بحوث في علم الأصول - ج ٤

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

حجيّة الشهرة

وفي ذيل البحث عن الإجماع لا بأس بالتعرّض إلى حجية الشهرة بوصفها دليلاً لبّيّا استقرائيّاً أو إجماعاً ناقصاً.

والشهرة تارة : يتكلّم عنها في بحث المرجحات لأحد الخبرين المتعارضين على الآخر ، وأُخرى : في انجبار الخبر الضعيف بها. وكلا البحثين خارجان عن محل الكلام وانَّما البحث هنا عن حجية الشهرة الفتوائية في نفسها.

والكلام عنها تارة : على مقتضى القاعدة ، وأُخرى ، على ضوء بعض الروايات الخاصة.

امَّا على مقتضى القاعدة فحجية الشهرة لا بدَّ وأن تكون كحجية الإجماع على أساس حساب الاحتمالات وتراكمها حتى يحصل اليقين أو الاطمئنان بالحكم على أساسها ، إِلاّ انَّ جريان حساب الاحتمالات فيها أضعف من جريانه في باب الإجماع لسببين ، قصور كميّة الأقوال والفتاوى لأنَّ المفروض عدم اتفاق كلّ العلماء ، ومعارضتها بفتاوى غير المشهور لو كانت مخالفة فتكون مزاحمة مع حساب الاحتمالات في فتاوى المشهور. ولهذا يكون الغالب عدم إنتاج حساب الاحتمالات في باب الشهرة فلا تكون حجة غالباً.

٣٢١

وامَّا على ضوء الروايات الخاصة فقد يستدلّ على حجيتها بعدة وجوه :

الوجه الأول ـ التمسّك بمقبولة عمر بن حنظلة حيث جاء فيها قوله عليه‌السلام « ينظر إلى ما كان من روايتيهما عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك فان المجمع عليه لا ريب فيه » (١).

والاستدلال بها موقوف على تمامية مقدمتين :

أولاهما ـ أن يراد بالإجماع الإجماع النسبي المساوق مع الشهرة إلحاقاً للمخالف النادر بالعدم والقرينة التي قد تدعى على ذلك انَّه قد فرض في الرواية وجود الشاذ النادر في قبال المشهور عند الأصحاب فيكون قرينة على أنَّ المراد بالمجمع عليه في الذيل ( فان المجمع عليه لا ريب فيه ) هو المشهور أيضا.

الثانية ـ انَّ الرواية وإِن كانت في مورد الشهرة الفتوائية إِلاّ انَّ قوله ( فان المجمع عليه لا ريب فيه ) مسوق مساق التعليل وهو يقتضي التعميم وحمل الكلام على انَّ كلّ مشهور لا ريب فيه فتثبت حجية الشهرة وكلتا المقدمتين باطلتان.

امَّا الأُولى ـ فلان الشهرة في إطلاق الرواية يراد منها المعنى اللغوي المنطبق على الإجماع أيضا ، وما قيل من القرينة غير صالح لذلك لأنَّ النّظر فيها إلى الشهرة الروائيّة لا الفتوائية وفي باب الرواية يعقل الاتفاق والإجماع على نقل رواية مع وجود رواية شاذة يتفرد بنقلها بعض أولئك لا كلهم وليست الرواية كالفتوى ليكون وجود النقل الشاذ منافياً مع الاتفاق على نقل الرواية المشهورة ومعه لا موجب لحمل قوله عليه‌السلام ( فان المجمع عليه لا ريب فيه ) على الشهرة الاصطلاحية أصلاً.

وامَّا الثانية ـ فلأنَّ نفي الريب يوجد فيه أربعة احتمالات :

١ ـ أن يراد نفي الريب الحقيقي بمعنى الشك حقيقة ، ويكون المعنى ان الرواية المجمع عليها في النقل لا شك في صدورها وصحّتها إطلاقاً ، وهذا هو ظاهر الكلام وهذا انَّما يكون مخصوصاً بالشهرة الروائيّة بالمعنى الّذي ذكرناه ولا يتمّ في الشهرة الفتوائية لوضوح عدم انتفاء الريب الوجداني فيها.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، حديث ١.

٣٢٢

ودعوى ، انَّ المقبولة انَّما رجحت بالشهرة بعد الصفات فلو أريد من الشهرة فيها الاستفاضة في النقل والشهرة الروائيّة بمرتبة حصول اليقين لم يصحّ ذلك لأنَّ المعارض كان ساقطاً حينئذ في نفسه وكان من تعارض الحجة مع اللاحجة.

مدفوعة : بان الترجيح بالصفات ترجيح للحاكم لا للرواية على ما ذكرنا ذلك مفصلاً في شرح الرواية في بحث التعارض.

٢ ـ أن يراد نفي الريب العقلائي عن المشهور بمعنى انَّ اتباعه هو الطريقة العقلائية لا اتباع الشاذ وبهذا تكون الرواية بصدد إمضاء حجية عقلائية للشهرة.

وهذا الاحتمال مضافاً إلى انَّه خلاف الظاهر لما تقدّم من ظهور الريب في الشك الوجداني لا ما يقابل الحجية العقلائية ، لا يفيد في إثبات حجية الشهرة الفتوائية كما هو المطلوب ، لأنَّ التعليل إذا كان مسوقاً لإمضاء قضية عقلائية فتنحصر بحدودها ومن الواضح انَّ العقلاء لا يتبعون الشهرة الفتوائية في الأمور الاجتهادية الحدسية كما هو واضح.

٣ ـ أن يراد نفي الريب الشرعي بمعنى نفي الحجية الشرعية ، وحينئذ قد يقال بإمكان استفادة التعميم من التقليل إذ يمكن للشارع أن يجعل الحجية ونفي الريب عن كلّ مشهور ـ وان كان هذا أيضا قابلاً للخدشة لأنَّ اللام يحتمل أن يكون للعهد ولا نافي له إِلاّ ظهور التعليل وهو انَّما ينفيه إذا كان التعليل بأمر عرفي ارتكازي لا تعبدي وغيبي.

وفيه ـ أولا ـ انَّه خلاف الظاهر من ناحية انَّه مبتنٍ على حمل الريب على ما يقابل الحجية الشرعية والريب التعبدي أو جعل الجملة إنشائية لا خبرية وكلاهما خلاف الظاهر.

