بحوث في علم الأصول - ج ٤

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

وامَّا الموضع الثاني ـ فمن قبيل باب مقدمات الحكمة ، فانَّ كبراها وهي عبارة عن ظهور حال كلّ متكلّم في انَّ تمام مرامه بمقدار بيانه مسلمة ، ولكن قد يقع الإشكال في الصغرى وكيفية تطبيق تلك الكبرى ، فمثلاً قد يدعى في باب الشرط انَّ اللزوم له حصّتان لزوم انحصاري وغير انحصاري وانَّ غير الانحصاري محدود ومقيّد بشرط فيكون مقتضى الإطلاق وعدم التحديد إرادة الحصّة الانحصاريّة ، وهذا برهان على صغرى الإطلاق لا أصل الظهور الإطلاقي أو ملاكه كما هو واضح ، وهذا المنهج سليم أيضا ولكن على شرط أَنْ يكون التطبيق قابلاً للإدراك عرفاً وإِلاّ كان هناك أحد أمرين امَّا خطأ في البرهان أو تخصيص في كبرى الظهور بما إذا كان القيد عرفياً ، ومن هنا لا نقول بتمامية هذا البرهان في باب الأوامر حيث ادعي انَّ مقتضي إطلاق الطلب هو الطلب المطلق غير المحدود والاستحباب محدود بحد عدمي وهو قيد عقلاً ، ولهذا قيل في الفلسفة انَّ كلّ ممكن محدود ومقيّد بحدٍّ عدمي إِلاّ انَّ مثل هذه قيود غير عرفية وهذا معناه بحسب الدقة انَّ البرهان يكون مجاله التنبيه إلى صغرى الظهور ، ونظير هذا أيضا الاستمداد بالبرهان لتشخيص مصاديق لإطلاق لا يشك العرف في مصداقيتها على تقدير معرفتها وانَّما لا يعرف المصداق.

وقد يكون التطبيق بلحاظ مدلول التزامي وهذا له باب واسع كما إذا استدلَّ على المفهوم مثلاً بأنَّ ظاهر الشرطية دخل الشرط بخصوصه فإذا قام البرهان على استحالة صدور الواحد من الكثير مثلاً ثبت بالالتزام الانحصار وبالتالي المفهوم ، إذا فرض وجود شرط آخر معناه تأثير الجامع بينهما وهو خلف الظهور المدعى.

وأمَّا الموضع الثالث ـ وهو تشخيص خصوصية في الظهور ، فمن قبيل البحث عن انَّ دلالة الأمر على الوجوب هل تكون بالوضع أو بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، فانَّ مثل هذا التشكيك معقول بعد ما عرفنا في أبحاث الوضع انَّ إدراك الظهور الوضعي فرع نفس الوضع والقرن بين اللفظ والمعنى لا العلم به كما انَّ الظهور بالقرينة العامة أو الخاصة فرع واقع وجودها لا العلم بها وبهذا دفعنا إشكال الدور عن علامية التبادر.

وتعيين خصوصية الظهور ونوعه يترتّب عليه آثار في مثل باب التعارض فيكون للصناعة والاستدلال دور في هذا المجال حيث يمكن على أساس المقارنات والملاحظات وإعمال

٣٠١

الدقة الصناعية إحراز خصوصية الظهور المبحوث عنه بل الطرحة الصحيحة الحديثة لكثير من البحوث اللفظية الأصولية تقوم على هذا المنهج فمثلاً دلالة صيغة الأمر على الوجوب لا نقاش فيها بحسب الحقيقة وانَّما البحث عن ملاكها وخصوصيتها.

وأمَّا الموضع الرابع ـ وهو التنسيق بين ظهورين في كلام واحد بحيث على أساسها تستنتج دلالة ثالثة ، فمن قبيل ما ذكرناه في بحث المفهوم للجملة الشرطية من أنَّه لا بدَّ من ملاحظة انَّ التعليق يطرأ على إجراء الإطلاق في الجزاء أو الإطلاق يجري في الحكم المعلَّق ، وعلى الأول يدلّ الكلام على انتفاء سنخ الحكم فينتج المفهوم بخلافه على الثاني. وللصناعة أيضا مجال في إثبات إمكان طرو التعليق على المطلق وعدمه وهذا بحسب روحه وإِنْ كان بحثاً صغروياً عن مصداق الظهور المفروغ عن كبراه إِلاّ انَّه

بلحاظ كونه كيفية للتنسيق بين صغرى ظهورين أو أكثر أفردناه في الذّكر.

ثمّ انَّ هناك حالة أُخرى يحتاج فيه الفقيه إلى إِعمال الصناعة في باب الدلالات لا لإثبات أصلها بل لتفسير ما يعترف مسبقاً بثبوته من أنواع الدلالة والظهور وقد اصطلحنا على ذلك بالبحوث اللغوية التفسيرية لأنَّه قد يكون أصل الدلالة والظهور بحسب الوجدان ثابتاً ولكن لا يعرف تخريجه الفنّي ونكتته لكي يستفاد من ذلك في مقام الإقناع أو في التأكّد من الظهور أو دفع تهافت وتذبذب متوهّم بين ظهورين ودلالتين وجدانيّتين لا يمكن رفعه إِلاّ بإعطاء نظرية يمكن أَنْ ينسق على أساسها بين كلّ تلك الوجدانات من دون تهافت ، وهذا نظير أبحاثنا في مفهوم الشرط حيث قلنا انَّ أصل وجدانية المفهوم للجملة الشرطية ينبغي أَنْ لا يشكك فيها وانَّما لا بدَّ من إعطاء تفسير فنّي لمثل هذه الاستفادة يدفع على أساسها شبهات فنيّة أوردناها هناك من انَّ المعلَّق شخص الحكم فكيف يستفاد المفهوم أو كيف يجري الإطلاق في الحكم المعلق بلحاظ التعليق مع انَّه نسبة ناقصة إلى غير ذلك ، وكذلك ينسق على أساسها بين وجدانيين قد يتوهّم التنافي بينهما وهو وجدانية المفهوم للجملة الشرطية ودلالتها على انحصارية الشرط من جهة ووجدانية عدم لزوم المجاز في موارد استعمالها مع ثبوت العدل وعدم اللزوم الانحصاري فقد دفعنا هذا التذبذب الّذي قد يؤدّي بصاحبه إلى التشكيك في أصل الدلالة الوجدانية ، بل المظنون انَّ من أنكر المفهوم للشرط كان مهم

٣٠٢

السبب عنده مثل هذه العوامل والنكات الصناعية بشهادة انَّهم في الفقه تمسّكوا بالمفهوم في الجملة الشرطية في مثل قوله عليه‌السلام ( إِذا بلغ الماء قدر كرٍّ لا ينجسه شيء ) (١). وهذا المنهج من البحث نهج تفسيري علمي نظير البحوث العلمية التفسيرية للقضايا الطبيعية في العلوم وهو منهج صحيح وبهذا نختم بحث الظواهر وحجيتها.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، باب ٩ من أبواب الماء المطلق.

