بحوث في علم الأصول - ج ٤

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

حكم الشك في الحجية

الأمر الثالث من المقدمة ـ في تأسيس الأصل عند الشك في الحجية ، ولا إشكال انَّ مقتضى الأصل عند الشك في الحجية عدم ثبوتها وانما الكلام في وجه ذلك وتخريجه الصناعي. وقد ذكر لذلك وجوه :

الوجه الأول ـ انَّ مقتضى الأصل عدم الحجية لأنَّ الشك في الحجية يساوق القطع بعدمها وتوضيح الحال في هذا الوجه يتوقف على بيان مقدمة حاصلها : انه لا بدَّ من التمييز بين مرحلتين.

١ ـ مرحلة جعل الحجية كحكم شرعي ظاهري وهي المرحلة التي بيد المولى.

٢ ـ مرحلة تأثير الحجية المجعولة واستتباعها للتنجيز والتعذير ( الموقف العملي للمكلف تجاه المولى ).

وما ذكر في هذا الوجه من انَّ الشك في الحجية يساوق القطع بعدمها تارة يفرض : انه كذلك بلحاظ المرحلة الثانية أي انَّ الشك في جعل الحجية شرعاً ـ المرحلة الأولى يكون مساوقاً مع القطع بعدم الحجية بمعنى استتباع التنجيز والتعذير عقلاً ـ المرحلة الثانية ـ. وأخرى : يفرض أكثر من ذلك بحيث يدعى مساوقة الشك في جعل الحجية

٢٢١

للقطع بعدمها حتى بلحاظ المرحلة الأولى والّذي يرجع إلى أخذ العلم بالحجية في موضوعها.

امّا هذا الأخير فثبوتاً وإِنْ كنا قد صورنا فيما سبق معقولية أخذ القطع بالحكم بمعنى الجعل في موضوع شخصه بمعنى المجعول إِلاَّ انه حينئذٍ لا بدَّ من التماس برهان يقتضي مثل هذا التقييد في أدلة جعل الحجية وما يمكن أَن يذكر كبرهان على ذلك دعوى انَّ إطلاق الحجية لغير العالم به غير معقول إذ لا أثر له حينئذٍ وبقرينية امتناع اللغو عقلاً أو عقلائياً على المولى الحكيم يستفاد تقيد الجعل بصورة العالم بها. والفرق بين إطلاق الحجية وبين إطلاق الأحكام الواقعية انما يكون من جهة معقولية الأثر وهو المحركية في موارد الأحكام الواقعية حتى مع الجهل بها حيث يمكن الاحتياط بلحاظها وهو مرتبة من المحركية وعدم معقولية ذلك في موارد الشك في الحكم الظاهري لأنه بما هو حكم ظاهري لا امتثال له ولا تنجيز فلا يكون بلحاظه احتياط أيضاً.

والجواب على هذا التقريب من وجهين :

١ ـ اننا لو سلمنا مانعية أمثال هذه اللغويات عن تمامية الإطلاق مع كونه أخف مئونة عن التقييد فيرد النقض حينئذٍ بانحفاظ الإطلاق في أدلة الأحكام الواقعية في موارد القطع بعدمها إذ لا يعقل حينئذٍ المحركية الناقصة بلحاظها بل مع الشك فيها في العبادات أيضاً على ما تقدم وما يكون جواباً على النقض هناك من المصلحة في إطلاق الجعل أو غيره يكون جواباً هنا أيضاً خصوصاً والمشهور التزموا بوجود المصالح في نفس جعل الأحكام الظاهرية.

٢ ـ انَّ هذه اللغوية فرع أَن تكون الحجية المشكوكة لا يترتب عليها أثر عملي وهذا فرع إثبات اللغوية بلحاظ المرحلة الثانية أعني بلحاظ الموقف العملي والأثر العقلي فلا بدَّ من البحث بلحاظ تلك المرحلة فنقول : تحقيق حال هذه النقطة وتوضيحها مرتبط بتحديد نوع العلاقة فيما بين الأحكام الظاهرية أنفسها فاننا فيما سبق تعرفنا على نوع العلاقة فيما بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية وانها لا تضاد بينهما والآن لا بدَّ من ملاحظة العلاقة بين حكمين ظاهرين لو اجتمعا في مورد وانه هل يوجد تضاد بينهما أم لا؟ ومقدار ذلك على تقدير

٢٢٢

وجوده على كل من مسلكنا ومسلك المشهور في حقيقة الأحكام الظاهرية؟.

والصحيح أَنْ يقال : تارة يفرض انَّ الحكمين الظاهرين طوليان بأَنْ أخذ في موضوع أحدهما الشك في الاخر كما إذا أُريد إثبات حجية خبر الثقة مثلاً بالاستصحاب أو بالعكس ، وقد يفرض انَّ موضوعهما في عرض واحد كما لو أُريد جعل البراءة والاستصحاب الملزم بالتكليف في مورد واحد حيث انَّ موضوع كل منهما الشك في الحكم الواقعي.

فإذا فرض عرضية الحكمين الظاهرين فبناءً على مسالك القوم من افتراض المصلحة في نفس جعل الأحكام الظاهرية لا تنافي بينهما بوجوديهما الواقعيين وانما التنافي بمقدار وجوديهما الواصلين إلى المكلف حيث يتنافيان من حيث التنجيز والتعذير واما بلحاظ المبادي فلا تنافي لتعدد الجعلين واقعاً وتعدد موضوع المصلحة فمن يذهب إلى أحد مسالك القوم لا بدَّ له من الالتزام بعدم التنافي بين جعل الأحكام الظاهرية العرضية بوجوداتها الواقعية لعدم التضاد فيما بينهما إِلاَّ في مرحلة الوصول فالمحذور بهذا المقدار لا أكثر.