وثانياً ـ انَّ ظاهر التعليل انَّه تعليل بأمر تكويني ارتكازي لا غيبي تعبدي.

٤ ـ ان يراد نفي الريب الإضافي ومن ناحية الشهرة فان المشهور كلّ ما فيه من احتمالات البطلان موجود في غير المشهور ولكن في غير المشهور احتمال البطلان من ناحية قلة العدد والشذوذ وهو غير موجود في المشهور فالمراد نفي هذا الريب الحيثي.

وفيه : أولا ـ انه خلاف الظاهر لما تقدّم من ظهوره في نفي الريب المطلق لا الحيثي.

وثانياً ـ انَّه لا يفي بالمقصود لأن مفادها حينئذ الترجيح بالمزية فلو استفيد التعميم

٣٢٣

فغايته التعميم في الترجيح بكلّ مزية في أحد الخبرين مفقودة في الآخر بعد الفراغ عن أصل الحجية لا إثبات حجية تأسيسية بعنوان عدم الريب النسبي ، فيكون خبر الكاذب مثلاً حجة لأنَّه لا ريب نسبي فيه بلحاظ خبر الكذاب وهذا واضح الفساد.

الوجه الثاني ـ التمسّك بالمرفوعة التي ورد فيها « خذ بما اشتهر بين أصحابك » (١) وهنا حيث انَّه لم ترد هذه الفقرة في سياق التعليل فلا يمكن استفادة العميم منها لكلّ شهرة حتى في الفتوى فلا بدَّ في مقام الاستدلال بها من تعيين انَّ المراد بالمشهور فيها الشهرة في الفتوى لا الرواية. وقد استقر بنا ذلك في بحوث التعارض على أساس قرائن من جملتها تقدّم الترجيح بالشهرة في المرفوعة على الترجيح بصفات الراوي حيث يفرض السائل بعد هذه الفقرة انَّهما معاً مشهوران وهذا لا يناسب مع كون المراد بالشهرة الشهرة الروائيّة لأنَّها توجب الوثوق بالصدور عادة ومعه لا مجال للترجيح بالصفات التي هي مرجحات سندية فيتعيّن أن يكون المراد الشهرة في الفتوى والعمل.

إِلاّ انَّ هذا الوجه غير تام أيضا وذلك.

أولا ـ ضعف سند المرفوعة بل هي من أضعف الروايات.

ثانياً ـ ضعف الدلالة حيث انَّها ظاهرة في الأخذ بالحديث المشتهر بين الأصحاب شهرة فتوائية فان ( ما ) الموصولة لا مرجع لها إِلاّ ذلك لأنَّه المذكور في كلام الراوي لا الفتوى : ولو أغمضنا عن ذلك وافترضنا إرادة الفتوى المشهورة كالرواية فسياقها سياق الترجيح في مقام التعارض لإحدى الحجتين على الآخر لا تأسيس حجية جديدة.

الوجه الثالث ـ استفادة حجيتها من دليل حجية خبر الواحد بعد افتراض انَّه يثبت حجيته من باب الطريقية لا الموضوعية وافتراض انَّ الشهرة قد تفيد الظنّ والطريقية بنحو أكمل أو مساو لما يفيد الخبر خصوصاً إذا كان مع الواسطة.

وقد علّق السيد الأستاذ على هذا الوجه بأنَّ ملاك حجية الخبر قد لا يكون مجرد افادته الظنّ ليتعدّى منه إلى الشهرة بدعوى افادتها ذلك أيضا بل غلبة مطابقة الخبر للواقع وهذا لا يحرز في الشهرة.

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ، ج ١ ، الباب السادس ، حديث ٢.

٣٢٤

وهذا الكلام غير صحيح إذ لو فرض انَّ الشهرة تفيد الظنّ وأنّه ظنّ نوعي عقلائي لا شخصي وانَّه يساوي في درجة كشفه لدرجة كشف الخبر فلا محالة يكون درجة مطابقة مجموع الشهرات للواقع بمقدارها في مجموع الاخبار ، وهذا مضافاً إلى انَّه وجداني واضح مبرهن عليه في منطق الاستقراء وحساب الاحتمالات فالتفكيك بين درجة الكشف النوعيّ وغلبة المطابقة للواقع غير فني. نعم يمكن دعوى انَّ الشارع بعلمه الغيبي ربَّما أحرز صدفة انَّ مجموع اخبار الآحاد أكثر مطابقة للواقع من مجموع الشهرات.

وأيا ما كان فالجواب عن هذا الوجه امَّا أن يكون على أساس ما ذكرنا من إحراز الشارع بعلمه الغيبي أغلبية مطابقة الخبر للواقع من الشهرة وهذا انَّما يتجه إذا كانت حجية الخبر تأسيسية شرعية لا إمضائية عقلائية. أو إنكار إفادة الشهرة الحدسية للظنّ بمقدار خبر الثقة الحسي. أو انَّ التزاحم الحفظي الّذي هو ملاك جعل الحجية والحكم الظاهري يكفي فيه في نظر الشارع أو العقلاء جعل الحجية بمقدار خبر الثقة وامَّا في غيره من الدوائر فيرجع إلى القواعد والأصول الأخرى ، فالملاكات المتزاحمة يستوفى الأهم منها بمقدار جعل الحجية للخبر بلا حاجة إلى جعلها للشهرة أيضا. وهذا هو حلّ هذه المغالطة الكلية وهي دعوى استفادة حجية شيء من دليل حجية مماثله.

٣٢٥
٣٢٦

حجيّة الأخبار

الخبر ينقسم إلى خبر علمي مفيد لليقين الحقيقي أو العرفي والاطمئنان ، وخبر غير علمي ، والأول أوضح مصاديقه الخبر المتواتر. والثاني هو خبر الواحد في اصطلاحهم والكلام في حجيته اتجه عندهم نحو القسم الثاني إذ الأول بعد ان كان قطعياً لم يبق معنى للبحث عن حجيته فان القطع حجة بذاته. ولكن مع ذلك نرى من المناسب التكلم في الخبر المتواتر لتشخيص كيفية إيجابه للعلم وتحصيل الميزان الفني له ولو في الجملة لكي يؤدي إلى اتخاذ الاختيارات المناسبة في فروع بحث التواتر الّذي انساقت كلماتهم إليه عرضاً من التواتر الإجمالي والمعنوي ، فان تلك الاختيارات سوف تكون أكثر سداداً وصواباً حيثما نبحث أولا حقيقة التواتر وكيفية افادته لليقين.

