بحوث في علم الأصول - ج ٤

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

حيّاً فقال لا يمسّ لأنَّ الله تعالى يقول ( وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) (١) وهناك عدة روايات بهذا المضمون مع الاستشهاد بالآية.

وهي أيضا واضحة في التعليل والاستدلال بالآية على الحكم مع انَّها بحسب مدلولها اللفظي مختص بذوي العقول لمكان ( مَن ) الموصولة فاستفادة التعميم منها مبني على إعمال مناسبات الحكم والموضوع المقتضية كون الحكم المذكور لكرامة المقام والبيت لا لخصوصية في الداخل إِليه.

٣ ـ معتبرة محمد بن مسلم قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرّجل كانت له جارية فأعتقت فزوجت فولدت أيصلح لمولاها الأول أَنْ يتزوّج ابنتها قال لا هي حرام وهي ابنته والحرّة والمملوكة في هذا سواء ثمّ قرأ هذه الآية ( وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) (٢).

والاستدلال بالآية انَّما يتمّ بعد إلغاء خصوصية الربيبة وكونها في حجر الإنسان إلى مطلق بنت المرأة المنكوحة بنكاح صحيح كما فهمه الفقهاء بعد ذلك أيضا في مقام الاستدلال بها.

٤ ـ رواية الحسن بن علي الصيرفي عن بعض أصحابنا قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن السعي بين الصفا والمروة فريضة أم سنة؟ فقال : فريضة. قلت : أو ليس قد قال الله عزّ وجلّ ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) قال : كان ذلك في عمرة القضاء انَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرط عليهم أَنْ يرفعوا الأصنام من الصفا والمروة فتشاغل رجل وترك السعي حتى انقضت الأيّام وأُعيدت الأصنام فجاءوا إِليه فقالوا يا رسول الله انَّ فلاناً لم يسع بين الصفا والمروة وقد أُعيدت الأصنام فأنزل الله عزّ وجلَ ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) أي وعليهما الأصنام (٣).

فانَّ السائل قد استظهر من نفي الجناح في الآية الترخيص ونفي الوجوب فانَّ الواجب لا يناسب عرفاً أَنْ يعبر عنه بلا جناح وإِنْ كان بحسب حاق اللغة لا ضير فيه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ب ١٢ من كفارات الصيد ج ١١.

(٢) وسائل الشيعة باب ١٨ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

(٣) وسائل الشيعة باب (١) من أبواب السعي.

٢٦١

والإمام عليه‌السلام قد أمضى استظهاره هذا ولكنه حاول أَنْ يلفته إلى انَّ التعبير بذلك انَّما جاء بلحاظ خصوصية واقعة معينة كان يتوهم فيها سقوط السعي لابتلائه بمحذور الأصنام ، فنفي الجناح ليس بلحاظ أصل عمل السعي وانَّما إتيانه في تلك الحال وكلّ هذه إعمال عنايات ومناسبات عرفية تتدخل في تشكيل الظهور كما هو واضح.

٥ ـ رواية عبد الله بن سنان قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام علي الإمام أَنْ يسمع من خلفه وإِنْ كثروا فقال : ليقرأ قراءة وسطاً يقول الله تبارك وتعالى : ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) (١) وهناك غيرها نظيرها ومن الواضح انَّ نفي الجهر والإخفات لا يدلّ بحسب حاق اللفظ على تعين القراءة الوسط إِلاّ باعمال العنايات والمناسبات العرفية القاضية بأنَّ المنفي بقرينة التقابل المرتبة الشديدة من كلّ منهما.

٦ ـ صحيحة زرارة قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام ألا تخبرني من أين علمت وقلت انَّ المسح ببعض الرّأس وبعض الرجلين؟ فضحك فقال يا زرارة قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزل به الكتاب من الله عزّ وجلّ لأنَّ الله عزّ وجلّ قال ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... ) ثمّ فصل بين الكلام فقال : وامسحوا برءوسكم فعرفنا حين قال برءوسكم انَّ المسح ببعض الرّأس لمكان الباء ثمّ وصل الرجلين بالرأس ... إلخ (٢).

مع انَّ الباء قيل انَّها لا تكون للتبعيض بل للإلصاق ومع ذلك يمكن استفادة التبعيض منها لأنَّ إِلصاق المسح بالرأس بسبب الباء يشعر عرفاً بتخفيف الإلصاق الّذي يكفي فيه مسح البعض.

٧ ـ رواية الحكم بن الحكم قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : وسئل عن الصلاة في البيَع والكنائس فقال : صلِّ فيها قد رأيتها ما أنظفها. قلت أيصلي فيها وإِنْ كانوا يصلّون فيها؟ فقال نعم أما تقرأ القرآن ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً ) صلّ إلى القبلة وغرّ بهم (٣).

مع انَّ الآية لو لا إعمال عناية ذوقيّة فيها لا تدلّ على نفي مانعية البيع والكنائس

__________________

(١) وسائل الشيعة ب ٣٣ من أبواب القراءة في الصلاة.

(٢) وسائل الشيعة ب ٢٣ من أبواب الوضوء.

(٣) وسائل الشيعة ب ١٣ من أبواب مكان المصلّي.

٢٦٢

عن صحة الصلاة.

٨ ـ رواية عبد الأعلى مولى آل سام التي تقدّمت الإشارة إِليها حيث قد أُمر فيها بالمسح على المرارة لمن انقطع ظفره مستخرجاً ذلك من كتاب الله سبحانه وتعالى وهو قوله تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (١).

مع انَّ الآية لا يستفاد منها الحكم الإيجابي وهو بدلية المسح على الجبيرة إِلاّ بضم عناية انه ميسور من المسح على البشرة وانَّ الميسور لا يسقط بالمعسور.

إلى كثير غيرها من الروايات التي بمجموعها قد تشكل دليلاً أو تأييداً على الأقل لما ذكرناه من حجية مثل هذه الظهورات العرفية وإِنْ كانت قائمة على أساس إعمال عنايات ومناسبات.

ثمّ انَّنا بملاحظة مجموع ما ورد من الأئمة عليهم‌السلام في التعويل والإحالة على الكتاب الكريم والاستدلال والاستشهاد بها إذا استطعنا تحصيل ما يكون صريحاً في استدلالهم عليهم‌السلام بالظهور لا ظاهراً كان ذلك بنفسه دليلاً قطعياً على حجية الظهور شرعاً.

فيكون تاماً مع قطع النّظر عن السيرة العقلائية وعهدة ذلك على المتتبع.

وقد يقال : بثبوت الردع بلحاظ قسم خاص من الظواهر الّذي يكثر التعويل عليه في الفقه وهو الظهورات التي ترجع إلى دلالات التزامية عرفية فانَّ الدلالة الالتزامية قد تكون على أساس عدم الانفكاك بين مدلولين عقلاً وهذا خارج عن منظورنا ، وقد يكون على أساس عدم تعقل العرف للانفكاك وإِنْ كان ممكناً عقلاً من قبيل ما يقال في باب طهارة المياه من انَّ الدليل الدال على مطهرية الماء دال بالالتزام على طهارته عرفاً لأنَّ العرف لا يتعقل مطهرية الماء النجس ، وهذا القسم من الظواهر قد يقال بالردع عنه شرعاً بمثل رواية أبان الواردة في دية أصابع المرأة قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة كم فيها قال عشرة من الإبل قلت قطع اثنين قال : عشرون قلت قطع ثلاثاً قال ثلاثون قلت قطع أربعاً قال عشرون قلت سبحان الله يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ويقطع أربعاً فيكون عليه

__________________

(١) وسائل الشيعة ب ٢٩ من أبواب الوضوء.