٣٠٣
٣٠٤

حجيّة الإجماع

والبحث أولا عن وجه حجيّة الإجماع المحصَّل ثمَّ عن ملاك حجية نقله.

١ ـ الإجماع المحصَّل :

هنالك أحد مسالك ثلاثة في وجه حجيّة الإجماع المحصَّل.

١ ـ حجيته بقانون العقل العملي المعبّر عنه بقاعدة اللطف.

٢ ـ حجيته بدليل شرعي.

٣ ـ حجيته بقانون العقل النظريّ وكشفه عن الواقع.

أمَّا المسلك الأول ـ فقد نسب إلى بعض الأقدمين من أصحابنا من جملتهم الشيخ ( قده ) وهو يبتني على أساس قاعدة اللطف العقلية ، وهي قاعدة متفرعة على أصل العدل الإلهي في علم الكلام إذ يراد بها إدراك العقل لما يكون واجباً على الله سبحانه وتعالى بحكم كونه عادلاً وتسميته باللطف تأدباً ، وقد تمسّكوا بها في علم الكلام لإثبات النبوّة العامة وحاول تطبيقها الفقهاء الأقدمون في مسألة الإجماع لإثبات حجيته بدعوى انَّ من اللطف اللازم عليه سبحانه أَنْ لا يسمح بضياع المصالح الحقيقية في أحكام الشارع على الناس نهائيّاً بل لا بدَّ من انحفاظها ولو ضمن

٣٠٥

بعض الأقوال فإذا أجمعت الطائفة على قول ينكشف انَّه هو الحقّ وإِلاّ لزم خفاء الحقيقة كليّاً وهو خلاف اللطف.

وهذا المسلك غير تام لوجوه :

أحدها ـ انَّه لو أُريد من المصالح الحقيقية الملاكات التكوينية الثابتة بقطع النّظر عن أحكام الشارع وتشريعاته فمثل هذه الملاكات من الواضح عدم لزوم حفظها من قبل الله سبحانه على البشرية ولم تجر العادة أيضا على حفظها بتدخل مباشر من الله سبحانه بل أُوكل ذلك إلى خبرة البشر وبصيرتهم المتنامية المتطورة من خلال التجارب والممارسات ولعلَّ الحكمة في ترك البشر وخبرته ليتكامل ويكدّ وتتفتّح قدراته وإمكاناته تدريجيّاً ، والحاصل قاعدة اللطف لا يمكن تطبيقه على مثل هذه الملاكات الأوليّة التكوينية امَّا لعدم المقتضي لمثل هذا التطبيق أو للمزاحمة مع الملاك الّذي ذكرناه ، ولهذا لم يلزم على الله سبحانه أَنْ يبعث أطبّاءً كما بعث أنبياء.

ولو أُريد تطبيقها على المصالح والملاكات البعدية التي تحصل في طول التشريع الرباني وهي ملاكات الطاعة والعبودية لله والتكامل المعنوي وهي التي طريق حفظها منحصر بالله سبحانه بما هو مشرع وواضع العقاب والثواب فكبرى تطبيق قاعدة اللطف على مثل هذه المصالح وإِنْ كان لا يخلو من وجه ولهذا طبقت القاعدة لإثبات أصل النبوة العامة. إِلاّ انَّ صغرى ذلك غير منطبق في المقام إِذ لا فرق في حفظ هذه الملاكات الطولية بين الحكم الظاهري والواقعي فحتى إذا كان ما أجمع عليه الفقهاء خلاف الحكم الواقعي لا يكون ذلك خارجاً عن الشرع بل على طبقه وبقاعدة أو أصل من أصوله ووظائفه المقررة ظاهرياً كما هو واضح.

الوجه الثاني ـ انَّه لو تنزلنا فاللطف المذكور في إبراز الحقيقة امَّا أَنْ يدعى انَّه لطف لازم من قبله سبحانه بالنسبة إلى كلّ المسلمين أو إلى بعضهم بأنْ يرشد خمسة من العلماء مثلاً إلى الحقيقة ويكفي ذلك لإنجاز المهمة العقلية العملية ، امَّا الثاني فغريب في نفسه كبروياً إذ ميزان ترقّب اللطف هو العبودية والحاجة إلى اللطف وهو في الجميع على حد واحد فكيف يختص ببعض ويكفي ذلك في سد الحاجة عن غيرهم ، وامَّا الأول بأَنْ يفترض انَّ طريق الحقيقة مفتوح للجميع بحيث كلّ عالم يمكنه أَنْ

٣٠٦

يصل إِليها كما وصل إِليها البعض غاية الأمر بحاجة إلى مزيد جهد وبذل وسع أكثر من المقدار اللازم في مقام الاكتفاء بإجراء الأصول والقواعد العامة في الاستنباط فدعوى الجزم ببطلانه ليس مجازفة ، إذ في كثير من المواضع نقطع بأنه مهما اجتهد وبذل الجهد أكثر فأكثر لا يتغير الموقف ولا يصل إلى ما يغير مقتضى القاعدة أو الأصل.

الوجه الثالث ـ لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا كفاية اللطف المردد بين بعض المجمعين في إشباع هذه الحاجة وإنجاز المهمة العقلية العملية ، فاللطف المذكور انَّما يجب بمعنى انَّه لا بدَّ للمولى سبحانه من أَنْ ينصب من يكون في نفسه طريقاً إلى الحقائق لا بمعنى رفع الموانع عن الوصول إِليها مطلقاً حتى إذا كان بفعل العباد وعصيانهم أنفسهم والنصب بالمعنى المذكور قد سلكه سبحانه بنفس نصب الإمام ( عجل الله فرجه ) وغيابه انَّما هو من جهة منع العباد وعصيانهم فلا قصور من ناحية المولى.

