بحوث في علم الأصول - ج ٤

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

آيات الحجية ولو بعضها عن آيات النهي لأن الأخيرة واردة في السورة المكيّة بينما آية النفر واردة في سورة المائدة التي هي آخر سورة نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل ثلاثة أشهر من وفاته كما في الرواية الصحيحة وكذلك آية النبأ واردة في سورة مدنية.

وامَّا السنة ، فقد استدلّ بعدة روايات. وليعلم بان السنة المستدل بها تارة : تكون قطعية ، وأخرى : من خبر الواحد. فان فرض قطعيتها فالاستدلال بها في المقام لا محذور ثبوتي فيه ، وامَّا إذا كان خبر الواحد فتارة : نفترض القطع بأنه بحسب الملاك لا فرق ولا احتمال لخصوصية في حجية شخص ذلك الخبر من بين الاخبار الآحاد ، وأخرى : يفرض احتمال ذلك. فعلى الأول لا يعقل الاستدلال به في المقام لأنَّ حجيته مساوقة للعلم بكذبه لافتراض الملازمة القطعية بين حجيته وحجية سائر الاخبار ، وجعل الحجية لخبر يلزم من وصول حجيته القطع بكذبه غير معقول على ما تقدّم فيما سبق شرحه مفصلاً ، وعلى الثاني لا يلزم من إحراز حجيته القطع بكذبه بل يثبت به عدم حجية غيره من الاخبار ، وحينئذ إطلاق مدلوله وإِن كان شاملاً لنفسه إذ لا محذور فيه حتى عرفاً لأنَّ المدلول كلام المعصوم عليه‌السلام فيعقل إطلاقه لشمول شخص هذا النقل ولا يكون من شمول الدليل لنفسه ولكن هذا الإطلاق بالخصوص لا يعقل حجيته لمحذور عقلي. وبعبارة أُخرى : لا يعقل حجية هذا الإطلاق لأنه فرع حجية سنده فإذا كانت حجيته متوقّفة على حجية السند استحال أن يكون نافياً لها. وروح المطلب ترجع إلى ان دليل حجية السند يعبدنا بترتب آثار حجية الظهور بمقدار سائر الإطلاقات فيه لا إطلاقه لنفس هذا السند.

لا يقال ـ يعلم في المقام إجمالاً امَّا بكذب هذه الاخبار أو عدم حجيته لأنَّ المخبر يخبر عن واقعة واحدة ولا يخبر عن كلّ إطلاق إطلاق وانَّما الإطلاقات مدلول تلك الواقعة الواحدة وهي حديث المعصوم عليه‌السلام وحينئذ إذا كان الحديث المذكور صادراً واقعاً فبمقتضى حجية إطلاقه يثبت عدم حجية شخص هذا النقل لا محالة وهذا يعني انَّه يعلم إجمالاً امَّا بكذبه أو بعدم حجيته ، أي لا يمكن أن يكون حجة إِلاّ إذا كان كذباً.

وإِن شئت قلت : يلزم من حجيته كونه كاذباً فدليل حجيته يدلّ بالالتزام على انَّه كاذب وجعل مثل هذه الحجية غير معقول.

٣٤١

فانه يقال : المفروض احتمال الفرق بين شخص هذا الاخبار وغيره ثبوتاً وهذا يعني انَّنا نحتمل اتصال قرينة بالحديث المنقول دلّت على استثناء شخص هذا الاخبار ولا نافي لهذا الاحتمال إلاّ شهادة الراوي السكوتية عن ذكر هذا التقييد وهذا يعني انَّ العلم بالكذب أو عدم الحجية انَّما يكون بلحاظ الشهادة السلبية للراوي وسكوته عن ذكر القيد المذكور فهي التي لا يعقل أن تكون حجة دون الشهادة الإثباتية التي نقل بها أصل الحديث.

وهكذا في هذه الصورة يمكن التمسك بدليل الحجية ولو مثل السيرة العقلائية لإثبات حجية شخص هذا الخبر وبه نثبت عدم حجية غيره تخصيصاً لدليل الحجية أو ردعاً عن السيرة بلحاظها ، وهذا هو معنى انَّ تطبيق السيرة على هذا الخبر يكون حاكماً على تطبيقه على سائر الاخبار لأنَّ التطبيق فرع عدم الردع ولا ردع عنها جزماً وهو ردع عن غيره إذا كان بحسب مضمونه صالحاً لذلك ولا عكس لأنَّ بقية الاخبار لا تسلب الحجية عن هذا الخبر.

هذا منهج الاستدلال بالسنة النافية للحجية. وامَّا نفس الروايات فتقسم إلى طائفتين :

الأولى : ما دلَّ على النهي عن العمل بخبر لا يعلم صدوره منهم عليهم‌السلام كما في الحديث المروي في بصائر الدرجات ( ما علم انَّه قولنا فالزموه وما لم تعلموه فردّوه إلينا ).

الثانية ـ ما دلَّ على النهي عن العمل بخبر لا يوافق الكتاب الكريم أو ليس عليه شاهد أو شاهدان منه (١) والتي نسميها باخبار الطرح أو العرض على الكتاب.

امَّا الطائفة الأولى فيرد على الاستدلال بها :

أولا ـ انَّها لا يعقل جعل الحجية لها لكي تصلح لأن يستدل بها على عدم الحجية لأنَّها خبر واحد يقطع بعدم تميزه عن بقية الاخبار وعدم استثنائه منها في الحجية.

وثانياً ـ لو تنزلنا عن ذلك واحتملنا الامتياز فلا دليل على جعل الحجية له لأنَّها ضعيفة السند.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي.

٣٤٢

وثالثاً ـ لو تمّ سندها مع ذلك لا يمكن إثبات حجيتها لمعارضتها بما دلَّ على الحجية من الاخبار بل هي معارضة مع الدليل القطعي على الحجية على ما سوف يأتي من قطعية أدلة الحجية.

وامَّا الطائفة الثانية ـ فالبحث عنها طويل الذيل قد فصلناه في بحث تعارض الأدلة فليراجع.

وامَّا الإجماع ـ فقد استدلّ بنقل السيد المرتضى ( قده ) إجماع الطائفة على عدم العمل باخبار الآحاد ـ على ما جاء في أجوبته على مسائل الموصليات ـ بل ادعي انَّ هذا واضح بمرتبة بحيث يعد من ضروريات المذهب كحرمة العمل بالقياس عندهم.

وهذا وإِن كان إجماعاً منقولاً ولكنه واجد لشرائط الحجية لأنَّ المقدار المنقول كاشف عن قول المعصوم عليه‌السلام قطعاً لأنَّه ينقل ضرورة المذهب ومثلها لا إشكال في كاشفيته عن رأي المعصوم ولأن النقل عن حسّ لا حدس لأنَّه يدعي استقرار الإجماع بمستوى الضرورة كما في حرمة القياس ومثل هذا التطابق الضروري يكون من الأُمور الحسيّة بلا كلام.

وفيه : أولا ـ انَّنا نقطع بعدم مطابقة ظاهر هذا الكلام المنقول للواقع لما سوف يأتي في بحث الاستدلال على الحجية بسيرة المتشرعة ان العمل كان مستقراً على التعبد باخبار الثقات والعمل بها.

وثانياً ـ انَّه خبر واحد بنفسه لا يعقل جعل الحجية له لعدم احتمال المزية فيه هذا لو أُريد التعامل معه كخبر واحد.

وثالثاً ـ انَّه معارض بما ينقله الشيخ الطوسي ( قده ) من الإجماع على الحجية بل وكلّ ما يدلّ على الحجية من أخبار الآحاد والأدلة القطعية.