٢٦٣

عشرون انَّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قاله ونقول الّذي جاء به شيطان فقال مهلاً يا أبان هذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انَّ المرأة تعاقل الرّجل إلى ثلث الدية فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف يا أبان إنَّك أخذتني بالقياس والسنة إذا قيست محقت (١).

وتوضيح فقه الرواية : انَّه قد اتّفق فقهائنا على انَّ الجنابة إذا قرّر عليها عنوان الدية أو نسبة منها فتكون للمرأة ديتها وللرجل ديته وامَّا إذا قرر في مورد مقدار معيّن كعشرين درهماً أو من الإبل فالمرأة تعاقل الرّجل وتساويه ما لم يبلغ ثلث ذلك المقدار المجعول أو لم يتجاوز ـ على الخلاف في ذلك ـ فإذا بلغ أو تجاوز رجعت إلى النصف وهذه هي القاعدة التي استغرب منها أبان بمقتضى هذه الرواية لأنَّه على خلاف المتفاهم العرفي إذ العرف لا يتعقل أَنْ تكون دية قطع أربعة أصابع من المرأة أقل من دية قطع ثلاثة منها.

والرواية معتبرة سنداً ، وهي تارة يستدلّ بها على الردع عن حجية القطع الناشئ من مقدمات عقلية وهذا ما تقدّم الجواب عليه في بحث حجية الدليل العقلي حيث ذكرنا هناك انَّه لا يستفاد منها الردع عن حجية القطع العقلي بعد حصوله وانَّما العتاب فيه بلحاظ انَّه كيف تسرع أبان في الجزم بالحكم الشرعي من دون التفات إلى القواعد الشرعية والبيانات الصادرة من الشارع على أساس مجرد استذواق عرفي أو عقلي ، وكم فرق بين ذلك وبين القطع العقلي بعد الالتفات إلى البيانات والقواعد الشرعية والفحص عنها.

وأخرى يستدلّ بها في مقامنا لإثبات الردع عن الظهورات العرفية القائمة على أساس ملازمات عرفية فانَّ الملازمة المذكورة وإِنْ لم تكن ثابتة عقلاً ، ولهذا ثبت بنحو الموجبة الجزئية مساواة المرأة للرجل في الدية أو الميراث ـ كما في الميراث بين الإخوة والأخوات من طرف الأُم فقط ـ إِلاّ انَّ ذلك بنحو الموجبة الجزئية لا أكثر ولعله للإشعار بأنَّ هذه التفاوتات لم يكن المنظور فيه التفضيل بل بنكات اجتماعية ومصالح نوعية

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٤٤ من أبواب ديات الأعضاء.

٢٦٤

وعليه فالدلالة العرفية في مثل الدليل الدال على انَّ أصابع المرأة إذا قطعت ثلاثة منها لزم فيها دية قدرها ثلاثون منعقدة على انَّه لو قطعت أربعة لم تكن ديتها أقلّ من ذلك مع انَّ هذا هو الّذي ردع عنها الإمام عليه‌السلام وطبق عليه عنوان القياس.

والجواب : انَّ ظاهر الرواية انَّ ردع أبان وتأنيبه انَّما كان بلحاظ تحكيمه لهذه الدلالة والملازمة على النصّ الشرعي ، لأنَّ أبان كان على أساس هذه الملازمة يطرح النصّ الشرعي الّذي كان يرده وهو في العراق بل استنكر على الإمام بذلك بعد سماعه النصّ منه وهذا مطلب آخر مؤداه طرح النص الشرعي والاعتراض عليه لوجود ملازمة عرفية أو ذوقية ومثله مردوع عنه شرعاً وفاسد عقلاً ، لأنَّه تحكيم للأذواق والمناسبات على الدين ولهذا قال له الإمام عليه‌السلام ( انك أخذتني بالقياس ) وأين هذا من الأخذ بالظهور العرفي للسنة نفسها تحكيماً للملازمة العرفية لها لا عليها وإِن شئت قلت : بعد أَنْ ثبت انَّ حكم المرأة في باب الدية يختلف عن الرّجل في الجملة فلا تنعقد دلالة من هذا القبيل بل تنتفي وانَّما يبقى مجرد الاستذواق العرفي لمن هو بعيد عن مجموع القواعد والأحكام الشرعية وهو لا يمكن الاعتماد عليه لأنَّه قياس واستحسان وفي قبال النصّ.

ثم انَّه قد يقال : بامتياز الاستدلال بالسيرة المتشرعية على حجية الظهور على الاستدلال بالسيرة العقلائية ، من جهة انَّه قد يفترض وجود أمارة عقلائية مقدمة عند العقلاء على الظهور في مقام التزاحم معه بحيث انَّهم يعملون بها لا بالظهور مع كونها غير حجة شرعاً ولو للردع عنها كالقياس مثلاً فانَّه في مثل ذلك لا يمكن التمسّك بالسيرة العقلائية ، لأنَّ مجرد الردع عن الأمارة المزاحمة لا يعني حجية الظهور المخالف لها والمفروض انَّ العقلاء أيضا لا يعلمون به فلا يمكن إثبات حجيته ، وهذا بخلاف ما لو كان المدرك سيرة المتشرعة فقد يفرض فعليتها حتى مع وجود أمارة مزاحمة لكونها ملغاة شرعاً.

إِلاّ انَّ هذا التمييز مبني على أَنْ نسلك في الاستدلال بالسيرة العقلائية على مثل مسلك المحقق الأصفهاني ( قده ) من انَّ المقدار الثابت بها إمضاء الشارع لما وقع بالفعل خارجاً من تطبيقات السلوك العقلائي لا إمضاء النكتة والمبنى العقلائي الّذي اقتضى

٢٦٥

ذلك السلوك العام ، وإِلاّ فمقتضى الحجية ثابت للظهور المذكور والمانع عنها انَّما كان حجية المزاحم والمفروض إلغاؤه شرعاً. وإِنْ شئت قلت : انَّ هناك قضيّة تعليقيّة عقلائية هي انَّه لو لم يكن ذلك المزاحم حجة ـ لا لو لم يكن موجوداً ـ كان الظهور المذكور حجة لاشتماله على مقتضي الحجية ونكتتها والمستكشف إمضاء هذه النكتة عموماً بنحو القضية الحقيقية سواءً كان شرطها ثابتاً شرعاً أم لا.

تحديد موضوع أصالة الظهور :

الجهة الثانية ـ في تشخيص موضوع حجية الظهور وهذا بحث تحليلي يرجع إلى تحليل المرتكزات العقلائية التي هي أساس كبرى حجية الظهور. وقد وقع الخلاف بين المحققين المتأخرين في تحديد موضوع أصالة الظهور وقبل استعراض كلماتهم لا بدَّ من استذكار ما تقدّم في بحوث العام والخاصّ من انَّ للكلام ظهورات ودلالات ثلاثة.