المسلك الثاني ـ إثبات حجية الإجماع بدليل شرعي وقد استدلّ فقهاء الجمهور على حجيته في إطار هذا المسلك بوجوه عديدة ما يستحق منها الذّكر هو التمسّك بالنبوي المشهور « أُمّتي لا تجتمع على ضلالة » وقد وجدناه بصيغتين.

إحداهما ـ ما عن أبي خلف الأعمي قال سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول انَّ أُمّتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم « نقله ابن ماجة في سننه ج ٢ ص ١٢٠٣ ».

الثانية ـ ما نقله شريح عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انَّ الله أجاركم من ثلاث خلال : أَنْ لا يدعو عليكم نبيّكم فتهلكوا جميعاً ... وأَنْ لا تجتمعوا على ضلالة.

« نقله أبو داود في سُننه ج ٤ ص ٩٨ ».

فيستدلّ بها على حجية الإجماع لكونها شهادة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعصمة مجموع الأُمة.

وقد يناقش في هذا الاستدلال بأنَّ غاية ما يثبت بهذا المضمون حجية المجموع وهذا أمر صحيح مسلم عندنا أيضا لوجود المعصوم ضمن المجموع وهو الإمام عليه‌السلام الموجود في كلّ زمان ، فليس في الحديث على تقدير صدوره دلالة على أكثر من وجود المعصوم في الأمة.

٣٠٧

وفيه : انَّ ظاهر الحديث انَّ موضوع العصمة وملاكها المجموع حيث عبر بأنها لا تجتمع على ضلالة لا انَّ ذلك من باب وجود معصوم بينهم بحيث يكون ضمّ ساير الأقوال إليه من قبيل ضمّ الحجر إلى جنب الإنسان.

نعم قد يقال : انَّ هذه الرواية وإِنْ دلّت على وجود معصوم آخر وهو مجموع الأُمة إِلاّ انَّ هذا لا تتضمن نتيجة مفيدة بالنسبة إلينا لأنَّ مثل هذا المعصوم إحرازه توأم دائماً مع إحراز قول المعصوم الأول وهو الإمام عليه‌السلام إذ لو أحرزنا دخوله في المجمعين كفى ذلك في الحجية وإِلاّ فلا يحرز المعصوم الثاني أيضا لأنَّه جزء من الأُمة. اللهم إِلاّ أَنْ يقال بأنَّ ظاهر الذيل ( فعليكم بالسواد الأعظم ) الوارد في الصيغة الأُولى إرادة المعنى العرفي للإجماع لا المعنى الحرفي الدّقيق فلا ينثلم بخروج فرد أو فردين.

والصحيح في المناقشة :

أولا ـ عدم دلالة الحديث على ما يفيد في مسألتنا الأُصولية ، لأنَّ الوارد في الحديث عنوان لا تجتمع على ضلالة ، والضلالة تستبطن الإثم والانحراف وهو أخصّ من الخطأ وعدم الحجية المبحوث عنه في الإجماع فانَّ خطأ المجمعين جميعاً في مسألة فرعية لا تعني ضلالتهم كما هو واضح.

وثانياً ـ ضعف السند لا فقط بلحاظ الأصول الموضوعية المذهبية لنا بل حتى بحسب موازينهم في الجرح والتعديل لأنَّ أبي خلف الأعمي الناقل للصيغة الأُولى قد شهد بضعفه جملة من علمائهم وقال بعضهم انَّ هذا الحديث جاء بطرق في كلّها نظر.

وامَّا الصيغة الثانية ففي سندها قضمضم الّذي هو محل خلاف عندهم من حيث الصحة وعدمها ، وإِنّ شريح الّذي ينقل عنه قضمضم هذا الحديث وإِنْ كان قد شهدوا بوثاقته إِلاّ انَّه قد نقل الحديث عن أبي مالك الأشعري ومن المظنون قوياً انَّه لم يدرك أبي مالك لأنَّه قد شهد في حقّه انَّه لم يدرك سعد بن أبي وقّاص وأبو مالك قد توفي في حياة سعد وهناك من تشكك في أصل رواية شريح مباشرة عن الصحابة فانَّه نقل عن محمد بن عوف انَّه سئل هل سمع شريح عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لا أظنّ ذلك وصرح أبو حاتم انَّ كلّ ما يرويه عن أبي مالك الأشعري فهو مرسل.

٣٠٨

المسلك الثالث ـ إثبات حجية الإجماع بلحاظ مدركات العقل النظريّ ، وقد ذكر في الكتب انَّ الإجماع تارة يدعى كونه كاشفاً عن الواقع ـ الحكم الواقعي ـ بالملازمة العقلية ، وأخرى بالملازمة العادية ، وثالثة بالملازمة الاتفاقية ، ومثلوا للأولى بالتواتر الموجب للقطع ، وللثانية بطول العمر الملازم عادة مع الهرم والشيخوخة وإِنْ كان لا يستحيل الانفكاك عقلاً وللثالثة بالقطع الحاصل صدفة واتفاقاً من مجموعة أخبار لا تبلغ حدَّ التواتر.

والصحيح : انَّ الملازمة على نحو واحد دائماً وهي بملاك استحالة الانفكاك عقلاً ، فانَّ الاستحالة والإمكان لا يدرك إِلاّ بالعقل دائماً ولكنه تارة يحكم العقل بذلك مطلقاً ، وأُخرى يحكم به ضمن ظروف موجودة عادة وغالباً ، وثالثة ضمن ظروف اتفاقية. كما انَّ الصحيح انَّه لا ملازمة عقلية حتى في التواتر بين التواتر والصدق فضلاً عن الإجماع ، لأنَّ كلّ خبر يحتمل نشوؤه من مناشئ محفوظة حتى مع كذب القضية فلا ملازمة كذلك كما برهنا على ذلك في كتاب الأُسس المنطقية وانَّما الاستكشاف مبنيٌ على أساس الدليل الاستقرائي المبتني على أساس حساب الاحتمالات وحينئذ ما يقال في كاشفية التواتر يمكن أَنْ يقال في الإجماع مع فوارق سوف نشير إِليها. فانَّ احتمال الخطأ في فتوى كلّ فقيه وإِنْ كان وارداً إِلاّ انَّه بملاحظة مجموع الفقهاء المجمعين وإجراء حسابات الاحتمال فيها عن طريق ضرب احتمالات الخطأ بعضها بالبعض نصل إلى مرتبة القطع أو الاطمئنان على أقل تقدير بعدم خطئها جميعاً وهو حجة على كلّ حال.