ورابعاً ـ ان المظنون ان مقصود السيد ( قده ) لم يكن ما هو ظاهر الكلام بل لا يعقل ذلك مع فرض دعوى الشيخ استقرار إجماع الطائفة على التعبد بالعمل باخبار الثقات من الإمامية مع انَّه كان معاصراً من حيث الزمان معه ومن حوزته بل كان زميله عند الشيخ المفيد وتلميذه من بعده فكيف يعقل وقوع التهافت في النقل بهذه المرتبة بينهما بعد الفراغ عن صدقهما وأمانتهما ، وبما انَّ كلام الشيخ ( قده ) لا يحتمل فيه التقية

٣٤٣

بخلاف السيد حيث نقل ذلك في أجوبة المسائل الموصلية فيحتمل قوياً أن يكون نظره إلى أبناء العامة وحينئذ امَّا أن يكون مقصوده من الاخبار الآحاد اخبارهم التي لا يحرز فيها وثاقة الرّواة ، أو كان بقصد نفي الكبرى ابتداءً تحاشياً عن جرح مشاعرهم في جرح رواتهم. وقد نقل الشيخ ( قده ) في العدة النقل المذكور بعنوان ان المسموع من أشياخ الطائفة ان الطائفة لا تعمل باخبار الآحاد ثم فسّره وبيّن انَّ المراد منه مثل هذه المحامل. وهذا تفسير ممن هو من أهل البيت لأنَّه تلميذ السيد ( قده ) فيكون قرينة شبه قطعية على مرام السيد من هذه المقالة.

أدلة الحجية :

وامَّا المقام الثاني ـ ففي استعراض أدلة الحجية وقد استدلّ عليها بالأدلة الأربعة.

أمَّا الكتاب الكريم فبآيات :

الاستدلال بآية النبأ :

منها : آية النبأ وهي قوله تعالى ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (١).

والاستدلال بها يكون بتقريبين تارة بلحاظ مفهوم الوصف ، وأخرى بلحاظ مفهوم الشرط.

امَّا التقريب الأول فيمكن أن يبين بوجوه عديدة :

الوجه الأول ـ الملاك العام في مفهوم الوصف بناءً على قبوله في محله ، وبهذا تكون المسألة مبنائية. وقد ذكرنا هناك انَّ الوصف وإِن كان يدلّ على الانتفاء عن الانتفاء بمقتضى قانون احترازية القيود المقتضي لكون الوصف قيداً حقيقة والمقيد عدم عند عدم قيده إِلاّ ان المنتفي حينئذ شخص الحكم لا نوعه ، ومنه يعرف ضعف ما هو ظاهر تعابير فوائد الأصول من انَّ الجملة الوصفية تدلّ على ثبوت الحكم لواجد الوصف

__________________

(١) الحجرات ، آية ٦.

٣٤٤

وساكتة عن فاقده.

الوجه الثاني ـ انَّ الآية تنيط وجوب التبين بعنوان خبر الفاسق وهذا يدلّ بقانون احترازية القيود على انتفاء شخص الحكم بانتفاء الوصف وهو مساوق في المقام مع انتفاء سنخ الحكم بوجوب التبين عن خبر العادل وهو مساوق مع حجية إذ لو كان هناك جعل آخر فان كان بعنوان الخبر مطلقاً لزم منه لغوية جعل وجوب التبين على خبر الفاسق بخصوصه وإِن كان بعنوان خبر العادل بما هو عادل فهو غير محتمل لأنَّ العدالة لا تؤثر في وجوب التبين إِن لم تكن مؤثرة في عدمه.

وهذا الوجه لعله أفضل تعميق للاستدلال بمفهوم الوصف في الآية. ولكنه غير تام أيضا (١). لأنه يمكن افتراض وجوب التبين في غير خبر الفاسق أيضا ولو في الجملة ولكن لا بعنوان خبر العادل أو مطلق الخبر بل بعنوان آخر بينه وبين خبر الفاسق عموم من وجه كعنوان الخبر الّذي يظنّ بخلافه أو لا يظنّ بصدقة أو لا تقوم أمارة ولو غير معتبرة في قباله ونحو ذلك من الخصوصيات التي يعقل أن تكون دخيلة في عدم الحجية ولو من باب الموضوعية ونوعية الحكم المخبر به وتكون النسبة بينها وبين خبر الفاسق العموم من وجه ، ومعه كيف يمكن إحراز انتفاء سنخ الحكم؟ هذا مضافاً : إلى انَّ الأمر بالتبين إرشاد إلى عدم الحجية فهو حكم عدمي من باب عدم اقتضاء الحجية فلا ينافي أن يكون خبر العادل أيضا بما هو خبر العادل لا يقتضي الحجية وليس هذا معناه انَّ العدالة أثرت في إيجاب التبين كما هو واضح.

الوجه الثالث ـ ما يظهر من كلام الشيخ ( قده ) من انَّ علة وجوب التبين امَّا أن تكون وصف الفسق في المخبر أو أصل الخبرية ، والأول وصف عرفي والثاني وصف ذاتي بالنسبة إليه فإذا كانت العلة هو الوصف العرفي فمعناه انَّ الخبر لو لا وصف الفسق في المخبر لم يكن يجب التبين فيه وهو المطلوب ، وإذا كانت العلة هو الخبرية فهذا خلاف ظاهر الآية لأنَّه امَّا أن يكون الوصف العرفي علة أيضا أو لا فان لم يكن فهذا

__________________

(١) ويمكن أَنْ يجاب أيضا باختيار الشقّ الأول وهو وجوب التبين في مطلق الخبر ومع ذلك تدفع اللغوية بأنَّ القيد المذكور في خصوص المقام جيء به لأجل التنبيه على فسق المخبر في القضية الخارجية لا من أجل دخله في موضوع حكم مجعول بنحو القضية الحقيقية ليكون ظاهراً في الاحترازية.

٣٤٥

خلف إناطة الحكم بالفسق كما هو ظاهر الآية وإِن كان علة أيضا فحيث انَّ الوصف الذاتي أسبق من العرفي فالمعلول يستند إلى أسبق علله فكان المناسب إناطته به لا بالفسق وهو خلاف ظاهر الآية.

وفيه : أولا ـ انَّه قاصر عن إثبات المطلوب لو لم يضم إليه ما أبرزناه في البيان السابق إذ لنا أن نختار علية الوصف العرفي ولكنه مع ذلك هناك علة أُخرى عرفية ولو في بعض أقسام خبر العادل.

وثانياً ـ ان قاعدة ان المعلول يستند إلى أسبق علله يراد بها الأسبقية الزمانية لا الرتبية ولا أسبقية كذلك في المقام.

الوجه الرابع ـ ما جاء في تقريرات المحقق النائيني ( قده ) في تفسير كلام الشيخ ( قده ) وكأنه بيان عرفي له وحاصله : انَّ الأمر يدور بين علية الوصف العرضي وعلية الوصف الذاتي فعلى الأول يثبت المطلوب وعلى الثاني بأن يكون الوصف الذاتي علة مستقلاً أو مع العرفي فلا يناسب عرفاً إناطة الحكم بالوصف العرفي مع كفاية الذاتي. وهذا الوجه وإِن كان لا يخلو من وجاهة بلحاظ المناسبات العرفية إِلاّ انَّه توجد مناسبة في قبال هذه المناسبة العرفية في ذكر الوصف العرفي في المقام وهو التنبيه على فسق المخبر مثلاً. علماً بأنَّه يرد على هذا الوجه ما أوردناه أولا على الوجه السابق.