١ ـ الدلالة التصورية وهي الصورة التي تنتقش من سماع اللفظ في الذهن على أساس من الوضع والمحفوظة اللفظ من لافظ غير ذي شعور.

٣ ـ الدلالة التصديقيّة الاستعمالية وهي الدلالة على إرادة المتكلّم وقصده لإخطار المعنى والمدلول التصوري إلى ذهن السامع ، وهذا لا يكون إِلاّ حيث يكون هناك متكلّم عاقل ذي قصد وشعور ولذلك تكون أخصّ من الأول.

٣ ـ الدلالة التصديقية الجدية وهي الدلالة على انَّ المتكلّم ليس هازلاً بل مريد جداً للمعنى حكاية أو إنشاء وهذا أخصّ من الثاني أيضا ، إذ الدلالة التصديقية الأُولى تكون محفوظة في موارد الهزل أيضا.

والدلالة الأُولى منشأها الوضع ولا ينثلم بالقرينة ، وانَّما القرينة تؤثر على الظهورين الاستعمالي والجدّي إذا كانت متصلة لأنهما ظهوران حاليان للمتكلّم بما هو متكلّم يدلان على أنَّه يريد إخطار ما للألفاظ من مداليل تصوريّة وضعية إلى ذهن السامع وهذا انَّما يكون حيثما لم ينصب بنفسه قرينة على إرادته خلاف ذلك استعمالاً أو جدّاً.

إِذا اتّضحت هذه المقدمة فنقول في المقام : لا إِشكال عند الجميع في انَّ المقصود من أصالة الظهور انَّما هو التوصّل إلى إثبات

٢٦٦

المراد الجدّي للمتكلّم إِلاّ انَّ الكلام في كيفية جعل هذا الأصل ، وهنا ثلاث فرضيات رئيسيّة لتصوير هذا الأصل :

الفرضية الأُولى ـ ما ذهب إليه المحقق النائيني ( قده ) تبعاً للشيخ ( قده ) من انَّ موضوع أصالة الظهور مركّب من جزءين : أحدهما الظهور التصديقي ، والآخر عدم القرينة المنفصلة ، فمتى ما أحرزنا كلا هذين الجزءين كان الظهور حجة ومتى شككنا في ذلك فانْ شككنا في الأول من ناحية احتمال القرينة المتصلة التي تقدّم في المقدمة انَّها تثلم الظهور التصديقي أو شككنا في الثاني من ناحية احتمال القرينة المنفصلة فلا تجري أصالة الظهور بل كنّا بحاجة إلى أصل في المرتبة السابقة ينقح لنا موضوع أصالة الظهور وهو أصالة عدم القرينة المتّصلة والمنفصلة فانَّه بأصالة عدم القرينة المتصلة نحرز الجزء الأول وهو الظهور التصديقي وبأصالة عدم القرينة المنفصلة نحرز الجزء الثاني فنحتاج إلى إجراء أصلين طوليّين إِلاّ إِذا قطع وجداناً بعدم القرينة المتصلة أو المنفصلة.

الفرضية الثانية ـ ما ذهب إِليه المحقق الأصفهاني ( قده ) من انَّ موضوع الحجية عبارة عن الظهور التصوري وعدم العلم بالقرينة على الخلاف ففي موارد الشك في القرينة سواء كانت متصلة أو منفصلة نرجع إلى أصالة الظهور ابتداءً بلا حاجة إلى أصل عدم القرينة الطولي لانحفاظ المدلول التصوّري على كلّ حال.

الفرضية الثالثة ـ ما هو المختار من انَّ حجية الظهور موضوعها عبارة عن الظهور التصديقي لا التصوّري كما أفاد المحقق الأصفهاني ( قده ) إِلاّ انَّ الجزء الثاني هو عدم العلم بالقرينة المنفصلة لا عدم واقع القرينة المنفصلة كما أفاد المحقق النائيني ( قده ) ، ونتيجة ذلك انَّه إذا احتملنا القرينة المتصلة كنّا بحاجة إلى إحراز موضوع أصالة الظهور في المرتبة السابقة بأصل أو غيره وإذا احتملنا القرينة المنفصلة رجعنا إلى أصالة الظهور ابتداءً بلا حاجة إلى أصل طولي لانحفاظ كلا الجزءين المذكورين كما هو واضح.

والاختلاف بين هذه الفرضيات ربما يتصوّر انَّه مجرّد خلاف تحليلي نظري لا أثر عملي له ، إِلاّ انَّه سوف يظهر من خلال البحث وجود مغزىً عملي له ، ولنبدأ بالتعليق على الفرضيتين الأُولى والثانية لنخرج منه بتثبيت فرضيتنا المختارة فنقول : أمَّا الفرضية الأُولى التي تبنّاها المحقق النائيني ( قده ) وفاقاً مع الشيخ

٢٦٧

الأنصاري ( قده ) فما ذكر فيها من انَّ موضوع أصالة الظهور هو الظهور التصديقي لا التصوّري صحيح على ما سوف يأتي تحقيقه من خلال التعليق على الفرضية الثانية ولكن ما ذكر فيها من توقفه على عدم واقع القرينة المنفصلة بحيث لا بدَّ من تنقيح عدمها في المرتبة السابقة بأصالة عدم القرينة غير تام ، وذلك لأنَّ أصالة عدم القرينة هذه امَّا أَن تكون أصلاً تعبّدياً بحتاً على حدّ الأصول العملية الشرعية وامَّا أَنْ تكون أصلاً عقلائيّاً على أساس نكتة الكاشفية والطريقيّة ، والأول باطل لوضوح انَّ العقلاء ليست لهم تعبدات عملية وانَّ أصولهم اللفظية كلّها بملاك الكاشفية والطريقية لا التعبّد العملي البحث. وامَّا الثاني فهو صحيح إِلاّ انَّه لا كاشف ولا طريق عن عدم القرينة إِلاّ نفس الظهور التصديقي المنعقد في الخطاب باعتبار استبعاد انَّ المتكلّم يتكلّم بكلام ظاهر في إرادته لمعنى ولا ينصب قرينة متصلة على مرامه ، بشهادة انَّه لو لم يكن كلامه ظاهراً في ذلك بل مجملاً لم يكن يستبعد مجيء الشارح والمبين ، فتمام نكتة استبعاد القرينة المنفصلة هو ظهور الكلام في المرام التصديقي نفسه وهذا معناه انَّ الرجوع إلى الظهور ابتداء فهو موضوع الحجية عند عدم وصول القرينة المنفصلة بلا حاجة إلى أصل طولي أسبق ، وبهذا التحليل يمكن إبطال هذه الفرضية لا بما جاء في مناقشة المحقق الأصفهاني ( قده ) من انَّ الظهور عند العقلاء مقتضٍ لعملهم به فلا يمكن أَنْ تكون القرينة بوجودها الواقعي مانعة عن العمل لأنَّ المانع لا بدَّ وأَنْ يكون في أُفق المقتضي وصقعه وما يمكن أَنْ يكون مانعاً لهم عن عملهم انَّما هو وصول القرينة لهم فعدمه وهو عدم العلم بالقرينة هو الّذي ينبغي أَنْ يكون الجزء الآخر من العلّة أو الموضوع.