واما على مسلكنا من انَّ الحكم الظاهري ناشئ عن مبادئ حقيقية وهي نفس المبادي الواقعية ومقدار اهتمام المولى بها في مقام التزاحم الحفظي فحينئذٍ لا يعقل جعل حكمين ظاهرين متعاكسين حتى واقعاً ولو لم يصل إلى المكلف لأنَّ جعل الإلزامي منهما معناه اهتمام المولى بملاكاته الإلزامية الواقعية وجعل الترخيصي منهما معناه عدم اهتمامه بها بل ترجيحه لملاكاته الواقعية الترخيصية ، والاهتمام مع اللا اهتمام بأمر واحد متنافيان لا محالة.

فعلى أساس تصوراتنا في حقيقة الحكم الظاهري يكون التنافي بين حكمين ظاهريين عرضيين ثابتاً واقعاً كالتنافي بين حكمين واقعيين كذلك ، وهذا أحد الفوارق والثمرات المترتبة بين المسلكين.

واما إذا فرض طولية الحكمين الظاهريين فلا تنافي بينهما بوجوديهما الواقعيين حتى على مسلكنا إذ يعقل أَنْ يكون اهتمام المولى بملاكاته الواقعية مختلفاً في مرتبة الشك في نفس الحكم الظاهري الّذي يراد تنجيز الواقع أو التعذير عنه به عما إذا لم يكن

٢٢٣

للمكلف إلا الشك في الحكم الواقعي الأولي فقط ، وبعبارة أخرى : بما انَّ موضوع الحكم الظاهري الأول هو الشك في الواقع وموضوع الثاني هو الشك في ذلك الحكم الظاهري فلعل مقتضى التزاحم الحفظي بين الملاكات الواقعية تختلف بلحاظ كل من المرتبتين للشك فباللحاظ الأول يكون الترخيص هو الحافظ لما هو الأهم وباللحاظ الثاني يكون الإلزام هو الحافظ لما هو الأهم في نظر المولى كيفاً أو كمّاً.

وعلى ضوء هذه المقدمة نقول : انَّ الصيغة الساذجة لإثبات انَّ الشك في الحجية يساوق عدم الحجية بلحاظ مرحلة التأثير والمنجزية والمعذرية عقلاً انَّ تمام ما كان يجري من أصول وقواعد عقلية أو شرعية على تقدير عدم الحجية تبقى جارية مع الشك فيها أيضاً فالبراءة العقلية مثلاً جارية على القول بها حتى مع الشك في الحجية لأن ضم احتمال الحجية إلى احتمال الواقع لا يحقق علماً وبياناً ، وهكذا البراءة الشرعية يصح التمسك بإطلاق دليلها لأنه من الشك في التخصيص الزائد بالنسبة إليه حتى لو قيل بحكومة دليل حجية الأمارة على الأصل لأن الحكومة نوع من التخصيص ولكن بلسان رفع الموضوع. نعم لو كان التقديم بملاك الورود لكان من الشبهة المصداقية له إِلاَّ انَّه مجرد فرض ، وكذلك الحال بالنسبة إلى دليل الاستصحاب في مورد احتمال حجية أمارة على خلافه ، وكذلك الحال أيضاً بالنسبة إلى التمسك بإطلاق دليل الحكم الواقعي فيما إذا شك في حجية ما يدل على تخصيصه فانه حجة حتى يثبت المخصص ويحرز ومجرد احتمال حجية المخصص لا يكون إحرازاً له.

والتقريب المعمق لهذه النتيجة على ضوء ما تقدم في المقدمة السابقة ان يقال : بان الشك في حجية أمارة مرجعه إلى احتمال حكم ظاهري فتارة يفرض الحصول على دليل يدل على حكم ظاهري مخالف كما إذا لاحظنا دليل البراءة في مورد قيام ما يشك في حجة على حكم إلزاميّ ، وأخرى نفرض الحصول على دليل يدل على حكم واقعي على خلاف مؤدى الأمارة المشكوكة.

اما في الحالة الأولى فان كان الدليل على البراءة قطعياً فهو دليل قطعي على عدم حجية تلك الأمارة وان كان ظنياً معتبراً كما لو تمسكنا بإطلاق دليل البراءة فهو حجة على البراءة وبالتالي دليل على عدم جعل الحجية لتلك الأمارة في عرض البراءة حيث

٢٢٤

انهما متنافيان بناءً على مسلكنا مطلقاً (١) وعلى مسلك القوم في خصوص حال الوصول فيدل على عدم إطلاق حجية تلك الأمارة المشكوكة لمن وصلت إليه البراءة لا أكثر.

ولا يتوهم : انه يلزم على فرض حجية المنجز في الواقع اجتماع حكمين ظاهريين متنافيين أحدهما الخبر الملزم والثاني حجية الإطلاق في دليل البراءة على التعبد بالبراءة.

لأن هذين الحكمين الظاهريين طوليان وقد تقدم عدم المنافاة بينهما حتى على القول بالتنافي بين الأحكام الظاهرية بوجوداتها الواقعية.

واما الحالة الثانية ـ فان كان الدليل على الحكم الواقعي قطعياً فلا موضوع للحجية ، وان كان تعبدياً كإطلاق أو عموم تمسكنا به لإثبات مؤداه حيث ان الإطلاق حجة ما لم تثبت حجة أقوى على خلافه. إِلاَّ ان هذا الإطلاق لا ينفي لنا جعل الحجية كما كان في الحالة الأولى لأن مفاده الحكم الواقعي وهو لا ينفي جعل حكم ظاهري عند الشك فيه واما حجية الإطلاق فهي حكم ظاهري في طول ذلك الحكم الظاهري وفرع عدم وصوله.