الوجه الخامس ـ ما جاء في حاشية المحقق الأصفهاني ( قده ) على الكفاية من أن الأمر لا يخلو من أن يكون مجموع الوصفين علة أو أن يكون كلّ منهما علة أو أن يكون الوصف الذاتي علّة دون العرفي أو بالعكس. فان كانت العلة منحصرة في العرفي فقط فقد ثبت المطلوب وإِن كان المجموع علة فكذلك لانتفاء العلة بانتفاء أحد أجزاء علته وإِن كانت منحصرة في الذاتي فهو خلاف ظهور الآية في دخل العرفي وإِن كان كلاهما علة فهو خلاف الظاهر أيضا لأنَّ معناه لغوية ذكر الوصف العرفي.

وكأنَّه ( قده ) شعر بنقصان هذا الجواب لاحتمال أن يكون العرفي علة وهناك علة أُخرى عرضية غيره في خبر العادل فحاول تعديل الوجه بإضافة ان هذا غير معقول لأنَّه ان كان كلّ منهما علة بعنوانه الخاصّ لزم صدور الواحد من الكثير وهو محال وإذا كان الجامع بينهما علة كان خلاف ظاهر الآية في علية الفسق بعنوانه.

٣٤٦

وهذا التحليل لو تمّ لكان بياناً على كبرى مفهوم الوصف في تمام الموارد وقد تعرضنا له في بحث مفهوم الوصف مع جوابه.

الوجه السادس ـ وهو أيضا يمكن أن يجعل تفسيراً لما ذكره الشيخ ( قده ) من انَّه لو كان الخبر في نفسه لا يقتضي الحجية فعدم الحجية مستند إلى عدم المقتضي لها لا إلى فسق المخبر الّذي هو بمثابة المانع وحيث انَّ الآية إناطته بالفسق أي بوجود المانع فيفهم من ذلك تمامية المقتضي في الخبر للحجية.

ويرد عليه : أولا ـ نقصه كما تقدّم فيما سبق لاحتمال وجود مانع آخر.

وثانياً ـ انَّ المانع عن الحجية هو احتمال الخلاف والمقتضي لها الكاشفية وكلّما اشتدّ احتمال الخلاف اشتدّ المانع وقوى فإذا افترضنا انَّ الخبر في نفسه ليس بحجة لوجود المانع معه دائماً وهو احتمال الخلاف غاية الأمر انَّ الفسق يقوي احتمال الخلاف ولهذا أُنيط به فلا محذور حينئذ ، أي لا يلزم إناطة عدم المعلول أو الأثر إلى المانع مع عدم المقتضي بل إلى المانع الأقوى دون الأضعف وهو أمر صحيح عقلاً ومناسب عرفاً.

هذه وجوه تقريب الاستدلال بالآية على أساس مفهوم الوصف وقد عرفت بطلانها جميعاً.

وامَّا التقريب الثاني ـ وهو الاستدلال بلحاظ مفهوم الشرط في الآية الكريمة فالبيان الابتدائي له انَّ الشرط يدلّ على انتفاء الحكم عن الموضوع بانتفاء الشرط. وفي المقام الموضوع هو النبأ والحكم وجوب التبين عنه والشرط مجيء الفاسق به ، فتدلّ الجملة الشرطية على انتفاء وجوب التبين عن النبأ لو لم يكن الجائي به فاسقاً أي كان عادلاً وهو المطلوب.

ثمَّ انَّ هذا التقريب والتقريب السابق لو تمّا فيدلان على انتفاء وجوب التبين عند مجيء العادل بالنبإ وهل هذا يكفي في الحجية أو بحاجة إلى ضمّ مقدمة خارجية أُخرى هي عدم أسوئية خبر العادل عن الفاسق إذ لا يحتمل عدم وجوب التبين بمعنى طرحه رأساً وإهماله ـ كما قيل؟

ناقش الشيخ ( قده ) في ضرورة ضمّ هذه المقدمة الخارجية وادعي إمكان

٣٤٧

استفادة الحجية من مفهومها مباشرة.

والتحقيق حول هذه النقطة يرتبط بفهم معنى وجوب التبين وحقيقته فان هناك عدة وجوه في تفسيره.

١ ـ ان يدعى انَّ وجوب التبين وجوب نفسي لا غيري وحقيقي لا طريقي كوجوب ردّ التحية مثلاً فكأنَّ هناك تكليفاً من الشارع بالتجسّس على الفاسق وفضح اخباره الكاذبة ، وبناءً على هذا سوف نحتاج إلى مقدمة خارجية لإثبات حجية خبر العادل إذ المفهوم لا يدلّ حينئذ على أكثر من انتفاء هذا الوجوب النفسيّ وهو غير الحجية.

إِلاّ انَّ هذا الاحتمال غير تام في نفسه ولو تمّ لما أمكن إثبات الحجية بناءً عليه حتى بضمّ المقدمة الخارجية. امَّا عدم التمامية فلأنَّ هذا التفسير لوجوب التبين خلاف ظهور التعليل في ذيل الآية في الطريقية والحرص على الواقع ، وأيضا خلاف معنى مادة التبين المأمور به الظاهر عرفاً في الطريقية والوصول إلى الواقع.

وأمَّا عدم تمامية الاستدلال فلأنَّ انتفاء هذا الوجوب النفسيّ الحقيقي عن خبر العادل من دون الحجية لا يستلزم أسوئيته بل أحسنيته من الفاسق الّذي يكلّف الناسي بفضحه كما هو واضح.

٢ ـ ما اختاره الشيخ ( قده ) من انَّ هذا الوجوب شرطي والمشروط جواز العمل بخبر الفاسق وحينئذ يدلّ بالمفهوم على انتفاء هذا الوجوب الشرطي وامَّا هل يجوز العمل مطلقاً أو لا يجوز مطلقاً فلا يكون المفهوم ناظراً إلى ذلك فلا بدَّ من ضمّ مقدمة الأسوئية على تقدير عدم جواز العمل مطلقاً (١) إِلاّ انَّه في هذه الحالة توجد مقدمة أخرى أيضا تبطل هذا الاحتمال وهو انَّه لو فرض عدم جواز العمل به مطلقاً حتى مع التبين فهذا مناف مع حجية القطع وهو غير معقول. وإِن شئت قلت : انَّ دليل الشرطية لا يثبت إِلاّ نفس الشرطية منطوقاً وينفيها مفهوماً وامَّا إطلاق المشروط فيثبت بدليل المشروط وليس لدليل الشرطية نظر إليه ، ولهذا لا يستفاد من الآية مباشرة إطلاق جواز

__________________

(١) إِلاّ انَّ هذا الاحتمال في نفسه غير صحيح لأنَّ الظاهر من التبين العلم والاطمئنان وحينئذ العمل بالعلم لا بخبر الفاسق فالشرطية لا تناسب إِلاّ مع فرض انحفاظ المشروط على تقدير تحقق الشرط.

٣٤٨

العمل بالخبر إذا لم يجئ به الفاسق بل يبقى الأمر مردداً بين ذلك وبين أن لا يجوز العمل به مطلقاً فينفي هذا الاحتمال بإحدى المقدمتين.

٣ ـ ان يكون وجوب التبين طريقياً بمعنى انَّه مرتبة من الحجية لخبر الفاسق لأنه في الشبهة الموضوعية إذ لم يأت الفاسق بخبر فالمولى يحكم بالبراءة ولا يجب الفحص ولكن إذا جاء الفاسق بخبر فالمولى يرفع اليد عن البراءة ويوجب الفحص وهذه مرتبة من وجوب الاحتياط والحجية لخبر الفاسق والمفهوم حينئذ عدم ثبوت هذه المرتبة في الحجية في خبر العادل وهذا فيه احتمالان أيضا بحيث لا بدَّ من ضمّ مقدمة عدم الأسوئية لإثبات انَّ خبر العادل حجة على الإطلاق.