والصحيح انَّ روح الكاشفية وملاكها في كلّ من التواتر والإجماع وإِنْ كان واحداً إِلاّ انَّ هناك نقاط ضعف عديدة في الإجماع توجب بطء حصول اليقين منه بل وعدم حصوله في كثير من الأحيان غير موجودة في التواتر نذكر فيما يلي أهمّها :

الأولى ـ انَّ مفردات التواتر تكونه شهادات حسيّة ، وامَّا الإجماع فمفرداته شهادات حدسية لأنَّها عبارة عن فتاوى وهي مبنية عادة على النّظر والاجتهاد ، ومن الواضح انَّ احتمال الخطأ في الحدس أكبر منه في الحسّ لأنَّ نسبة الخطأ في الحدسيات أكثر بكثير من نسبته في الحسيات فيكون مبدأ حسابات الاحتمال التي بها نتوصل إلى اليقين أو

٣٠٩

الاطمئنان في باب الإجماع قيمة احتمالية أضعف منه في التواتر ، ومن هنا كانت كاشفية الإجماع تتأثر بدرجة اقتراب فتاوى المجمعين إلى الحسّ فكلّما كان حجم النّظر والاجتهاد فيها أقلّ كانت كاشفيتها عن الواقع أقوى وآكد ، وبهذا يتميز الإجماع في المسائل الفقهية ذات المبادئ النظرية الاجتهادية عادة على الإجماع في المسائل الفقهية ذات المبادي غير النظرية المعقدة وكذلك يختلف الإجماع من عصر إلى عصر لأنَّه كلّما اقتربنا إلى عصر الأئمة كان حجم الجانب الحسّي أكبر وحجم تأثر المسألة بالجانب النظريّ أقلّ ومن هنا كانت قيمة فتاوى القدماء أكبر من قيمة فتاوى المتأخرين ، كما انَّه على هذا الأساس أيضا كلّما كان مبلغ تبصّر المجمعين وألمعيّتهم وخبرتهم للوصول إلى الواقع أكثر كانت القيمة الاحتمالية لفتاواهم أكبر.

الثانية ـ انَّ الخطأ المحتمل في الاخبار عن الحسّ له مصبّ واحد عادة بينما في باب الإجماع قد لا يكون له مصبّ واحد ، ومن الواضح انَّ احتمال خطأ جميع العشرة مثلاً في اخبارهم عن مصب واحد أبعد من احتمال خطأ عشرة في إخباراتهم غير المنصبة على مصبّ واحد ، فمثلاً احتمال خطأ العشرة المخبرين بموت زيد بالخصوص أبعد من احتمال خطأهم في اخبار كل منهم عن موت جاره الّذي هو غير جار الآخر. وهذا المدعى نذكره هنا كمدعى وجداني وقد برهنا عليه وذكرنا قوانينه وضوابطه في كتاب الأُسس فهي قضايا نذكرها هنا كمصادرات معتمدين فيها على الوجدان وإِلاّ فهي مبرهن عليها من قبلنا في محلها ، ومن هنا كلّما كان مناشئ الفتوى في المسألة الإجماعية وجهاتها أقرب إلى المصب الواحد كان أقوى كما إذا فرض انَّ كلّ جهات المسألة واضحة لوجود رواية لا إشكال في سندها وانَّما الكلام في دلالتها فأجمعوا على دلالتها مثلاً على الحكم المجمع عليه ، وهذا بخلاف ما إذا كان يحتمل لكل فتوى تخريج ومصب غير الآخر كما في مسألة جواز رجوع الأيادي المتعاقبة السابق منهم إلى اللاحق في البحث الفقهي المعروف من كتاب البيع.

الثالثة ـ في التواتر لا يحتمل عادة أَنْ يكون بعض المخبرين قد وقع تحت تأثير وهم المخبر الآخر ، لأنَّ ذلك خلف المفروض في التواتر وهذا بخلاف باب الإجماع فانَّ تأثر اللاحق بالسابق في الفتوى أمر واقع كثيراً وقد يكون التأثر إجمالياً ارتكازياً ، وهذا

٣١٠

سوف ينقص كثيراً من قيمة احتمال مطابقة الفتوى اللاحقة للواقع مستقلاً عن الفتوى السابقة وبالتالي تتغير نتائج حساب الاحتمالات ، ومن هنا كلّما كانت الفتاوى أكثر عرضية كانت أقوى في الكاشفية عمّا إذا كانت مترتبة زماناً أو مدرسيّا.

الرابعة ـ عدم وجود نكتة مشتركة للخطإ في التواتر والإخبارات الحسية عادة ، بخلاف ذلك في الإجماع والفتاوى الحدسية ، ووجود نكتة مشتركة للخطإ له أثر كبير في إبطال حسابات الاحتمال ، فمثلاً إذا أخبر عشرة عن وجود الهلال وكانوا في نقطة فيها نصب يشبه بالهلال فلا يحصل العلم من إخباراتهم وهذا بخلاف ما إذا لم يكن ذلك النصب موجوداً ، وفي باب الإجماعات وجود نكتة مشتركة للخطإ أمر محتمل في أغلب الأحيان كما إذا فرض مثلاً إجماعهم على بطلان الصلاة المزاحمة مع الإزالة لعدم توصلهم إلى فكرة الترتب فإذا احتمل ذلك كان مؤثراً في حساب الاحتمالات بحسب النتيجة.

وهناك نقاط وعوامل أُخرى جزئية غير ما ذكر لا ضابط لها يمكن الالتفات إليها وتفصيلاً في الفقه في كل باب بحسبه.

