بحوث في علم الأصول - ج ٤

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

تثليث الأقسام هل ينبغي أن يراد به خصوص الواقعي أو الأعم منه ومن الظاهري؟

والكلام في ذلك من جهتين :

١ ـ في منهجة التقسيم وما تقتضيه ، والصحيح ان مقتضى منهجة التقسيم أن يراد بالحكم خصوص الواقعي لا الأعم وإلا لزم تداخل الأقسام ، لأن الظن بالحكم الواقعي المعتبر مثلا يدخل في القسم الأول من حيث هو قطع بالحكم الظاهري وفي القسم الثاني من حيث هو ظن بالحكم الواقعي مع ان هذه واقعة واحدة بمعنى ان فيها تنجيز واحد وعصيان وإطاعة واحدة ، وظاهر التقسيم التقابل بين الأقسام بلحاظ واقعة واحدة فمثل هذا لا يناسب التقسيم.

٢ ـ من ناحية ثبوتية ، وهنا نبحث عن ان إجراء الوظائف هل يكون بلحاظ الأحكام الواقعية فقط أو يمكن أن يكون بلحاظ الأحكام الظاهرية أيضا ، والكلام هنا أولا في الأصول غير التنزيلية ، وثانيا في الأمارات والأصول التنزيلية.

اما الأصول غير التنزيلية ـ أي البراءة والاشتغال ـ فبالنسبة إلى أصالة البراءة قد يتوهم إمكان إجراءها عن الحكم الظاهري الإلزامي المحتمل كما تجري عن الإلزام الواقعي ، فإذا شك في جعل الشارع لوجوب الاحتياط في شبهات معينة كاللحوم مثلا أمكن إجراء البراءة عنه.

والصحيح التفصيل بين المسالك المشهورة في حقيقة الحكم الظاهري وبين المسلك المختار ، فانه بناء على المسلك المشهور القائل بعدم وجود مبادئ للحكم الظاهري وان الملاك في نفس جعله ليكون منجزا للواقع فقط ـ ولهذا أيضا لا يكون تناف بين الأحكام الظاهرية بوجوداتها الواقعية غير الواصلة ـ فالبراءة لا تجري إلا بلحاظ الحكم الواقعي ولا معنى لإجرائها عن الحكم الظاهري المشكوك إذ لا منجزية له ولا أثر في التنجيز والتعذير وانما المنجز هو الحكم الواقعي المحتمل فبإجراء البراءة عنه يحصل التأمين عن الواقع ، واما بناء على مسلكنا القائل بوجود ملاك في الحكم الظاهري محفوظ حتى مع الشك فيه وعدم وصوله ـ ومن هنا يكون هناك تناف بين الأحكام الظاهرية بوجوداتها الواقعية ـ فالبيان المذكورة غير تام لأن الحكم الواقعي وان حصل التأمين عنه بما انه مشكوك إلا ان هذا لا يمنع عن عدم المعذرية وثبوت اهتمام المولى به في المرتبة الطولية التي يحتمل فيها جعل حكم ظاهري منجزا أي بما انه يشك في جعل حكم ظاهري إلزامي لحفظه ، إذ لا مانع من أن يجعل التأمين عند الشك في

٢١

الواقع ويجعل الاحتياط عند الشك في اهتمام المولى بالواقع ولكن بناء على هذا المسلك لا يحتاج إلى البراءة عن الحكم الظاهري في أغلب الموارد وإن كان موضوعها تاما بالتمسك بدليل البراءة في الشك في الحكم الواقعي ننفي احتمال جعل الحكم الظاهري الإلزامي لأن الأحكام الظاهرية متنافية بوجوداتها الواقعية بحسب الفرض وإطلاق دليل الأصل دليل اجتهادي لا يحتاج معه إلى الأصل العملي وإن كان موضوعه تاما أيضا. نعم نحتاج إلى ذلك فيما إذا كانت الشبهة مصداقية لدليل البراءة وذلك فيما إذا احتمل وجود أحد مصاديق حكم ظاهري إلزاميّ ثابت كبرويا ، كما إذا أخبر من يشك بوثاقته بالحرمة ولم يجر استصحاب وثاقته أو عدم وثاقته لكونه من توارد الحالتين مثلا فانه بناء على هذا المسلك لا يمكن التمسك بدليل البراءة ابتداء ، لأنه من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية فلا بد من إجراء البراءة الطولية أي البراءة عن الحكم الظاهري الإلزامي المحتمل فانه بلحاظ هذا الشك لا تكون الشبهة مصداقية كما لا يخفى ، وبذلك نؤمن عن منجزية الواقع في هذه المرتبة من الشك.

واما أصالة الاشتغال ، فقد يتوهم انه لا يمكن تطبيقها على الواقع ابتداء بل لا بد من إجرائها بلحاظ الحكم الظاهري في موارد قيام الحجة على أحد التكليفين بنحو الترديد والإجمال لأنه بلحاظ الحكم الواقعي المشكوك الشبهة بدوية فلا تكون مجرى لأصالة الاشتغال.