وهذا الاحتمال خلاف الظاهر لأنه لو كان النّظر إلى ذلك لناسب أن يعلل ذلك باحتمال إصابة الفاسق للواقع مع انَّ التعليل جاء بإبراز احتمال كذب الفاسق وإصابة القوم بجهالة.

٤ ـ أن يكون الأمر بالتبين إرشاداً إلى عدم الحجية شرعاً وهذا لسان من السنة عدم الحجية بحسب الحقيقة فيكون المفهوم ثبوت الحجية في خبر العادل بلا حاجة إلى ضمّ مقدمة خارجية وهذا هو الظاهر في تفسير وجوب التبين.

٥ ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) بناءً على أن يراد بالتبين ما يعمّ تحصيل الظنّ من أنَّ وجوب التبين حينئذ يكون غيريّاً ومقدمة لوجوب العمل بخبر الفاسق ، وحينئذ غاية ما تدلّ عليه الآية انتفاء هذا الوجوب الغيري في خبر العادل وامَّا الوجوب النفسيّ بالعمل به فيحتمل ثبوته ويحتمل عدم ثبوته إِلاّ انَّ التقدير الثاني يلزم منه أسوئية خبر العادل عن الفاسق فينفي وبهذا أثبت الحاجة إلى مقدمة الأسوئية (١).

وفيه ـ انَّ الوجوب الغيري للتبين إِن كان على أساس مقدمية التبين للعمل عقلاً

__________________

(١) الّذي يظهر من مراجعة تقريرات العراقي ( ص ١٠٨ ) انَّه لا يدعى قيدية تحصيل الظنّ لوجوب العمل بل لمشروعية العمل جوازاً أو وجوباً كما يصرّح بذلك ضمن عبائره ويكون حاصل كلامه : انَّه لو جعلنا القيد التبين الأعم من العلم والظنّ ـ ليعقل بقاء المشروط وهو العمل بالخبر بعد التبين ـ فالآية لا تكون فارغة عن أصل العمل ليستفاد من نفي الشرطية والقيدية بالنسبة لخبر العادل حجيته بل نحتاج إلى مقدمة الأسوئية ، ويكون الإشكال عليه حينئذ بأنَّ مشروعية العمل بالخبر عبارة أخرى عن الحجية إذ لا يعقل له معنى آخر في هذا المقام فيرجع إلى الاحتمال السابق الّذي لا يحتاج بناءً عليه إلى ضمّ مقدمة الأسوئية.

٣٤٩

فواضح البطلان ، وإِن كان على أساس المقدمية شرعاً فان أُريد بالتبين تبين الحال فهو لا يعقل أن يكون قيداً للعمل بخبر الفاسق إذ قد يتبين خلافه وإِن أُريد تحصيل الوثوق أو الظنّ بصدق الفاسق فهذا القيد إِن رجع قيداً لوجوب العمل بخبر الفاسق فيكون من مقدمات الوجوب لا الوجود فلا يترشح عليه الوجوب الغيري وإِن كان قيداً للواجب فمن الواضح انَّه لا يجب تحصيل الظنّ في العمل بخبر الفاسق بل ليس هذا غرض الشارع وانَّما غرضه عدم الإصابة بجهالة وخطأ.

٦ ـ ما ذكره العراقي ( قده ) أيضا بناءً على أن يراد بالتبين تحصيل العلم من انَّ الأمر المذكور يمكن أن يكون إرشاداً إلى حكم العقل بوجوب تحصيل العلم ما لم تقم حجة على الخلاف ـ وهذا بخلاف ما لو أُريد بالتبين ما يعمّ الظنّ فان العقل لا يحكم بلزوم تحصيله ـ وحينئذ أيضا نحتاج في إثبات حجية خبر العادل إلى ضمّ مقدمة عدم الأسوئية ولكن ببيان انّ عدم وجوب التبين عن خبر العادل امَّا أن يكون من جهة القطع بكذبه فيكون أسوأ حالاً وامَّا أن يكون لحجيته وهو المطلوب.

وفيه : أولا ـ انَّ العقل لا يحكم بلزوم تحصيل العلم بالواقع وتبينه بل بلزوم تحصيل العلم بالامتثال ولو بالاحتياط فما وقع مصباً للأمر ليس بعنوانه موضوعاً لحكم العقل ليحمل الدليل على الإرشاد إليه (١).

وثانياً ـ انَّ الآية قد علقت وأناطت وجوب التبين على الفسق مع انَّ الحكم العقلي المذكور ليس معلقاً عليه بل على مطلق الشك وعدم العلم. اللهم إِلاّ أن ترجع الإناطة المذكورة إلى الإرشاد إلى عدم حجية خبر الفاسق بلسان انَّه يجب تحصيل العلم حتى إذا جاءكم الفاسق بالخبر المشكوك.

وثالثاً ـ انَّ حكم العقل ليس وجوباً ولا حكماً بل إدراك لعدم المؤمن إِلاّ بالقطع أو القطعي ومن الواضح انَّ هذا المعنى محفوظ حتى لو فرض انَّ خبر العادل كان معلوم الكذب فانَّه يصدق انَّه لا مؤمن إِلاّ القطع بالواقع فوجود القطع لا ينفي اللابديّة العقلية

__________________

(١) إِلاّ انَّ الآية أيضا لا تدلّ على أكثر من التبين لو أُريد إصابة القوم أي الامتثال وهو نفس موضوع حكم العقل بل التعليل في ذيل الآية ظاهر في الاستنكار وإبراز نكتة عقلائية فيناسب أَنْ يكون إرشاداً إلى حكم العقل.

٣٥٠

إذ ليس هذا تكليفاً ليقال بأنه تحصيل للحاصل مثلاً بل وضع وقضية واقعية شرطية ، وحينئذ فالمفهوم لا يلائم مع الاحتمال الثاني فلا نحتاج إلى ضمّ مقدمة الأسوئية وانَّما يدلّ بنفسه على انَّه إذا جاء العادل بالخبر فليس انَّه لا مؤمن إِلاّ القطع وهو معنى الحجية (١).

الاعتراضات على الاستدلال بآية النبأ :

وقد اعترض على الاستدلال المذكور بوجوه يرجع بعضها إلى إنكار أصل الظهور الاقتضائي للآية على المفهوم ، وبعضها إلى دعوى وجود مانع عنه بعد افتراض وجوده بنحو القرينة المتصلة الرافعة لفعليته ، وبعضها إلى دعوى عدم حجيته بعد افتراض فعلية ظهوره في المفهوم لوجود مانع منفصل.

امَّا الأول فبأن يقال انَّ الشرطية في المقام مسوقة لبيان تحقق الموضوع فلا مفهوم للجملة ذاتاً.

وليعلم بأنَّ الشرط يمكن أن يصنف إلى ثلاثة أنحاء :

الأول ـ أن يكون الشرط عبارة عن سنخ تحقق الموضوع ونحو وجوده بحيث لا يتصور للموضوع وجود إِلاّ بالشرط كقولك ( إذا رزقت ولداً فاختنه ) فان الفرق بين الشرط أو الموضوع للحكم في المثال كالفرق بين الإيجاد والوجود.

الثاني ـ أن يكون الشرط أجنبيّاً عن وجود الموضوع وانَّما هو أمر طارئ كقولك ( إِنْ جاءك زيد فأكرمه ).

