بحوث في علم الأصول - ج ٤

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

المتشابه ما ذا يراد به في الآية الكريمة ، التشابه والإجمال في المفهوم والمدلول الاستعمالي للفظ أو التشابه في المصداق بمعنى عدم معروفية المصداق مع وضوح المدلول المستعمل فيه اللفظ في نفسه؟ والتمسّك بالآية استدلالاً وجواباً مبنيّ على إرادة التشابه المفهومي إِلاّ أنَّ هذا الافتراض في نفسه بعيد لأمرين :

١ ـ تصريح القرآن نفسه بأنَّ آياته انَّما نزلت بياناً وتبياناً وهدىً ونوراً بل بلسان عربيّ مبين ، وهذا لا ينسجم مع فرض التشابه المفهومي والإجمال.

٢ ـ وجود قرائن في نفس الآية تنفي إرادة هذه المعنى ، وذلك قرينتان :

إحداهما ـ التعبير ( الاتباع ) في قوله تعالى ( فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ ) ، فانَّ الاتباع لا معنى له إِذا أُريد المتشابه المفهومي إذ ذلك فرع وجود مدلول ظاهر يتعيّن فيه اللفظ ومع التشابه المفهومي لا مدلول ليتبع ، وهذا بخلاف ما لو أُريد التشابه المصداقي بمعنى انَّهم يتّبعون الآيات التي مصاديقها الخارجية متشابهة لا تناسب مع المصداق الواقعي الغيبي الّذي ينطبق عليه مفهوم الآية ، فمثلاً كلمة الصراط في اهدنا الصراط المستقيم أو العرش والكرسي في الآيات الأُخرى التي مدلولها اللغوي واضح لا تشابه فيه إِلاّ انَّ مصاديقه الخارجية سنخ مصاديق لا تنسجم أَنْ تكون هي المقصودة في هذه الآيات فمن في قلبه زيغ يتبع مثل هذه الآيات ليطبقها على مصاديقها الخارجية المتشابهة ـ وهذا التطبيق عبر عنه بالتأويل من الأول كما في تأويل الرؤيا وتطبيقه على مصداقه الواقعي ـ ابتغاء الفتنة وتشويش العقائد والأفكار.

الثانية ـ كلمة التأويل في قوله تعالى ( ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ) فانَّ المتشابه لو أُريد به المتشابه المفهومي فيكون معنى التأويل حمله على خلاف معناه ومفهومه ، ومن الواضح انَّ هذا غير صادق إِلاّ في حقّ الظاهر لا المتشابه الّذي يتساوى المعنيان فيه. وهذا بخلاف ما لو أُريد من التشابه المصداقي ويكون معنى التأويل الجري والتطبيق على المصاديق.

والحاصل ظاهر الآية إرادة التشابه المصداقي بمعنى أَنَّ هناك أُناساً في قلوبهم زيغ فيتبعون الآيات التي مصاديق مداليلها المفهومية في الخارج لا تنسجم مع واقع مصاديقها ، لأنَّ هذه من عالم الشهود والمادة وتلك من عالم الغيب فيطبقونها على المصاديق الخارجية الحسية باعتبار عدم معروفية تلك المصاديق الغيبية وعجز الذهن

٢٨١

البشري عن إدراكها في هذه النشأة ويحاولون بذلك إِلقاء الشبهة والفتنة والبلبلة في الأذهان وهذا مسلك عام في فهم وتفسير الآيات المتشابهة ، وعلى ضوء هذا يتّضح انَّ الآية أجنبيّة عن محل الكلام بالمرّة.

لا يقال : إِذا كانت المصاديق الخارجية غير معقولة فلا محالة يكون ذلك قرينة على إرادة معنى آخر مجازاً فيكون من التشابه المفهومي.

فانَّه يقال : لا موجب لرفع اليد عن ظهور استعمالها في مداليلها اللغوية والعرفية وعدم المعقولية لا تقتضي ذلك وانَّما تقتضي أَنْ يكون تطبيق المفاهيم المذكورة على تلك المصاديق الواقعية الغيبيّة فيه نوع من العناية نظير المجاز السكاكي ، فانَّ هذا هو مقتضي تقريب الإنسان حسي النشأة والنزعة إلى عالم الغيب لا استعمال اللفظ ابتداءً في معانٍ غيبية غير مفهومة بل غير قابلة للفهم أحياناً ، فانَّ هذا لا يكون استعمالاً أصلاً مع انَّه لا إِشكال في انَّ الآيات القرآنية مستعملة في معانيها المفهومية المحددة عند السامعين لها على حدّ الكلمات العربية الأُخرى.

ومن مجموع ما ذكرناه في هذا الجواب بالإمكان استخلاص جوابين آخرين كما يلي :

الرابع ـ انَّ الاستدلال بالآية مبني على حمل التشابه على التشابه بلحاظ المفهوم والمدلول الاستعمالي ، مع أنَّك قد عرفت انَّ المراد هو التشابه بلحاظ عالم المصاديق والتطبيق.

الخامس ـ لو سلم إرادة المتشابه بحسب المفهوم ، فما في ذيل الآية من قوله تعالى ( ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ) دليل على أنَّ المنهي عنه هو اتباع المتشابه بنحو التأويل فلو كانت الآية شاملة للظاهر القرآني كان دليلاً على النهي عن المعنى التأويلي لها وهو الحمل على خلاف الظاهر لا اتباع الظاهر نفسه.

السادس ـ لو قطع النّظر عن كلّ ذلك وسلّم الاستدلال فغايته إطلاق الآية للعمل بالظواهر فيقيد بما دلَّ من الروايات على حجية الظواهر القرآنية ولزوم الرجوع إليها لكونها أخص منها كما هو واضح.

السابع ـ وهو جواب جدلي على علمائنا الأخباريين الّذي بنوا على عدم حجيّة

٢٨٢

ظواهر الكتاب تمسّكاً بمثل هذا الاستدلال أو غيره والتزموا أيضا بقطعية ما في الكتب الأربعة من الروايات ، ولعل أحد الدواعي على إِلغائهم حجية الظواهر القرآنية فتح الباب على مصراعيه لتقبل الروايات المنقولة عنهم عليهم‌السلام في تفسيرها أو تأويلها بقطع النّظر عن أسانيدها وعن تحكيم القرآن عليها ، فانَّه لمثل هؤلاء نقول بأنَّه يجب الرجوع في العمل بشخص هذا الظهور القرآني إلى الروايات الواردة في تفسيره وبمراجعة الكتب الأربعة نجد انَّه قد ورد في الكافي عن شيخه الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن محمد بن أُورمة عن علي بن حسان عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ ) قال : أمير المؤمنين عليه‌السلام والأئمة ( وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ) قال : فلان وفلان ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ) أصحابه وأهل ولايتهم ( فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) أمير المؤمنين والأئمة عليهم‌السلام (١).

ومثل هذه الرواية على طريقتنا لا يعمل بها ، لأنَّها مخالفة للكتاب من جهة وغير تامة سنداً من جهة أُخرى ولا يكفي مجرّد نقلها في الكتب الأربعة.