ولكن الصحيح ثبوت الاشتغال بلحاظ الحكم الواقعي المشكوك ابتداء بلا توسيط أصالة الاشتغال بلحاظ الحكم الظاهري المعلوم إجمالا ، وذلك لأنه بعد فرض ثبوت الحجة الإجمالية على الإلزام تتساقط الأصول المؤمنة الجارية بلحاظ الواقع في الطرفين معا لاستحالة اجتماع مؤمنين تعيينين في الطرفين مع الحكم الظاهري التنجيزي المعلوم بالإجمال في أحد الطرفين ، وبعد التساقط يثبت الاشتغال اما لإنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان رأسا ـ كما هو الصحيح ـ أو لأن العلم الإجمالي بالحجة بنفسه يمنع عن جريانها حتى لو قيل بجريانها في الشبهة البدوية ، فان البيان المأخوذ في موضوعها أعم من العلم بالواقع أو العلم بالحجة ، فنفس العلم بالحجة موجب للاشتغال وتنجز الواقع المحتمل وعدم جريان الأصول المؤمنة بلحاظه.

٢٢

واما الأصول التنزيلية والأمارات فلا مانع من إجرائها في الأحكام الظاهرية كما إذا علمنا بحجية خبر الثقة ثم شك في بقائها اما لاحتمال النسخ أو للشك في سعة المجعول كما لو احتمل ان الظن بالخلاف مانع عن حجية الظن ، فانه لا بد من استصحاب الحجية الّذي هو حكم ظاهري واما بلحاظ الحكم الواقعي فلا ثبوت للحالة السابقة كي تستصحب لا وجدانا كما هو واضح ولا تعبدا بعد فرض الشك في الحجية بقاء فلا بدّ من إثبات حجية ذلك الخبر بالاستصحاب ، وكذلك يصح العكس حيث نثبت الاستصحاب بخبر الثقة الّذي هو حكم ظاهري أيضا.

هذا وليعلم بان الأصول التنزيلية والأمارات وإن كانت تجري بلحاظ الأحكام الظاهرية إلا انها بحسب الحقيقة تكون منجزة للواقع أو مؤمنة عنه لا لنفس الحكم الظاهري فانه لا تنجيز له ولا تعذير فإجراء هذه الأصول التنزيلية والأمارات بلحاظ الحكم الظاهري بحسب الحقيقة تنجيز للواقع أو تأمين عنه في حق من تحقق عنده موضوع جريانها ولو بلحاظ شكه في الحكم الظاهري ، ولهذا لو فرض ان استصحاب الحجية كان مخالفا للواقع بمعنى ان الحجية لم تكن موسعة ولكن الحكم الواقعي كان ثابتا في ذلك المورد كان المكلف إذا خالف الاستصحاب عاصيا لا متجريا فتأمل جيدا.

٢٣
٢٤

مباحث الحجج

مبحث القطع

حجية القطع

مبحث التجري

أقسام القطع وقيام الأمارة مقامها

أخذ القطع بالحكم في موضوعه

وجوب المرافقة الالتزامية

حجية الدليل العقلي

منجزية العلم الإجمالي

الامتثال الإجمالي

٢٥
٢٦

مبحث القطع

وقد وقع الكلام عن أصولية هذه المسألة وعدمها ، وهذا بحث شرحناه مفصلا في أول البحوث الأصولية عند التعرض لضابط المسألة الأصولية فهو موكول إليه وانما المهم البحث عن حجية القطع وهو يقع في جهات :

« حجية القطع »

الجهة الأولى ـ في أصل حجية القطع وهي هنا يمكن أن يراد بها معان عديدة :

١ ـ الحجية المنطقية : ومقصودنا منها البحث عن مدى ضمان حقانية القطع وموضوعيته وانه إذا حصل من أي المناشئ يكون مضمون الحقانية منطقيا ، وهذا بحث منطقي يسمى بنظرية المعرفة وليس بحثا أصوليا وإن كان قد يقع التعرض إليه في الجملة عند التعرض لكلمات بعض المحدثين في علم الأصول.

٢ ـ الحجية التكوينية : ونقصد بها دافعية القطع ومحركيته نحو المقطوع على النحو المناسب لغرض القاطع وهذه محركية طبيعة تكوينية وليست هي مقصود الأصولي في المقام أيضا.

٣ ـ الحجية بمعنى التنجيز والتعذير : ونقصد بها انه في علاقات العبيد بالموالي هل يكون القطع منجزا ومعذرا في مقام الامتثال أم لا؟ وهذه هي الحجية المبحوث عنها في الأصول.

٢٧

وقد جاء في كلماتهم الاستدلال على حجية القطع بهذا المعنى بان العمل بالقطع عدل ومخالفته ظلم للمولى فتكون حجية القطع من صغريات قاعدة حسن العدل وقبح الظلم واستحقاق فاعل الأول للمدح والثواب ومرتكب الثاني للذم والعقاب ، ومن هنا اختلفت مبانيهم في حجية القطع باختلافهم في مباني تلك المسألة ، فمن جعل منهم قبح الظلم وحسن العدل امرا واقعيا يدركه العقل من قبيل الإمكان والامتناع كانت حجية القطع عنده كذلك أيضا ، ومن ذهب منهم مذهب الفلاسفة من ان حسن العدل وقبح الظلم حكم عقلائي حكم به العقلاء حفظا لنظامهم كانت حجية القطع لديه من القضايا المشهورات بحسب مصطلح المناطقة وهي القضايا المجعولة من قبل العقلاء.

والصحيح : ان هذا الاستدلال غير منهجي لأنه إن أريد به مجرد تنبيه المرتكزات وإلفات الخصم إلى استحقاق المثوبة والعقوبة في مخالفة القطع فلا مشاحة في ذلك.