الخبر المتواتر :

وقد عرّف الخبر المتواتر أو القضية المتواترة بأنها اجتماع عدد كبير من المخبرين على قضية بنحو يمتنع تواطؤهم على الكذب نتيجة كثرتهم العددية ، وهذا التعريف بتحديده وتمحيصه يرجع إلى انَّ القضية المتواترة دليليتها تنحلّ إلى صغرى وكبرى.

أمَّا الصغرى ، فهي اجتماع عدد كبير على الاخبار بقضية معينة. وامَّا الكبرى

٣٢٧

فحكم العقل الأولي بامتناع تواطؤ أولئك على الكذب. وبضمّ إحداهما إلى الأُخرى يستنتج على طريقة القياس حقانيّة القضية المتواترة وصدقها. والقضية الأُولى ـ الصغرى ـ خارجية ، والثانية عقلية أوليّة وليست مستمدة من الخارج والتجربة ومن هنا جعل المنطق الأرسطي القضية المتواترة إِحدى القضايا الست الأولية في كتاب البرهان لأنَّ كبراها عقلية أولية وإِلاّ فنفس القضية المتواترة بحسب التحليل قضية مستنتجة بالاستدلال القياسي الاستنباطي بحسب المصطلح الحديث وهو ما تكون النتيجة دائماً مستنبطة في المقدمات وليست أكبر منها في قبال الاستدلال الاستقرائي الّذي تكون النتيجة المتحصلة فيه أكبر من المقدمات. وسنخ هذا ذكره المنطق الأرسطي أيضا في القضايا التجريبية والتي جعلها أيضا إِحدى القضايا الست لأنَّ الكبرى القائلة ( انَّ الصدفة لا تكون دائمية ) مضمرة فيها.

ونحن في منطق الاستقراء لم نصادق على شيء من هذه الكلمات فلا توجد هناك كبريات عقلية أولية في باب التواتر والتجربة تقضي بامتناع التواطؤ على الكذب أو امتناع غلبة الصدفة كقضايا أوليّة قبلية وانَّما هذه الكبريات بأنفسها قضايا تثبت بالاستقرار والمشاهدات أي انَّها قضايا غير أولية بحيث لو قطعنا النّظر عن العلم الخارجي ومقدار تكرر الصدفة أو التواطؤ على الكذب فيها لكنّا نحتمل عقلاً تكرر الصدفة دائماً والتواطؤ على الكذب من جمع غفير وانَّما ننفي ذلك بعد التجربة والمشاهدة لعالم الخارج وليس حكم عقولنا في مثل هذه القضايا كحكمه باستحالة اجتماع النقيضين. إِذن فهذه قضايا تجريبية بنفسها غاية الأمر أكبر من القضايا التجريبية الخاصة في كلّ مورد مورد ، فتكون محكومة للقوانين المنطقية التي تحكم على التجربة والاستقراء وهي قوانين حساب الاحتمال والتوالد الموضوعي أولا ثم قوانين المنطق الذاتي والتوالد غير الموضوعي ثانياً. وسوف يتّضح ان روح القضية التجريبية والمتواترة وملاكها واحد.

وقد برهنا في كتاب الأُسس المنطقية على عدم كون هذه القضايا قبلية أولية ببراهين عديدة نقتصر هنا على واحد منها هو : انَّنا نجد انَّ مفردات كلّ قضية متواترة أو تجريبية كان احتمال الصواب والمطابقة فيها أكبر كان حصول اليقين بالنتيجة فيها

٣٢٨

أسرع وأشد ، ففرق مثلاً بين شهادة ألف ثقة بوقوع شيء وشهادة ألف مجهول وجداناً وهذا معناه انَّ اليقين الحاصل من القضايا المذكورة يتأثر بالقيم الاحتمالية لكل مفرد من مفرداتها لا بقاعدة عقلية قبلية موضوعها كم معين.

ثمّ انَّ القضية التجريبية المستدلّ عليها بالاستقرار تنقسم إلى أحد شكلين رئيسين :

١ ـ إثبات علّيّة الموجود.

٢ ـ إثبات وجود صغرى العلّة بعد الفراغ عن عليتها.

امَّا الشكل الأول ـ ومثاله ما ذا أردنا إثبات علية حبة الآسبرين مثلاً لرفع الصداع فعند ما نقوم بتجارب عديدة نعطي في كلّ مرة منها للمريض حبة الأسبرين فنجد انه قد شوفي من الصداع لا بدَّ وأن نعرف ان احتمال علية الآسبرين للشفاء في كلّ مرة قيمتها الاحتمالية مساوية مع القيمة الاحتمالية للعلية في مجموع المرات خلافاً لقانون الضرب لأنَّ هذه الاحتمالات وإِن كانت عديدة إِلاّ انَّها متلازمة فيما بينها ثبوتاً وعدماً ، إذ لو كانت طبيعة الآسبرين علة للشفاء من الصداع فسوف تكون العلية سارية وثابتة في تمام المرات فلا يكون احتمال المجموع أضعف من احتمال كلّ واحد منها. وإِن شئت قلت : انَّنا بإزاء قضية واحدة بعد أن كانت القضايا الانحلالية متلازمة وحينئذ لنفرض ان الاحتمال القبلي الأولي لعلية حبة الآسبرين في المرة الأولى هو النصف ـ وتحديد الاحتمالات القبلية له حسابات وقواعد شرحناها في كتاب الأُسس لا مجال للدخول فيها هنا ـ واحتمال علية غيره بأن يكون هناك أمر آخر كالنوم مثلاً أو شرب اللبن وجد صدفة فرفع الصداع أيضا نفترضه النصف الآخر من رقم اليقين الّذي ينقسم بالتساوي على المحتملات ، إِلاّ انَّ احتمال علية الآسبرين في المرة الأولى والثانية احتمالان متلازمان وامَّا احتمال علية غيره في كلّ من المرتين فليسا بمتلازمين لعدم وجود أمر مشترك معلوم غير حبة الآسبرين فيطبق عليه في مقام تقدير قيمته الاحتمالية ـ أي أن تكون العلة في كلّ مرة غير الآسبرين ـ قانون الضرب الّذي يؤدي إلى تضعيف الاحتمال وكلّما ضعف هذا الاحتمال قوى الاحتمال المقابل له وهو علّية الآسبرين. ونكتة هذا التوازن والتقابل بين الاحتمالين قد كشفنا سرّه المنطقي