أمَّا المخالفة مع الكتاب فلما سوف يأتي في بحوث التعادل والتراجيح من انَّ كلّ رواية تكون مخالفة لكتاب الله سبحانه زخرف باطل لم يقله الأئمة عليهم‌السلام ، وأيّ مخالفة أشد من مثل هذه التأويلات الباطنية التي لا يمكن تطبيقها بوجه من الوجوه مع الكتاب الكريم.

وأمَّا ضعف السند ، إذ ليس في سندها من ثبتت وثاقته إِلاّ الكليني ( قده ) وشيخه الحسين بن محمد وأمَّا الباقين فعبد الرحمن بن كثير قد ذكر النجاشي انَّه كان يضع الحديث ، وحسان الهاشمي قال عنه انَّه ضعيف جدّاً وانَّه ذكره بعض أصحابنا في الغلاة فاسد الاعتقاد وفي الخلاصة فاسد ضعيف رأيت له كتاباً في تفسير القرآن ليس له صلة بالإسلام ومحمد بن أروقة قال النجاشي حكى جماعة من شيوخ القميين عن الحسن بن وليد انَّه طعن عليه بالغلو ، وقال الشيخ انَّه ضعيف وروى عن القميين أيضا

__________________

(١) أُصول الكافي ج ١ ص ٤١٤ ـ دار الكتب الإسلامية ـ الطبعة الثالثة.

٢٨٣

رميه بالغلو حتى دسوا إِليه من يفتك به ـ ممّا يعني انَّهم استحلّوا دمه ـ ، ومعلى بن محمد ذكر النجاشي انَّه مضطرب الحديث والمذهب وقد نقل العلامة عن ابن الغضائري انَّ حديثه نعرفه وننكره.

وهذه الرواية وغيرها من أمثالها خير دليل وشاهد عند المنصف على ان ليس كلّما يتواجد في الكتب الأربعة بصحيح ولا أصحابها يلتزمون بذلك وانَّما كان غرضهم تدوين الحديث ولهذا كانوا يروون فيها المتناقضات فلا بدَّ من إعمال قواعد السند في الأخذ برواياتها.

الوجه الثاني ـ الاستدلال بجملة من الروايات التي يدعى دلالتها على عدم حجية القرآن الكريم وهي طوائف ثلاث :

الأُولى ـ ما دلَّ على اختصاص فهم القرآن الكريم بأهل بيت العصمة ، لأنَّه لا يفهمه إِلاّ من خوطب به ولم يخاطب به إلاّ هم. وهذه الطائفة لا إِشكال في وضوح دلالتها على المطلوب ، فانَّ حصر فهم القرآن بجماعة مساوق لإسقاط حجيّة فهم الآخرين ولو كان فهماً عاماً الّذي هو الظهور وإِلاّ لم يكن محصوراً بهم ، بل هذه الطائفة لو تمّت تسقط الدلالات القرآنية الصريحة أيضا ولا تختص بالظواهر ، لأنَّ ما حصر فهمه بأهل البيت عليهم‌السلام كلّ الكتاب لا قسم منه إِلاّ انَّ الاستدلال بهذه الطائفة غير تام لعدة وجوه :

أوّلها ـ انَّها معارضة للسنة القطعية المتواترة الحاكية لقول المعصوم وفعله وتقريره ممّا يدلّ على مرجعية القرآن للمسلمين وإحالتهم إِليه في مقام اقتناص المعاني ، بل السيرة العملية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة مضافاً إلى أحاديثهم الصريحة التي ترجع المسلمين إلى القرآن الكريم ثابتة ثبوتاً قطعياً بنحو يقطع معه ببطلان مفاد هذه الطائفة ، بل حديث الثقلين وأمثاله الّذي هو مدرك الرجوع إلى أهل البيت ومرجعيتهم كالصريح في عرضية مرجعية الكتاب الكريم للعترة وإِلاّ كان المرجع واحداً وهو العترة وكان الكتاب الكريم مجرد كتاب معميات وألغاز إلى غير ذلك من أدلة الإرجاع والإحالة إلى الكتاب المنقولة عنهم عليهم‌السلام والتي تدلّ دلالة قاطعة لا شك فيها على أنَّ القرآن مرجع مباشر للمسلمين.

٢٨٤

ثانيها ـ انَّ هذه الطائفة لا تصلح للردع عن العمل بالظهورات القرآنية ، لأنَّ الردع عن ارتكاز من هذا القبيل وفي موضوع له هذه الأهمية والخطورة العظيمة لا يكفي فيه صدور أربع روايات بل لو كان هناك ردع عن العمل بالقرآن الّذي كان هو المصدر الأساسي لكل المعارف الإسلامية طيلة تاريخ الإسلام لكان واضحاً معروفاً.

ثالثها ـ انَّها ضعيفة سنداً جميعاً ، فان أوجدت عند أحد احتمال الردع فهو مسبوق بالإمضاء فيجري استصحاب بقاء الحجية الثابتة في أول الشرع بالنحو الّذي تقدم شرحه.

وممّا يؤكد بطلان هذا المفاد انَّ رواة هذه الروايات توجد ظاهرة مشتركة فيما بينهم هي ظاهرة الباطنية ومحاولة تحويل النّظر من ظاهر الشريعة إلى باطنها ، ومن تتبع في أحوال المنتسبين إلى الأئمة عليهم‌السلام وجد انَّ هناك اتجاهين فيما بينهم :

أحدهما ـ الاتجاه السائد في فقهاء الأصحاب الّذي كان يمثل ظاهر الشريعة والّذي هو واقعها أيضا وكان يتمثل في زرارة ومحمد بن مسلم وأمثالهم. والآخرة اتجاه باطني كان يحول دائماً أَنْ يلغز في القضايا ويحول المفهوم إلى اللا مفهوم وفي أحضان هذا الاتجاه نشأ الغلو وحيث لم يكن لهم مدارك واضحة اتجهوا إلى تأويل القرآن واستخراج بطون له ، فمثل سعد بن طريف الواقع في سند هذه الروايات كان له اتجاه باطني وقد قال انَّ الفحشاء رجل والمنكر رجل والصلاة تتكلّم في تفسير قوله تعالى انَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ونحو ذلك من الغرائب وجابر يزيد الجعفي هو الّذي ينسب إِليه انَّه يقول دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام وأنا شاب فناولني كتاباً وقال هذا علم لك وحدك لا تظهره على الناس وإِلاّ كانت عليك لعنتي وكتاباً آخر لا أظهره إِلاّ بعد هلاك بني أُميّة. ونقل أيضا عنه انَّه قد سمع من الباقر عليه‌السلام سبعين ألف حديث لا يمكنه أَنْ يقول شيء منها لأحد. ونحو ذلك من الأُمور التي تتجه إلى تركيز هذه المعاني وهي كلّها أجزاء من قضيّة كلية حاولها الغلاة المنحرفون وهي صرف الأنظار من ظاهر الشرع إلى باطن لا معنى له.