فانَّ هذا البيان كأنَّه انسياق مع تصوّر انَّ المراد بالسيرة العقلائية نفس عملهم الخارجي بما هو تحرّك وفعل صادر من العقلاء لا ما يكشف عنه ذلك العمل الخارجي من مبنى ومعنى كلّي بنحو القضية الحقيقية المجعولة فانَّ العمل الخارجي لا محالة يكون المؤثر فيه والعلّة له هو وصول المانع لا وجوده الواقعي ، وامَّا المضمون المستكشف منه فقضية جعلية وقرار على حدّ سائر القضايا والجعول يكون الحكم فيها وهو الحجية تابعاً لموضوعه الواقعي المأخوذ مقدر الوجود. على أنَّ امتناع العقلاء عن عملهم بالظهور كما

٢٦٨

يتوقّف على العلم بالقرينة ووصولها كذلك يتوقّف على العلم بالظهور فليكن الجزء الأول لموضوع حجية الظهور والمقتضي لها العلم بالظهور لا واقعه ، اللهم إِلاّ أَنْ يفسر الظهور بما يساوق ذلك لأنَّه يقصد به الدلالة التصوريّة ولعلّها مساوقة للعلم والانسباق عنده.

وأمَّا فرضية المحقق الأصفهاني ( قده ) التي تجعل الظهور التصوري موضوعاً للحجية فالمناقشة فيه : انَّ هذا الظهور مجرد أمر تكويني إيجادي والحجية العقلائية انَّما تكون بملاك الكاشفية. نعم هذا الظهور من الحيثيات التعليلية لتكوين الظهور التصديقي الكاشف عن المراد فيما إذا لم ينصب قرينة متّصلة على خلافه. وعليه فجعل هذا الظهور موضوعاً للحجية خلاف ما ذكرناه من انَّ الأصول والقواعد العقلائية قائمة على أساس الطريقية والكاشفية.

وبهذا ننتهي إلى صحّة الفرضية الثالثة ، وهي انَّ موضوع الحجية مركّب من جزءين الظهور التصديقي الكاشف عن المراد ، وعدم العلم بالقرينة المنفصلة ، وامَّا القرينة المتصلة فقد عرفت انَّ عدمها مأخوذ في الجزء الأول لأنَّها كما عرفت تهدم الظهور التصديقي ذاتاً.

وحينئذ تارة يعلم بعدم القرينة وأُخرى يشك فيها ، وعلى الأول لا إِشكال في الرجوع إلى أصالة الظهور ابتداءً ، وعلى الثاني فتارة يكون الشك في وجود القرينة المنفصلة مع العلم بعدم المتصلة فيرجع إلى أصالة الظهور ابتداءً أيضا لتحقق موضوعها وجداناً ، وأُخرى يشك في وجود قرينة متصلة وفي مثله لا يمكن الرجوع إلى أصالة الظهور ابتداءً للشك في تحقق موضوعه وهو الظهور التصديقي وهنا حالتان :

الأُولى ـ أَنْ يكون احتمال القرينة المتصلة ناشئاً من احتمال غفلة حسيّة عن القرينة ، كما إذا كنَّا مشافهين بالخطاب وهنا تجري أصالة عدم القرينة التي مرجعها روحاً إلى أصالة عدم الغفلة في الأُمور الحسيّة التي تكون بملاك كاشفية نوعية واضحة.

الثانية ـ أَنْ يكون احتمال القرينة المتصلة ناشئاً من غير ناحية الغفلة ، كما إذا لم نكن مشافهين بالخطاب وانَّما وصلنا الخطاب ضمن رسالة إِلاّ انَّ قسماً منها كانت مقطوعة مثلاً واحتملنا وجود قرينة في المقدار المقطوع منها ، وفي مثل هذه الحالة لا يشك

٢٦٩

عاقل في عدم حجية الظهور ولا أصالة عدم القرينة. وهكذا يعرف انَّ احتمال القرينة سواءً كان من احتمال قرينية الموجود أو من أصل وجود القرينة لا نافي له إذا كان من غير ناحية الغفلة كما لو كان الكلام منقولاً إِلينا.

ومن هنا يظهر المغزى العملي بين الفرضيات الثلاث فانَّه بناءً على الفرضية الأُولى والثانية كان يمكن التمسّك بأصالة الظهور في موارد احتمال القرينة المتصلة لتمامية الظهور التصوري أو التمسّك بأصالة عدم القرينة.

وقد يقال : على هذا ينسدّ باب العمل بالظهورات في الفقه لاحتمال وجود قرائن متصلة مع الروايات الصادرة عن المعصومين عليهم‌السلام ولم تصل إِلينا.

والجواب : انَّ احتمال قرينة متصلة فيها لم تنقل إِلينا ، إِنْ كان من جهة احتمال غفلة الناقل عن سماعها فهو منفي بأصالة عدم القرينة على أساس عدم الغفلة ، وإِنْ كان من ناحية احتمال إسقاط الناقل لذكرها فهو منفي بشهادة الناقل السلبية السكوتية ، فانَّ سكوته في مقام النقل واقتصاره على ما نقل من الظهور بنفسه شهادة منه بعدم وجود قرينة مغيّرة لمعنى ذلك الظهور ، لأنَّه في مقام نقل كل ما له دخل في فهم ذلك المعنى الّذي ينقله إِلينا كما هو واضح.

نعم لو احتملنا قرينة متصلة لا يكون للراوي نظر إِليها في مقام النقل فلا يمكن نفيها بشهادته كما هو الحال في القرائن اللبية المرتكزة في الأذهان بنحو تكون كالمتصل ، فانَّ الراوي ليس في مقام نقل المرتكزات العامة المعايشة في عصره والتي لا يلتفت إِليها تفصيلاً غالباً كما هو واضح.

أصالة الظهور والأصول اللفظية الأُخرى :

الجهة الثالثة ـ في النسبة بين أصالة الظهور وساير الأصول اللفظية كأصالة الحقيقة والعموم والإطلاق وعدم القرينة ونحو ذلك ، وغير أصالة القرينة من هذه الأصول اللفظية حصص من أصالة الظهور بحسب الحقيقة فأصالة الحقيقة تعني أصالة الظهور التصديقي الأول أي انَّ الأصل انَّ المتكلّم يقصد افهام المعنى الحقيقي التصوري لا المجازي ، وأصالة العموم في مقابل تخصيص لا يلزم منه تجوز ، وأصالة الإطلاق من

٢٧٠

حصص أصالة الظهور بلحاظ الظهور التصديقي الثاني الكاشف عن المراد الجدّي ، وكذلك سائر الأصول اللفظية الاستظهارية كأصالة عدم الاستخدام والتقدير والحذف ونحوها فانَّها جميعاً حصص من أصالة الظهور بلحاظ إحدى المرتبتين ، وهي كلّها قد نسمّيها بالأصول الوجودية وفي مقابلها أصالة عدم القرينة أو عدم التخصيص والتقييد ، وقد عرفت النسبة بينها وبين أصالة الظهور في الجهة السابقة من انَّها بمثابة الأصل الموضوعي لها في مورد جريانها وهو ما إذا كان احتمالها من ناحية احتمال الغفلة الحسية. لا أكثر وفي غير ذلك فهي عبارة أخرى عن أصالة الظهور.