٣٢٩

في كتاب الأُسس المنطقية حيث بيّنّا ان منشأ الاحتمال بحسب الحقيقة هو العلم الإجمالي ذو الأطراف المحصورة عقلاً ففي المثال المتقدّم الأمر بالنسبة إلى وجود ذات علة أُخرى غير الآسبرين يدور الأمر بين أحد احتمالات أربعة لا خامس لها عقلاً وهي كما يلي : امَّا أن تكون العلة الأُخرى موجودة في التجربتين ، أو في الأُولى دون الثانية ، أو بالعكس ، أو غير موجودة فيهما معاً ، وهذا حصر عقلي دائر بين النفي والإثبات فيكون قيمة كل احتمال منها مساوياً للربع ـ حيث انَّ رقم اليقين والعلم ينقسم على أطرافه بالتساوي ـ وهذه الاحتمالات باستثناء الأول منها تكون بصالح علية الآسبرين كما هو واضح ، وامَّا الأول فهو احتمال حيادي إذ كما انَّ ذات ما سميناه بالعلة الأُخرى موجودة في الحالتين كذلك الآسبرين موجود فيهما بناءً على هذا الاحتمال ، فكما يحتمل أن تكون العلة الأمر الآخر كذلك يحتمل أن تكون العلة هي الآسبرين وهذا يعني انَّ نصف الربع وهو الثمن فقط بصالح العلة الأُخرى و ٧ ـ ٨ بصالح علية الآسبرين هذا في التجربيتين فإذا كررنا التجربة ثلاث مرات صعد الحساب إلى ١٥ ـ ١٦ وهكذا إلى أن يتضاءل احتمال وجود علة أُخرى غير الآسبرين فيقطع بعلية الآسبرين حسب قواعد المنطق الذاتي لحصول اليقين بعد مرحلة التوالد الموضوعي على أساس حساب الاحتمالات.

ونفس الطريقة نستخدمها في الشكل الثاني أي إثبات وجود العلة وذلك فيما إذا كانت أصل علية شيء معلومة وانَّما يشك في وجود العلة خارجاً ، كما إذا رأينا مثلاً انَّ مجموعة كتب بحث الوضوء موضوعة أمام أُستاذ فاحتملنا انَّ ذلك لوجود بحث له في الوضوء الّذي لا إِشكال في كونه علة لجمع ما يرتبط بالوضوء من الكتب الفقهية واحتملنا أيضا أن يكون كلّ كتاب منها قد وجد هناك صدفة لعامل آخر من دون وجود بحث له في الوضوء ، بأن يكون أحدها قد وجد للتجليد والآخر لاستعارة صديق والثالث لأخذ ورقة منه وهكذا ، إِلاّ انَّ الاحتمالات المذكورة غير متلازمة بخلاف احتمال وضع كلّ كتاب بنكتة بحث في الوضوء للأُستاذ المذكور فبنفس الطريقة من الحساب ننتهي إلى إثبات وجود تلك العلة ونفي وجود العلل الأخرى من باب الصدفة. وقد ذكرنا في كتاب الأُسس انَّ جميع الاستدلالات التجريبيّة ترجع إلى أحد هذين

٣٣٠

الشكلين ، كما أثبتنا انَّ الشكل الثاني منه ينطبق على إثبات العلة الأولى للكون وهو الصانع سبحانه وتعالى بنفس الملاك المنطقي المنطبق في العلوم التجريبية الطبيعية بحيث يكون أساس العلم والإيمان بالله من الناحية المنطقية واحداً.

وقد أورد المفكّر الأوربي ( راسل ) على هذا الاستدلال باعتراضات ليس هنا مجال ذكرها وانَّما نقتصر على واحد من أهمّها وهو دعوى : انَّ هذا الدليل الاستقرائي انَّما يتمّ في العلوم الطبيعية التجريبية لوقوع التكرار فيها وامَّا في عالم الطبيعة فنحن لم نعاصر عوالم متعددة متكررة كعالمنا ونجد لكل منها خالقاً لكي نستنتج ذلك في حقّ عالمنا أيضا.

وهذا الاعتراض واضح الجواب على ضوء تحديد جوهر منطق الاستقراء فان التكرار بما هو تكرار لا أثر له وانَّما الميزان وملاك الكشف هو العلم الإجمالي وانقسامه على أطرافه بالنحو المتقدّم شرحه ، وهذا كما ينطبق في القضايا التكرارية كذلك في غير التكرارية إذا كانت الفرضيات الأخرى غير فرضية وجود الصانع الحكيم فرضيات كثيرة تكون قيمتها الاحتمالية ضئيلة إلى حدّ لا نهائي بالنحو الّذي أشرنا إليه في مثال كتب بحث الوضوء.

هذا كلّه في القضية التجريبية.

وامَّا المتواترة فهي بحسب الحقيقة ترجع إلى الشكل الثاني من الشكلين المتقدمين حيث انَّ فرضية صدق القضية ووقوع الحادثة المخبر عنها بالتواتر بنفسها علة مشتركة للاخبار بحسب طبع الإنسان ، فافتراض وقوعها يشكل وجود العلة لتفسير كلّ تلك الإخبارات وهذا بخلاف ما إذا افترضنا عدمها وان كلّ اخبار من تلك الإخبارات كان على أساس مصلحة معينة لصاحبه فان حساب الاحتمالات يضعف احتمال تلك الافتراضات لعدم كونها احتمالات متلازمة حتى تتضاءل درجتها جداً بتكثر الاخبار وتواترها ، وامَّا وصولها إلى اليقين فبمقتضى ما تفضل به الله سبحانه على الإنسان من الضابط الذاتي لانطفاء القيم الاحتمالية والكسرية الضعيفة جداً ولو لا ذلك لما كان يمكنه أن يقطع بشيء إطلاقاً ، على ما شرحنا ذلك في الأسس المنطقية للمرحلة الذاتيّة من الاستقراء.