الثالث ـ أن يكون الشرط نحواً من وجود الموضوع ولكنه غير منحصر به بل يمكن أن

__________________

(١) نعم ولكن باعتبار انَّ ما جعل جزاءً ليس هو نفس الحكم والإدراك العقلي بل ما هو من لوازمه وهو التبين واستخبار حال النبأ فمن المعقول أن يكون انتفاؤه عن خبر العادل من جهة كونه مقطوع الكذب فلا يحتاج فيه إلى ذلك ، والحاصل الآية أناطت التبين اللازم عقلاً إذا أُريد الامتثال بمجيء الفاسق وهذا كما يمكن أن يكون من جهة ارتفاع موضوع الحكم العقلي في خبر العادل بالحجية كذلك يحتمل أن يكون من جهة ارتفاعه موضوعاً لكونه معلوم الكذب فيحتاج إلى ضمّ مقدمة الأسوئية. هذا ولكن يرد عليه حينئذ ان هذا الاحتمال بحسب الحقيقة منفي بظهور النبأ المأخوذ في موضوع الشرطية في النبأ المحتمل صدقه وكذبه في نفسه فكأنه قال الخبر الّذي تحتملون صدقه ان جاءكم به الفاسق فتبيّنوا عنه فلا نحتاج إلى مقدمة عدم الأسوئية في اقتناص المفهوم.

٣٥١

يوجد الموضوع بنحو آخر كما هو في الآية الكريمة لو جاءت بعنوان ( النبأ إذا جاءكم به الفاسق فتبيّنوا ) فان مجيء الفاسق يراد به إنباؤه وإيجاد النبأ إِلاّ انَّه لا ينحصر وجوده به إذ يعقل وجوده بإنباء العادل أيضا فالشرط في هذا القسم حصة خاصة من الإيجاد فكأنه قال النبأ إذا أوجده الفاسق فتبيّنوا.

ولا إشكال في عدم المفهوم في النحو الأول كما لا إشكال في ثبوته في النحو الثاني.

ويمكن أن يقرب وجه عدم المفهوم في الأول بأحد تقريبين :

الأول ـ انَّ المفهوم نفي حكم الجزاء على تقدير انتفاء الشرط وحينئذ إذا أُريد نفي مفاد الجزاء وهو وجوب ختن الابن عند انتفاء الشرط وهو وجوده فهذا انتفاؤه من باب السالبة بانتفاء الموضوع المحفوظ حتى في الجملة غير الشرطية فلا يكون لتركيب الشرطية دخل في تحصيله ، وإِن أُريد نفي وجوب ختن الأخ مثلاً بانتفاء وجود الولد فهذا سنخ مفاد آخر غير حكم الجزاء ، والمفهوم لا يدلّ إِلاّ على انتفاء مفاد الجزاء.

الثاني ـ انَّ المفهوم انَّما يثبت بملاك إرجاع الشرط قيداً للحكم والنسبة الحكمية في الجزاء وبهذا تتميز الجملة الشرطية عن الوصفية التي يكون الوصف فيها من قيود الموضوع قبل طرو الحكم عليه فإذا كان الشرط نفس الموضوع ذاتاً فليس هناك تقييد زائد بين الحكم والشرط غير تقيده بموضوعه الثابت في كلّ جملة حكمية فلا مفهوم.

وكلا التقريبين لا يجريان في القسم الثالث لأنَّ الموضوع ذاتاً محفوظ حتى مع انتفاء الشرط إذ الشرط حصة خاصة من إيجاد ذلك الموضوع فلا يكون انتفاؤه مساوقاً مع انتفاء الموضوع ليكون الانتفاء عقلياً أو التقييد مستحيلاً ، وهكذا يثبت انَّ الصحيح ثبوت المفهوم في القسم الثالث كالقسم الثاني.

وامَّا تشخيص انَّ الآية من أيّ هذه الأقسام فإذا كان مفادها ( نبأ الفاسق إذا جيء به أو جاءكم الفاسق به فتبيّنوا ) كان من القسم الأول لا محالة لأنَّ انتفاء نبأ الفاسق بانتفاء مجيئه عقلي ، وإِذا كان مفادها ( النبأ إذا جاء به الفاسق فتبيّنوا ) كان من القسم الثالث كما أشرنا ، وإذا كان مفادها ( نبأ المخبر يجب التبين عنه إذا كان الجائي به فاسقاً ) كان من القسم الثاني لأن فسق المخبر بخبر حالة طارئة بلحاظ الموضوع.

٣٥٢

ولا ينبغي الاستشكال في انَّ المستظهر من الآية المعنى الثاني الوسط فتكون الشرطية من القسم الثالث الّذي فيها مفهوم بحسب طبعها (١).

هذا كلّه لو أُريد بالموضوع موضوع الحكم ، فالشرطية في الآية الكريمة بلحاظ ما هو موضوع الحكم فيها لا تكون مسوقة لبيان تحققه.

إِلاّ انَّ هناك موضوعاً للشرطية بمعنى آخر وهو ما يمكن فرضه قبل الجملة الشرطية وموضوعاً لها كما في قولك ( زيد إِن جاءك فأكرمه ) وبين هذا المعنى للموضوع والمعنى السابق عموم من وجه إذ قد يفترقا كما في قولك ( زيد إِن جاءك فتصدق على جيرانك ) حيث ان موضوع الجزاء هو الجيران مع انَّ موضوع الشرطية هو زيد ، وقد يجتمعان كما في ( زيد إِن جاءك فأكرمه ) وهذا النحو من الموضوع للقضية الشرطية أعني ما يجعل موضوعاً لنفس الشرطية والتعليق بحسب الحقيقة تطعيم للقضية الشرطية بالحملية ، وهذا يؤدّي إلى أن يكون ما جعل موضوعاً بهذا المعنى في القضايا الشرطية مأخوذاً بنحو الفرض والتقدير كما هو الحال في القضايا الحقيقية التي تكون الأحكام الشرعية منها عادة لأن الموضوع في القضايا الحقيقة مفروض ومقدر الوجود وهذا يترتّب عليه ثمرات في باب الاستنباط.

منها ـ انَّ الشرطية لا تدلّ على الانتفاء حين انتفاء ذلك الموضوع للشرطية عند انتفاء الشرط وانَّما يدلّ على الانتفاء عند انتفاء الشرط ما دام ذلك الموضوع محفوظاً وامَّا إذا ارتفع فلا مفهوم حتى لو كان موضوع الحكم في الجزاء محفوظاً ، كما في مثال ( الختانان إذا التقيا وجب الغسل ) فانَّه لا مفهوم له لما إذا لم يكن للإنسان ختان كما في مقطوع الحشفة فلا يدلّ على انتفاء الغسل عليه لو لم يلتق ختانه من جهة انتفاء موضوع أصل القضية الشرطية.

__________________

(١) أفاد ـ قده ـ خارج البحث بان وجه هذا الاستظهار رجوع الضمير الواقع موضوعاً لوجوب التبين إلى النبأ وهو مطلق ليس مقيداً بالفاسق إذا لم يقل إِنْ جاءكم نبأ الفاسق لكي يتحصص.

إِلاّ انَّ هذا المقدار الظاهر غير كاف للاستظهار لأن الضمير يرجع إلى المقصود من مرجعه أو المقيد لا مطلقه فلو قال إذا جاءك رجل فأكرمه لا يدلّ على كفاية إكرام رجل ولو غير الجائي بل المستفاد منه لزوم إكرام الرّجل الجائي الملحوظ في الشرط رغم عدم إضافة الرّجل إلى المجيء ؛ كذلك الحال في المقام فانَّ المقصود التبين عن النبأ الّذي جاء به الفاسق لا مطلق النبأ خصوصاً وانَّ الضمير في وجوب التبيّن مقدر وليس ظاهراً.