واما إن أريد به الاستدلال فقاعدة قبح الظلم قد أخذ في موضوعها عنوان الظلم وهو عبارة عن سلب ذي الحق حقه ، ففي المرتبة السابقة لا بد من افتراض حق الآمر على المأمور لكي تفترض مخالفته سلبا لحقه وإلا لم يكن ظلما ، فان أريد إثبات ذلك بنفس تطبيق قاعدة قبح الظلم كان دورا ، وإن أريد بعد الفراغ عن ثبوت حق الطاعة والمولوية على العبد تطبيق هذه القاعدة فهو مستدرك وحشو من الكلام ، إذ بعد الفراغ عن حق الطاعة للمولى على العبد وبعد افتراض وجدانية القطع لدى القطع فلا نحتاج إلى شيء آخر ، إذ لا يراد بالمنجزية إلا حق الطاعة ولزوم الامتثال والمفروض اننا قطعنا بذلك صغرى وكبرى.

والحاصل : ان حجية القطع بمعنى التنجيز والتعذير ليس إلا عبارة عما يتحقق كبراه بفرض مولوية المولى وصغراه بنفس القطع بحكم المولى ، والنتيجة تتم بتمامية الصغرى والكبرى فلا نحتاج إلى توسيط عنوان قبح الظلم وزجه في الاستدلال والّذي جريانه فرع ثبوت مولوية المولى وحق الطاعة له. اللهم إلا أن يراد به مجرد تنبيه المرتكزات إلى وجود الحق المذكور كما أشرنا.

ثم ان المولوية وحق الطاعة تكون على ثلاثة أقسام :

١ ـ المولوية الذاتيّة الثابتة بلا جعل واعتبار والّذي هو امر واقعي على حد واقعيات لوح الواقع ، وهذه مخصوصة بالله تعالى بحكم مالكيته لنا الثابتة بملاك خالقيته ، وهذا مطلب

٢٨

ندركه بقطع النّظر عن مسألة شكر المنعم الّذي حاول الحكماء أن يخرجوا بها مولوية الله سبحانه ولزوم طاعته ، فان ثبوت الحق بملاك المالكية والخالقية شيء وثبوته بملاك شكر المنعم شيء آخر (١). بل هذا حذوه حذو سيادة الله التكوينية ، فكما ان إرادته التكوينية نافذة في الكون كذلك إرادته التشريعية نافذة عقلا على المخلوقين. وهذا النحو من المولوية كما أشرنا لا تكون إلا ذاتية ويستحيل أن تكون جعلية ، لأن نفوذ الجعل فرع ثبوت المولوية في المرتبة السابقة فلو لم تكن هناك مولوية ذاتية لا تثبت الجعلية أيضا لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

وبناء العقلاء على هذه المولوية ليس بمعنى جعلهم لها ـ كما توهم ـ بل بمعنى إدراكهم لها على حد إدراكهم للقضايا الواقعية الأخرى.

٢ ـ المولوية المجعولة من قبل المولى الحقيقي ، كما في المولوية المجعولة للنبي أو الولي ، وهذه تتبع في السعة والضيق مقدار جعلها لا محالة.

٣ ـ المولوية المجعولة من قبل العقلاء أنفسهم بالتوافق على أنفسهم ، كما في الموالي والسلطات الاجتماعية وهذه أيضا تتبع مقدار الجعل والاتفاق العقلائي.

ثم ان المولوية الأولى دائما يحقق القطع صغراها الوجدانية لأن ثبوت القطع لدى القاطع وجداني وثبوت مولوية المولى الحقيقي في موارد القطع بديهي أيضا لأنه القدر المتيقن من حدود هذه المولوية ، إذ لا يعقل أن تكون اكتمال درجة الكشف عن حكم المولى موجبا لارتفاع مولويته وقلتها موجبة لمولويته ولكن نحن ندعي ثبوت هذه المولوية في موارد الظن والاحتمال بل الوهم أيضا وبهذا ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهات البدوية خلافا لما ذهب إليه المشهور وهذا الاختلاف سوف يكون أساسا لكثير من الثمرات في البحوث القادمة.

وتفصيل ذلك : ان المشهور ميزوا بين امرين مولوية المولى ومنجزية أحكامه فكأنه يوجد عندهم بابان أحدهما باب مولوية المولى الواقعية وهي عندهم امر واقعي مفروغ عنه لا نزاع فيه ولا يكون للبحث عن حجية القطع ومنجزيته مساس به ، وباب اخر هو باب منجزية

__________________

(١) لو كان المقصود من المالكية الاختصاص والسلطنة الاعتبارية فهو واضح البطلان وان كان المقصود السلطنة والقدرة التكوينية فيلزم ان لا يكون له حق الطاعة فيما إذا كان خالقا ولم يكن قادرا ومسلطا عليه بقاء مع وضوح بقاء حقه ، وان كان المقصود نفس الخالقية رجع إلى مقالة الحكماء فانهم لا بد وان يريدوا بالمنعم الواهب لنعمة الوجود والخلق للإنسان.