ويتراءى من كلمات الشيخ الأنصاري والمحقق الخراسانيّ ( قدهما ) محاولة كل منهما التوحيد بين الأصلين ـ السلبي والإيجابي أعني أصالة عدم القرينة والتخصيص والتقييد وأصالة الظهور والعموم والإطلاق .. ..

فالمحقق الخراسانيّ ( قده ) حاول إرجاع أصالة عدم القرينة ـ الأصل العدمي ـ إلى أصالة الظهور ـ الوجوديّ ـ وقد استدلّ عليه في بعض كلماته : بأنَّ العقلاء لا إِشكال في انَّهم يعملون بالظهور سواءً قطعوا بعدم القرينة المتصلة أو احتملوها ـ ولو من باب الغفلة ـ كما انَّ الوجدان العقلائي شاهد في انَّ المرجع لهم في الحالتين أمر واحد ، أي انَّ هناك نكتة كاشفية مشتركة في الحالتين لا نكتتين مختلفتين مع انَّه في حالة القطع بعدم القرينة ليس أصالة الظهور إذ لا معنى لإجراء أصالة عدم القرينة فيها فيعرف من ذلك انَّ الأصل في حالة الشك هو الظهور أيضا لا غير.

وهذا البيان إِنْ أُريد به إثبات وحدة الأصلين فغير تام ، لأنَّ وجدانية وحدة النكتة في الموردين لا تقتضي أكثر من الاحتياج إلى أصالة الظهور في الحالتين فهي مرجع فيهما وهذا لا ينافي أَنْ نكون في إحداهما ـ وهو حالة الشك في القرينة ـ بحاجة إلى إجراء أصل آخر في المرتبة السابقة وهو أصالة عدم القرينة وإِلاّ فيكون التمسّك بالظهور تمسكاً بالأصل مع الشبهة المصداقية في موضوعه وهذا ما لا يرتكبه العقلاء.

لا يقال ـ الجاري في كلّ من الحالتين أصل واحد على كلّ حال ، لأنَّ حكومة أصالة عدم القرينة على أصالة الظهور ظاهرية لا واقعية فبها نرتب آثار حجية الظهور لا انَّه نتمسك بأصالة الظهور فيها حقيقة على ما هو التحقيق.

٢٧١

فانَّه يقال ـ هذا لا ينافي وجدانية مرجعية أصالة الظهور على كلّ حال ولو بمعنى انَّه في حالة الشك أيضا لا بدَّ من افتراض حجية كبرى الظهور لكي تجري أصالة عدم القرينة ، فالوجدان بهذا المقدار مقبول ولا يضرّ بتعدد الأصلين.

وإِنْ أُريد إثبات عدم كفاية أصالة عدم القرينة وحدها كما يحاوله الشيخ على ما يأتي بل لا بدَّ من أصالة الظهور فهذا لا يحتاج فيه إلى الوجدان المذكور ، بل يبرهن عليه بأنَّ أصالة عدم القرينة في حالة الشك لا يجعلها بأولى من حالة القطع بعدم القرينة ، ومع ذلك من الواضح انَّه يمكن أَنْ يكون مراد المتكلّم على خلاف الظهور من دون قرينة ولا نافي لهذا الاحتمال إِلاّ أصالة الظهور.

وأمَّا الشيخ الأنصاري ( قده ) فالمتراءى من بعض عبائره التوحيد بين الأصلين بإرجاع أصالة الظهور ـ الأصل الوجوديّ ـ إلى أصالة عدم القرينة ـ الأصل العدمي ـ ولا يتحصّل لنا برهان واضح على هذا المدعى من كلماته.

إِلاّ انَّ المحقق العراقي ( قده ) حاول البرهنة عليه بربط هذه المسألة بمسألة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة وعدمه ، فذكر انَّه بناءً على القول بقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة لا محالة يستكشف في كلّ مورد ثبت فيه عدم إرادة الظهور انَّه كان هناك قرينة لكي لا يلزم القبح المذكور ، وعليه يكون احتمال إرادة خلاف الظاهر ـ الّذي يراد نفيه بأصالة الظهور ـ مساوقاً دائماً لاحتمال القرينة ، فإذا نفينا هذا الاحتمال بأصالة عدم القرينة ثبت إرادة الظهور جداً وإِلاّ لزم القبح وهو محال بلا حاجة إلى أصالة الظهور ، وهكذا ربط الحاجة إلى أصالة الظهور بالقول بجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وهذا البيان أيضا غير تام ، لأنَّ تطبيق قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة فرع بيانية الظهور في الدليل الأول وهي فرع حجيته ، وإِلاّ فلو كان الخطاب مجملاً وليس بحجة فأيّ قبح في تأخير البيان حينئذ فانَّ حاله حال عدم الخطاب رأساً ، وعليه فإثبات إرادة الظهور بأصالة عدم القرينة فرع حجية الظهور في المرتبة السابقة حتى بناءً على مسلك قبح تأخير البيان.

٢٧٢

التفصيل في حجية الظهور :

الجهة الرابعة ـ في التعرّض إلى التفصيلات في الحجية بين بعض المكلَّفين وبعض أو بعض الظهورات وبعض وأهمها ثلاثة أقوال :

القول الأول ـ التفصيل بين المقصودين بالإفهام فيكون الظهور حجة لهم دون غيرهم. وهذا تارة يقرب بدعوى قصور مقتضي الحجية وهو السيرة العقلائية عن شمول من لم يكن مقصوداً بالإفهام حيث لم يعلم انعقاد بناء العقلاء على العمل بالظواهر ولو لم يكونوا مقصودين بالإفهام.

وأُخرى يقرب بإبراز نكتة فرق بين المقصود بالإفهام وغيره ، وذلك لأنَّ المقصود بالإفهام لا منشأ لاحتمال إرادة خلاف الظاهر بالنسبة إليه إِلاّ اختفاء القرينة عليه وهو منفي بأصل عدم القرينة إذ لو لم تكن هناك قرينة ومع ذلك أُريد خلاف الظاهر في حقّه كان خلف كونه مقصوداً بالإفهام ، وامَّا غير المقصود بالإفهام فيحتمل إرادة خلاف الظاهر من غير ناحية الاختفاء عليه وذلك لأنَّه يحتمل أَنْ يكون هناك تواطؤ خاص أو اصطلاح أو إشارة معيّنة بين المتكلّم وبين من قصد افهامه يكون قرينة عنده لا يفهمها غيره لعدم كونه مقصوداً بالإفهام فليس منشأ احتمال إرادة خلاف الظاهر في حقّه منحصراً في احتمال الغفلة عن القرينة.

وقد أُجيب عن هذا التفصيل بكلا تقريبيه في الكتب ، بأنَّ أصالة الظهور أو عدم القرينة أصل برأسه في مقابل أصالة عدم الغفلة وهو غير مخصوص بالمقصود بالإفهام بل مطلق بحسب مقتضى الحجية.