الوجه الثاني ـ التمسك بما دل على النهي عن اتباع الظن وغير العلم لأنه مع الشك في الحجية يكون الشك في تخصيص زائد لعمومه فيمكن التمسك به لنفي الحجية المشكوكة.

وقد اعترض عليه المحقق النائيني ( قده ) بان الشك في الحجية يوجب تعذر التمسك بالإطلاق في هذه الأدلة لكونه من الشبهة المصداقية لها إذ الحجية المشكوكة على فرض ثبوتها تكون بلسان جعل الطريقية والعلمية فتكون رافعة لموضوع عدم العلم.

وقد استشكل عليه السيد الأستاذ.

أولاً ـ بان الحجة بوجودها الواقعي لا يترتب عليها أثر عقلاً من التنجز والتعذير ومن هنا قيل بان الشك فيها يساوق عدمها و

معه كيف يمكن ان تكون رافعه لموضوع أدلة عدم العمل بالظن؟ وهذا يعني ان حكومتها موقوفة على فرض وصولها فمع عدمه

__________________

(١) هذا كلّه في الشبهة الحكمية وامَّا الشبهة الموضوعية للحجية كما لو شك في وثاقة المخبر أو وجود خبر ثقة فلا يمكن التمسك بإطلاق دليل البراءة وانما باستصحاب موضوعي كاستصحاب عدم وجود الخبر أو البراءة الطولية أي البراءة عن الحكم في مرتبة الشك في وجود المنجز.

٢٢٥

يصح التمسك بالعمومات.

وفيه : ان المقدار الّذي يثبت من عدم الأثر على الحجية المشكوكة عدم تنجيزها وتعذيرها لا أكثر من ذلك واما الحاكمية على الدليل المأخوذ فيها عدم العلم فليست بلحاظ المنجزية والمعذرية ليقال بعدم ترتبها بالوصول بل باعتبار المجعول الاعتباري والتشريعي في الحجية وهو جعل العلمية والطريقية أي بلحاظ المرحلة الأولى من الحجية لا الثانية وهي ليست مما يقطع بعدمها حين الشك.

وثانياً ـ بالنقض بأدلة الأصول العملية التي قد أخذ في موضوعها عدم العلم فانه بناءً على هذا لا يصح التمسك بها عند الشك في حجية شيء لكونه من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية بنفس البيان.

وفيه : إمكان التخلص عن النقض بالتمسك بالاستصحاب الموضوعي الّذي ينقح به عدم الحجة وبالتالي موضوع الأصل العملي وهذا العلاج وان كان قد يقترح في المقام إِلاَّ انه صيغة مستقلة بنفسها كافية لإثبات عدم الحجية ولو لم تكن أدلة النهي عن الظن ثابتة (١).

وثالثاً ـ انه بناءً على هذا المنهج تكون الأدلة المذكورة لغواً لأنه مع القطع بعدم الحجية لا حاجة إليها ومع الشك فيها لا فائدة لها لعدم إمكان التمسّك بها.

وفيه : ان أي فائدة أكبر من ان تكون هذه الأدلة بنفسها من موجبات القطع بعدم الحجية في جملة من الموارد.

إِلاَّ ان ما أفاده الميرزا ( قده ) أيضاً غير تام. لأحد وجهين :

١ ـ ان الحكومة هنا على تقدير القول بها فهي رفع للموضوع تعبداً لا حقيقة ـ كما صرح به الميرزا نفسه في موضعه ـ ومن الواضح ان حقيقة الحكومة هي التخصيص ولكن بلسان رفع الموضوع وقد ذكرنا في محله انه مع الشك في الحاكم يكون المرجع إطلاق المحكوم لأنَّه من الشك في التخصيص بحسب روحه. نعم إذا قلنا بالورود في وجه تقديم الأمارات على بيان تبرعنا به نحن عن الميرزا ( قده ) وسمّيناه بالحكومة

__________________

(١) ويمكن التمسك بدليل البراءة أيضاً بلحاظ الشك الطولي في الحجية بناءً على مسلكنا.

٢٢٦

الميرزائية فالبيان المذكور غير تام إِلاَّ انَّ أصل ذلك الوجه لم يكن صحيحاً.

٢ ـ ان النواهي المذكورة ليست تكليفية بل هي إرشاد إلى عدم حجية الظن فيكون في عرض دليل الحجية نافياً للحجية والعلمية والطريقية عن الظن بحيث لو ثبتت الحجية في مورد كان دليلها مخصصاً لإطلاق النفي المذكور. وهذا الجواب تام حتى على القول بالحكومة الميرزائية بالمعنى الّذي يرجع إلى الورود لأن المستفاد من الأدلة المذكورة حينئذٍ الاخبار عن عدم اعتبار الظن علماً بذلك المعنى إذ لا موجب لحمل الحجية المنفية في هذه الآيات على مطلق الحجية والمنجزية والمعذرية لا خصوص العلمية والطريقية مع ان الموضوع فيها الظن الّذي هو نفس موضوع الحجية في أدلتها والّذي فيه كشف ناقص خصوصاً وقد ورد التعبير في الآية بأنه لا يغني عن الحق شيئاً الّذي هو نفي للكاشفية والطريقية.