وبالالتفات إلى روح كاشفية الإجماع هذا يتبيّن ما معنى ما استقرّ عليه رأي المتأخرين من الأُصوليين بحسب ارتكازهم من انَّ الإجماع بالملازمة الاتفاقية يكشف عن قول المعصوم ، فانَّ هذا مدركه الفني ما ذكرناه من انَّ كاشفية الإجماع انَّما هي بنكتة حساب الاحتمالات وهو يتأثر بعوامل وضوابط عامة وخاصة متعددة ، ولهذا تختلف الإجماعات من حيث الكشف المذكور حسب اختلاف مواردها وخصائصها.

كما انَّه باكتشاف ضوابط الكشف الرئيسية يقضى على الفوضى الفقهية في الاستدلال بالإجماع ، إذ قلّما يمكن تحديد وتفسير مواقف بعض الفقهاء في مجموع المسائل الفقهية حيث قد يناقش الإجماع في مسألة وقد لا يناقش في أُخرى.

ثمَّ انَّ هذه الكاشفية بالنحو المتقدّم لها أحد طرزين من التطبيق ، أحدهما ضعيف والآخر قوي صحيح وضعف الأول وقوة الثاني كلاهما مرتبطان بمؤثرات حساب الاحتمال.

٣١١

فالتطبيق الضعيف هو أَنْ يراد بالإجماع كشف صلاحية المدرك لدى المجمعين بعد الفراغ عن أصل وجوده ، فيقال مثلاً انَّ مدارك المجمعين إذا كانت الرواية المعيّنة مثلاً فنطبق حساب الاحتمالات على استناد المجمعين إِليها ونقول انَّ احتمال خطأ واحد في فهم الحكم من هذا المدرك وإِنْ كان وارداً بأَن لا تكون الرواية تامة الدلالة على الحكم إِلاّ انَّ افتراض خطأ المجموع بحساب الاحتمالات منفي كما أُشير إليه فيتحصل اليقين أو الاطمئنان بصلاحية ذلك المدرك وتماميته ، إذ لا يمكن افتراض ان كل أولئك قد أخطئوا ، وهذا الاطمئنان حجة لصاحبه على الأقل وإِنْ لم يكن حجة لغيره فيما إذا فرض حصوله من مجرد جمع آراء الآخرين وملاحظة إجماعهم دون الرجوع إلى مدارك المسألة ، مثلاً ليكون تقليد العامي له من رجوع الجاهل إلى العالم.

ووجه الضعف في هذا النحو من التطبيق ابتلاؤه بنحو شديد بتمام نقاط الضعف الأربع المتقدمة ، خصوصاً مع الالتفات إلى انَّ الإنسان يعلم تفصيلاً أو إجمالاً انَّ كثيراً من القضايا النظرية الحدسية كانت قد اتّفقت عليها كلمة جمهور العلماء في كلّ فن ثمّ انكشف بعد ذلك بطلان تلك القضية وخطأهم جميعاً.

نعم لو فرضنا انَّ الأنظار المتجمعة كانت تشبه الحسّ بحيث تخلو عن نقاط الضعف المذكورة لكان لهذا التطبيق مجاله ، كما لو استندوا جميعاً إلى ظهور في رواية معينة صحيحة سنداً عندنا فانَّ مسألة الاستظهار مسألة تشبه الحسّ لكون أولئك يمثلون بنفسهم العرف بل هم العرف الأدق والأبصر فإذا فهموا بأجمعهم معنى معيناً من النصّ فلا محالة يحصل الجزم أو الوثوق بأنَّ ذلك الفهم العرفي صحيح لو لا نكتة خاصة يمكن أَنْ تكون مفسرة لخطئهم في الفهم كنكتة مشتركة.

وأمَّا التطبيق الصحيح فيتمثل في إجماع الفقهاء المعاصرين لعصر الغيبة الصغرى أو بُعيدها إلى فترة كالمفيد والمرتضى والطوسي والصدوق ( قد هم ) ، فإنَّهم إذا استقرَّ فتواهم جميعاً على حكم ولم يكن يوجد بأيدينا ما يقتضي تلك الفتوى بحسب الصناعة لكونها على خلاف القواعد العامة المنقولة من قبل نفس هؤلاء في كتب الحديث مثلاً استكشفنا وجود مأخذ على الحكم المذكور بيدهم وذلك ببيان : انَّ إفتاء أولئك الأجلاء من دون دليل ومآخذ غير محتمل في حقّهم مع جلالة قدرهم وشدة تورعهم

٣١٢

عن ذلك كما أنَّه لا يحتمل في حقّهم أَنْ يكونوا قد غفلوا عن مقتضى القاعدة الأولية المخالفة لتلك الفتوى لأنَّهم هم نقلته إِلينا بحسب الفرض خصوصاً إذا كانت تلك القاعدة واضحة مشهورة مطبقة من قبلهم في نظائر ذلك فلا بدَّ من وجود مأخذ على أساسه خرجوا عن مقتضى تلك القاعدة وذلك المأخذ المخصِّص لحكم القاعدة يتردد في بادي الأمر بين احتمالين ، أَنْ يكون هناك رواية عندهم قد استندوا إِليها ولم تصل إِلينا ، أو أمر آخر. إِلاّ انَّ الاحتمال الأول ساقط عادة إذ لو كانت توجد رواية كذلك عندهم فكيف لم يذكروها في كتبهم الفقهية الاستدلالية أو الروائيّة ، إذ من غير المعقول انَّهم جميعاً قد استندوا إلى رواية واضحة الدلالة على ذلك ولذلك أجمعوا على مضمونها ومع ذلك لم يتعرض لذكرها أحد منهم مع انَّهم قد تعرّضوا لروايات ضعاف لا يستندون إِليها سنداً أو دلالة في مجاميعهم الحديثية أو كتبهم الاستدلالية ، بل كيف يحتمل ذلك مع ملاحظة انَّ فتاواهم ومتونهم الفقهية كانت على حسب الروايات الواردة غالباً لا انَّها تفريعات وتشقيقات مستقلة كما في المتون الفقهية المتأخرة فكيف يفترض وجود رواية لم يجعلوا لها متناً في كتبهم فغفلوا عنها نهائيّاً؟ كلّ ذلك يوجب العلم عادة بسقوط هذا الاحتمال وبالتالي تعيين الاحتمال الآخر وهو انَّهم قد تلقّوا الحكم المذكور بنحو الارتكاز العام الّذي لمسوه عند الجيل الأسبق منهم وهم جيل أصحاب الأئمة عليهم‌السلام الذين هم حلقة الوصل بينهم وبين الأئمة عليهم‌السلام ومنهم انتقل كلّ هذا العلم والفقه إليهم ، وهذا الارتكاز ليس رواية محددة لكي تنقل بل هو مستفاد بنحو وآخر من مجموع دلالات السنة من فعل المعصوم أو تقريره أو قوله على إجمالها ، ولهذا لم تضبط في أصل معين وهذا هو التفسير الوحيد الّذي تلتئم به قطعياتنا الوجدانية في المقام وباعتبار انَّ هذه الافتراضات كلّها قريبة من الحسّ لأنَّ الارتكاز أمر كالحسّ وليس كالبراهين العقلية الحدسية فلا يقال لعلهم أخطئوا جميعاً في فهمه ، فلا محالة يحصل الجزم أو الوثوق بالحكم ضمن شروط وتحفظات لا بدَّ من أخذها بعين الاعتبار لتتم الحسابات الكاشفة ، ولعلّ دعاوى الإجماع من قبل بعض الأقدمين تحكي عن إجماع غير مكتوب حقيقته الارتكاز المذكور.