ولهذا نجد انَّ أمثال هذه الأُمور لم ينقل شيئاً منها فقهاء أصحاب الأئمة الذين كانوا حملة فقههم وفكرهم وتراثهم كزرارة ومحمد بن مسلم وأضرابهم أفلم يكن الأولى

٢٨٥

ـ لو كان هناك ردع عن العمل بظواهر القرآن ـ من أَنْ يبين ذلك الردع إلى هؤلاء الفقهاء الأجلاء وتصل إِلينا تلك الردوع عن طريقهم فإنَّهم أولى بذلك وهم مورده ومحتاجون إليه ، كلّ ذلك يوجب الاطمئنان بأنَّ هذه الطائفة من الروايات موضوعة ولا محصل لها أو لا بدَّ من تأويلها وصرفها إلى معانٍ أُخرى غير حجية الظواهر القرآنية.

الطائفة الثانية ـ ما يدلّ على عدم جواز الاستقلال بتفسير القرآن والاستغناء عن الأئمة عليهم‌السلام في التوصل إلى واقع المراد الإلهي منها كما كان شأن العامة ، وهذا المفاد لا إِشكال في ثبوته بل قطعيته عندنا فانَّ القرآن أحد الثقلين لا كلاهما وظهوراته انَّما تكون حجة بعد الفحص عن المفسّر والمخصص في الثقل الآخر. إِلاّ انَّ هذا المطلب أجنبي عن محل بحثنا وهو حجية الظواهر القرآنية بعد الفحص وعدم وجدان التخصيص ، فانَّ هذا لا يعني الاستقلال بالقرآن بوجه من الوجوه.

الطائفة الثالثة ـ ما نهت عن تفسير القرآن بالرأي وانَّ من فعله فقد كفر أو هوى.

والاستدلال بها موقوف على دعوى انَّ حمل اللفظ على ظاهره تفسير بالرأي. ومن هنا استشكلوا عليه بأنَّ هذا ليس تفسيراً إذ التفسير هو كشف القناع وإزالة الستر والظاهر ليس مستوراً ، ولو سلّم انَّه تفسير فليس بالرأي إذ المراد منه الرّأي والاجتهاد الشخصي لا التفسير بما يفهمه الناس نوعاً بحسب قواعد العرف واللغة.

وهذا جواب صحيح ، ولكن قد يقابل بشبهة هي انَّ الظهورات أحياناً تقتنص بعد التدبر والتأمل وإعمال الرّأي خصوصاً إذا كان ظهوراً سياقياً أو على أساس إعمال نكات ومناسبات إذ الظهور لا يكون واضحاً ساذجاً دائماً بل قد تحتاج إلى ألمعية ونباهة للتوصل إليه وإعمال دقة ورأي ومن هنا اختلف فهم العلماء عن العوام واختلفت أنظار الاعلام فيما بينهم أيضا حسب اختلاف درجات علمهم وفطنتهم فيصدق في مثل ذلك انَّه تفسير بالرأي.

والجواب : انَّ الدقة وإعمال الرّأي المذكور في التوصل إلى الدال لا المدلول أو التفسير ، بمعنى انَّ الألمعية والتدبر يؤثران في الاستيعاب للنكات والالتفات إلى الخصوصيات التي تعطي للكلام ظهوراً في المعنى بحيث لو شرحها للآخرين وألفتهم إِليها لسلموا بالظهور في ذلك المعنى وهذا ليس تفسيراً بالرأي.

٢٨٦

ثمّ انَّ هناك احتمالين آخرين في المراد بالتفسير بالرأي في قبال الاجتهاد الشخصي :

الأول ـ أَنْ يراد به إعمال الجانب الذاتي في التفسير في قبال الجانب الموضوعي ، أي تحكيم موقف مسبق على النصّ القرآني ومحاولة تأويله بما ينسجم مع الرّأي المتبنى والمرغوب للمفسر. فانَّه قد شاعت مذاهب واتجاهات وآراء حاول صاحب كل منها أَنْ يستدل بالقرآن على مذهبه ورأيه وهو استغلال للقرآن في واقعه ولكن بصورة استدلال.

والحاصل المراد التفسير بما يرغبه الإنسان وما توافق مصلحته لا ما يقتضيه الموضوع في نفسه وهذا من أشنع الأعمال وجدير أَنْ يعبر عنه بالكفر والهوى إذ هو مساوق مع تحريف الحقائق والدلائل وبالتالي عدم الإيمان بمرجعية القرآن الكريم. والفرق بينه وبين الاجتهاد الشخصي انَّ الاجتهاد الشخصي قد يكون موضوعياً أي على أساس البرهان والدليل العقلي كما في تفاسير المعتزلة بخلاف هذا المسلك في تفسير القرآن.

وهذا رأي ذهب إليه أكثر المسلمين في مقام فهم هذه النواهي. وهذا الاحتمال لو لم يحصل القطع بإرادته على ضوء بعض الشواهد والقرائن فلا أقلّ من انَّه محتمل قريباً في جملة منها.

الثاني ـ أَنْ يراد بالرأي المدرسة الفقهية المعاصرة لعصر الصادقين وهو الاتجاه الّذي بني على العمل بالتخمينات والظنون الناشئة منها كالقياس والاستحسان والاستصلاح ، فانَّه كان قد بدأ انقسام خطير بين المسلمين إلى اتجاهين ومدرستين مدرسة الرّأي ومدرسة الحديث ، فمن المحتمل قوياً أَنْ يكون المراد بالرأي هنا هذا المعنى ولا أقل من احتماله وهو كاف في الإجمال ، وهذا المعنى وإِنْ كان اصطلاحياً نقل إِليه اللفظ عن معناه اللغوي إِلاّ انَّ أصالة عدم النقل لا تجري في أمثال المقام على ما سوف يظهر. وهذا الاحتمال قريب روحاً مع الأول ، لأنَّ إعمال الظنون يستبطن لا محالة جانباً ذاتياً غير موضوعي وهو ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر في مقام التفسير بلا دليل وعلم وهو نحو من الذاتيّة في التفسير.

ثمّ انَّه في مقابل هذه الطائفة توجد روايات دلّت على حجية الظواهر القرآنية

٢٨٧

فتكون معارضة معها أو مقدمة عليها وهي على طوائف عديدة.

الأولى ـ ما دلّ على وجوب التمسّك بالقرآن الكريم خصوص ما جعل فيه الكتاب عدلاً عرضياً للعترة ، وهذه الطائفة تدلّ امَّا بالإطلاق اللفظي لو أُريد منه الكتاب بما هو لفظ دال على المعنى ، أو بالإطلاق المقامي لو أُريد به المعنى على حجية دلالاته فتكون معارضة مع الطائفة السابقة لو تمّت في نفسها والنسبة بينهما عموم من وجه لشمولها لما إذا كانت الآية صريحة وشمول تلك لما إذا كان تشابها وبعد التعارض والتساقط يرجع إلى استصحاب حجية الظهور الثابتة ولو بالإمضاء في أول الشرع.

الثانية ـ ما دلَّ على عرض الشرط في المعاملات ونحوه على كتاب الله الدال بأحد البيانين المتقدمين ـ الإطلاق اللفظي أو المقامي ـ على حجية الظواهر القرآنية والتعارض بنحو العموم من وجه فانْ لم نقل بتقديم هذه الطائفة في مورد الاجتماع لعدم إمكان اختصاصها بخصوص موارد مخالفة الشرط مع النصّ الصريح فلا أقلّ من التساقط والرجوع إلى استصحاب الحجية.