٢٩

القطع وحجيته وانه متى يكون تكليف المولى منجزا ، وفي هذا الباب ذكروا ان التكليف يتنجز بالوصول والقطع ولا يتنجز بلا وصول ولهذا حكموا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ويقولون هذا وكأنهم لا يفترضون ان هذا تفصيل بحسب روحه في الباب الأول وفي حدود مولوية المولى وحق طاعته ، وقد اتضح مما سبق ان هذا المنهج غير صحيح وان المنجزية التي جعلوها بابا ثانيا انما هي من لوازم أن يكون للمولى حق الطاعة على العبد في مورد التنجيز وأي تبعيض عقلي في المنجزية بحسب الحقيقة تبعيض في المولوية ، فلا بدّ من جعل منهج البحث ابتداء عن دائرة مولوية المولى وانها بأي مقدار ، وهنا فرضيات :

١ ـ أن تكون مولوية المولى امرا واقعيا موضوعها واقع التكليف بقطع النّظر عن الانكشاف ودرجته ، وهذا باطل جزما لأنه يستلزم أن يكون التكليف في موارد الجهل المركب منجزا ومخالفته عصيانا ، وهو خلف معذرية القطع وواضح البطلان.

٢ ـ أن يكون حق الطاعة في خصوص ما يقطع به ويصل إلى المكلفين من تكاليف المولى ، وهذا هو روح موقف المشهور الّذي يعني التبعيض في المولوية بين موارد القطع والوصول وموارد الشك ، ولكنا نرى بطلان هذه الفرضية أيضا لأنا نرى ان مولوية المولى من أتم مراتب المولوية على حد سائر صفاته ، وحقه في الطاعة على العباد أكبر حق لأنه ناشئ من المملوكية والعبودية الحقيقية.

٣ ـ المولوية في حدود ما لم يقطع بالعدم ، وهذه هي التي ندعيها وعلى أساسها ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان التي على أساسها ذهب المشهور إلى التبعيض في المولوية ، وكأنهم قاسوا ذلك ببعض المولويات العقلائية التي لا تثبت في غير موارد وصول التكليف ، نعم لو قيل بان الشارع أمضى السيرة والطريقة المعتادة في المولويات الثابتة عند العقلاء وبمقدار ما تستوجبها من الحق فلا بأس به ويكون مرجع هذا بحسب الحقيقة إلى البراءة الشرعية المستكشفة عن طريق إمضاء السيرة العقلائية.

وعلى هذا الأساس يكون الفرق بين القطع وبين غيره من درجات الاحتمال والرجحان في امرين :

١ ـ ان القطع حجة في جانبي التنجيز والتعذير معا بخلاف المراتب الأخرى التي لا يكون في مواردها إلا التنجيز ، والنكتة في ذلك ما أشرنا إليه من ان حق الطاعة لا يشمل موارد القطع

٣٠

بالترخيص وليس هذا تبعيضا في مولوية المولى بل تخصصا وذلك باعتبار ما سوف يأتي من استحالة محركية المولوية في مورد القطع بالترخيص.

٢ ـ ان منجزية غير القطع من الظن والاحتمال قابلة للردع عنها شرعا بجعل ترخيص ظاهري على الخلاف ـ بعد الجواب على شبهة ابن قبة في كيفية الجمع بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي وامتداداتها ـ واما منجزية القطع فغير قابلة لذلك وهذا هو الّذي وقع موردا للخلاف بين الأصوليين والمحدثين في خصوص القطع الحاصل من غير الكتاب والسنة.

وعلى ضوء ما تقدم يقع البحث عن إمكان جعل حكم على خلاف الحكم المقطوع به في مورد القطع من حجية أو منجزية أو معذرية كما تجعل الأحكام الظاهرية في موارد الشبهات.

وقد ادعي استحالة ذلك من قبل الأصوليين واستدلوا عليه ببراهين ثلاثة :

١ ـ ان الردع عن القطع يستلزم اجتماع الضدين واقعا في فرض الإصابة أو في نظر القاطع في فرض الخطأ وكلاهما محال لأن القطع بوقوع المحال محال أيضا.

٢ ـ ان الردع مناقض لحكم العقل بحجية القطع ومنجزيته وهو مستحيل لأنه إن أريد بذلك إزالة الحجية الذاتيّة فهو تفكيك بين الذات والذاتي ، وإن أريد جعل ما يخالفها رغم ثبوت الحجية الذاتيّة عقلا فهذا تناقض مع حكم العقل.

٣ ـ ان الردع يلزم منه نقض الغرض ولو بحسب نظر القاطع.

وفيما يلي التعليق على هذه البراهين.

اما بالنسبة إلى البرهان الأول فسنخ هذا البرهان قد أورد كشبهة في موارد جعل الحكم الظاهري من الأمارات والأصول العملية غاية الأمر ان المحذور هناك كان في احتمال اجتماع الضدين الّذي هو على حد القطع باجتماعهما محال أيضا.

والجواب ـ ان التضاد بين الحرمة المقطوعة مثلا والترخيص تارة يدعى بلحاظ المبادئ وعالم الملاكات وأخرى بلحاظ عالم التنجيز والمحركية في مقام الامتثال ، فان ادعي الأول فلا بدّ من ملاحظة الأجوبة التي بها عولجت شبهة التضاد في الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، فان بعض المسالك في ذاك العلاج جار هنا ، وإن كان المسلك الصحيح والمختار لا يمكن تتميمه هنا على ما سوف يتضح من خلال هذا البحث ، فيكون هذا البرهان غير قابل للتكميل على جملة من المسالك ، فمثلا المسلك القائل باختلاف مرتبة الحكم الظاهري عن