وعلى ضوء هذا الفهم تندفع الإشكالات المعروفة على التمسك بالإجماع نورد

٣١٣

فيما يلي أربعة منها :

الأول ـ قالوا انَّ إجماع أصحاب شخص انَّما يكشف عن رأيه أو ذوقه إذا كانوا في موقع يمكنهم من الاتصال المباشر معه وامَّا إذا كان محجوباً عنهم وليس بينهم وبينه إِلاّ الظنون والحدس فاتفاقهم لا يكشف عن رأيه ، ومقامنا من هذا القبيل لأنَّ فقهاء عصر الغيبة كانوا محجوبين عن إِمامهم ( عجل الله فرجه ).

والجواب ـ ظهر ممّا تقدم ، فإنَّا لا نحاول الكشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام مباشرة من الإجماع ليقال انَّه محجوب عنهم بل بتوسط الارتكاز المتلقى عن أصحاب الأئمة السابقين عليه‌السلام وارتكازهم كاشف عن رأيه لكونهم معاصرين معهم ومتلقّين لكل تصوراتهم عنهم.

الثاني ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) ، من انَّ غاية ما يقتضيه الإجماع انَّ الفقهاء لتورعهم وعدالتهم لا يفتون بدون مدرك إِلاّ انَّ هذا لا يفيد لنا شيئاً لأنَّه :

أولا ـ لا يكشف عن وجود رواية صحيحة وصلتهم ولم تصلنا لأنَّ هذا بنفسه غريب إذ كيف يمكن أَنْ يفرض وصول رواية صحيحة عندهم إليهم وقد استندوا إليها جميعاً ومع ذلك لم ينقلوها لنا مع انَّهم هم حملة الروايات إلينا وانَّهم قد نقلوا الغثّ والسمين والصحيح والسقيم من الروايات.

وثانياً ـ لو فرض ذلك فما يدريك أَنَّ تلك الرواية لو كانت تصل إلينا لكانت تامة الصلاحية عندنا فلعلها كانت غير تامة امَّا سنداً لاختلاف المباني في تصحيح الأسانيد ، أو دلالة لالتفاتنا إلى نكتة خفيت عليهم كما يقع ذلك كثيراً.

وهذا الإشكال أيضا ظهر جوابه ممّا تقدّم ، حيث اتّضح انَّ المأخذ ليس هو استكشاف مدرك روائي وصلهم ولم يصلنا ليلاحظ عليه بالملاحظتين بل استكشاف ما هو أقوى من الرواية وهو الارتكاز الكاشف تكويناً وقطعاً عن رأي المعصوم بالنحو المتقدّم شرحه.

الثالث ـ اعتراض وجهه الأخباريون في المقام من انَّ الإجماع ليس مدركاً في الاستنباط لأنَّ مصادره قد حصرت في الكتاب والسنّة.

وهذا الاعتراض لا ندخل هنا في صحّة كبراه في نفسه ، فانَّ ذلك قد تقدّم مفصلاً

٣١٤

في بحث حجية الدليل العقلي وانَّما يمنع عن حجية الإجماع لو أُريد تخريجه على غير هذا المسلك الّذي سلكناه ، فانَّه على أساس هذا المسلك يكون كاشفاً قطعيّاً على حدّ كاشفية التواتر وليس حجة شرعية ولا دليلاً عقليّاً لينفى الأول ويناقش في دليليّة الثاني في مجال الاستنباط وهذا واضح.

الرابع ـ نقاش صغروي في كيفية تحصيل الإجماع بعد الالتفات إلى انَّ ما وصلتنا من الأقوال على أحسن التقادير لا تعبر عن أكثر من فتاوى أصحاب الكتب أو من كان له منبر تحته أصحاب الكتب ممّن نقل إِلينا فتاواهم ، وهذا المقدار لا يمكن أنْ يمثل إجماع علمائناً في عصر واحد فضلاً عن أكثر من عصر ، ولهذا نجد انَّ من ينقل عنهم عادة الفتاوى الفقهية في هذا المجال لا يتجاوزون الأصابع مع وضوح انَّ علماءنا أكثر من هذا المقدار بكثير.

والجواب ـ أيضا يظهر بالتأمل فيما سلكناه في تقرير حجية الإجماع فإنَّنا غير تابعين لعنوان الإجماع إذ لم يقع ذلك موضوعاً لحجية أو أثر شرعي وانَّما المناط الكشف عن ارتكاز أصحاب الأئمة عليهم‌السلام المعاصرين لهم والمعاشرين معهم وهذا يكفي فيه الجيل الطليعي من علمائنا الأبرار الأقدمين الذين كانوا هم حملة علم أولئك وامتداد فقههم في المحاور الرئيسية لوجودهم ، فضمّ غيرهم من علماء الشيعة ممن لم يكن بمستواهم علماً أو مكانة وقرباً من محاور فقه أهل البيت أو اهتماماً بتلقيه وضبطه ونقله لا يكون دخيلاً في ملاك الحجية الّذي شرحناه وهو الكشف عن الارتكاز بحساب الاحتمالات الكاشف عن رأي المعصومين عليهم‌السلام ونظرهم ، ومن هنا لا نرى قدح مخالفة الإجماع من قبل بعض القدماء من الأصحاب إذا كان سنخ مخالف بلحاظ ظرفه التاريخي أو وضعه العلمي أو خصوصية في آرائه تكون مخالفته غير متعارفة وخارجة عن روح الفقه الإمامي وإطاره العام.