٣٥٣

ومنها ـ في محل الكلام حيث انَّه إذا استظهرنا انَّ النبأ موضوع للشرطية نفسها فكأنَّه قال ( النبأ إذا جاءكم فاسق به فتبيّنوا ) فلا مجال حينئذ لدعوى انَّ الشرطية مسوقة لتحقق الموضوع لأنَّ النبأ أخذ موضوعاً مقدر الوجود لأصل الشرطية ولا تكون القضية مسوقة لفرض تحققه فلا محالة يتعين أن تكون الشرطية لغرض صفة ثانوية وهو فسق المخبر وإناطة الحكم به فيكون اندفاع الإشكال المتقدم على هذا أوضح وثبوت المفهوم للجملة أجلى وأصرح (١).

ثمَّ انَّه بهذه المناسبة لا بأس بالاستطراد إلى بحث الفرق بين الموضوع في القضية

__________________

(١) كان اللازم إبراز وجه لهذا الاستظهار في المقام مع انَّ ظاهر الآية تقدم الشرط.

ثمّ انَّ تطعيم الشرطية بالحملية بفرض تقدم الموضوع على نفس الشرطية لا أثر له من حيث المفهوم إذا فرض انَّ ذلك الموضوع بنفسه موضوع للجزاء كقولك « زيد إذا جاءك فأكرمه » وانَّما يظهر أثره فيما إذا كان غير موضوع الحكم في الجزاء كقولك « زيد إِن جاءك فتصدّق على الفقير » فيدعى بأنَّ مفهوم الشرطية مربوط بوجود الموضوع المفروض لها فلا إطلاق له لحالة فقدانه ، وهذا المطلب انَّما يساعد عليه العرف فيما إذا كان الموضوع المتقدم بحسب المناسبات العرفية قيداً للشرطية نفسها كقولك « في النهار إذا جاءك زيد فأكرمه » فانه لا يدلّ على أنَّه إذا لم يجئه زيد في الليل فلا يجب إكرامه وامَّا إذا لم يكن قيداً للشرطية والتعليق فلا فرق بين تقدّم الموضوع وتأخره ومن هنا لا فرق عرفاً بين قولك زيد إذا جاءك فتصدّق على الفقير وقولك إذا جاءك زيد فتصدق على الفقير ومنه مثال إذا التقى الختانان وجب الغسل فانَّ مجرد تقديم الموضوع على الشرطية لا يقتضي تعليق الشرطية أو تقييدها به فتأمّل جيداً.

ثمَّ انَّ الّذي استظهره من مثل ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) ان هذه الشرطية لا مفهوم لها لو قيل بالمفهوم في كلّ شرطية وذلك أولا ـ لأن هذا السياق بحسب المتفاهم العرفي منه سياق الشرطية المسوقة لتحقق الموضوع نظير ما إذا قال ( إذا أعطاك زيد ديناراً فلا تأخذه ) أفهل يمكن أن يقال انَّه راجع إلى قولنا ( الدينار إذا أعطاكه زيد فلا تأخذه ) الدال بالمفهوم على انَّه إذا أعطاكه غيره فخذه؟.

لا يقال : فلتكن الجملة بعنوان ( إذا جاءكم فاسق بنبإ فتبيَّنوا ) لا بعنوان ( النبأ إذا جاءكم به الفاسق فتبيَّنوا ) فانَّه بناءً على ثبوت المفهوم لكلّ شرطية يكون مفهومها إذا لم يجئكم فاسق بنبإ فلا يجب التبين وهذا بإطلاقه شامل لما إذا جاء العادل بالنبإ. فانَّه يقال : الشرطية تقييد للنسبة الحكمية في الجزاء بين الحكم والموضوع فلا بدَّ من افتراض المفروغية بحسب ظاهر الجملة عن وجود موضوع محفوظ للحكم في المرتبة السابقة على الشرط ليعقل تقيده به وفي المقام حيث انَّ الجزاء لم يفرض فيه موضوع ثابت على كلّ حال بقطع النّظر عن الشرطية فلا تكون الشرطية ظاهرة في التقييد إِلاّ بانتزاع النبأ وجعله موضوعاً له ، وقد قلنا انَّه خلاف الظاهر بل تكون ظاهرة في انَّها مسوقة لتحقيق الموضوع ولو بحصّة خاصة منه وهذه النكتة بعد أَنْ ذكرناها للسيد الأستاذ قدس‌سره شرحها بتقريبين مبينين في المتن فلاحظ.

وثانياً ـ انَّ الأمر بالتبين في الآية ليس حكماً شرعياً وانَّما هو إرشاد إلى عدم الحجية شرعياً فكأن مفادها إذا جاءكم فاسق بنبإ فليس بحجة ومن الواضح انَّ مثل هذا المفاد مفاد إخباري لا إنشائي لأنَّه إخبار عن عدم ثبوت الحجية له شرعاً والجمل الشرطية لا يكون لها مفهوم إذا كانت إخبارية على ما تحقق في محلّه ، إذ لا يستبطن ذلك جعلاً وإنشاءً ليستفاد انَّه معلّق على الشرط لنجري فيه الإطلاق ، وهذا الكلام نحن ندّعيه في كلّ جملة شرطية جزاؤها نفي الحكم كما إذا قال : إذا جاءك زيد فلا يجب إكرامه فانَّه لا يدلّ على وجوب إكرامه إذا لم يجئ لنفس النكتة.

٣٥٤

الحملية الحقيقية والقضية الحملية الخارجية فانَّه في الأول يكون مأخوذاً بنحو التقدير والفرض فقولنا « النار حارة » و « المسكر حرام » يكون المحمول فيها منصباً على الموضوع المقدر للنار أو المسكر بمعنى انَّ كلّ ما يفرض مصداقاً للنار أو المسكر يكون حاراً أو حراماً ، وهذا بخلاف القضية الخارجية كقولك « كلّ من في الصحن عادل فانها تنظر إلى أفراد معينين خارجاً ـ سواءً كانوا موجودين فعلاً أم لا ـ ويترتّب على ذلك انَّ الموضوع في القضية الحقيقية يكون كليّاً دائماً لكي يكون قابلاً للانطباق على كلّ أفراده المقدرة والموجودة وهذا بحسب الحقيقة يستبطن من الناحية المنطقية تلازماً بين ماهية الموضوع وماهية المحمول إذ لو لا هذا التلازم لما أمكن جعل المحمول على الموضوع بمقدراته سواءً كان التلازم على أساس عقلي قبلي أو تجريبي. ومن هنا كانت القضية الحقيقية تستبطن القضية الشرطية من الناحية المنطقية وإِن لم يكن مفادها اللغوي وتركيبها النحوي ذلك.