واما أصل كلام الشيخ ( قده ) فلا بأس به فان هذه النواهي أدلة اجتهادية على عدم حجية الظن حيث نهت عن اتباعه وانه لا يغني من الحق شيئاً وما ثبتت حجيته من الأمارات يكون بمثابة تقييد لإطلاق هذه النواهي. وبهذه الأدلة أيضاً يُرد على القائلين بحجية بعض الظنون الاجتهادية كالقياس والاستحسان. ودعوى : ان هذه النواهي مخصوصة بأصول الدين (١) اما لظهور سياقها في ذلك أو لكونه القدر المتيقن منها.

مدفوعة : بان مجرد السياق لا يقتضي تخصيص مفاد النهي العام في الآية كما ان القدر المتيقن حتى إذا كان من داخل الخطاب فضلاً عما إذا كان من خارجه لا يمنع عن انعقاد الإطلاق وتمامية مقدمات الحكمة فيه.

الوجه الثالث ـ ما يظهر من كلمات الشيخ ( قده ) أيضاً من التمسك بما دل على حرمة الإسناد إلى الدين والإفتاء بلا علم من مثل قوله تعالى ( ءالله اذن لكم أم على

__________________

(١) الإنصاف ان سياق انَّ الظن لا يغني من الحق شيئاً سياق الاستنكار وهذا انما يناسب الظن في أصول الدين الّذي لا يعتمد عليه حتى عند العقلاء أو يكون قرينة على ان المراد بالظن عدم الحجية فتكون الآية إرشاداً إلى حكم عقلي هو بطلان العمل بلا حجة عقلاً أو شرعاً فلا تفيد المستدل والا فاتباع الظن في الجملة ليس مستنكراً عند العقلاء في غير المعتقدات ، وسوف يأتي في بحث حجية خبر الواحد قبول الأستاذ لهذه النكتة.

٢٢٧

الله تفترون ) (١) وفرق هذا الصنف من الأدلة عما تقدم انها تدل على حرمة ذاتية نفسية في اسناد ما لم يعلم إلى الله تعالى وليست ناظرة بمدلولها المطابقي إلى العمل والاتباع لتكون إرشاداً إلى عدم الحجية فاستفادة عدم الحجية منها مبنية على ثبوت الملازمة بين حرمة الإسناد وعدم الحجية إذ لو كان حجية لجاز الإسناد أيضاً.

والكلام حول هذا الوجه يقع من عدة نقاط :

الأولى ـ في تحقيق حال الملازمة المذكورة ومقدارها.

والصحيح : ان كون جواز الإسناد من شئون الحجية فرع مسألة قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي وعدمه فانه لو قيل بقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي فنفي جواز الإسناد يكون نفياً للحجية لا محالة وإِلاَّ فيكون جواز الإسناد لازماً أخص فلا يدل نفيه على نفي ملزومه ، بل حتى على القول بقيامها مقام القطع الموضوعي فليس ذلك إِلاَّ باعتبار الملازمة بحيث يكون نفي هذا الأثر وثبوت حرمة الإسناد ملازماً لنفي قيامها مقام القطع الطريقي الّذي هو الحجية المبحوث عنها في المقام. فالصحيح ان مجرد حرمة الإسناد في مورد الأمارة المشكوكة لا تكفي لإثبات عدم الحجية ما لم تضم عناية زائدة ولو عرفاً وهي ان حرمة الإسناد في الآية انما هو بلحاظ عدم الحجية.

الثانية ـ ان جواز الإسناد هل هو من لوازم الحجية بوجودها الواقعي أو بوجودها العلمي فلو قيل انه من لوازمها بوجودها الواقعي تم الاستدلال وإلا لم يتم لأننا عالمون حينئذٍ بحرمة الإسناد على كل حال سواءً كانت الأمارة المشكوكة حجة أم لا.

وتحقيق الحال في هذه النقطة انه بعد الفراغ عن الملازمة في النقطة السابقة قد يقال بان هناك مسلكين في باب قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي :

أحدهما ـ مسلك جعل الطريقية والعلمية ، وبناءً عليه يكون جواز الإسناد من لوازم واقع الحجية وجعل العلمية لأنه من التوسعة في موضوع جواز الإسناد واقعاً.

والاخر ـ مسلك الملازمة بين تنزيل المؤدى ـ الحكم الظاهري ـ منزلة الواقع وتنزيل العلم بالواقع التنزيلي منزلة العلم بالواقع الحقيقي ، وقد تقدم شرح المسلكين

__________________

(١) سورة يونس ، آية ٥٩.

٢٢٨

وتوضيح كل منهما ، وبناءً على هذا يقال : بان جواز الإسناد من آثار العلم بالمؤدى والواقع التنزيلي الّذي هو الحكم الظاهري فيكون فرع وصول الحجية واما مع عدمه فيعلم بحرمة الإسناد للعلم بارتفاع أحد جزئي الموضوع على كل حال وهو العلم بالواقع التنزيلي سواءً كانت الحجية ثابتة أم لا فثبوت حرمة الإسناد في مورد الشك في الحجية لا يدل على عدم حجيته واقعاً.

ولكن الصحيح : انه بناءً على هذا المسلك أيضاً يمكن نفي الحجية للأمارة المشكوكة وذلك بالتمسك بإطلاق هذه الأدلة بالنسبة لمن يعلم بحجية تلك الأمارة وإثبات انه يحرم عليه الإسناد واقعاً أيضاً ـ وان كان قد يكون معذوراً بمقتضى علمه ـ وهذه الحرمة الثابتة في حقه بمقتضى هذا الإطلاق وعدم تخصيص دليل حرمة الإسناد بغير مورد الأمارة المشكوكة لا تتم إِلاَّ إذا كانت تلك الأمارة غير حجة واقعاً وإِلاَّ لكان كلا جزئي الموضوع لجواز الإسناد محققاً في حقه.