ويمكننا أَنْ نلخص على ضوء مجموع ما سبق أربع خصوصيات لا بدَّ من توفرها في كاشفية الإجماع عن الحكم الشرعي وهي كما يلي :

١ ـ أَنْ يكون مشتملاً على فتاوى الأقدمين من علمائنا ولا أثر لفتاوى المتأخرين عنهم ، لأنَّ التطبيق الصحيح للإجماع على ما تقدّم انَّما كان على أساس كشف

٣١٥

الارتكاز عند أصحاب الأئمة وهو لا يمكن كشفه إِلاّ من قبل إجماع القدماء من علمائنا المتصلين بأولئك الأصحاب.

٢ ـ أَنْ لا يكون قد استندوا في كلماتهم إلى مدرك شرعي موجود بل ان لا يحتمل ذلك احتمالاً معتداً به وإِلاّ لزم تمحيص تلك الفتاوى بتمحيص ذلك المدرك. نعم قد يكون الإجماع حينئذ معززاً لذلك المدرك على نحو تقدّمت الإشارة إِليه امَّا دلالة أو سنداً أو جهة.

٣ ـ أَنْ لا تكون هناك قرائن على عدم وجود ارتكاز في طبقة أصحاب الأئمة عليهم‌السلام وإِلاّ كانت معارضة مع كاشفية الإجماع ومانعة عن إنتاج قوانين حساب الاحتمال ، ومن أمثلة ذلك ما ذكر في بحث طهارة الكتابي ونجاسته حيث استنتجنا من طرز أسئلة الأصحاب في مقام السؤال عنهم عليهم‌السلام وافتراض انَّ الكتابي يشرب الخمر ويأكل الميتة ونحو ذلك عدم وجود ارتكاز لديهم على النجاسة وإِلاّ لم يكن يحتاج إلى ذلك الافتراض.

٤ ـ أَنْ تكون المسألة ممّا لا يترقب حلّها إِلاّ ببيان من الشارع مباشرة لا أَنْ تكون المسألة عقلية أو عقلائية أو تطبيقية لقاعدة أولية واضحة مسلمة فانَّه في مثله لا يكون الإجماع كاشفاً عن ارتكاز كذلك ، وهذا الشرط بالإمكان إرجاعه إلى الشرط الثاني تحت جامع واحد.

ثمّ انَّ الإجماع له معقد وهذا المعقد قد يكون له إطلاق وله قدر متيقن ولا بدَّ من ملاحظة أَنَّ كاشفية الإجماع بحساب الاحتمالات بلحاظ القدر المتيقن أقوى من كاشفيته بلحاظ إطلاق معقده ، لأنَّ خطأ المجمعين في تشخيص أصل الارتكاز أبعد من خطأهم في تشخيص حدوده وامتداداته.

هذا تمام كلامنا في الإجماع البسيط وحجيته ، ومنه قد اتّضح انَّه بناءً على طريقتنا في حجية الإجماع يكون الإجماع دائماً دليلاً طوليّاً على الحكم الشرعي ، لأنَّه يكشف عن الارتكاز المتشرعي الّذي هو عبارة أُخرى عن السيرة المتشرعية ولهذا كانت القرائن النافية للسيرة نافية لحجية الإجماع أيضا.

٣١٦

الإجماع المركّب :

وامَّا الإجماع المركّب فهو عبارة عن الاستناد إلى رأي مجموع العلماء المختلفين على قولين أو أكثر في نفي قول آخر لم يقل به أحد منهم ، وهنا تارة يفرض انَّ كلاًّ من القولين قائله ينفي القول الآخر بقطع النّظر عن قوله ، وأُخرى يفرض انَّه ينفيه بلحاظ قوله وفي طوله لاستلزامه نفي غيره.

أمَّا الأول فالإجماع يكون حجة في نفي ذلك القول الآخر على جميع المسالك المتقدمة في حجية الإجماع لأنَّه ملاكاً كالإجماع البسيط.

وأمَّا على الثاني فلا بدَّ من التفصيل فيه بين المسالك ، فانَّه بناءً على المسلك القائل بالحجية على أساس قاعدة اللطف تثبت الحجية أيضا لأنَّه لو كان القول الثالث حجية لما كان به قائل وهو خلاف اللطف المفروض فيستكشف عدم صحّته. وكذلك بناءً على القول باستكشاف دخول الإمام عليه‌السلام في المجمعين وامَّا بناءً على مسلكنا فلا يكون حجة إذ يعلم بأنَّ القيم الاحتمالية الموجودة في مجموع الفتاوى لنفي الثالث قسم منها غير مصيب للواقع جزماً للعلم بكذب ذلك نتيجة التخالف في الآراء وهذا لا يؤدّي إلى تقليل القيم الاحتمالية للإجماع المركب عن الإجماع البسيط كمّاً فحسب بل وكيفاً أيضا للتعارض وكون كلّ قيمة احتمالية لأحد القولين منفياً بالقيمة الاحتمالية للقول الآخر المخالف وكذلك تكون القيمة الاحتمالية لنفي القول الثالث.

الإجماع المنقول :

والبحث في حجيته يكون بعد الفراغ عن أصول موضوعية محولة إلى بحث حجية خبر الواحد من حجية خبر الثقة ، واختصاصها بالخبر الحسّي لا الحدسي ، والبناءِ على أصالة الحسية عند الشك في الحدس والحسّ ونحو ذلك ، وحينئذ نقول تارة : يكون النقل للسبب بمعنى الفتاوى المتفق عليها والتي تكون سبباً إثباتاً لاستكشاف قول المعصوم عليه‌السلام وأخرى : يكون النقل للمسبب مباشرة.

امَّا نقل السبب فمقتضى القاعدة حجية النقل إذا توفرت فيه شرائط حجية الخبر

٣١٧

المفروغ عنها لإثبات ما يدلّ عليه من السبب وبمقداره ، وفي هذا المجال يتبع مقدار ظهور النقل بحسب لفظه والقرائن الحالية أو المقالية التي يكون لها دخل في اقتناص المعنى.