وهذا المقدار من الجواب قد اتّضح على ضوء ما سبق عدم وفائه بحسم الإشكال ، لأنَّه لو أُريد التمسّك بأصالة الظهور فقد عرفت انَّه متوقّف على إحراز موضوعه بأصالة عدم القرينة وأصالة عدم القرينة ليست تعبّداً بحتاً بل لا بدَّ من أَنْ ترجع إلى نكتة كاشفية نوعية عقلائية كعدم الغفلة مثلاً.

ومن هنا كان الأحسن فرز الاحتمالات في إرادة خلاف الظاهر من الكلام والتفتيش عن نكتة كاشفية نوعية في نفي كلّ منها ثمّ يرى انَّ تلك النكتة ما هي

٢٧٣

حدودها وهل تجري في حقّ غير المقصود بالإفهام أم لا؟

فنقول : احتمال إرادة خلاف الظاهر يكون له أحد مناشئ خمسة :

الأول ـ أَنْ لا يكون المتكلّم في مقام البيان أصلاً بل في مقام الإهمال والإجمال ، ولهذا قد يقطع بأنه لم ينصب قرينة ومع ذلك يحتمل إرادته لخلاف الظاهر لكونه في مقام التمويه على سامعيه وهذا الاحتمال وارد في حقّ المخاطب وغيره نعم المقصود بالإفهام لا يرد في حقّه ذلك لأنَّه خلف كونه مقصوداً بالإفهام والنسبة بينه وبين المخاطب عموم من وجه كما لا يخفى ، والنافي لهذا الاحتمال في حقّ غير المقصود بالإفهام أصل عقلائي هو أصالة كون المتكلّم في مقام البيان فانَّ نفس خروجه من حالة الصمت إلى حالة التكلّم ظاهر في ذلك ولذلك كانت نكتة هذا الأصل العقلائي الظهور الحالي السياقي ونسبته إلى المخاطب وغيره على حدّ سواء كما هو واضح.

الثاني ـ أَنْ يكون مريداً خلاف الظاهر ونصب قرينة منفصلة عليه ، وهذا الاحتمال أيضا منسد بالنسبة إلى المقصود بالإفهام بشخص ذلك الكلام لأنَّه خلف كونه كذلك. ولكنه منفي في حق غيره أيضا بظهور حالي سياقي للمتكلّم في انَّه في مقام بيان تمام مرامه بشخص كلامه لا بمجموع كلمات منقطعة منفصلة إلى آخر عمره ، وهذا هو الظهور الّذي يجعل الاعتماد على القرائن المنفصلة أمراً على خلاف الطبع العقلائي وهذا أيضا لا يختلف الحال فيه بين المخاطب وغيره.

الثالث ـ أَنْ يكون قد أراد خلاف الظاهر ونصب عليه قرينة متصلة غفل عنها ، وهذا الاحتمال وارد حتى بالنسبة إلى من قصد افهامه ، والنافي له هو أصالة عدم الغفلة لكل من كان في محضر الإحساس بذلك الكلام.

الرابع ـ أَنْ يكون قد أراد خلاف الظاهر وقد اعتمد طريقة مخصوصة في المحاورة بينه وبين مخاطبه أو المقصود بالإفهام من قبله ، وهذا الاحتمال أيضا منفي بظهور حالي سيأتي هو ظهور حال المتكلّم على أنَّه يجري وفق لغة العرف والمحاورة عند ما يتكلّم بتلك اللغة ما لم يكن هناك قرينة على اعتماد اصطلاحات أو طريقة مخصوصة غير الطرائق العرفية.

الخامس ـ احتمال قرينة متصلة لم تصل إلينا من جهة الضياع ، وهذا الاحتمال

٢٧٤

تقدم انَّه لا يمكن التمسّك بالظهور لنفيه سواءً في ذلك المقصود بالإفهام أو غيره على ما تقدّم مفصلاً. وهكذا اتّضح عدم الفرق بين المقصود بالإفهام وغيره لتماميّة نكتة حجية الظهور في حقّهما كبرى وصغرى.

القول الثاني ـ التفصيل بين الظهور الّذي يظنّ بخلافه فلا يكون حجة وما لا يظن بخلافه فيكون حجة وقد يتشدد في ذلك فيشترط حصول الظن بالوفاق ، ومدرك هذا التفصيل كأنَّه ملاحظة موارد السيرة والعمل من قبل العقلاء بالظهورات في أوضاعهم الخارجية حيث انَّهم قد لا يعملون بها إذا ظنّ بخلافها.

إِلاّ انَّ الصحيح : انَّ الموارد المذكورة لو فرض وجودها فإنَّما تكون في مجال الأغراض الشخصية التكوينية لا مجال الأغراض التشريعية والإدانة العقلائية أعني باب الحجية والتنجيز والتعذير بين الموالي وعبيدهم ، فانَّه في هذا المجال لا يفرق العقلاء بين ما يظنّ بخلافه أو لا ، ومن هنا أفاد المحقق النائيني ( قده ) في مقام مناقشة هذا القول بأنَّه انَّما يتّجه في سيرة العقلاء بلحاظ مصالحهم الشخصيّة لا المولوية ، وهذا الالتفات منه متين إِلاّ أنَّه بحاجة إلى تكميل وتمحيص ، ذلك انَّه ربما يعترض عليه بهذا المقدار بأنَّ حجية الظهور في باب الأغراض المولوية التشريعية أيضا انَّما تكون بملاك الطريقية والكاشفية لا الموضوعية والتعبد البحت ومعه كيف ينسجم إطلاق الحجية في هذا المجال مع عدمه في مجال الأغراض الشخصية والّذي يكون الظهور طريقاً إِليها ، وهل هذا إِلاّ الالتزام بموضوعية الظهور للحجيّة؟.

والجواب ـ انَّ فذلكة الفرق المذكور راجع إلى الفرق في نكتة الكاشفية والطريقية لا أصلها ، فانَّ ملاك الكاشفية في مجال الأغراض الشخصية انَّما يكون هو الكشف الشخصي ، لأنَّ الغرض فيه شخصي ليس له طرف آخر ولا علاقة له به ومن هنا كان الظهور متأثراً بالظنّ الشخصي على خلافه سلباً أو إيجاباً. وهذا بخلاف باب الأغراض المولوية فانه غرض بين طرفين المولى والعبد وبلحاظ الإدانة والتسجيل وفي هذا المجال لا يناسب أَنْ تكون الكاشفية الشخصية عند العبد مثلاً ميزاناً بل الميزان الكاشفية النوعية المحفوظة في الظهور في نفسه باعتباره غالب المطابقة والحفظ للواقع ولإعراض المولى ، فانَّ هذا هو الميزان الموضوعي المناسب والمحدد من جهة وهو الأوفق

٢٧٥

لأغراض المولى من جهة ثانية فانَّ المولى الّذي إِليه يرجع أمر هذه الحجية جعلاً ورفعاً انَّما يجعلها بلحاظ التزاحم الحفظي الواقع بين ملاكات أحكامه ولا معنى لأنْ يلحظ الظنّ الشخصي للعبد في مقام تحديد ما يكون احفظ لها.