النقطة الثالثة ـ ان شبهة التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية التي آثارها المحقق النائيني ( قده ) بالنسبة إلى الوجه الثاني جارية هنا ، ويدفعها جوابنا الأول عليها هناك دون الثاني لأن الدليل هنا لا يتكفل نفي الحجية العلمية ابتداءً ليكون في عرض دليل العلمية والحجية وانما يدل على حرمة الإفتاء من دون علم فلو فرض ان دليل الحجية يجعل غير العلم علماً بنحو الورود كان تمسكاً به في الشبهة المصداقية.

الوجه الرابع ـ التمسك باستصحاب عدم الحجية اما بإجرائه بلحاظ أصل جعل الحجية وتشريعه فيرجع إلى استصحاب عدم الجعل الثابت قبل الشرع ، أو بإجرائه بلحاظ المجعول فيرجع إلى استصحاب عدم فعلية الحجية الثابتة ولو قبل تحقق الموضوع المشكوك في حجيته بنحو الاستصحاب في الاعدام الأزلية وكلاهما ينتج المقصود.

وقد استشكل فيه بتقريبين :

التقريب الأول ـ ما فهمه المحقق الخراسانيّ ( قده ) من كلام الشيخ ( قده ) من الاستشكال فيه من قبل الشيخ ـ افتراض ان النّظر إلى حيثية حرمة الإسناد ومحاولة إثباتها بمثل هذا الاستصحاب ـ بان حرمة الإسناد غير مترتب على عدم الحجية واقعاً بل على الشك في الواقع وعدم حجة معلومة وهذا وجداني بقطع النّظر عن الاستصحاب

٢٢٩

فلا أثر مشكوك لكي تجري بلحاظه الاستصحاب.

فأورد عليه بإيرادين :

١ ـ ان الأصل انما يلتمس له الأثر الشرعي إذا كان جارياً في الموضوع لا في الحكم الشرعي نفياً وإثباتاً فانه بنفسه أثر مجعول امره بيد الشارع رفعاً ووضعاً فيعقل التعبد به.

وقد أجاب عليه الميرزا ( قده ) بان الأصل العملي لا بد في جريانه من أثر عملي ولا يكفي لتصحيحه مجرد كون مؤداه ـ أي المستصحب ـ مجعولاً شرعياً من دون ان يترتب عليه تنجيزاً أو تعذير.

٢ ـ ان حرمة الإسناد كما يترتب على نفس الشك كذلك يترتب على عدم الحجية واقعاً وبالاستصحاب يحرز الأثر بلحاظ الفرد الاخر من الموضوع.

وأجاب عليه الميرزا ( قده ) أيضاً بأنه لو سلم الأصل الموضوعي الفقهي فهذا معناه ان موضوع الحرمة هو الجامع بين الشك وبين عدم الحجية واقعاً وهذا الجامع موجود في ضمن أحد فردية وهو الشك بقطع النّظر عن الاستصحاب فإثبات فرده الاخر بالاستصحاب لإثبات اثره تحصيل للحاصل بل من أردأ أنحاء تحصيل الحاصل لأنه تحصيل تعبدي لما هو حاصل وجداناً.

وتوضيح الحال في المقام يقتضي بسطاً من الكلام حاصله : ان افتراض ترتب حرمة الإسناد على عدم الحجية والشك في الحجية له إحدى ثلاث صور.

الصورة الأولى ـ ان يفترض وجود حرمتين مجعولتين إحداهما حرمة اسناد ما لا حجية له واقعاً كما إذا دل دليل على حرمة اسناد مؤدى ما لا يكون حجة إلى الشارع ، والثانية حرمة اسناد ما لم يعلم حجيته سواءً كان حجة في الواقع أم لا. وفي هذه الصورة من الواضح انَّ محذور تحصيل الحاصل غير متّجه لأنَّ الأصل ينقح حرمة أُخرى غير المحرزة بالوجدان فيتعدد التكليف والعقاب حسب تعدد موضوعه.

الصورة الثانية ـ أن تفترض حرمة واحدة موضوعها الجامع بين عدم الحجيّة واقعاً وعدم العلم بالحجيّة ويراد بعدم العلم الأعم من الشك والعلم بالعدم.

وفي هذه الصورة من الواضح لزوم تحصيل الحاصل إِذ ليست هنالك إِلاَّ حرمة

٢٣٠

واحدة موضوعها محفوظ على كلّ حال وجداناً.

الصورة الثالثة ـ أن يفرض وحدة الجعل كما في الصورة السابقة ولكن يفترض أن المراد بعدم العلم خصوص الشك دون فرض العلم بالعدم ولو بنكتة كفاية موضوعيّة عدم الحجيّة المحرزة حينئذ للحرمة بخلاف من يشك.

وفي هذه الصورة يمكن أن يقال في دفع محذور تحصيل الحاصل المستحيل بأنَّه بناءً على قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي وحكومة دليل حجيّته على دليل القطع الموضوعي سوف يرتفع الشك الوجداني ويتبدّل إلى العلم بالعدم تعبداً وبذلك يرتفع حكمة حقيقة لأن حكومة دليل الأمارة أو الاستصحاب على دليل القطع الموضوعي واقعي لا ظاهري فيبقى الفرد الآخر من الموضوع وهو عدم واقع الحجّة هو المحرز تعبداً وظاهراً بالاستصحاب فالحرمة التعبديّة المحرزة بالاستصحاب لا تجتمع في عرض الحرمة الوجدانيّة لكي يكون من تحصيل الحاصل.