الثالثة ـ ما دلَّ على عرض نفس الروايات الصادرة عنهم على الكتاب الكريم وهذا أوضح دلالة على المطلب من سابقتها لعدم تأتي احتمال النّظر فيها إلى الكتاب بما هو معنى كما تقدم فيما سبق الإشارة إليه أيضا فتدلّ على مرجعية مستقلة للظهورات القرآنية وهذه أيضا لا يحتمل اختصاصها بالنصوص القرآنية الصريحة إذ الكذب عليهم عليهم‌السلام عادة لا يكون بما يخالف النصوص القرآنية كما هو واضح. فتكون أخصّ من الطائفة السابقة فتخصص بها.

الرابعة ـ ما دلَّ على ممارسة الإمام عليه‌السلام بنفسه الاستدلال والاستشهاد بالآيات الكريمة ، وهي روايات كثيرة وتكون أخص من عمومات النهي عن التفسير بالرأي لو سلّم دلالتها فتخصص بها لا محالة.

وقد يتوهّم انَّ استدلاله عليه‌السلام بها لا يدلّ على أكثر من جواز رجوع الإمام عليه‌السلام إلى الظهورات القرآنية وهو خارج عن محل الكلام.

والجواب : أولا ـ انَّ الإمام في كثير من موارد هذه الاستدلالات قد تقمّص ثوب المدعي ونزع ثوب الحجة والمعصوم الّذي لا يحتاج فيه إلى الاستدلال أصلاً ، فانَّ نفس

٢٨٨

سياق الاستدلال يكون ظاهراً في ذلك في كثير من الحالات فيدلّ على حجية ظهورات الكتاب في نفسها.

وثانياً ـ انَّ جملة منها قد سيق الاستدلال فيها مساق تعليم الآخرين وإحالتهم على الظواهر القرآنية ، كما في قوله عليه‌السلام في رواية عبد الأعلى ( هذا وأمثاله يعرف من كتاب الله ما جعل عليكم في الدين من حرج امسح على المرارة ). فيكون صريحاً في حجية الظهور القرآني لغير الإمام عليه‌السلام أيضا.

وامَّا الاتجاه الثاني في إسقاط حجية الظهور القرآني فهو الاتجاه الّذي يمنع عن أصل انعقاد الظهور للآيات القرآنية لإجمالها امَّا ذاتاً أو عرضاً ومن جهة علم إجمالي بالخلاف.

امَّا الإجمال الذاتي ـ فقد يقرب بأنَّ الآيات الكريمة قد قصد منها أَنْ تكون مبهمة مجملة لا يتيسّر للإنسان الاعتيادي فهمه إِلاّ بالرجوع إلى الأئمة عليهم‌السلام ولو بنكتة ربط الأمة بهم.

وأُخرى يقرب بأنَّ هذا الإجمال وعدم تيسر الفهم للإنسان الاعتيادي طبيعي ناشئ من عظمة الكتاب وعظمة صاحبه ودقة مضامينه ، فإنَّا نجد انَّ كتاب عالم اعتيادي كإقليدس مثلاً لا يفهمه الناس العاديين لكونه مشتملاً على مطالب دقيقة تفوق مستوى أذهان العوام فما ظنَّك بكتاب الله سبحانه؟ فمقتضى التناسب أَنْ يتعذّر فهمه على غير الأوصياء عليهم‌السلام.

وكلا التقريبين عليلان.

أمَّا الأول فواضح ، إذ كيف يتصوّر انَّ حكيماً يأتي بكتاب ليهدي به الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويغير من طرائق سلوكهم وحياتهم ثمّ يعتمد في أَنْ يلغز فيه ويجعله بحيث لا يفهمه الناس مع انَّه يريد به أَنْ يثبت حقانيّة المرسِل والمرسَل به ورسالته فانَّ أهم معجزة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انَّما هو القرآن الكريم ، فإذا فرض الإجمال والإبهام والإلغاز فيه فكيف يتوصّل بذلك إلى كلّ هذه النتائج ، ومنه يعرف انَّ مسألة ربط الأُمة بالأئمة لا يكون إِلاّ مع فرض حجية الكتاب في المرتبة السابقة والاعتراف بمعجزيّته فربطهم بهم لا يحتاج إلى أَنْ يكون الكتاب ملغزاً مبهماً بل الحاجة إِليهم ثابتة

٢٨٩

على كلّ حال لأنَّ الجزء الأعظم من تفاصيل حقائق الشريعة غير مذكور في القرآن الكريم ومتروك إلى السنة المتلقاة عن العترة عليهم‌السلام.

وامَّا الثاني ـ فلأنَّ كلّ كتاب لا بدَّ وأَنْ يتناسب مع الغرض الّذي من أجله أُلّف ذلك الكتاب وكلّما كان صاحبه أعلى شأناً كان وفاء الكتاب بذلك الغرض أكمل وأتقن ، وحينئذ لو كان غرض صاحب الكتاب تبيان الحقائق العلمية الهندسية مثلاً استوجب ذلك أَنْ يكون الكتاب معمقاً بأعمق درجة علمية ، وامَّا إذا لم يكن هذا هو الغرض بل الغرض هداية الإنسان وإخراجه من الظلمات إلى النور وتربيته وتغذيته فكرياً وروحياً وخلقياً ـ الّذي كان الكتاب الكريم وافياً به بأعلى مراتب الوفاء الّذي لا نظير له في سائر الكتب كما يشهد به التاريخ ـ فهو يتوقّف على أَنْ يكون الكتاب بياناً واضحاً ونوراً هادياً لا مبهماً ملغزاً.

هذا مضافاً إلى انَّنا نتكلّم في آيات الأحكام والتشريعات التي هي جمل إنشائية لا خبريّة فلا معنى للدقة والعمق والإلغاز فيها إذ ليس فيها اخبار عن المغيبات وقضايا عالم الغيب لكي يستعصي على أفهامنا إدراكها. وامَّا الدقة والعمق في ملاكات الأحكام فلا ربط لها بنفس الأحكام والتشريعات التي هي محل استفادة المكلّفين ومدلول آيات الأحكام.

وامَّا الإجمال العرضي فمبنيّ على دعوى العلم الإجمالي بعدم إرادة بعض الظواهر القرآنية لمخصص أو قرينة فيقع التعارض والإجمال فيما بينها.

وهذا الكلام صحيح صغرى إِلاّ انَّه لا يثبت مطلوب الخصم ، كيف ومثل هذا العلم موجود بالنسبة إلى السنة أيضا فهل يدعي الخصم سقوطها عن الحجيّة؟. بل كما يقال بانحلال هذا العلم هناك بالفحص عن المخصصات والقرائن كذلك في المقام ، وقد تقدّم البحث عن ذلك مفصلاً في أبحاث العام والخاصّ.

وهكذا يتّضح انَّ الصحيح حجيّة الظواهر القرآنية من آيات الأحكام كالظواهر في السنة الشريفة.