والوجه في حجية هذا الاخبار انَّه اخبار عن الحسّ فانَّه لا استبعاد في ذلك خصوصاً إذا كان الناقل للإجماع من المتقدمين الذين يترقب في شأنه أن تكون فتاوى المجمعين محسوسة لديه أو قريبة من الحسّ وعند الشك واحتمال الحدسية تجري أصالة الحسّ كما قلنا فإذا كان ذلك المقدار كافياً عندنا للملازمة واستكشاف رأي المعصوم كان حجة لا محالة في ثبوت لازمه الثابت لزومه عندنا بالقطع واليقين ، ولا يقدح في الحجية كون الملازمة حدسية وكون المدلول الحسّي ليس بنفسه حكماً شرعياً ولا موضوعاً له. فانَّ المقدار اللازم أن يكون الاخبار حسيّاً وهو كذلك في المقام وامَّا لوازم الاخبار الحسّي فهي تثبت في باب الأمارات ولو كانت برهانية نظرية ، كما انَّه لا يشترط في حجية الأمارة في مدلولها الالتزامي ترتب أثر بلحاظ مدلولها المطابقي وانَّما اللازم عدم سقوطها بالتعارض ونحوه بناءً على ما هو الصحيح من التبعية بين الدلالتين.

وان فرض ان المقدار المنقول من السبب كان أقلّ من المقدار الكافي للملازمة والاستكشاف فائضاً يكون النقل حجة فيما إذا أمكن تحصيل ما يكمل الملازمة ويتممها من أقوال للآخرين أو قرائن أُخرى مباشرة.

وهذا كلّه صحيح على مقتضى القاعدة ولكن قد يستشكل في ذلك بأحد إِشكالين :

١ ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) في موارد نقل جزء السبب حيث استشكل بأنَّه إِنْ أُريد إثبات الحجية له بلحاظ مدلوله الالتزامي فالمفروض عدم الملازمة ليكون له مدلول التزامي ، وإِنْ أُريد ذلك بلحاظ مدلوله المطابقي فليس حكماً شرعياً ولا موضوعاً له.

وهذا الإشكال واضح الدفع فانَّه يكفي في دفعه أن يقال بان في المقام أيضا يوجد مدلول التزامي وهو قضية شرطية انَّه إذا ما توفّر الجزء الآخر ـ المفروض توفره ـ كان ذلك مطابقاً مع قول المعصوم عليه‌السلام وحجية هذا المدلول الالتزامي الشرطي كافٍ لنا كما لا يخفى.

٣١٨

٢ ـ ما كنّا نورده نحن في الدورة السابقة من انَّ استكشاف قول المعصوم من الإجماع لا يكون على أساس الملازمة وانَّما الكاشفية بحساب الاحتمالات وتراكمها على محور واحد إلى أن يحصل لدى الإنسان المحاسب اليقين ذاتاً ، وهذا يعني انه لا تلازم بين الإجماع أو التواتر وبين رأي المعصوم لأنَّ التلازم لا يكون على أساس ملازمة موضوعية بل ذاتية ، بمعنى ان الإنسان عند ما يواجه بنفسه تلك الحسابات للاحتمال يبلغ ذلك عنده في النهاية مرتبة بحيث ينطفئ ويزول ذاتياً احتمال الخلاف في النهاية ومثل هذا ليست ملازمة عقلية.

وبعبارة أُخرى : لا يصحّ أن نشكل قضية شرطية بأنه كلّما حصلت تلك القرائن أو الاخبار والحسابات لكان كذا ، وانَّما الصحيح انَّه كلّما حصلت تلك الحسابات وواجهنا تلك الاخبار أو الأقوال لحصل لنا العلم ، والملازمة لا بدَّ وان تكون بين المعلوم وبين الشيء كما هو واضح.

وهذا الاعتراض انَّما كنَّا نورده قبل أن تتوضّح لنا النظرة التفصيلية لمباني منطق الاستقرار بشكل كامل وإِلاّ فقد أوضحنا في كتاب الأُسس المنطقية بأنَّ هناك حساب احتمال في القضية الكلية للتواترات تثبت بنحو القضية الشرطية انَّه في عالمنا كلّما اجتمعت عندنا إخبارات متعددة في قضية واحدة من أشخاص متغايرين بحسب الظروف والملابسات والأغراض ونحو ذلك فاحتمال عدم تأثير نقاط الاختلاف وعدم التشارك وتأثير خصوص نقاط التشارك القليلة جداً بالنسبة لنقاط الاختلاف والتي منها اتفاق مصلحتهم جميعاً على الكذب في تلك القضية أمر منفي بحساب الاحتمالات في هذه القضية الكليّة بالذات وهي إثبات نقاط الاشتراك فقط دون نقاط اختلاف ، وعليه فلا نحتاج في كاشفية كلّ إجماع أو تواتر إلى إجراء حساب احتمالات فيه بالخصوص لنفي هذا الاحتمال بل هو منفي بنحو القضية الشرطية الكلية ، والإجماع المنقول اخبار عن الملزوم في تلك القضية فيكون دالاً على انتفاء اللازم وهو أن يكون اتفاقهم جميعاً لاتفاق مصلحتهم على ذلك وامَّا احتمال كذب الناقل أو اشتباهه فينفى بوثاقته.

ومن كلّ ذلك ظهر بأن الناقل لو عدل عن نقله السبب إلى نقل المسبب ابتداءً

٣١٩

لم يجد شيئاً لأن اخباره عن المسبب وهو قول المعصوم عليه‌السلام ليس حسيّاً ليشمله ابتداءً دليل حجية خبر الثقة وانَّما الحسّي نقله للسبب فان كان كافياً للسببية عندنا أثر وإِلاّ فلا.

هذا كلّه على مقتضى القاعدة العامة إِلاّ انَّه حيث ثبت عندنا وقوع تسامح نوعي واصطلاح عمومي من قبل علمائنا الأقدمين في نقل الإجماع وادعائه أو اعتمادهم لمشارب غير صحيحة في تشخيصه فلم يبق للفقيه ثقة كبيرة بمثل دعاوى الإجماع المنقولة في الكتب ما لم تتضافر الدعاوي وتنضمّ إِليها القرائن والشواهد والمؤيدات على صحّتها.

٣٢٠