القول الثالث ـ التفصيل بين ظواهر الكتاب الكريم وغيرهما من النصوص الشرعية ، وهناك اتجاهان في تخريج هذا التفصيل ، أحدها دعوى الخروج التخصيصي عن الحجية بعد الاعتراف بتحقق أصل الظهور في الآيات القرآنية ، والأخرى دعوى الخروج التخصّصي من جهة إنكار انعقاد ظهور في تلك الآيات لنكات خاصة. والقول بالتفصيل انَّما يكون على الاتجاه الأول لا الثاني فانَّه لا يكون تفصيلاً في حجية الظهور كما هو واضح.

وأيّاماً كان فالاتجاه الأول يذكر في إطاره عدة وجوه نقتصر فيها على وجهين :

الوجه الأول ـ التمسك بما دلَّ من الآيات القرآنية على النهي عن اتباع المتشابه من القرآن بعد دعوى انَّ المتشابه يشمل الظاهر والمجمل ، لأنَّ المتشابه انَّما لوحظ فيه وجود معنيين متشابهين من حيث صلاحية اللفظ القرآني لإرادة كلّ منهما وإِنْ كان أحدهما أقرب وأشدّ علقة باللفظ من الآخر.

وما قيل أو يمكن أَنْ يقال في مناقشة هذا الوجه أُمور :

الأول ـ استحالة شمول النهي عن المتشابه للظواهر القرآنية ، إذ غاية ما يثبت بالتقريب المذكور ظهور كلمة المتشابه في شمول الظاهر والمجمل معاً ولا يكون صريحاً في ذلك فتكون هذه الآية بنفسها من الظواهر القرآنية فلو دلّت على النهي عن العمل بها المساوق مع عدم حجيتها لزم من ذلك عدم حجية نفسها فتكون حجيتها مستلزمة لعدم حجية نفسها وكلّ ما يلزم من وجوده عدمه محال.

وقد يقال : انَّها لا تشمل نفسها ليلزم المحال المذكور لقرينتين :

إحداهما ـ قرينة عقلية وهي لزوم المحال ، فانَّ مركز هذا المحذور بحسب الحقيقة إطلاقها لنفسها فانَّ هذا الإطلاق هو الّذي لو كان حجة لزم من وجود حجيتها عدمها فهي التي تسقط عن الحجية لأنَّ المحذورات العقلية تسقط الحجية بمقدارها لا أكثر كما هو واضح.

٢٧٦

والثانية ـ قرينة عرفية هي انَّ الآية قضية خارجية وليست حقيقية ، لأنَّها ناظرة إلى القرآن الكريم وما فيه من المتشابهات والمحكمات وهي قضايا وخطابات خارجية كما هو واضح ومعه فيكون نظر الآية الناهية إلى غيرها من الآيات النازلة خارجاً فلا إطلاق لها في نفسها لنفسها ليلزم من حجيته عدم حجيتها.

وقد يتخلّص عن هذا الجواب ، بأنَّها وإِنْ كانت لا تشمل نفسها بإحدى القرينتين إِلاّ انَّنا بعدم الفرق في ملاك عدم الحجية بين ساير الظهورات القرآنية وشخص هذا الظهور فإذا ثبت عدم حجية غيرها يلزم عدم حجية نفسها فيعود الإشكال.

وهذا الحوار إشكالاً وجواباً كأنَّه يفترض انَّ المحذور المذكور انَّما هو في وقوع شيء يلزم من وجوده عدمه ، ولهذا يحاول في الإشكال المنع عن وقوعه مع انَّ المحذور في نفس استلزام الشيء لعدم نفسه كقضية واقعية ثابتة في لوح الواقع الأوسع من لوح الوجود وليس المحذور بلحاظ عالم الوجود والوقوع الخارجي لكي يكتفي في التخلّص عن المحذور بالالتزام بعدم وقوع اللازم والملزوم خارجاً ، فانَّ عالم الاستلزامات والملازمات على ما تقدّم مراراً عالم واقعي وليس خيالياً وثبوت الاستلزام المذكور في نفسه محال.

فلا بدَّ من إبطال نفس الاستلزام وهذا مطلب سيال في جملة من البحوث الأصولية وغير الأصولية كنقل السيد المرتضى للإجماع على عدم حجية الخبر في مسألة حجية خبر الواحد ، والظاهر من المحقّقين في جميع ذلك انهم قبلوا الاستلزام وأبطلوا وقوع اللازم خارجاً ومثله صدر منهم في محذور الدور الّذي كان يلزم في بعض الموارد فلم يبطلوا الدوران والتوقفين وانَّما أنكروا وقوع الدائرين في الخارج وهذا غير فنّي كما عرفت ، بل لا فائدة له في التخلّص عن المحذور إذ ما ذا يقولون حينئذ في موارد ثبوت الاستلزام المذكور من الطرفين كما إذا لزم من وجوده عدمه ومن عدمه وجوده فهل يلتزمون بالوجود أو العدم أو بهما أو ارتفاعهما وكلّها محال كما لا يخفى. فهناك مثلاً شبهة خبر الإغريقي المعروفة ، من انَّه إذا قال أغريقي انَّ كلّ خبر أغريقي كاذب فانَّ هذا الخبر بنفسه خبر أغريقي فانْ كان كاذباً لزم منه صدقه بعد فرض كذب سائر أخبار الإغريق ـ وإِنْ كان صادقاً لزم منه كذبه لأنَّه بنفسه خبر أغريقي وهو صادق فلم يكن

٢٧٧

كلّ خبر أغريقي كاذباً فانَّ السالبة الجزئية نقيض الموجبة الكليّة فيلزم من صدقه كذبه ومن كذبه صدقه.

وهذه الشبهة إِنَّما أُثيرت في المنطق لنقض مبدأ عدم التناقض وفي مثله لا معنى لقبول الاستلزام ونفي الوقوع ، لأنَّ العدم أيضا كان محالاً وارتفاعه مع الوجود أيضا محال. فلا بدَّ من إبطال الاستلزام ، وهذا ما نورده في مقامين :

المقام الأول ـ في دفع شبهة التناقض المذكورة ، وحاصله : انَّ هذه القضية قضية خبرية حقيقية تنحل إلى قضايا ومدلولات لا نهائية كلّ قضية منها تقع بنفسها مصداقاً وموضوعاً لقضية أُخرى تنطبق عليها ، لأنَّ كلّ واحدة منها هي قضية خبرية صادرة عن أغريقي وإذا دققنا في هذه السلسلة اللانهائية من القضايا نجد انَّ صدق كلّ واحدة منها يلزم منه كذب طرفيها ما قبلها وما بعدها أي القضية المحكية بها عنها والقضية الحاكية عنها ، لأنَّ المحمول فيها هو الكذب فإذا كانت صادقة كان محكيها كاذبة لا محالة كما انَّ الحاكي عنها كاذبة أيضا لأنَّها تحكي كذبها والمفروض صدقها ويلزم من كذب كلّ واحدة صدق طرفيها لأنَّها تحكي كذب القضية السابقة عليها فإذا كانت كاذبة في هذه الحكاية كان لا محالة ما قبلها صادقة وإِلاّ لم تكن بكاذبة ، كما انَّ ما بعدها الحاكية عن كذبها تكون صادقة لا محالة وهكذا نجد انَّه لم يلزم من صدق كلّ قضية كذب نفسها بل كذب قضية أُخرى ولا من كذبها صدقها بل صدق قضية أخرى. فالخبر الإغريقي الأول إذا كان كاذباً كان نفس هذا الاخبار عن كذبه صادقاً لا محالة ، فإذا كان هذا الإخبار بنفسه موضوعاً لقضية أُخرى تحليلية مستفادة من كون القضية حقيقية لا خارجية فهناك أخبار اخر عن كذبها وذاك أخبار كاذب لأنَّ المفروض صدق الاخبار الأول عن الكذب وهو بنفسه مصداق أيضا لقضية أخرى تحليلية فهناك أخبار اخر عن كذبها لا محالة وهذا أخبار صادق لأن المفروض كذب الاخبار الثاني التحليلي عن الكذب. وهكذا تكون هذه القضايا التحليلية متسلسلة في الكذب والصدق من دون اجتماعهما على مركز واحد وقضية واحدة.