٢٩٠

الظهور الذاتي والموضوعي :

الجهة الخامسة ـ في تشخيص انَّ حجية أصالة الظهور هل يكون موضوعها الظهور الذاتي أو الموضوعي ، وهذا بحث لم يطرحه المحقِّقون وانَّما طرحوا مسألة أُخرى لم يكن جديراً بالبحث المستقل وهي انَّ أصالة الحقيقة هل تكون معتبرة من باب التعبد أو من باب أصالة الظهور ، أي هل الحجة هو حمل اللفظ على معناه الحقيقي تعبداً أو حمل اللفظ على المعنى المنسبق إلى الذهن منه فعلاً ولو لم يكن معنى حقيقياً له. وفرعوا عليه انَّه في موارد احتمال قرينيّة المتصل بناءً على الأول تجري أصالة الحقيقة لإثبات المراد وامَّا بناءً على الثاني فلا تجري أصالة الظهور للشك في موضوعه بعد فرض احتمال قرينية المتصل الهادم للظهور.

وقد تقدّم انَّ ملاك الحجية ليس هو حمل اللفظ على المعنى الموضوع له في اللغة تعبداً أي بما هو موضوع له وبقطع النّظر عمّا له دخل في تكوين المدلول الفعلي للكلام ، بل الصحيح انَّ الحجيّة موضوعها المعنى الظاهر لمجموع الكلام بما يكتنفه من قرائن متصلة ، والوضع أحد الأمور الملحوظة ضمناً في مقام الدلالة مع القرائن والملابسات الأخرى وهذا واضح.

إِلاّ انَّ هناك كما أشرنا بحثاً آخراً جديراً بالذكر ، هو انَّ موضوع أصالة الظهور هل هو الظهور الذاتي أو الموضوعي. والمراد بالظهور الذاتي الظهور الشخصي الّذي ينسبق إلى ذهن كلّ شخص شخص ، وبالظهور الموضوعي الظهور النوعيّ الّذي يشترك في فهمه أبناء العرف والمحاورة الذين تمت عرفيتهم ، وهما قد يختلفان لأنَّ الشخص قد يتأثر بظروفه وملابساته وسنخ ثقافته أو مهنته أو غير ذلك فيحصل في ذهنه أنس مخصوص بمعنى مخصوص لا يفهمه العرف العام عن اللفظ.

ومن هنا يعلم انَّ الظهور الذاتي الشخصي نسبي مقام ثبوته عين مقام إثباته ولهذا قد يختلف من شخص إلى آخر ، وامَّا الظهور الموضوعي فهو حقيقة مطلقة ثابتة مقام ثبوته غير مقام إثباته لأنَّه عبارة عن ظهور اللفظ المشترك عند أهل العرف وأبناء اللغة بموجب القوانين الثابتة عندهم للمحاورة وهي قوانين ثابتة متعيّنة ، وإِنْ شئت عبرت

٢٩١

بأنه الظهور عند النوع من أبناء اللغة ومن هنا يعرف انَّه يعقل الشك فيه لكونه حقيقة موضوعية ثابتة قد لا يحرزها الإنسان وقد يشك فيه. والظهوران قد يتطابقان كما عند الإنسان العرفي غير المتأثر بظروفه الخاصة ، وقد يختلفان فيخطئ الظهور الذاتي الشخصي الظهور الموضوعي وذلك امَّا لعدم استيعاب ذلك الشخص لتمام نكات اللغة وقوانين المحاورة أو لتأثره بشئونه الشخصية في مقام الانسباق من اللفظ إلى المعنى ، وموضوع أصالة الظهور لا ينبغي الإشكال في انَّه الظهور الموضوعي لا الذاتي لأنَّ حجية الظهور بملاك الطريقية وكاشفية ظهور حال المتكلّم في متابعة قوانين لغته وعرفه ، ومن الواضح انَّ ظاهر حاله متابعة العرف المشترك العام لا العرف الخاصّ للسامع القائم على أساس أُنس شخصي وذاتي يختص به ولا يعلم به المتكلّم عادة وهذا واضح.

إِلاّ انَّه يتجه السؤال عندئذ عن كيفية إحراز هذا الظهور الموضوعي ، فانَّ ما هو بيد كلّ إنسان وجداناً انَّما هو الظهور الذاتي والمفروض انَّه ليس موضوعاً لحجية الظهور العقلائية.

والجواب انَّه يمكن إحراز الظهور الموضوعي بإحدى طريقتين :

الأولى ـ إحرازه تعبداً ، وذلك بدعوى جعل الظهور الذاتي أمارة عقلائية عليه ، فانَّ السيرة العقلائية قائمة على جعل ما يتبادره كلّ شخص من الكلام هو الميزان في تشخيص الظهور الموضوعي المشترك عند العرف (١).

ولا يخفى الفرق بين هذا الأمر والتبادر الّذي يجعل علامة على الحقيقة ، فانَّ ذلك التبادر يقصد منه كشف المعنى الحقيقي للفظ عند عدم القرينة كشفاً إِنّيّاً من باب كشف المعلول عن علّته ، أي يراد به إثبات الوضع لا نفي استناد الانسباق إلى أنس شخصي ولهذا لا بدَّ وأَنْ يراد به التبادر عند العرف لا عند من يشك في عرفيته ويحتمل استناد الانسباق عنده إلى أنس شخصي ، وامَّا التبادر في المقام فيراد به إثبات التطابق بين ما يفهمه الشخص مع ما يفهمه العرف العام سواءً كان مستند الفهم

__________________

(١) انعقاد سيرة من هذا القبيل لا يخلو من إشكال ، فانَّ الإنسان العرفي يطمئن عادة بعرفيته بعد اطلاعه على الأوضاع اللغوية والعرفية للمحاورة.

٢٩٢

الوضع أو القرينة العرفية ولهذا لا يشترط فيه إحراز عدم القرينة كما هو واضح.

الثانية ـ إحرازه وجداناً وبالتحليل ، وذلك بملاحظة ما ينسبق من اللفظ إلى الذهن من قبل أشخاص متعددين مختلفين في ظروفهم الشخصية بنحو يطمئن بحساب الاحتمالات انَّ انسباق ذلك المعنى الواحد من اللفظ عند جميعهم انَّما كان بنكتة مشتركة هي قوانين المحاورة العامة لا لقرائن شخصية لأنَّ هذا خلف اختلافهم في الملابسات الشخصية.

ثمّ انَّ هنا سؤالاً آخر وهو : انَّ الظهور الموضوعي الحجة هل هو المعاصر لزمن صدور الكلام أو لزمان وصوله إِلينا فيما إذا فرض اختلاف الزمانين؟ كما في النصوص الشرعية بالنسبة إِلينا ، فانَّ الأوضاع اللغوية بل وحتى الظهورات السياقية التركيبية قد تتغير وتتطوّر بمرور الزمان وإِنْ كان ذلك بطيئاً جدّاً لأنَّ اللغة وما يرتبط بها ظاهرة اجتماعية فتكون متأثرة بطرائق الحياة الاجتماعية المتغيّرة لا محالة.