وعلى هذا الضوء يتّضح انَّه منطقياً تكون القضايا الجزئية الحملية من قبيل قولنا بعض الحيوان إنسان دائماً من القضايا الحملية الخارجية لا الحقيقة لأنَّ الحقيقية تستلزم التلازم والكلية وهذا لا يعقل في القضية الجزئية ما لم يصرف الموضوع فيها عن ظاهره فتؤول إلى الكلية حينئذ بمعنى لا يسعنا شرحه في المقام ـ بأن يكون عنوان البعض مشيراً إلى عنوان آخر كلّي يكون ملازماً مع المحمول ـ وهذا يترتّب عليه ان كلّ موجبة جزئية ليس فيها تقدير بل موضوعها خارجي محقق الوجود وهذا يعني انَّه لا يمكن منطقياً أن نستنتج موجبة جزئية من أيّ قضية كلية كما قالوا في المنطق الأرسطي من إنتاج الموجبة الكلية للموجبة الجزئية بالعكس المستوي مثلاً وإنتاج الشكل الثالث للموجبات الجزئية ، فقولنا كلّ ذهب معدن لا يمكن أن ينتج أنَّ بعض المعدن ذهب. والوجه فيه : انَّ الأولى قضية حقيقية لا تتكفّل إثبات وجود ذهب بالفعل في الخارج لكون موضوعها ملحوظاً بما هو مقدر الوجود بينما الثانية قضية جزئية فهي في قوة الخارجية التي تحكى عن ثبوت بعض المعدن الذهب في الخارج مع انَّ الأولى لم تكن تدلّ على ذلك.

ثمَّ إِن هناك بيانين آخرين لتقريب عدم المفهوم في آية النبأ رغم افتراض انَّها

٣٥٥

ليست مسوقة لتحقق أصل الموضوع بل حصّة منه على ما تقدّم شرحه.

الأول ـ انَّ المفهوم من تبعات طرو الشرط على النسبة الحكمية في الجزاء لكي يدلّ على انتفائها بانتفائه وهذا معناه انَّ التقييد والتعليق على الشرط يكون ملحوظاً في طول النسبة الحكمية في الجزاء وفي مرتبة متأخرة عنه في مقام التصوّر واللحاظ ، وهذا يعني انَّ التعليق والتقييد بالشرط في طول طرفي تلك النسبة من الموضوع والمحمول وهذا لا يكون فيما إذا كان الشرط مسوقاً لغرض تحقق نفس موضوع الحكم في تلك النسبة ولو بحصة منه فانه يلزم التهافت في لحاظ الموضوع والشرط.

والحاصل : لا يكون مثل هذه الشرطية تعليقاً حقيقياً بل صورة شرط هو بحسب الحقيقة موضوع للحكم وفرض لتحققه فحال هذه الشرطية حال الشرطية المسوقة لبيان أصل الموضوع من كونها كالحملية.

وهذا التقريب بهذه الصياغة الثبوتية يمكن الإجابة عليه : بان ما هو موضوع النسبة الحكمية ذات الموضوع ـ وهو النبأ ـ وما هو الشرط وطرف التعليق الجملة الشرطية أعني نسبة النبأ إلى الفاسق لا ذات النبأ فلا تهافت ولا محذور.

الثاني ـ وهو نفس البيان السابق الّذي يقتضي أن يكون موضوع الجزاء ملحوظاً ومفروضاً في المرتبة السابقة على الشرطية والتعليق على الشرط فإذا كانت الشرطية مسوقة لبيان نفس افتراض موضوع الجزاء لم تكن ذات مفهوم ولكن بإضافة نكتة إثباتية هي انَّه لا بدَّ من ان يتوفر في الكلام ما يدلّ على الطولية المذكورة ولا يكفي مجرد إمكان الطولية ثبوتاً ما دام عالم الإثبات والدلالة مسوقاً لافتراض واحد لأصل تحقق الموضوع ولو بحصة منه وذلك لأن مقتضى القاعدة في الظهور هو التطابق بين العالمين فإذا فرض وحدة الافتراض بحسب عالم الإثبات استكشفنا ذلك بحسب عالم الثبوت وبذلك تكون الشرطية في قوة الحملية ، والأمر في المقام كذلك لأنّ الآية لم تفترض النبأ موضوعاً في الرتبة السابقة على تحقق الشرطية والتعليق بل قد افترض مجموع مفاد الجملة الشرطية بافتراض واحد ومن هنا لا يكون لها مفهوم. نعم لو قال ( النبأ إِن جاءكم فاسق به فتبيّنوا ) أو قال ( إِن جاءكم فاسق بالنبإ فتبيّنوا ) كان النبأ الموضوع للحكم في الجزاء مفروضاً بقطع النّظر عن التعليق بافتراض مسبق امَّا لتقديمه كموضوع

٣٥٦

للحكم أو للتعريف المشعر بذلك والمستبطن للافتراض ونفس الشيء يقال في ( إِن أعطاك زيد درهماً فخذه ، وإِن أعطاك زيد الدرهم فخذه ) حيث لا مفهوم للأولى بخلاف الثانية.

ولعل هذا هو الوجه الفنّي لذهاب الشيخ الأعظم ( قده ) إلى عدم المفهوم في الآية الكريمة.

هذا كلّه في الأمر الأول وهو الإشكال في الاستدلال بالآية على أساس منع المقتضي.

وامَّا الأمر الثاني ـ وهو إبراز المانع المتصل بعد فرض ثبوت مقتضي المفهوم فيها فما ذكره المشهور من انَّ ذيل الآية ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) قرينة على إلغاء المفهوم لدلالته على أنَّ مناط الحكم بالتبين هو الجهل وعدم العلم منه وهو إلغاء لمفهومها ولا أقل من التعارض والإجمال كما لا يخفى.

وقد أجيب عنه بوجوه :

١ ـ دعوى انَّ المفهوم أخص من عموم التعليل لاختصاصه بخبر العادل ومقتضى القاعدة في مثل ذلك التخصيص.

وكأن استعمال لفظة ( عموم التعليل ) أوقع السيد الأستاذ في التباس غريب حيث أورد على هذا الجواب : بان الدلالة المفهومية إطلاقية فإذا تعارضت مع العموم قدم العام عليه ثمّ دخل في بحث احتياج العام إلى مقدمات الحكم وعدمه. مع انَّ كلّ هذا لا ربط له بالمقام إذ ليس هنا عموم وضعي للتعليل وانَّما هو أيضا دلالة إطلاقية والتعبير بعموم التعليل يراد به عدم الاقتصار على مورد الحكم المعلل لا العموم في قبال الإطلاق.

والصحيح في ردّ هذا الجواب أمور :

الأول ـ ان مقام التعليل مقام النّظر إلى المعلل فيكون فيه قرينية بملاك الحكومة وهي القرينية الشخصية وهذه خصوصية أقوى من الأخصية التي هي قرينية نوعية ومقدمة عليها في مقام اقتناص المرام.

الثاني ـ انَّ التعليل ظاهر في التعميم وإلقاء خصوصية المورد وهذا يكون مضاداً

٣٥٧

ومعارضاً مع الأخص لا محكوماً له كما هو الحال في العام والخاصّ.

الثالث ـ وهو مبني على أن يكون مفهوم الشرط في الآية عبارة عن انَّه إذا لم يجئ الفاسق بالنبإ فلا يجب التبين سواءً لم يجئ أحد أو جاء العادل به فتكون حجية خبر العادل مستفادة من إطلاق المفهوم إذ حينئذ يقال بأنَّ التعارض بين إطلاق المفهوم وإطلاق التعليل لا أصل المفهوم فلا أخصية.

٢ ـ دعوى حاكمية المفهوم على عموم التعليل وهذا ما ذهبت إليه مدرسة المحقق النائيني ( قده ) بزعم انَّ الحجية معناها جعل الطريقية والعلمية ومعه لا يكون العمل عملاً بجهالة.

