغاية من ناحية بعض مقدماتها دون بعض ، فانَّ حفظ الشيء عن طريق مقدمة مغاير عن حفظه من ناحية مقدمة أُخرى من دون تلازم بينهما فلا يمكن أَنْ يستكشف من إيجاب حفظ أمر من ناحية بعض المقدمات إيجابه مطلقاً.

وإِنْ أُريد دعوى الملازمة العرفية وانَّ الأمر بشيء لغاية ظاهر عرفاً في انَّ المأمور به الحقيقي انَّما هو تلك الغاية ، كما إذا قيل ( لا تشرب الخمر لإسكارها ) أو ( اذهب إلى المسجد لكي تصلّي ) فالكبرى تامة ، ولكنه من حيث الصغرى مخصوص بما إذا كان الخطاب موجهاً نحو مكلّف واحد لا ما إذا كان الأمر بذي الغاية للمنذِرين ـ بالكسر ـ والغاية فعل المنذَرين ـ بالفتح ـ لأنَّ الأمر بالإنذار في حقّ المنذرين لا يمكن أَنْ يكون مجرّد استطراق إلى أمرهم بالتحذير إذ ليس التحذر فعلهم بل فعل المنذَرين ـ بالفتح ـ وإِنْ شئت قلت : انَّ التحذر الّذي هو فعل المنذَرين ـ بالفتح ـ ليس مقدوراً للمنذرين

٣٧٨

ـ بالكسر ـ فلا يكون الأمر بالإنذار ظاهراً في كونه طريقيّاً (١).

وامَّا الوجه الثالث ، فيرد عليه انَّه لا محذور في أَنْ يكون الخطاب أوسع من دائرة الغرض والملاك احتياطاً من قبل المولى وتحفظاً على أغراضه الواقعية وحرصاً عليها ، حيث انَّه لو قيد وجوب الإنذار بصورة حصول العلم فسوف لا ينذر من لا يحرز انَّ إنذاره يسبّب حصول العلم للمنذَر ـ بالفتح ـ فضلاً عمّا إذا كان يحرز العدم مع انَّه في الواقع لو كان قد أنذر لعله كان يحصل العلم للمنذرين ، فالمولى حفظاً لتحقق غرضه وهو إيصال الأحكام إلى المكلّفين لكي يتحذّروا يجعل الأمر بالإنذار مطلقاً من دون لزوم لغوية من ناحية عدم الحجية إذ يكفي عقلائياً وعقلاً في تبرير إطلاق وجوب الإنذار ما ذكرناه ، وهذا له أمثلة كثيرة في الفقه نظير إيجاب التعريف باللقطة سنة كاملة مثلاً حتى مع اليأس عن حصول صاحبها. وهكذا يتبيّن عدم تمامية شيء من وجوه الاستدلال بالآية على حجية خبر الواحد.

الكلمة الثالثة ـ في استعراض مهم الاعتراضات التي وجهت في كلمات الأصحاب إلى الاستدلال بآية النفر ونقتصر منها على ثلاثة :

الأول ـ دعوى المنع عن إطلاقها لصورة عدم حصول العلم من الإنذار لعدم كونها في مقام البيان من ناحية وجوب التحذر بل من ناحية وجوب النفر والإنذار ومن دونه لا يتمّ الإطلاق.

وفيه ـ إِنْ أُريد تسجيل هذا الإشكال على الوجه الأول ، فالجواب انَّه بناءً عليه تكون مطلوبية التحذر مستفادة من لفظة ( لعل ) ومعه يكون ذيل الآية وضعاً متعرضاً لإفادة مطلوبيته فيتمسّك بإطلاقه كما يتمسّك به بالنسبة إلى وجوب الإنذار. وإِنْ أُريد تسجيله على الوجهين الثاني أو الثالث حيث كان يستفاد بناءً عليهما وجوب التحذر بالملازمة من وجوب الإنذار من باب كونه غاية له أو بدلالة الاقتضاء ، فمن الواضح انَّهما لا يتوقفان على إجراء الإطلاق في التحذر بل في وجوب الإنذار والآية في مقام

__________________

(١) لا يبعد دعوى كفاية ظهور الآية في طريقية الأمر بالإنذار للتحذر في الدلالة على مطلوبية أصل التحذر سواء من المنذِر أو المنذَر.

٣٧٩

البيان من ناحيته بلا إشكال.

الثاني ـ ما أشار إليه الشيخ من انَّ وجوب الحذر مرتب على الإنذار المأمور به والإنذار المأمور به هو الإنذار بما هو من الدين وحكم الله الواقعي ، إذ لا يعقل أَنْ يأمر بالإنذار بما ليس منه ، كما انَّ ظاهر الآية أيضا انَّ متعلّق الإنذار نفس ما تفقّه فيه المنذر من الدين ، وعليه فغاية ما تدلّ عليه الآية وجوب التحذر فيما إذا كان إنذار المنذر بالدين ، ومثل هذا التحذر الواجب لا يمكن أَنْ يكون مساوقاً مع الحجية لأنَّه أُنيط بكون الإنذار مطابقاً للواقع فمع إحراز هذا القيد يعلم بالحكم الواقعي فلا معنى للحجية عندئذ ومع الشك فيه يشك في موضوع وجوب التحذر.

وبهذا البيان ظهر أولا ـ عدم رجوع هذا الاعتراض إلى الاعتراض السابق. وثانياً ـ عدم صحة ما أُجيب به عليه من انَّ الحجية والتعبد يحرز كون المنذر به من الدين ، فانَّ هذا فرع أَنْ يستفاد من وجوب التحذر المفاد بالآية ما يساوق الحجية وقد عرفت انَّه غير معقول لأنَّه قد أخذ في موضوع وجوب التحذر أَنْ يكون المنذر به من الدين.

والجواب ـ انَّ وجوب التحذّر في مورد الإنذار بالدين معناه جعل المنجزية والاهتمام للواقع في مورد الإنذار وهذا بنفسه لسان من ألسنة جعل الحجية وإيجاب الاحتياط على ما تقدّم منّا في حقيقة الحكم الظاهري ، نظير قوله عليه‌السلام ( لا ينبغي التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا ) (١) وليس الحكم الظاهري حكماً مستقلاً عن الحكم الواقعي ليكون له موضوع واقعي مستقل عنه بل هو طريق محض إليه ، وهذا معناه انَّ وجوب التحذر المفاد بالآية ليس حكماً موضوعه الإنذار بالواقع بل هو حكم بمنجزية الواقع المنذر به ولزوم التحذر من تبعة مخالفته فكأنَّه قال لا بدَّ من التحذر من تبعة مخالفة الواقع المنذر به.

الثالث ـ ما جاء في الكفاية من انَّ الآية تدلّ على حجية قول المنذر المتفقه في الدين وهذا لا يصدق على كلّ راوٍ ، بل الإنذار بنفسه فرع فهم المعنى ليكون منذراً بما يترتّب عليه من تبعات فلا يصدق على مجرّد الاخبار ، فالآية ، إِنْ دلّت على الحجية

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ، ج ١ ، باب حجية اخبار الثقات حديث ٣.

٣٨٠