٣٣١

والكثرة العدديّة هي جوهر التواتر ولكنه ليس بالإمكان تحديدها في رقم معين كما حاوله بعض الفقهاء فحددها بتحديدات مضحكة ، وصفها الشهيد الثاني ( قده ) بسخف القول من قبيل التحديد بأنها ٣١٣ بعدد شهداء بدر أو ١٢ بعدد نقباء بني إسرائيل أو سبعين بعدد أصحاب موسى الذين ذهبوا لميقات ربّهم أو انَّه أكثر من أربعة لئلا تكون البيّنة في بعض الأبواب الفقهية التي يشترط فيها أربعة شهود تواتراً ونحو ذلك. وقد أفاد الشهيد بأنَّ الميزان إفادة العلم وهذا أيضا كما ترى من تفسير الشيء بنفسه كتفسير الماء بالماء. وقد عرفت انَّ أساس افادته للعلم هو حساب الاحتمالات لا كم عددي معين وكان اتجاه التحديد هذا من وحي منطق أرسطو القائل بأنَّ الاستدلال الاستقرائي قائم على أساس قضية عقلية أولية قبلية هي وجود عدد يمتنع تواطؤهم على الكذب ممّا أوجب البحث عن تحديد ذلك العدد.

ولكن مع ذلك يمكن تحديد عوامل عديدة مؤثرة في إفادة التواتر لليقين وهي على قسمين :

١ ـ عوامل موضوعية مربوطة بالشهادات.

٢ ـ عوامل ذاتية مربوطة بنفسية السامع.

امَّا الموضوعية فأهمّها ما يلي :

١ ـ درجة الوثاقة والتصديق لمفردات التواتر فكلّما كانت شهادة كلّ مخبر ذات قيمة احتمالية أكبر كان حصول التواتر أسرع وبعدد أقلّ لما عرفت من أنَّ أساس حصول اليقين حساب الاحتمالات فإذا كانت الاحتمالات أكبر كان تجميعها وبلوغها لليقين أسرع والعكس بالعكس ، وهذه الزيادة في القيمة الاحتمالية والكاشفية للوثاقة أيضا محكومة لقوانين حساب الاحتمالات وبملاكها ولكن حساب الاحتمالات في مثل هذا المجال لا بدَّ وأن يثبت قضية استقبالية أيضا هي انَّ كلّ خبر ثقة تكون قيمتها الاحتمالية وكاشفيتها عن الواقع أكثر وهذا ما برهنا عليه وشرحناه مفصلاً في كتاب الأُسس المنطقية.

٢ ـ الاحتمال القبلي للقضية المتواترة ، فكلّما كانت قيمة هذا الاحتمال القبلي أكبر كان حصول التواتر أسرع والعكس بالعكس أيضا ، فمثلاً إذا أخبروا بوجود

٣٣٢

دجاجة ذات أربع قوائم الّذي احتماله القبلي ضعيف جداً كان حصول التواتر أبطأ وهذا أيضا على أساس نفس نكتة حساب الاحتمالات وليعلم بان الاحتمال القبلي قد يكون ضعيفاً على أساس حساب استقرائي في علل تلك القضية وأسباب وجودها في نفسها كما في المثال المتقدم ، وقد يكون ضعيفاً على أساس كثرة البدائل المحتملة لتلك القضية لا لحساب الاحتمالات في الأسباب والعلل ، كما فيما إذا طرق بابك طارق مردد بين آلاف من الناس لأنَّهم جميعاً يحتمل في حقهم ذلك فان احتمال أن يكون الطارق زيداً احتمال من مجموعة آلاف احتمالات إذ له بدائل متعددة بعدد الآلاف.

وضعف الاحتمال القبلي انَّما يؤثر في بطء حصول التواتر فيما إذا كان من القسم الأول لا الثاني وهذا أمر وجداني واضح وامَّا نكتته وبرهانه فموكول إلى كتاب الأسس المنطقية أيضا.

٣ ـ تباين الشهود في أوضاعهم الحياتية والثقافية والاجتماعية فانَّه كلّما كانوا متباينين فيها أكثر كان حصول التواتر أسرع لأنَّ ذلك يؤدّي إلى أن يكون احتمال وجود غرض ذاتي مشترك للكذب أبعد وأضعف. وقد أدرك القدماء هذا الشرط أيضا بفطرتهم فاشترط بعضهم أن يكون الشهود من بلدان عديدة أو من ملل وأديان مختلفة ونحو ذلك وجوهر النكتة ما أشرنا من انَّ هذا يكون مؤثراً على حساب الاحتمالات وسرعتها نفياً أو إثباتاً.

٤ ـ كيفية تلقي القضية من قبل كلّ شاهد شاهد إذ كلّما كانت القضية المتلقاة لهم أقرب إلى الحسّ وأبعد عن النّظر كان حصوله أسرع والعكس بالعكس أيضا فالتواتر في نزول المطر يحصل بعدد أقل من التواتر في عدالة زيد مثلاً والسبب ما تقدّم أيضا من انَّ القضية الحسيّة يكون احتمال الخطأ والاشتباه فيها أقلّ فالتجميع في حساب الاحتمالات يكون من احتمالات أكبر قيمة.

وامَّا العوامل الذاتيّة فأهمّها ما يلي :

١ ـ حالة الوسوسة والبطء الذاتي للذهن فانَّ الناس يختلفون في سرعة حصول اليقين لهم وبطئه اختلافاً ذاتياً حتى مع وحدة الدليل الموضوعي فكلّما كانت الحالة الذهنية الذاتيّة للإنسان أبطأ كان حصول التواتر بالنسبة إليه أبطأ والعكس بالعكس

٣٣٣

أيضا.

٢ ـ وجود الشبهة أي أن يكون الإنسان معتقداً بالخلاف بحيث أصبح له ألفة وعادة ذهنية بالخلاف فانَّها قد تشكّل مانعاً ذاتياً تقف أمام سرعة حصول اليقين بالتواتر.

٣ ـ العاطفة فانَّها أحياناً تحكم على الإنسان وعقله فيما إذا كانت القضية المتواترة على خلاف عاطفته وطبعه فتكون حجاباً بينه وبين حصول اليقين فيبطأ حصوله.