وفيه : أولا ـ انَّ جعل الطريقية ليس إِلاّ لساناً من ألسنة جعل الحكم الظاهري ثبوتاً ـ أي في عالم الاعتبار ـ أو إثباتاً ، وقد بيّنا انَّ الحكم الظاهري كما يمكن جعله بذلك كذلك يمكن جعله بألسنة أخرى كجعل المنجزية والمعذرية أو جعل الحجية وغير ذلك ، وعلى هذا فلا معين في الآية الكريمة على انَّها بصدد جعل الطريقية لا ثبوتاً واعتباراً ولا إثباتاً ، فان عنوان عدم وجوب التبين لا يتعين في انَّ يكون بمعنى انَّه علم وبيان غايته احتمال ذلك منه ومعه لا يمكن إحراز الحكومة فتكون النتيجة إجمال الآية مفهوماً وتعليلاً صدراً وذيلاً لاتصالهما كما هو واضح. نعم لو ادّعي انَّ المفهوم وارد على التعليل ورافع لموضوعه حقيقة لما أمكن التمسّك بعمومه لنفي مفاد مفهوم الآية بل لأي شيء يشك في حجيته لأن احتمال حجية شيء مساوق مع احتمال العلمية فيكون التمسّك به من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية وسوف نعود إلى الحديث عن هذه النقطة بعد قليل.

وثانياً ـ انَّه لو سلّم انَّ الحجية مساوقة أو ملازمة مع جعل الطريقية والعلمية مع ذلك لا حكومة للمفهوم على التعليل إذ كما يكون إثبات الحجية معناها جعل العلمية كذلك يكون نفيها نفياً لها في عرض واحد على ما تقدّم بيان ذلك في بحث النهي عن الظنّ.

وثالثاً ـ انَّ الحكومة روحها روح التخصيص ولكن بلسان الحكومة فحالها حال التخصيص المزعوم في الجواب السابق من انَّه معارض مع التعليل الدال على التعميم

٣٥٨

والحاكم على المعلل لكونه ناظراً إليه فكلّ منهما فيه ملاك للحكومة والنّظر فلو لم نقدم النّظر التعليلي لكونه نظر إلى شخص هذه القضية بخلاف النّظر المفهومي الناظر إلى مطلق الظنون فلا أقلّ من التعارض والإجمال.

نعم لو قلنا بأنَّ الحاكمية من باب جعل الطريقية بنحو الورود بأن كان المراد من عدم العلم في التعليل عدم الحجة أو عدم العلم الأعم من الحقيقي والاعتباري لم يكن ذلك من باب التخصيص بل يرفع المفهوم موضوع التعليل حقيقة ، إِلاّ انَّ هذا غير صحيح مبنى في باب الأمارات على ما تقدّم ، ومستهجن عرفاً لأنَّ التعليل سوف ينسلخ عن كونه تعليلاً لوجوب التبين في المنطوق إذ يكون معناه حينئذ انَّ خبر الفاسق ليس بحجة لأنَّه ليس بحجة أو لم يجعل علماً فهو يرجع لبّا إلى تعليل عدم الحجية بعدم الحجية وهذا لا معنى له ولا يمكن أن يعلل عدم الحجية في مورد بتعليل قد أخذ في موضوعه عدم الحجية لأنَّه في طوله بينما العلة لا بدَّ وأن يكون عدم الحجية في طولها ، وما أشرنا إليه من كون التمسّك بعمومات النهي وعدم الحجية يكون من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية مبنى على الحكومة بمعنى الورود.

ثمّ انَّه قد أورد على جواب الحكومة في حاشية المحقق الأصفهاني ( قده ) بلزوم الدور لأنَّ حاكمية المفهوم يتوقّف على وجوده وانعقاده ووجود المفهوم في المقام فرع عدم عموم التعليل لأنَّه متّصل به فإذا أُريد إثبات عدم هذا العموم بحكومة المفهوم كان دوراً.

وفيه ـ ان فرض صلاحية المفهوم للحاكمية على التعليل بنكتة من النكات فسوف تكون هذه الصلاحية والاقتضاء بنفسها رافعة لعموم التعليل لا متوقفة على عدمه. وإِن شئت قلت : انَّ انعقاد المفهوم بل كلّ دلالة حاكمة على دلالة أُخرى لا يكون متوقّفاً على عدم الدلالة المحكومة بل على عدم دلالة غير محكومة وهذا واضح.

إِذن فلا بدَّ من إبطال أصل الصلاحية ومع إبطالها لا تحتاج إلى تلفيق مثل هذا الدور.

٣ ـ ما ذكره في الكفاية من انَّ المراد بالجهالة السفاهة التي هي جهالة عملية لا عدم العلم والجهالة النظرية ، والعمل بخبر العادل ليس سفاهة عند العقلاء. وأورد عليه المحقق الأصفهاني ( قده ) : بأنَّ خبر العادل بقطع النّظر عن مفهوم الآية إِن كان

٣٥٩

حجة ومما يجدر العمل به فقد ثبتت حجيته بذلك بلا حاجة إلى الآية وإِلاّ كان العمل به سفاهة وجهالة لأنَّه عمل بلا حجة فيشمله عموم التعليل.

وهذا الاعتراض يمكن دفعه : بافتراض انَّ خبر العادل حجة عند العقلاء فان ذلك كاف لإخراج العمل به عن كونه سفاهة ، وممّا لا ينبغي ، ولا نحتاج في ذلك إلى فرض حجيته عند الشارع. وإِن شئت قلت : انَّ مجرد عدم ثبوت الحجية عند الشارع لا يكفي لكون العمل بالخبر سفاهة إذا لم يكن فيه مقتضي عدم الحجية ، وعليه فالاستدلال بالآية على الحجية تام بلا حاجة إلى فرض الحجية شرعاً في الرتبة السابقة.

والصحيح في مناقشة هذا الجواب : انَّه لا معيّن لحمل الجهالة على السفاهة إذ لا أقلّ من احتمال إرادة الجهالة النظرية خصوصاً مع انَّه المناسب مع ذيل التعليل حيث ذكرت الندامة التي لا تكون إِلاّ بلحاظ عدم إصابة الواقع لا العمل السفهي.

ثمّ ان الظاهر عرفاً من التعليل انَّه تعليل لأصل الحكم بوجوب التبين المرتب على خبر الفاسق لا انَّه تعليل للحكم المعلّق أو تعليق للحكم المعلل ليتوهم عدم معارضته مع المفهوم بل كل من التعليق والتعليل في عرض واحد أنيط بهما الحكم ولذلك يقع التعارض بين مفهوم التعليق وإطلاق التعليل.

وهكذا يظهر تمامية الإشكال على الآية بثبوت المانع كما تمّ الإشكال عليها بعدم تمامية أصل المقتضي للمفهوم فيها.

وهناك اعتراض آخر على الاستدلال بمفهوم آية النبأ ذكره كلّ من المحقق الأصفهاني ( قده ) والسيد الأستاذ بنحو وحاولا الإجابة عليه.

فقد ذكر المحقق الأصفهاني بأنه لو أريد من النبأ طبيعي النبأ الشامل لنبإ العادل أيضا فهذا يؤدي إلى وجوب التبين عن طبيعي النبأ حتى الّذي جاء به العادل بمجرد مجيء الفاسق بطبيعي النبأ الّذي يتحقق بمجيئه بنبإ واحد وهذه نتيجة غريبة لا يمكن المصير إِليها ، وإِن كان المراد نبأ خاصاً فرض وجوده خارجاً فهذا خلاف سياق الشرطية غير الظاهرة في افتراض نبأ خاص فرض وجوده وإِلاّ كان ينبغي أن تصاغ بنحو يدلّ على فرضه ووقوعه.

ونفس الإشكال ذكره السيد الأستاذ مع تطوير شقّه الثاني إلى انَّه لو كان

٣٦٠