وأمَّا نفس انحلال هذه القضية إلى قضايا لا نهائية من حيث مضمونها فلا محذور فيه ، لأنَّ التسلسل انَّما يكون محالاً في جانب العلل لا المعلولات هذا في عالم الوجود

٢٧٨

فكيف في عالم الواقع وصدق مثل هذه النسب والقضايا التصديقية الواقعية.

ثم انَّ هناك شبهة تناقض اخر آثاره الفيلسوف المادي ( رسل ) وعلى أساسه بنى لنفسه منطقاً جديداً هو المنطق الرمزي الرياضي ، وهي شبهة انَّ الكلّي الّذي لا يصدق على نفسه هل يصدق على نفسه أولا. فانْ قيل يصدق يلزم منه أَنْ لا يصدق على نفسه ، لأنَّ المحمول فيه ذلك ، وإِنْ قيل لا يصدق على نفسه لزم أَنْ يكون صادقاً على نفسه لأنَّ انطباق عدم الصدق على واقعة ضروري فيكون واجداً لمحمول نفسه وهو معنى الصدق.

والجواب : انَّ قيد لا يصدق على نفسه من القيود الثانوية وليست الأولية ، بمعنى انَّه لا بدَّ من افتراض عنوان كلّي في المرتبة السابقة على نفس عنوان الصدق وعدمه لكي يلحظ فيه الصدق وعدمه فإذا أُريد بهذا العنوان نفس عنوان الكلّي فهو يصدق على نفسه ، وإِنْ أُريد الكلّي المقيد بأنَّه لا يصدق أي هذا المفهوم المقيد فهذا القيد من القيود الطولية نظير أَنْ يقول المتكلّم إخباري هذا كاذب ويقصد شخص هذا الاخبار فكما انَّ هذا الكلام لا محكي له أصلاً بل قضية مفرغة كذلك المقام ، ولهذا نجد انَّه لا معنى لملاحظة الصدق وعدم الصدق سواءً في عنوان المفهوم الّذي لا يصدق على نفسه أو في عنوان المفهوم الّذي يصدق على نفسه ، لأنَّ كليهما عنوانان ثانويان طوليان بالمعنى المتقدم.

المقام الثاني ـ في حلّ الإشكال في مقامنا فنقول : إذا تعاملنا مع النهي عن اتباع المتشابه معاملة القضايا الحقيقية المنحلة إلى ما لا نهاية من قضايا يكون مدلول كلّ واحدة منها عدم حجية القضية السابقة عليها ، وحينئذ يلزم من حجية كل منها التعبد بمفادها الّذي هو عدم حجية التي قبلها لا عدم حجية نفسها. نعم لو كانت القضية خارجية أو حقيقية وادعينا القطع بعدم الفرق بين عدم حجية التي قبلها وعدم حجية نفسها فسوف تتشكل دلالة التزامية على عدم حجية نفسها أيضا ، فقد يقال : يلزم المحذور وهو انَّ حجيّتها يستلزم عدم حجيتها.

إِلاّ انَّ الصحيح عدم الاستلزام أيضا لأنَّ الّذي يلزم من حجية هذه الدلالة هو التعبد بمفادها لا ثبوت مفادها حقيقة ، فانَّ الحجة قد تخطأ وهذا يعني انَّ لازم حجيتها ثبوت عدم حجية الدلالة التي قبلها وبالملازمة عدم حجية نفسها تعبداً لا حقيقة

٢٧٩

فلم يلزم من حجيتها عدم حجيتها بل من حجيتها واقعاً التعبد بعدم حجيتها ظاهراً وهذا ليس بمحال وإِنْ كان لغواً إِذ لا معنى لجعل حجية تستلزم نفيها ظاهراً ، إذ يستحيل أَنْ تصل مثل هذه الحجية.

الثاني ـ ما يقتضيه النّظر الدّقيق في فهم الآية الكريمة وهي قوله تعالى ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (١) ، فلقد قسمت فيها الآيات القرآنية إلى قسمين محكمات ومتشابهات ثمّ عابت على أهل الزيغ والهوى من اتباع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة والتأويل وقد استفيد منه النهي عن اتباع المتشابه حيث اعتبرت ذلك طريقة أهل الزيغ وإِلاّ فلا نهي صريح عن اتباع المتشابه ، ولكن من الواضح انَّ المتفاهم عرفاً من هذا التعبير بعد تلك القسمة الثنائية انَّ النّظر إلى الذين يختصمون باتباع المتشابهات ويلتقطونها ويفصلونها عن المحكمات ابتغاء الفتنة والمشاغبة وتشويش الأذهان من خلال ذلك التشابه كما هو شأن من يريدون الفتنة والمشاغبة ، فظاهر الآية على هذا النهي عن مثل هذه الفتنة التي تكون بالاقتصار على المتشابهات والتركيز عليها من دون الرجوع إلى المحكمات التي هنَّ أُمّ الكتاب.

وقد ورد في تفسير الآية انَّها نزلت في نصارى آل نجران الذين كانوا يشنعون على المسلمين ببعض المتشابهات الواردة في حقّ عيسى وانَّ له حالة فوق البشر وانَّه روح منه سبحانه بغرض الفتنة والوصول إلى ما يزعمونه إِفكاً وكفراً ، وأين هذا من حجيّة الظواهر القرآنية بعد مراجعة المحكمات لغرض اقتناص المراد منها.

الثالث ـ ما ذكره المحقّقون من علماء الأُصول من المنع عن شمول المتشابه للظاهر ، فانَّ مجرَّد قابلية اللفظ لأنْ يستعمل في كلّ من المعنيين لا يجعله متشابهاً إِذا كان واضحاً بيّناً في أحدهما لكونه المعنى الحقيقي دون الآخر بل لا بدَّ من تساوي نسبة دلالة اللفظ إلى كلّ منهما وتقاربهما ليصدق عليه المتشابه وهذا لا يكون إِلاّ في المجمل.

وهذا الكلام لا ينبغي الشك فيه ، إِلاّ انَّ هناك بحثاً ينبغي استيعابه ، وهو انَ

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية ٦.

٢٨٠