٣١

الواقعي وكفاية ذلك في رفع التضاد لاشتراط وحدة الضدين في المترتبة من الواضح جريانه هنا أيضا ، فانه كما يكون الشك في الحكم الواقعي متأخرا عنه وفي طوله كذلك القطع به متأخر رتبة. وكذلك المسلك القائل بان الحكم الظاهري لا مبادئ فيه وانما المصلحة في نفس جعله ، فان هذا المسلك أيضا جار هنا ـ بل وجدانية عدم إمكان جعل حكم ظاهري على المقطوع به على خلاف الحكم الواقعي المقطوع به بنفسه من دلائل قصور تلك المسائل في التوصل إلى حقيقة الحل والعلاج بين الأحكام الظاهرية والواقعية ـ

وإن ادعي الثاني أي التضاد بلحاظ عالم التنجيز والمحركية فالموقف هنا أشد غموضا منه في موارد الأحكام الظاهرية المجعولة في موارد الأمارات والأصول ، لأنه هناك كان يمكن رفع التضاد في هذه المرتبة بدعوى ان الحكم الواقعي باعتباره غير واصل لا يكون منجزا ولا يكون محركا ، واما في المقام فالمفروض وصول الحكم الواقعي بالقطع وتنجزه.

إلا انه مع ذلك التضاد في هذه المرتبة فرع حساب مقدار محركية التكليف الواقعي المقطوع به الّذي هو فرع محركية القطع وهي فرع منجزيته ، فإذا كان الترخيص الشرعي بالخلاف صالحا لرفع منجزية القطع فلا يكون له مقام عمل ومحركية ليلزم التضاد في هذا العالم ، نعم لو لم يكن الترخيص الشرعي صالحا لإزالة حجية القطع ومنجزيته وقع التضاد لا محالة ، وهذا معناه الرجوع إلى البرهان الثاني وان منجزية القطع هل تكون تنجيزية أو تعليقية.

وبهذا يتضح ان البرهان الثاني بالمقدار المذكور غير تام أيضا ، لأن ما ذكر فيه ان إزالة الحجية عن القطع تفكيك بين الذات والذاتي والعلة والمعلول فرع أن تكون علية القطع للتنجيز علية تامة لا علية اقتضائية معلقة على عدم الترخيص الشرعي بالخلاف ، أي أن يكون حكم العقل بالحجية والتنجيز تنجيزيا لا تعليقيا كما هو الحال في موارد الاحتمال المنجز في موارد الشك في الامتثال أو الشك قبل الفحص بل مطلق الشك والشبهة بناء على إنكار البراءة العقلية.

واما البرهان الثالث وهو برهان نقض الغرض فالجواب عليه : انه إن أريد بالغرض الملاك الواقعي والمفسدة الموجودة في الحرام الواقعي فهذا يرجع إلى برهان

٣٢

التضاد المتقدم.

وإن أريد به الداعي إلى الجعل وهو التحريك فان الداعي من الجعل التحريك وجعل الداعي في نفس المكلفين فإذا جعل بعد ذلك ترخيصا كان نقضا لذلك ، فالجواب ان الغرض من الخطاب انما هو التحريك بحسب ما يستقل به العقل من التحريك ويراه قابلا للتنجيز والتحريك فإذا فرض ان العقل يستقل بحجية القطع بنحو تنجيزي فسوف تكون محركية الخطاب تنجيزية فلا يمكن جعل ترخيص على الخلاف لأنه نقض للغرض ، واما إذا كانت منجزية القطع تعليقية ومشروطة بعدم ترخيص من قبل المولى نفسه فلا نقض للغرض ، كما هو في موارد الشك والاحتمال المنجز كالاحتمال قبل الفحص مثلا ، فلا بدّ من تنقيح هذه النقطة.

والتحقيق : انه لا يمكن جعل حكم على خلاف الحكم المقطوع به على حد ما يجعل في موارد الشك والظن من الأحكام الظاهرية.

اما إذا كان القطع بحكم ترخيصي وأريد جعل حكم ظاهري إلزاميّ نظير إيجاب الاحتياط في الشبهات ، فهذا الحكم إذا فرض نفسيا لزم التضاد على ما تقدم توضيحه في البرهان ، الأول ، وإن فرض طريقيا ، والحكم الطريقي عندنا الحكم الناشئ بملاك التزاحم بين الأحكام الترخيصية والإلزامية في مرحلة الحفظ لا في نفسها مما يدعو المولى إلى أن يجعل حكما طريقيا يبرز به اهتمامه بما هو المهم من تلك الملاكات المتزاحمة ـ فهي أحكام ناشئة عن مبادئ ولكن لا في متعلقات نفسها بل في متعلقات الأحكام النفسيّة ولهذا لا تضاد بينهما بلحاظ المبادئ ـ فهذا أيضا لا يعقل جعله في المقام لأن الحكم الطريقي لا يتنجز بنفسه وانما ينجز غيره أي ينجز الحكم الواقعي وملاكه النفسيّ والمفروض ان المكلف يقطع بعدم الملاك الإلزامي الواقعي فكيف يتنجز الإلزام الواقعي بهذا الحكم الطريقي؟.

واما إذا كان القطع بحكم إلزاميّ وأريد جعل حكم ظاهري ترخيصي فائضا غير معقول ، لأنه إن كان نفسيا ففيه مشكلة التضاد في المبادي ، وإن كان طريقيا ناشئا عن التزاحم بين الملاكات الواقعية الترخيصية والإلزامية وتقديم مصلحة الترخيص على الإلزام فمثل هذا الحكم الطريقي لا يمكن أن يكون مؤمنا ومعذرا للمكلف ، لأن

٣٣

القاطع يرى ان قطعه يصيب الواقع دائما فهو بهذا يرى انه يستطيع أن يحفظ الملاك الإلزامي للمولى من دون تزاحم ، أي انه يرى عدم شمول الخطاب له روحا وملاكا وإن كان شاملا خطابا ومن باب ضيق الخناق على المولى بحيث لو كان يمكنه أن يستثنيه لاستثناه ـ بحسب نظره ـ ومثل هذا الخطاب لا يكون معذرا عقلا (١).