ثمّ انَّه إذا لم نعاصر مفردات التواتر وانَّما نقل ذلك إلينا بالواسطة فهل يكفي أن ينقل عن كلّ واحد من المخبرين واحد أولا. ذكروا انَّه لا بدَّ من أن ننقل كل شهادة واخبار من مفردات التواتر بالتواتر حتى يثبت فلا يكفي نقل واحد عن واحد ، لأنَّ كلّ اخبار حادثة مستقلة عن اخبار الآخر فلا بدَّ من إحراز كلّ خبر بالتواتر حتى يثبت التواتر. فمثلاً إذا نقل الصحابة حديث الغدير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتواتر فهذا لا يثبت لنا إِلاّ أن ينقل كلام كلّ صحابي لنا بالتواتر فلا يكفي أن ينقل عن كلّ صحابي تلميذه التابعي مثلاً وان كانوا بعدد التواتر الّذي يمتنع تواطؤهم على الكذب لإمكان كذب نصف هؤلاء وكذب النصف من الصحابة من دون لزوم نقض قانون الامتناع المذكور.

وعلى هذا يصبح التواتر حالة شبه مثالية خيالية لا يتّفق له مصداق في باب الأحاديث والاخبار مع الواسطة.

إِلاّ انَّ الصحيح بناءً على مسلكنا في كاشفية التواتر عدم الحاجة إلى ذلك بل قد يكفي نقل واحد عن واحد وذلك لأنَّ ميزان الكاشفية المذكورة هو حساب الاحتمالات وتجميع القيم الاحتمالية لكلّ اخبار اخبار على مركز واحد بالنحو المتقدّم شرحه غايته سوف تكون القيمة الاحتمالية لكلّ اخبار مباشر بمعنى درجة كاشفيته عن صدور الحديث عن المعصوم أقلّ من الاخبار المباشر بلا واسطة لأنَّها تحسب بضرب قيمة احتمال صدق المخبر الأول في قيمة احتمال صدق المخبر الثاني.

ولهذا يكون حصول اليقين بحاجة إلى مقدار أكثر من المفردات في الاخبار مع الواسطة.

وإِن شئت قلت : انَّ صدق القضية المتواترة ولو بالواسطة نكتة مشتركة لصدق المخبرين

٣٣٤

حتى مع الواسطة بحيث يكون احتمال صدقهم جميعاً احتمالات متلازمة ولو بدرجة أقلّ.

أقسام التواتر :

قسموا التواتر إلى الإجمالي والمعنوي واللفظي ، وسوف يتضح الحال من التشقيق الآتي فنقول : قد اتّضح مما سبق انَّ جوهر التواتر الكثرة العددية وهذه الكثرة تتصور على أنحاء :

١ ـ ان نأخذ عشوائياً كثرة من الاخبار كالأحاديث المروية في الكتب الأربعة بلا اشتراك فيما بينها في مضمون أصلاً. وهنا رغم عدم وجود مدلول مشترك فيما بينها لكونها في مواضيع مختلفة لا إشكال ان احتمال صدق واحد منها احتمال كبير جداً واحتمال كذبها جميعاً صدفة احتمال ضعيف جداً بنفس ملاك حساب الاحتمالات بان يفترض ان اختيارنا العشوائي صدفة وقع على جملة من الاخبار كلّها كاذبة فان هذا بحساب الاحتمالات تكون قيمته الاحتمالية ضعيفة جداً ، إِلاّ انَّ هذا الضعف لا ينعدم ولا يبلغ درجة اليقين بالعدم وإِن كان مقتضى مرحلة التوالد الذاتي لمنطق الاستقراء ذلك لما ذكرناه في منطقنا من انَّه كلّما كان الاحتمال الضعيف ناشئاً من طرفية المحتمل للعلم الإجمالي المردد معلومه بين بدائل محتملة كثيرة جداً ـ وسمينا ذلك بالمضعف الكمّي لأنَّه لا ينظر إِلاّ إلى العدد والكم ـ. فما دام ذلك العلم الإجمالي موجوداً يستحيل انطفاء احتمال طرفية ما اختير عشوائياً لذلك العلم الإجمالي ، والأمر في المقام كذلك لأنَّنا نعلم إجمالاً بوجود مائة خبر كاذب في مجموع أحاديث الكتب الأربعة مثلاً ومعه احتمال أن يكون المائة التي أخذناها هي الكاذبة أحد أطراف علمائنا الإجمالي المذكور ، فانَّ كلّ مائة مائة ـ وهي بالملايين بحساب التوافيق ـ يحتمل أن تكون هي الكاذبة وما دام العلم الإجمالي قائماً يستحيل زوال هذا الاحتمال في أي طرف فان زواله فيه مساوق مع زواله في الأطراف الأُخرى وهو مساوق مع زوال العلم نفسه وهو خلف ، كما انَّ المضعف الكمّي الآخر الموجود هنا وهو احتمال كذب كلّ أولئك المخبرين البعيد بحساب الاحتمال في نفس إخباراتهم هذا المضعف أيضا موجود في

٣٣٥

كلّ مائة مائة بأخذها من الاخبار فهو مضعف كمّي موجود في تمام الأطراف فيستحيل أن يوجب زوال الاحتمال لأنَّه ترجيح بلا مرجح بلحاظ هذا الطرف بالخصوص وبلحاظ جميع الأطراف خلف العلم الإجمالي.

ولهذا لا يزول هذا الاحتمال إِلاّ إذا وجد مضعف له مخصوص به وليس هو إِلاّ ما اصطلحنا عليه بالمضعّف الكيفي المخصوص بخصوص هذا الطرف ، وذلك انَّما يكون فيما إذا كان هناك مصبّ مشترك مثلاً ولو ضمناً لجميع الاخبار ، فان المضعف حينئذ هو انَّه كيف اتفقت مائة مصلحة للمختلفين على سنخ كذب واحد معيّن مع انَّ عوامل التباين فيهم أكثر من الاشتراك. وهذا بالتحليل يرجع إلى علم إجمالي آخر بحسب حساب عوامل التباين والاتفاق في حياة هؤلاء وبمقتضاه يكون احتمال كذبهم جميعاً لمصلحة مشتركة أضعف بكثير من احتمال كذب أية مائة أُخرى من الاخبار ليس بينها قدر مشترك وهذا أساس عام لحصول اليقين في تمام موارد حساب الاحتمالات التي ترجع بحسب تحليلنا إلى علوم إجمالية منقسمة على أطرافها فمثلاً في مثال قرص الآسبرين يعلم إجمالاً بعليته أو علّية غيره في رفع الصداع وهو علم إجمالي بين النقضين إِلاّ أن أحد طرفيه وهو علية غيره له مضعف كيفي خاص به هو ملاحظة العلم الإجمالي في التجارب العديدة وما يقتضيه من الحساب لقيمة احتمال علية غير قرص الآسبرين.