نعم بناءً على طولية قيام الأمارة أو الاستصحاب مقام القطع الموضوعي لقيامها مقام القطع الطريقي لا يتمّ هذا البيان للزوم الدور حينئذ إِذ يتوقّف قيامه كذلك على جريانه بلحاظ إحراز الحرمة التعبديّة الظاهريّة والمفروض انَّه فرع عدم ثبوت الحرمة الواقعية وجداناً ، إِلاَّ أنَّ مسلك الميرزا ( قده ) نفسه في قيام الأمارة والاستصحاب مقام القطع الموضوعي لم يكن يقتضي الطوليّة وإنَّما كانت الطوليَّة على مسلك المحقق الخراسانيّ ( قده ).

وأمَّا الإشكال بأَنَّه أيّ فائدة في جعل مثل هذا الاستصحاب مع أنَّه كان يترتّب الأثر المراد تنجيزه بقطع النّظر عنه بالقطع الوجداني فهذا مرجعه إلى إِشكال اللغويّة إثباتاً لا تحصيل الحاصل المحال ثبوتاً وهو لا يمنع عن الإطلاق.

إِلاَّ أنَّ هذه الفرضيّة لا تخلو من غرابة في نفسها إِذ مضافاً إِلى ما تستلزمه من فرضيّة أشديّة حال الشاك في الحجية من العالم بالعدم وهو غير عرفي ، يلزم منها أن يكون جريان الاستصحاب مخففاً بلحاظ الحرمة المراد إثباتها حيث به يرتفع الشك الّذي كان يقتضي ثبوت الحرمة واقعاً وبارتفاعه تكون الحرمة ثابتة تعبداً لا واقعاً بحيث لو كان الاستصحاب مخالفاً للواقع فلا حرمة واقعية أصلاً.

٢٣١

التقريب الثاني للإشكال ـ أن يلتفت إلى أن استصحاب عدم الحجيّة لا يراد منه إثبات حرمة الإسناد بل من أجل التنجيز أو التعذير ، وحينئذ ، قد يستشكل فيه بالإشكال المتقدم من الميرزا ( قده ) بأن يقال انَّ التأمين حاصل وجداناً بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ على القول بها أو فرض الكلام في الأمارة الإلزاميّة ـ.

والجواب ـ انَّ هناك مرتبتين للقاعدة العقلية تأميناً أو تنجيزاً ـ إِحداهما حكم العقل بلحاظ الشك في الواقع الّذي هو الشك الأولى للمكلَّف ، والأخرى حكمه بلحاظ الشك الثانوي الناشئ في طول قيام الأمارة المشكوكة حيث انَّه يحتمل حينئذ شدّة اهتمام المولى بالملاكات الواقعيّة التي على طبق مؤدّى الأمارة على ما تقدّم في شرح حقيقة الحكم الظاهري. وإِشكال تحصيل الحاصل إِن كان بلحاظ الحكم العقلي الأوّل فمن الواضح انَّه غير ما يُؤمن عنه الاستصحاب لأنَّه تأمين بلحاظ الشك الأوّلي وهو غير مناف مع التنجيز بلحاظ الشك الثانوي المنفي بالاستصحاب ، وإِن كان بلحاظ الحكم العقلي الثاني فهما وإِن كانا في مرتبة واحدة وبمؤدّى واحد إِلاَّ أنَّهما مختلفان من ناحية انَّ الحكم العقلي تأمين بملاك عدم البيان بينما الاستصحاب يكون تأميناً شرعيّا وبه يكون التأمين من سنخ آخر فلا تحصيل للحاصل كيف وهذا بنفسه جار في جميع الاستصحابات والأمارات النافية للتكليف في موارد جريان البراءة العقلية في نفسها مع أنَّه لم يستشكل فيه أحد ، فالصحيح انَّ حال استصحاب عدم الحجيّة كحال الاستصحابات الجارية في الأحكام الفرعيّة لا ينبغي الاستشكال فيه في نفسه وإِن كنَّا في غنىً عنه بالأدلة الاجتهاديّة الدالة على عدم حجيّة مشكوك الحجيّة المتمثّلة في صنفين من الأدلة :

أحدهما ـ عمومات حرمة اتباع الظنّ.

الثاني ـ المدلول الالتزامي لإطلاق أدلّة الأصول والأحكام الظاهرية الجارية في مورد الشك في حجية الأمارة المخالفة لها على ما تقدّم شرحه في الوجه الأول من وجوه صياغة هذا الأصل.

وبهذا ينتهي الكلام عن المقدمة.

٢٣٢

حجيّة السيرة

يبدأ عادة بالظواهر بوصفها أول الأمارات والظنون المعتبرة شرعاً بلا خلاف ولكن بما انَّ مهم الدليل الّذي يجري الاستدلال به على حجيّة أهم الأمارات كالظواهر وخبر الثقة ـ وهما أهم أمارتين في الفقه ـ انَّما هو السيرة العقلائية من هنا كنّا بحاجة إلى بحث مستقل عن السيرة ودليليّتها ونكات هذه الدليليّة وشروطها لنكون على رؤية واضحة فيما يأتي من مواضع الاستناد إِليها من المباحث الأصوليّة. والواقع انَّ الاستدلال بالسيرة لم يقتصر على خصوص المسائل الأُصوليّة وفي باب الأمارات بل شاع ذلك في الفقه أيضا خصوصاً في مثل أبواب المعاملات التي يكون للعقلاء تقنين فيها. بل الملحوظ اتساع دائرة الاستدلال بها كلّما تقلّصت الأدلة التي كان يعول عليها سابقاً لإثبات المسلمات والمرتكزات الفقهيّة من أمثال الإجماع المنقول والشهرة وإِعراض المشهور عن خبر صحيح أو عملهم بخبر ضعيف ونحو ذلك فانَّه قد عوض بالسيرة عن مثل هذه الأدلة في كثير من المسائل التي يتحرّج فيها الفقيه الخروج عن فتاوى القدماء من الأصحاب أو الآراء الفقهيّة المشهورة.