والحاصل : جعل الخطاب الظاهري في مورد القطع لا يعقل لا نفسيا لاستلزامه التضاد ، ولا طريقيا لأن القاطع يرى نفسه مستثنى عن الخطاب روحا وملاكا وإن كان مشمولا له صورة ، وكل خطاب يكون شموله للمكلف من باب ضيق الخناق وبحسب الصورة فقط لا يكون منجزا أو معذرا.

__________________

(١) ليس هذا من باب ضيق الخناق بل من باب الاشتباه والتزاحم بين الملاكات بحسب نظر المولي ، وإن شئت قلت ان مثل هذا الضيق للخناق لا يكون إدراكه رافعا لأثر الحكم الشرعي الظاهري بعد ان كان حكم العقل بالمنجزية تعليقيا دائما مشروطا بعدم ترخيص في قبل المولى نفسه كما يشهد به الوجدان.

٣٤

مبحث التجري

الجهة الثانية ـ في التجري : ـ

وموضوع هذا البحث : ان أي تكليف يتنجز على المكلف سواء كان بمنجز عقلي كما في موارد القطع والاحتمال المنجز ، أو شرعي كما في الأمارات والأصول المنجزة ، فان صادف الواقع بأن كان التكليف الواقعي الإلزامي موجودا في البين وخالفه المكلف فهذا عصيان قبيح يستحق فاعله العقاب بلا كلام ، وإن لم يصادف وخالفه المكلف فهو التجري الّذي يبحث في هذه الجهة عن قبحه واستحقاق فاعله للعقاب أو حرمته.

ومنه يظهر ان البحث لا يختص بموارد القطع وإن كان هو أظهر افراده ومصاديقه.

وقد يتوهم : عدم شمول هذا البحث موارد الحكم الظاهري الشرعي بدعوى تحقق العصيان فيها على كل حال بلحاظ مخالفة نفس الحكم الظاهري الإلزامي.

ولكن هذا التوهم باطل على جميع المباني في تفسير حقيقة الحكم الظاهري ، لأن الحكم الظاهري لا إشكال عند أحد في انه حكم طريقي غير ناشئ عن مصلحة في متعلقه وانما يحفظ به الملاك النفسيّ في الحكم الواقعي ، فهو يحافظ على ملاكات الأحكام الواقعية سواء كان لسان جعله جعل الطريقية والكاشفية أو جعل الحكم المماثل أو جعل المنجزية والحجية أو أي شيء اخر ، فان هذه مجرد صياغات في مقام

٣٥

الجعل لا تغير من حقيقة الحكم الظاهري وروحه.

ومنه اتضح ان ما هو ظاهر كلام الميرزا ( قده ) من ان الأحكام الظاهرية ليست تكليفية بل تتميم للكشف والطريقية فليس فيها عصيان مستقل عن الواقع ، غير صحيح فان الحكم حتى لو كان بلسان التكليف والحكم المماثل لا يكون له عصيان مستقل عن الحكم الواقعي لأنه خال عن المبادئ غير مبادئ الحكم الواقعي.

واما البحث عن التجري وحكمه فيقع في عدة مقامات :

« قبح التجري »

المقام الأول ـ في قبح الفعل المتجري به وعدم قبحه عقلا ، وإن شئت قلت : ان حكم العقل بالقبح هل يختص بالمعصية أو يشمل التجري أيضا؟.

والّذي ينبغي أن يقال : انه بعد أن عرفنا ان حكم العقل يرجع بحسب تحليلنا إلى حق المولى على العبد فلا بد من الفحص عن دائرة هذه المولوية وحق الطاعة وهل يشمل ذلك موارد التجري أم لا ومن هنا نطرح ثلاثة تصورات.

١ ـ أن يكون موضوع هذا الحق تكاليف المولى الواقعية. وبناء على هذا الاحتمال يلزم أن يكون حق الطاعة للمولى غير ثابت في موارد التجري لأن تمام موضوع هذا الحق هو التكليف بوجوده الواقعي والمفروض عدم وجوده في موارد التجري إلا ان هذا الاحتمال ساقط في نفسه ، باعتبار ما تقدم من ان لازمه تحقق المعصية في موارد مخالفة التكليف الواقعي ولو لم يكن منجزا بل حتى إذا كان قاطعا بالعدم وهو واضح البطلان.

٢ ـ أن يكون موضوعه إحراز التكليف بمنجز شرعي أو عقلي سواء كان هناك تكليف في الواقع أم لا ، فالإحراز المذكور هو تمام الموضوع. وبناء عليه تكون موارد التجري أيضا مما فيه للمولى حق الطاعة لأن المفروض إحراز التكليف فيها بالقطع المنجز عقلا.

٣ ـ أن يكون موضوعه مركبا من التكليف بوجوده الواقعي ومن إحرازه بمنجز عقلي أو شرعي وهذا وسط بين السابقين ، وبناء عليه يثبت عدم الحق في موارد

٣٦

التجري لعدم تمامية موضوعه.