وبهذا يظهر الوجه الفني في عدم اعتبار مثل هذه المجموعة من الاخبار بالتواتر لأنَّها لا تؤدّي إلى حصول اليقين ولو إجمالاً وبذلك يندفع شبهة منجزية مثل هذه الكثرة العددية فيما إذا كان مجموع الاخبار المائة إلزامية مثلاً في موضوعات مختلفة فانَّها لا يشكل علم إجمالي بجامع الإلزام ليكون حجة ، وامَّا حصول الاطمئنان فهو وإِن كان صحيحاً إِلاّ انَّ حجية مثل هذا الاطمئنان الناشئ من مجرد المضعف الكمّي الّذي لا يبلغ اليقين عهدة دعواها على مدّعيها.

وقد اتّضح من مجموع ما تقدّم انَّ التواتر لا يكفي فيه مجرد المضعف الكمّي بل لا بدَّ أيضا من المضعف الكيفي على ما يظهر من شرح الحالات القادمة ، كما انَّه لا بدَّ وأن يعلم بأنَّ المضعف الكيفي قيمته الاحتمالية أكبر بكثير من المضعف الكمّي ، بمعنى انَّه بإضافة عدد واحد على المخبرين المضعف الكمّي يتضاعف إلى مستوى ضعف ما كان

٣٣٦

عليه سابقاً حيث انَّ كلّ الصور السابقة تضرب في تقديرين إِلاّ انَّ المضعف الكيفي يتضاعف إلى مستوى أكثر من الضعف بكثير لأنَّ هذا من إجراء حساب الاحتمالات والعلم الإجمالي في عوامل الاتفاق والتباين الموجودة بين هذا المخبر والسابقين وهي كثيرة أي أكثر من عاملين كما هو واضح.

وبهذا يظهر اندفاع إشكال قد يورد على ما تقدّم منّا في كيفية حصول اليقين على مسلكنا من التواتر مع الواسطة من انَّه إذا كان قيمة احتمال الخبر مع الواسطة أقل من قيمة احتمال الخبر بلا واسطة ـ كما هو كذلك ـ فسوف نحتاج إلى كمّ أكبر من الاخبار مع الواسطة لعله يكون مثالياً فمثلاً إذا افترضنا انَّ الخبر بلا واسطة كان احتمال الصدق فيه النصف فسوف يكون قيمة احتمال الخبر مع الواسطة الواحدة الربع مثلاً وإذا كان يحتاج إلى أربع اخبار بلا واسطة لحصول التواتر كنا بحاجة إلى أكثر من ستة عشر خبر مع الواسطة لتحصيل ذلك الرقم من اليقين بحساب الاحتمالات فيرجع الأمر مثالياً.

والجواب ـ اتّضح ما تتقدّم فان قيمة احتمال صدق المخبرين مع الواسطة في الحساب النهائيّ ليس دائماً نصف قيمة اخبار المخبرين بلا واسطة أو أقلّ بل أكثر لوجود المضعف الكيفي في اخبارهم وهو انَّه كيف اقتضت مصالحهم أن يكذبوا في خصوص هذا الاخبار مع تباين ظروفهم فان المنظور في الاخبار لكلّ منهم الحديث المروي لا خصوصية ان الصحابي أو الراوي كان فلاناً أو فلاناً عادة.

٢ ـ أن يكون هناك مصب مشترك منظور إليه في جميع تلك الاخبار ، وهذا تارة : يكون مدلولاً تحليلياً ، وأخرى ، مطابقياً. والأول نقصد به ما يشمل المدلول التضمني أو الالتزامي العرفي وهذا ما يسمّى بالتواتر المعنوي وفي هذه الحالة يكون المضعف الكيفي موجوداً بلحاظ ذلك المصب المشترك إذ كيف يفترض اجتماع مصالحهم على الكذب فيه مع انَّ عوامل التباين أكثر بكثير من عوامل الاشتراك وهذا المضعف يوجب حصول اليقين وزوال الاحتمال الضعيف المضعف كميّاً نهائياً كما عرفت. وكلّما كان المصب المشترك أضيق وذا تفاصيل أكثر كان الحساب أوضح وأسرع. وهكذا يحصل القطع بالمصبّ المشترك وفي طوله يرتفع قيمة احتمال المدلول المطابقي لكلّ

٣٣٧

اخبار منها أيضا لأن توقع كلّ منها واحتماله سوف يكون من احتمال قضية مضمونها المعنوي ثابت فيكون موقعها أشدّ وأقوى.

ونقصد بالثاني ما إذا كان المصبّ واحداً بلحاظ المدلول المطابقي للاخبار كاملاً وهنا يكون المصبّ المشترك أضيق دائرة ممّا سبق في الأول فيكون المضعف الكيفي أقوى لأنَّ احتمال تأثير عوامل الاشتراك في المصبّ الأضيق أي في خصوص شخص قضية معينة بتفاصيلها دون عوامل التباين الكثيرة أبعد جداً ، ولهذا كلّما تكون التفاصيل في الواقعة المنقولة أكثر كان المضعف الكيفي أقوى وأسرع تأثيراً في إيجاد اليقين. والتواتر اللفظي أحد مصاديق ضيق المصب المشترك وتفاصيله إذ اتّفاق عوامل المصلحة المشتركة أو اختلال الحدس والخطأ في نقل قصة بهذه الألفاظ بخصوصها أبعد جداً. وبهذا عرف وجه أقوائية التواتر اللفظي عن المعنوي أيضا.

خبر الواحد :

ويراد به مطلق ما لا يفيد العلم من الاخبار سواءً كان واحداً حقيقة أو أكثر.

والحديث عنه تارة : في أصل حجيته في الجملة ، وأُخرى : في حدودها وشروطها.

والبحث الأول يقع في مقامين :

١ ـ في الأدلة التي يستدل بها على عدم الحجية.

٢ ـ في ما يستدل به على الحجية.

ما يستدلّ به على عدم الحجية :

امَّا المقام الأول ـ فقد استدلّ على عدم الحجية بالكتاب والسنة والإجماع.