من أجل ذلك رأينا أنَّ الصحيح عقد بحث مستقل عن السيرة العقلائيّة بعنوانها.

٢٣٣

السيرة العقلائية :

ونقصد بها ما هو أعمّ من السلوك الخارجي فهي تشمل أيضا المرتكزات العقلائيّة وإِن لم يصدر منهم بالفعل سلوك خارجي على طبقها لعدم تحقق موضوعها بعد والعنوان الجامع المواقف العقلائيّة سواءً تجسّدت في سلوك خارجي أم لا. كما انَّ مرادنا من السيرة هنا ما يعمّ السيرة المتشرعيّة والسيرة العقلائيّة بالمعنى الأخصّ المقابل لها.

والكلام عن حجيتها يقع في جهات :

أقسام السيرة العقلائية :

الجهة الأُولى ـ انَّ السيرة العقلائية يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأول ـ السيرة العقلائيّة التي تنقح موضوع الحكم الشرعي ولا تشرع الحكم وانَّما يثبت الحكم بمقتضى إطلاق دليله من كتاب أو سنّة أو غيرها.

وتنقيح موضوع الحكم الشرعي بالسيرة العقلائية يكون بأحد نحوين :

١ ـ أن تكون السيرة العقلائيّة بنفسها منقحة ثبوتاً لفرد حقيقي من الموضوع كما إِذا لاحظنا دليل وجوب إمساك الزوجة بمعروف أو تسريحها بإحسان ، الّذي دلّ على وجوب النفقة تحت عنوان الإمساك بمعروف فانَّ المعروف من العرف وهو الشائع والمستساغ. فإذا اقتضت السيرة والتعارف على أن تكون نفقة الزوجة في هذا الوقت مثلاً بنحو أتمّ وأكمل ممّا كان معروفاً بالنسبة لها في غابر السنين بحيث خرج ذلك الحدّ عن كونه معروفاً ومستساغاً نتيجة الاختلاف في الظروف الفكريّة أو الاقتصاديّة أو الاجتماعية فسوف يتوسّع صدق عنوان النفقة بمعروف عمّا كان عليه سابقاً فتجب هذه المرتبة منها ولا تكفي المراتب التي كانت كافية فيما سبق ، وهذا بحسب الحقيقة من تدخل السيرة في تكوين موضوع الحكم الشرعي ثبوتاً توسعة أو تضييقاً.

٢ ـ أن تتدخل السيرة في تنقيح الموضوع إثباتاً وكشفاً لا ثبوتاً كما كان في النحو الأول. كما إِذا دلّ دليل على أن المؤمنين عند شروطهم واكتشفنا من تباني العقلاء وسيرتهم على خيار الغبن انَّهم لا يرضون في البيع والمعاوضة بفوات المالية وانَّما يرفعون

٢٣٤

اليد عن الخصوصيّة مع الحفاظ على المالية بما يساويها عرفاً في العوض فانَّ مقتضى ظهور حال كلّ إنسان على أنَّه يمشي حسب المقاصد العقلائية انَّه أيضا لا يرضى بذلك ، وهذا كاشف نوعي عن انَّه يشترط على الآخر ضمناً بعدم تفاوت فاحش في المالية بين العوض والمعوض وإِلاَّ فهو غير راض بالمعاوضة وتنفيذها.

ويترتّب على الفرق المذكور بين النحوين انَّه لو شذَّ إنسان عن السيرة وخرج عن مقتضاها فلن يؤثر ذلك في النحو الأول بل يبقى الحكم ثابتاً في حقّه أيضا لأنَّ انعقاد سيرة العقلاء من دونه قد أوجد فرداً حقيقيّاً من الموضوع فلا أثر لمخالفته وهذا بخلاف النحو الثاني الّذي كان دور السيرة مجرّد الكشف عن قصده وشرطه فلو نصّ على مخالفته لهم في مورد معيّن كان ذلك رافعاً للحكم لكشفه عن عدم المنكشف بالسيرة في ذلك المورد والّذي هو موضوع الحكم ثبوتاً فهذا الفرق يؤثّر في كيفيّة استنباط الفقيه الحكم على أساس كلّ من النحوين.

وهذه السيرة بكلا نحويها يكون حجّة على القاعدة بلا حاجة إلى التماس دليل عليها لأنَّها تنقح موضوع الحكم الشرعي تنقيحاً حقيقيّاً امَّا ثبوتاً أو إِثباتاً ولهذا أيضا لا يتوقّف استناد الفقيه في عمليّة الاستنباط إِليها على إثبات انَّها كانت معاصرة لزمن صدور النصّ والتشريع لعدم دخل ذلك في الحكم الكلّي المشرع ، وانَّما اللازم ملاحظة وجودها في الزمن الّذي يراد إثبات الحكم فيه فلو كانت موجودة في زمن التشريع ولكنها تبدّلت بعد ذلك لسقطت عن التأثير في مجال الاستنباط وهذا واضح.