ولنا في المقام كلامان. أولا ـ ان الصحيح هو التصور الثاني لا الأول ولا الثالث.

وثانيا ـ انه بناء على التصورين الآخرين أيضا نقول بقبح التجري.

اما الكلام الأول فحاصله : ان حق الطاعة تارة يكون حقا مجعولا وأخرى يكون حقا ذاتيا ، ومحل كلامنا هو الثاني لا الأول. وهذا الحق الذاتي ليس شأنه شأن الحقوق الأخرى التي لها واقع محفوظ بقطع النّظر عن القطع والشك نظير الحقوق الأخرى والتكاليف الشرعية ، بل يكون للانكشاف والقطع دخل فيه ، لأن هذا الحق بحسب الحقيقة حق للمولى على العبد ان يطيع مولاه ويقوم بأدب العبودية والاستعداد لأداء الوظيفة التي يأمره بها وليس بملاك تحصيل مصلحة له أو عدم إضرار به كما في حقوق الناس وأموالهم ، ففي حق المالك في ملكه قد يقال بان من أتلف مالا يتخيل انه لزيد ثم تبين انه مال نفسه لم يكن ظالما لزيد لأنه لم يخسره شيئا ولم يتعد على ماله ، واما هنا فالاعتداء بلحاظ نفس حق الطاعة وأدب العبودية ، ومن الواضح ان مثل هذا الحق الاحترامي يكون تمام موضوعه نفس القطع بتكليف المولى أو مطلق تنجزه لا واقع التكليف ، فلو تنجز التكليف على العبد ومع ذلك خالف مولاه كان بذلك قد خرج عن أدب العبودية واحترام مولاه ولو لم يكن تكليف واقعا.

وهذا هو معنى صحة التصور الثاني من التصورات المتقدمة.

واما كلامنا الثاني فهو انه لو فرض صحة أحد الاحتمالين الأول أو الثالث مع ذلك نقول بقبح الفعل المتجري به ، وذلك لبديهية أخرى ندعيها وهي ان الإقدام على الظلم وسلب الحق قبيح عقلا وإن لم يكن ظلما واقعا لعدم ثبوت حق كذلك ، وذلك ببرهان حكم العقل بالقبح في ارتكاب الخلاف في موارد تخيل أصل المولوية كما إذا تصور زيد ان عمرا مولاه ومع ذلك أهانه ولم يحترمه بما يناسب مقام مولاه من أدب الشكر والتقدير ، فانه لا إشكال ان صدور مثل هذا الفعل يعتبر في نظر العقل قبيحا وفاعله يعد مذموما ولو انكشف بعد ذلك ان عمراً لم يكن مولى له بل انكشف انه لا مولى له أصلا ، وموارد التجري من هذا القبيل ، فانه وإن لم يكن قد سلب حق المولى ـ بعد التنزل عن الكلام الأول ـ إلا انه كان قد أقدم عليه فيكون فعله بهذا

٣٧

الاعتبار قبيحا ، وانما يستحق من المولى الحقيقي العقاب ـ مع انه لم يظلمه ـ بملاك ان مقتضى مولوية المولى الحقيقي أن يكون ذمه وتأنيبه لعبده الفاعل للقبيح بذلك وان لم يكن فعله القبيح ظلما في حق مولاه.

وقد يتساءل : انه إذا كان الظلم قبيحا والإقدام على الظلم قبيح أيضا لزم في موارد المعصية وإصابة القطع للواقع تعدد القبيح وهو خلاف الوجدان.

والجواب ـ على ضوء مصطلحات القوم في المقام ، ان موضوع القبح عقلا بحسب الحقيقة دائما هو الإقدام على الظلم لا نفس الظلم ، غاية الأمر الظلم يستبطن الإقدام عليه لكونه متقوما بالقصد والاختيار ، فالإقدام على الظلم مع الظلم بينهما العموم المطلق فلا يوجد تعدد في مركز القبح. نعم هناك فرق بين مورد الإقدام ومورد تحقق الظلم خارجا انه في مورد تحقق الظلم يستحق فاعله العقاب التأديبي من كل عاقل وإضافة إلى ذلك يوجد له مظلوم وهو له حق التعويض والقصاص عليه بحكم العقل ، وهذا بخلاف موارد تحقق الإقدام على الظلم بلا ظلم واقعا. هذا وسوف يأتي مزيد تحقيق وتعديل لهذه النقطة.

وفي مقابل هذا المسلك الّذي سرنا عليه. يوجد مسلكان آخران :

أحدهما ـ مسلك الشيخ ( قده ) في الرسائل حيث أنكر القبح رأسا في موارد التجري وانما الموجود فيها مجرد سوء السريرة المنكشفة بالفعل نظير الكلمات القبيحة الكاشفة عن معانيها القبيحة.

وقد عرفت ان هذا الكلام غير تام على ضوء ما تقدم ، واما القياس على الألفاظ القبيحة فمع الفارق لأن الفعل في المقام يكشف كشفا تصديقا عن عدم احترام العبد لمولاه وهذا بنفسه ظلم لأنه كشف عن احتقار المولى فيكون بنفسه مصداقا للتحقير والإهانة الّذي هو تمام موضوع القبح في هذا الباب.

ثانيهما ـ مسلك المحقق النائيني ( قده ) فانه بعد تسليمه بأصل القبح حاول التمييز بين قبحين ، القبح الفعلي والقبح الفاعلي ، وادعى ان التجري من الثاني والمعصية من الأول ، ورتب على ذلك نفس ما انتهى إليه الشيخ من عدم استحقاق العقاب لأنه من شئون القبح الفعلي لا الفاعلي.