امَّا الكتاب ، فبآيات النهي عن العمل بالظنّ وأهمّها اثنان آية ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (١). و ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (٢) فان إطلاق عدم العلم والظنّ

__________________

(١) الإسراء ، آية ٣٦.

(٢) يونس ، آية ٣٦.

٣٣٨

شامل للخبر أيضا.

والتحقيق : انَّ هاتين الآيتين لا دلالة لهما على عدم الحجية في مطلق الظنّ فضلاً عن الخبر.

امَّا الآية الأُولى ، فلأنَّ النهي قد تعلّق فيه بالاقتفاء بغير العلم لا مجرد العمل على طبقه والاقتفاء عبارة عن الاتباع والذهاب خلف الشيء وجعله سنداً ودليلاً بحيث يكون هو الداعي والمحرك للإنسان ، وهذا المطلب صحيح في باب الظنّ وعقلائي أيضا ولكنه لا ينافي حجيته فان الاقتفاء حينئذ في مورد الظنّ يكون للعلم بالحجية ووجوب متابعته شرعاً لا لنفس الظنّ وإِن كان العمل على طبق الظن (١).

وامَّا الآية الأُخرى فقد تبين حالها ممّا قلناه في الأُولى فانَّها واردة في سياق التنديد بالكفار الذين يعولون على الظنون والتخمينات فاستنكرته الآية وهذا السياق أي سياق تعليل استنكار طريقة الكفار بنفسه قرينة على انَّ المقصود هو الإشارة إلى سنخ قاعدة عقلية أو عقلائية مفروغ عن صحّتها لا قاعدة شرعية تأسيسية وإِلاّ لم يكن مناسباً مع مقام الاختصام والاحتجاج وما يمكن أن يكون سنخ قاعدة مفروغ عن صحّتها انَّما هو عدم إمكان التعويل على الظنّ بما هو ظنّ لا عدم جعل الحجية للظنّ شرعاً أو عقلائيّاً وعليه فيكون دليل الحجية وارداً على الآيتين.

أضف إلى ذلك : انَّ قوله تعالى ان الظنَّ لا يغني من الحقِّ شيئاً مدلوله المطابقي انَّما هو بيان صغرى انَّ الظن لا يغني في التوصل إلى لبّ الحق والواقع لأنَّه يخطئ ، وهذه صغرى واضحة في نفسها فإذا ضمّ إِليها كبرى ان المطلوب هو التوصل إلى لبّ الحقّ

__________________

(١) فسر القفو في الآية بالبهتان والقذف والكلام خلف الشخص ولعله يناسبه التعليل بقوله ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) فيكون أجنبيّاً عن محل الكلام. ولو حمل على الاتباع فالمعنى حينئذ لا تذهب وراء غير المعلوم ولا تتبعه وهذا إرشاد إلى عدم حجيته لا محالة لأنَّ الاتباع أضيف إلى ما لا علم به لا إلى عدم العلم نفسه. هذا مضافاً : إلى انَّ حمل الخطاب المولوي على الإرشاد إلى حكم العقل خلاف ظهوره في المولوية بخلاف ما لو كان إرشاداً إلى عدم الحجية شرعاً اللهم إِلاّ أن يجعل سياق الاختصام والاستنكار قرينة على الإرشاد إلى حكم العقل.

٣٣٩

والواقع انتج المطلوب إِلاّ انَّ هذه الكبرى انَّما تكون واضحة في باب أصول الدين الّذي يكون المطلوب فيه الوصول إلى لبّ الحقيقة فلا تكون الكبرى المقدرة أكثر من هذا المقدار ومعه لا يتمّ في الآية إطلاق لغير أصول الدين.

ثمَّ انَّ مدرسة المحقق النائيني ( قده ) علقت على هذا الاستدلال بان دليل حجية خبر الواحد يكون حاكماً على الآيتين بجعل الظنّ علماً. وقد أشرنا سابقاً إلى عدم تمامية هذا الجواب لأنَّ الآية الكريمة ليس مفادها النهي التكليفي بل الإرشاد إلى عدم الحجية وحينئذ إذا فرض عدم تمامية دلالتها في نفسها على نفي الحجية فلا حاجة إلى الحكومة وان فرض كونها إرشاداً إلى عدم الحجية فكما ان دليل الحجية يكون مثبتاً للعلمية والطريقية كذلك هذا الدليل ينفي العلمية والطريقية وكلاهما في موضوع واحد وهو الظنّ وعدم العلم فلا وجه لافتراض حكومة أحدهما على الآخر.

وامَّا صاحب الكفاية فقد اعترض على الاستدلال بأمرين :

١ ـ انَّ القدر المتيقّن من إطلاقها الظنّ في أصول الدين لا الفروع.

وفيه : ان أُريد ان المتيقّن منها ولو بلحاظ خارج مقام التخاطب الظنّ في أصول الدين فصحيح إِلاّ انَّه لا يضرّ بالإطلاق على ما تقدّم ، وإِن أُريد نفي إطلاقها للظنّ في الفروع في نفسها فلا موجب له خصوصاً في الآية الأُولى التي جاءت في سياق مستقل عن أصول الدين.

٢ ـ ان دليل حجية خبر الواحد يكون مخصصاً لإطلاق الآية لأن الخبر قسم من أقسام الظنّ. وهذا الوجه في الجملة وإِن كان صحيحاً إِلاّ انَّه لا بدَّ من ملاحظة أدلة الحجية فانَّها ليست جميعاً أخصّ مطلقاً من الآية وإِن كان منها ما يكون أخصّ فمثلاً لو كان المدرك السيرة المتشرعية أو العقلائية فهي توجب القطع بالحجية ومعه امَّا لا إطلاق في الآية أو لا حجية له ، ولو كان المدرك آية النفر أو الكتمان أو النبأ بناءً على انَّ مفهومها ان لم يجئ الفاسق بنبإ سواءً جاء العادل أم لا فلا يجب التبين فهذه الآيات انَّما تدلّ على الحجية بإطلاقها لصورة مجيء خبر الواحد غير الموجب للعلم فتفترق عن آيات النهي فيما إذا كان الخبر علمياً أو لم يكن خبر أصلاً ـ كما في آية النبأ بناءً على ما ذكر ـ فتكون المعارضة بالعموم من وجه. اللهم إِلاّ أن يقال بالناسخية لتأخر

٣٤٠