والصحيح : انَّ الحجية موضوعها الظهور الموضوعي في زمن صدور الكلام والنصّ لا وصوله ، والنكتة في ذلك وفقاً لمنهجنا العام في فهم هذه البحوث انَّ أصالة الظهور ليست تعبدية بل أصل عقلائي مبني على تحكيم ظاهر حال المتكلّم في الكشف عن مرامه ، ومن الواضح انَّ ظاهر حاله الجري وفق أساليب العرف واللغة المعاصرة لزمانه لا التي سوف تنشأ في المستقبل وعليه سوف يقع السؤال عن كيفية إمكان إحراز الظهور الموضوعي حال صدور النصّ مع انَّ غاية ما نستطيع إثباته فعلاً عن طريق الظهور والفهم الذاتي لنا تشخيص الظهور الموضوعي في أزمنتنا لا أكثر وليس موضوعاً للحجيّة.

والمحقّقون قد عالجوا هذه النقطة بأصل عبّروا عنه بأصالة عدم النقل وقد يسمّونه بالاستصحاب القهقرائي لأنَّه يشبه الاستصحاب ولكن مع تقدّم المشكوك على المتيقّن زماناً ، إِلاّ انَّه من الواضح عدم إمكان استفادة حجيّته من دليل الاستصحاب وانَّما هو مفاد السيرة العقلائية وقد اصطلحنا عليه بأصالة الثبات في الظهورات لأنَّ هذا كما أشرنا لا يقتصر فيه على الأوضاع اللغوية بل تشمل الظهورات السياقية التركيبية غير الوضعيّة أيضا.

٢٩٣

ولا ينبغي الإشكال في انعقاد السيرة على هذا الأصل ولها مظهران أحدهما عقلائي ، والآخر متشرعي ، والمظهر العقلائي يمكن تحصيله في مثل ترتيب العقلاء آثار الوقف والوصية ونحوهما على النصوص والوثائق القديمة في الأوقاف والوصايا طبق ما يفهمه المتولي في عصره ولو كان بعيداً عن عصر الوقف. والمظهر المتشرعي يمكن تحصيله من ملاحظة انَّ أصحاب الأئمة عليهم‌السلام كانوا يعملون بالنصوص الأوليّة من القرآن والسنة النبوية الشريفة وفق ما يستظهرون منه في عرفهم وزمانهم كما كان يصنع أسلافهم مع انَّه كان يفصلهم عنهم زمان يقارب ثلاثة قرون وقد كانت فترة مليئة بالحوادث والمتغيرات.

ونكتة هذه السيرة وملاكها بحسب الحقيقة ندرة وقوع النقل والتغيير وبطئه بحيث انَّ كلّ إنسان عرفي بحسب خبرته غالباً لا يرى تغييراً محسوساً في اللغة ، لأنَّ عمر اللغة أطول من عمر كلّ فرد ، فأدّى ذلك إلى انَّ كلّ فرد يرى انَّ التغير حادثة على خلاف الطبع والعادة. وحينئذ امَّا أَنْ يفترض انَّ الأصحاب قد التفتوا إلى احتمال النقل والتغيير في الظهورات السابقة على زمانهم صدوراً ومع ذلك أجروا أصالة الظهور أو انَّهم غفلوا عن هذا الاحتمال بالمرة وعملوا بما يفهمونه من الظهورات ، فعلى الأول يكون بنفسه دليلاً على حجية أصالة الثبات شرعاً ، وعلى الثاني فنفس الغفلة في مثل هذا الموضوع تعرضهم لتفويت أغراض الشارع لو لم تكن أصالة الثبات حجة فسكوت المعصوم عليه‌السلام وعدم تصديه لإلفاتهم دليل على إمضاء هذه الطريقة وكفاية الظهور الّذي يفهمه الإنسان في زمانه في تشخيص الظهور الموضوعي المعاصر لصدور الكلام.

هذا ولكن أصالة عدم النقل لا تجري في موردين :

الأول ـ ما إذا علم بالنقل وشك في التقدّم والتأخر ، والسبب عدم انعقاد السيرة على ذلك لأنَّ العقلاء انَّما يبنون على أصالة الثبات لاستبعاد وقوع تغير في اللغة وامَّا إذا فرض وقوع هذا الأمر البعيد فلا فرق بعد ذلك في وقوعه يوم السبت أو الأحد مثلاً.

الثاني ـ ما إذا كان الشك في مؤثرية الموجود في النقل ، كما إذا شاع استعمال لفظ الصلاة مثلاً في المعنى الشرعي كثيراً نتيجة كثرة ابتلاء المتشرعة بذلك ودخول الصلاة الخاصة كعبادة في أوضاعهم وحياتهم الاجتماعية فاحتمل انَّ هذا الشيوع بلغ مرتبة

٢٩٤

نقل بسببها اللفظ عن معناها اللغوي وتعين في المعنى الشرعي. وفي مثل ذلك أيضا لا جزم بإجراء أصالة عدم النقل لقصور السيرة بكلا مظهريه عن شموله ، إذ أصحاب الأئمة لا يجزم بعملهم بالظهور الأولي حتى في مثل هذه الحالة ، كما انَّ السيرة العقلائية قائمة بنكتة الاستبعاد وهي لا تكون مع توفر مقتضٍ للنقل بالنحو المذكور.

وامَّا إجراء استصحاب عدم النقل بحيث يمكن أَنْ يستند إليه في المورد الّذي لا تجري فيه أصالة عدم النقل العقلائية فغير سديد ، إذ لو أُريد استصحاب نفس العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى فهذا لا يثبت ظهور اللفظ الصادر في ذلك المعنى الّذي هو موضوع الحجية إِلاّ بالملازمة العقلية فيكون مثبتاً ، وإِنْ أُريد استصحاب ظهور ذلك الكلام بنحو القضية التعليقية وانَّه لو كان صادراً قبل ذلك لكان ظاهراً في نفس المعنى فهذا من الاستصحاب التعليقي في الموضوعات وهو غير جار كما هو محقق في محله.

حجيّة قول اللغوي :

الجهة السادسة ـ في حجية قول اللغوي في إثبات المعنى ، وكأن المشهور بين المتقدمين من علمائنا هو الحجية وقد نسب إلى السيد المرتضى دعوى الإجماع عليه وقد استدلّ بها على الحجية إِلاّ انَّ مشهور المتأخرين من علماء الأصول ذهبوا إلى عدم الحجية وتفصيل الكلام يقتضي البحث في مقامين :

المقام الأول ـ في حجية قول اللغوي في إثبات موارد الاستعمال.

المقام الثاني ـ في حجيته في تعيين المعنى الحقيقي والمجازي.

امَّا المقام الأول ـ فما ذكر في المنع عن حجية قول اللغوي هنا يمكن تحليله إلى عدة وجوه :

الأول ـ انَّه لا أثر ولا فائدة عملية في تعيين موارد استعمالات اللفظ عند العرب بعد أَنْ لم يثبت بذلك كونه معنى حقيقياً للفظ والحجية فرع ترتب أثر عملي على قوله.

والجواب ـ انَّ هناك ثمرات عديدة يمكن تصويرها في المقام لو كان قوله حجة.

منها ـ انَّ اللفظ إذا لم يكن يحتمل فيه تعدد المعنى وانَّما كان الشك في سعة معناه وحدوده كما في لفظ الصعيد مثلاً فإذا أخبر اللغوي باستعماله في مطلق وجه الأرض

٢٩٥

ثبت بذلك الإطلاق في مثل آية التيمّم.