٣٨

وهذا الكلام لا يخلو من تشويش بل من اختلاف في النقل بين تقريري بحثه ، ونحن نطرح فيما يلي محتملاته مع المناقشة فيها.

١ ـ أن يقصد إنكار قبح التجري رأسا وان قبحه بالعرض والمجاز وهذا رجوع إلى كلام الشيخ.

٢ ـ أن يقصد تصور نحوين من القبح ثبوتا ، أحدهما مركزه ذات الفعل ، في نفسه بقطع النّظر عن إضافته إلى فاعله ويقابله الحسن كذلك وهذا هو القبح والحسن الفعليان ، والآخر مركزه الفعل بما هو مضاف إلى فاعله وصادر منه ويقابله الحسن كذلك وهما القبح والحسن الفاعليان ، فكنس الشارع مثلا حسن في نفسه ولكن صدوره من العالم قبيح بخلاف ضرب اليتيم ، وفي باب المعصية الفعل في نفسه قبيح واما في التجري فصدوره من القاطع قبيح لا في نفسه. ويرد عليه :

أولا ـ انه لا معنى لهذا التقسيم منهجيا ، لأن القبيح والحسن لا يضافان إلى الأفعال في أنفسهما بل بلحاظ صدورها من الفاعل ، وكأن هذا التفصيل خلط بين باب المصلحة والمفسدة وباب الحسن والقبح فان المصلحة والمفسدة موضوعهما الفعل في نفسه واما الحسن والقبح فليس موضوعه إلا الفعل بما هو مضاف إلى فاعله ، لأن القبح والحسن عبارة عما يذم عليه الفاعل ويمدح وهذا لا يكون إلا بعد إضافة الفعل إلى الفاعل لا الفعل في نفسه كما هو واضح.

وثانيا ـ لو سلمنا التفصيل فلما ذا لا يستحق الفاعل العقاب على التجري ما دام الفعل بما هو مضاف إليه قبيح فان العقاب والتبعة يكفي فيه هذا المقدار من القبح بلا إشكال ، ولهذا لو كنس العالم الشارع وكان فعله قبيحا كان مذموما لا محالة. والحاصل : لم يعرف وجه حينئذ لتخصيص استحقاق العقاب بخصوص صدور القبيح في نفسه وبقطع النّظر عن الفاعل.

٣ ـ أن يقصد ان القبح الفاعلي مركزه نفس الإضافة والنسبة بين الفعل والفاعل لا الفعل ذاتا ولا الفعل بما هو مضاف.

ويرد عليه : أولا ـ ان التفكيك بين الإضافة والفعل المضاف أمر تحليلي لا واقعي ومثل هذه الأمور التحليلية سواء قلنا بأنها اعتبارية كما هو المشهور أو واقعية كما هو

٣٩

الصحيح لا تكون هي مصب ومركز المسئولية والتبعة ، وإلا لزم إمكان ثبوت تبعات إلى ما لا نهاية لأن كل واحدة منها أيضا باعتبار ثان طولي لها نسبة وإضافة إلى الفاعل متسلسلا بناء على معقولية التسلسل في الأمور الاعتبارية حتى لو كانت واقعية ، مع ان الوجدان قاض بعدم وجود أكثر من مسئولية واحدة تجاه الفعل.

وثانيا ـ لو فرض ثبوت التعدد بين الإضافة والفعل المضاف فلما ذا لا يكون المتجري مستحقا للعقاب باعتبار انه قد صدر منه قبيح لأن هذه النسبة والإضافة أمر اختياري للفاعل أيضا.

٤ ـ ان القبح الفعلي يتعلق بالفعل بعنوان الأولي والقبح الفاعلي يتعلق به بالعنوان الثانوي ككونه إقداما على المعصية أو الظلم مثلا.

وفيه : أولا ـ انا لا نسلم تعلق القبح حتى في المعصية بالعنوان الأولي بل الثانوي بالنحو المقدم شرحه.

وثانيا ـ لو سلم تعلق القبح بالعنوان الثانوي في موارد التجري والأولي في موارد العصيان ، فلما ذا يستوجب ذلك عدم استحقاق العقاب على التجري طالما هو فعل صادر من المكلف خارجا بعنوان قبيح اختيارا.

فهذا المسلك على جميع محتملاته لا يمكن المساعدة عليه.

ثم انه بهذه المناسبة لا بأس بالتعرض لمسألة الحسن والقبح العقليين ومسالك القوم وأثر تلك المسالك في محل الكلام فنقول : هناك نزاعان في باب الحسن والقبح.

أحدهما ـ النزاع الأشعري المعروف وهو نزاع في كون الحكم بالحسن أو القبح عقليا أو شرعيا. وهذا خارج عن محل الكلام.

الثاني ـ النزاع بين عموم الفلاسفة والمحققين بعد الفراغ عن ان مسألة التحسين والتقبيح عقلية لا شرعية في تشخيص هوية هذه القضايا ونوعها في قائمة الصناعات الخمس من المنطق. وهذا النزاع هو المقصود بالبحث في المقام. فنقول هناك مسلكان واتجاهان في تشخيص هوية قضايا الحسن والقبح العقليين.

المسلك الأول ـ انها قضايا واقعية دور العقل فيها دور المدرك الكاشف على حد

٤٠