ومنها ـ انَّ تعيين موارد الاستعمال لو كان بنحو الحصر ، كما إذا شهدوا بأنه لا يستعمل إِلاّ في هذا المعنى المعيّن كان دليلاً على المعنى الحقيقي.

ومنها ـ انَّه قد يثبت بتعيينهم موارد استعمال عديدة إجمال اللفظ وتردده بين أكثر من معنى واحد.

ومنها ـ انَّه قد يثبت كون المعنى حقيقياً ، وذلك فيما إذا عرف انَّ استعمال اللفظ فيه مساوق مع كونه حقيقيّاً لأنَّه لا علاقة بينه وبين المعنى الأول كاستعمال المولى في السيد وابن العمّ مثلاً مع فقدان العلاقة المصححة للمجاز بينهما. إلى غير ذلك من الثمرات المتصورة.

الثاني ـ انَّ قوله انَّما يكون حجة من باب الشهادة في الموضوعات وهي بحاجة إلى توفّر شرائط الحجية فيها من العدالة والتعدد فلا بدَّ من البيّنة الشرعية.

وفيه ـ انَّه لو سلّم انَّ حجيته من باب حجية الشهادة في الموضوعات فنحن نكتفي فيها بخبر الثقة الواحد كالأحكام.

الثالث ـ ما في الكفاية من انَّ الرجوع إلى اللغوي انَّما يكون باعتباره أهل الخبرة والرجوع إلى أهل الخبرة وحجية كلامهم عند العقلاء منوط بحصول الوثوق والاطمئنان من قوله.

والجواب ـ انَّ المقصود انْ كان اشتراط حصول الوثوق في حجية قول أهل الخبرة فهذا خلاف التطبيقات الأُخرى لهذه الكبرى عنده وعند غيره ، فانَّه لا يشترط لزوم حصول الاطمئنان من قوله وقد طبقه بنفسه بلا هذا التقييد في بحث الاجتهاد والتقليد.

وإِنْ كان المقصود النقاش في انطباق تلك الكبرى في المقام فغاية ما يمكن أَنْ يقال في تقريبه انَّ أهل الخبرة معناه أهل الحدس والاجتهاد وفي المقام ليس عمل اللغوي إِلاّ تجميع المسموعات وموارد الاستعمالات ونقلها فلا يكون مشمولاً لدليل حجية قول أهل الخبرة.

وفيه : أولا ـ انَّ خبرة اللغوي كثيراً ما يكون على أساس الحدس وإعمال النّظر أيضا ، فانَّه وإِنْ كان رأس ماله السماع وتتبع موارد الاستعمالات إِلاّ انَّه لا بدَّ له أيضا

٢٩٦

أَنْ يقارن بين موارد الاستعمالات ويجتهد في تخريج وتجريد المعاني التي يستعمل فيها اللفظ والتي تستفاد من مجموع تلك المسموعات.

وثانياً ـ انَّ هذه المقالة أساساً لا محصل لها لأنَّ الحدسية تضعيف لقيمة الاخبار فكيف يعقل أَنْ تكون الحجية العقلائية المبنية على الكاشفية والطريقية منوطة بها. بل الصحيح انَّ العقلاء بحسب فطرتهم بنوا أولا على حجية اخبار الثقات في الحسّيّات أولا لأنَّ احتمال الخطأ فيها منفيّ بأصالة عدم الخطّ في الحسّ واحتمال الكذب منفي بالوثاقة ، وامَّا الحدسيات فوثاقة المخبر فيها لا تقتضي أكثر من صدقه في الإخبار عن حدسه فيبقى احتمال خطأ حدسه عن الواقع ولا يمكن نفيه بأصالة عدم الخطأ ، لأنَّ موضوعها الحسّ الّذي يقلّ فيها الخطأ لا الحدس الّذي يكثر فيه الخطأ إِلاّ انَّهم استثنوا عن عدم الحجية في الحدسيات خصوص الموارد التي يكون الحدس فيها متوقفاً على تفرّغ وخبرة واجتهاد لا يمكن توفره عادة لكلّ أحد فكأنَّه بحكمة الانسداد العرفي لباب العلم فيها جعلوا قول أهل الخبرة في مثل هذه الموارد وحدسهم حجة على الآخرين الذين انسدّ عليهم باب العلم ولو باعتبار تفرغهم لاعمال أُخرى ، نعم من لم ينسد عليه ذلك كمن كان بنفسه من أهل تلك الخبرة لا يكون حدس غيره حجة عليه كما هو واضح.

وهكذا يتّضح انَّ حجية قول أهل الخبرة انَّما هو إِلحاق بحجية اخبار الثقة في الحسيّات ، وبناءً عليه فقول اللغوي وشهادته إِنْ كان من باب الشهادة الحسيّة فهو مصداق لحجية الأصل وإِنْ كان من باب الخبروية فهو مصداق لحجية الفرع.

نعم لو فرض انَّ خبرة اللغوي قائمة على مدارك من البحث نظرية اجتهادية نسبتها إلى الفقيه وإليه على حد واحد فلا تكون مثل هذه الخبرة حجة على الفقيه على ما سوف نشير إليه.

فيتحصل انَّ قول اللغوي في هذا المجال حجة بقدر ما يكون شهادة عن حسّ لموارد الاستعمال ولا بدَّ وأَنْ يخضع عندئذ لقانون الشهادة عن الحسّ أي يكون الناقل ثقة ومباشراً أو عن ثقة مباشرة. وامَّا تحقيقاته وأنظاره الاجتهادية فلا تكون حجة على الفقيه لكونه فيها أهل الخبرة أيضا.

٢٩٧

وأمَّا المقام الثاني ـ فلا إشكال في انَّ تعيين الأوضاع اللغوية يمكن أَنْ يكون بطريق حسّي كما إذا سمع شهادة من العرب الأوائل على المعنى الموضوع له الحقيقي إِلاّ انَّ مثل هذا ممّا لا يشهد به اللغوي عن حسّ بل هو امَّا أَنْ يشهد بموارد الاستعمال الأعم من الحقيقة أو يجتهد في استخراج المعنى الحقيقي ويعتمد على أنظار وآراء الأمر الّذي نسبته إليه وإلى المجتهد على حد واحد فلا موجب لحجية قوله عليه ، نظير أَنْ يلحظ تاريخ استعمال كلمة الأسد في الحيوان المفترس والرّجل الشجاع ويرى تقدّم الأول على الثاني ويرى انَّ موارد الاستعمال في الثاني محفوظ بالقرينة دائماً بخلاف الأول ، ويرى انَّ في موارد الاستعمال في الثاني يراد المبالغة في الشجاعة دون الأول إلى غير ذلك من القرائن التي بتجميعها ربما يحصل على أساسها الجزم بالمعنى الموضوع له اللفظ.

وامَّا الاستدلال على حجية قول اللغوي تارة بالإجماع وأُخرى بدليل الانسداد فغير تام.

امَّا الإجماع ، فإنْ أُريد به الإجماع العملي من قبل العلماء على مراجعة أقوالهم فهذا وإِنْ سلمت صغراه إِلاّ انَّه لم يعلم انَّ ذلك من باب الرجوع إلى الحجة التعبدية بل المظنون انه لحصول الاطمئنان والاطلاع المباشر على الوضع ، وإِنْ أُريد الإجماع القولي فهو غير موجود لأنَّ المسألة لم يتعرض لها إِلاّ عند المتأخرين والنقل المنسوب إلى المرتضى ( قده ) يكون كسائر إخباراته التساهليّة عن الإجماع على تقدير صحّة النسبة.

مضافاً إلى انَّ الإجماع لو تمّ فلا يجزم بكونه تعبديّاً إِنْ لم يجزم بعدم كونه كذلك وانَّه تطبيق لإحدى الكبريات لا انَّه متلقى بعنوانه عن الأئمة عليهم‌السلام فانَّه بعيد غايته.

وامَّا الانسداد وإجرائه في دائرة الألفاظ المشكوكة التي لا طريق إلى تحصيل العلم بها فيؤخذ بقول اللغويين لكونه يُفيد الظنّ بالظهور فغير تام لوجوه :

ومنها : ان تتميم دليل الانسداد بحاجة إلى تشكيل علم إجمالي منجز أي علم بالتكليف لكي تتم مقدماته وهنا لا علم إجمالي بالتكليف المنجز في دائرة أقوال اللغويين بل غايته العلم بالتكليف الأعم من الإلزاميّ والترخيصي.

ومنها : لو سلّم وجود علم إجمالي بتكليف منجز فيتعيّن الاحتياط في تمام الأطراف إذ لا يلزم منه عسر وحرج لعدم كثرة أطرافه.

٢٩٨

ومنها ـ انَّ تتميم دليل الانسداد انَّما يوجب الرجوع إلى الظنّ فيما إذا تعذر الرجوع إلى الأمارات المفروغ عن حجيّتها كالإطلاقات والعمومات الأولية إِنْ كانت في مورد قول اللغوي. اللهم إِلاّ أن يدعى وجود علم إجمالي بوجود مخصصات ومقيّدات لها ولو من جهة عدم احتمال خطأ أقوال اللغويين كلّها وهذه دعوى زائدة على العلم الإجمالي.

ثمّ انَّه قد استشكل على تقرير دليل الانسداد في المقام بإشكالين آخرين :

أحدهما ـ ما في الكفاية من انَّ دليل الانسداد الكبير لو كان تاماً فكل ظنّ حجة لا خصوص قول اللغوي ولو من غير قول اللغوي وإِنْ لم يتم فلا يتم دليل الانسداد الصغير.

ولم يبين وجه عدم تمامية الانسداد الصغير فلا بدَّ وأَنْ يكون راجعاً إلى أحد الوجوه التي ذكرناها.

الثاني ـ انَّه لو سلّم تمامية دليل الانسداد الصغير فهذا لا ينتج حجية قول اللغوي فحسب بل ينتج حجية مطلق الظنّ بالظهور ولو حصل من غير قول اللغوي.

وهذا الجواب يمكن إبطاله بأنَّ المفروض انَّ دائرة علمنا الإجمالي خصوص أقوال اللغويين ولو من جهة عدم احتمال كذبهم جميعاً لا أكثر من ذلك فيجري البراءة في الزائد عنه.

إثبات الظهور بالاستدلال والبرهان :

الجهة السابعة ـ هناك شبهة تتردد في الأذهان هي انَّ الأُصوليين في مقام إثبات جملة من الظواهر والدلالات خاضوا بحوثاً استدلالية برهانية مع انَّ الظهور أمر المرجع فيه إلى العرف والوجدان العرفي لا صناعة البرهان؟

والصحيح انَّ عملية الاستدلال أو أعمال الصناعة في إثبات الظهور منهج سليم في جملة من الموارد يمكننا حصرها في أربعة مواضع كما يلي :

١ ـ إثبات أصل الظهور.

٢ ـ إثبات صغراه بعد الفراغ عن كبراه.

٣ ـ إثبات خصوصية في الظهور.

٢٩٩

٤ ـ التنسيق بين الظواهر لكي يقتنص الظهور النهائيّ الّذي عليه مدار الحجية.

أمَّا الموضع الأول ـ فتارة يراد نفي الظهور فيه بالبرهان وهذا جانب سلبي ، وأُخرى يراد إثباته به.

أمَّا الجانب السلبي ، فصحة استعمال البرهان فيه واضح من قبيل ما صنعه الأُصوليّون في بحث الصحيح والأعم أو المشتق من البرهنة على استحالة تعقل الجامع بين الأفراد الصحيحة أو بين المتلبس والمنقضي عنه المبدأ لنفي القول بوضع الأسماء للصحيح أو المشتق للجامع بين المنقضي والمتلبس ، فانَّ إمكان الوضع لذلك فرع وجود معنى جامع متقرر مفهوماً فانَّ مقام الإثبات فرع مقام الثبوت فإذا برهن على عدم جامع مفهومي كان ذلك برهاناً على عدم إمكان الوضع له.

وأمَّا الجانب الإثباتي فأيضاً يمكن إثباته بالاستدلال ولو الاستقرائي لما تقدّم من انَّ الظهور الموضوعي أمر واقعي وليس وجدانيّاً فيمكن إثباته بالاستدلال والملاحظة ، كما إذا جرب إطلاق اللفظ عند جماعة مختلفين في ظروفهم وملابساتهم وثقافاتهم للتأكد من عدم التأثر بعامل ذاتي غير موضوعي في تشخيص الظهور فهذا الاستقراء استدلال في الظهورات الذاتيّة المختلفة للتوصّل منها إلى الظهور الموضوعي ، وقد يكون الاستقراء في نفس الظهور الموضوعي مباشرة كما فعله صاحب المحجّة من ملاحظة صيغ ( فعيل ) وانَّها تدلّ على الذات الحاملة للمبدإ دائماً بخلاف صيغة ( فاعل ) فاستنتج من ذلك انَّ كلّ مبدأ لا يكون قائماً بالذات لا تجري عليه صيغة فعيل فقد استنبط أخذ حيثية مشتركة في مدلول فعيل من استقراء مجموع المواد الداخلة عليه كخطيب وسميع وبصير وخبير وهكذا وإِلاّ كان عدم دخوله على مادة ومبدأ لا يقوم بالذات مجرد صدفة منفية بقانون الاستقراء.

وشخص هذا الاستدلال وإِنْ كان قد يناقش فيه لورود صيغة فعيل في مبدأ لا يقوم بالذات كأليم مع انَّ الألم قائم بالمؤلم لا المؤلم ومن هنا لم يدع اللغويين هذا الاختصاص أيضا (١) إِلاّ انَّ منهج هذا الطرز من الاستدلال لإثبات الأوضاع اللغوية سليم في نفسه.

__________________

(١) يمكن أن يقال المبدأ هنا أيضا قائم بالذات لأنَّه شدة الإيلام لا شدة الألم وهو قائم بالعذاب أي الضرب ونحوه فانه بلحاظ صفة الألم يعتبر ذاتاً لا بمن يقع عليه الألم.

٣٠٠