القسم الثاني ـ السيرة التي تنقح ظهور الدليل وهذا يدخل تحته أعمال المناسبات العرفيّة والمرتكزات الاجتماعية المرتبطة بفهم النصّ فإنَّنا سوف نذكر في بحث الظواهر انَّ المرتكزات العرفيّة والعقلائيّة تتدخل أيضا في تكوين الظهور وانَّها تعتبر بمثابة القرائن اللبّيّة المتصلة بالكلام التي تتصرّف وتحدد من ظهور اللفظ والمراد منه توسعة أو تضييقاً.

وحجيّة هذا القسم من السيرة أيضا على القاعدة بعد الفراغ عن كبرى حجيّة الظهور بلا حاجة إلى دليل زائد.

ويفترق هذا القسم عن القسم السابق في حاجته إلى إثبات معاصرة السيرة لزمن

٢٣٥

صدور النصّ (١) من المعصوم ، لأنَّ الحجّة انَّما هو ظهور النصّ ولكن إِذا أحرزنا ثبوته في عصرنا واحتملنا عدمه في زمن النصّ كفى ذلك في عدم إمكان التمسّك بالمدلول اللغوي للفظ لا لمجرّد احتمال القرينة المتّصلة التي لا نافي له عندنا فحسب بل لأنَّه يمكن إدراجه تحت كبرى أصالة عدم النقل في اللغة بأَنْ يراد بها أصالة عدم نقل مطلق الظهور النوعيّ العام للكلام سواءً كان على أساس العلقة اللغوية أو القرينة النوعية اللُبيّة المتصلة كالسيرة.

القسم الثالث ـ السيرة المتشرعة وهي التي يراد الاستدلال بها على كبرى الحكم الشرعي كالسيرة العقلائية القائمة على أنَّ من حاز شيئاً من الأموال المنقولة المباحة ملكها وكذلك السيرة القائمة على خيار الغبن في المعاملة إِذا أُريد الاستدلال بها على إثبات الخيار ابتداءً لا باستكشاف شرط ضمني على أساسه كما كان فيما سبق ـ وينبغي التمييز بين الطرزين من الاستدلال بمثل هذه السيرة ليتبع في كلّ منهما شروطه ـ.

والاستدلال بهذا القسم من السيرة قد يكون لإثبات حكم شرعي كلّي واقعي وهذا ما يقع الاستدلال به في كتب الفقه ، وقد يكون لإثبات حكم شرعي ظاهري وهذا ما يقع الاستدلال به في كتب الأصول عادة كالسيرة القائمة على حجيّة الظواهر أو خبر الثقة مثلاً. وسوف يظهر بعض الفوارق الفنيّة في طريقة استعمال هذه السيرة في كلّ من المجالين.

وهذا القسم من السيرة تتوقّف دليليّته على إثبات عناية إضافيّة وليست على القاعدة كما في القسمين السابقين إِذ لا معنى للاستدلال ابتداءً بعمل العقلاء وبنائهم على حكم الشارع الأقدس.

وصيغة تلك العناية التي لا بدَّ منها وسوف يأتي الحديث عنها مفصلاً انَّه لا بدَّ من استكشاف إمضاء الشارع لها من اتّخاذه موقفاً ملائماً معها كاشفاً عن إمضائه لمضمونها والّذي أدناه السكوت والتقرير فتكون الحجة بحسب الحقيقة الإمضاء والتقرير الصادر

__________________

(١) هذا انَّما ينبغي أن يكون فيما إذا كان النقل باللفظ وامَّا إذا كان بالمعنى فالميزان زمن النقل.

٢٣٦

عن المعصوم لا نفس السيرة. وواضح انَّ هذه العناية بحاجة إلى أَنْ تكون السيرة معاصرة لزمن التشريع وموجودة في زمن المعصوم عليه‌السلام فلا تنطبق على السير المستحدثة والمتجددة فيما بعد زمانهم فهناك ركنان لا بدَّ من توفرهما لتتمّ دليليّة هذه السيرة.

١ ـ إثبات معاصرتها مع زمن يكون فيه المعصوم ظاهراً يتّخذ المواقف الفقهيّة تجاه أمثالها إثباتاً أو نفياً.

٢ ـ فحص الموقف الملائم الّذي أقلّه السكون ليرى انَّه ما هي الحدود التي يمكن أَنْ يستكشف منه الإمضاء وكيفيّته ، وسوف يقع الحديث عن هذين الركنين مفصلاً.

ولعلّه بما ذكرناه يتّضح الجواب على ما قد يتساءل عنه من انَّه لما ذا يحرص الفقهاء في الاستدلال بمثل هذه الأدلة اللبيّة على التمسّك بالسيرة العقلائية القديمة دون السيرة العقلائية المستحدثة مع أنَّ وضع العقلاء في تقدم ونضج وتزايد خبراتهم الفكرية والاجتماعية والقانونية فلا يتمسّك مثلاً بالارتكاز العقلائي الحديث الّذي يرى في بعض الاختصاصات المعنوية حقوقاً كحقّ التأليف والنشر على حدّ الاختصاصات المادية الساذجة المتمثلة في الحيازة مثلاً.

فانَّ هذا الكلام انَّما يصحّ فيما إِذا كان الاستدلال بالسيرة العقلائية بما هي سيرة للعقلاء ومتابعة لهم لا بما هي كاشفة عن موقف الشارع وقد عرفت انَّ الّذي يفيد في مجال استنباط الحكم الشرعي هو الثاني لا الأول وهو موقوف على معاصرة السيرة زماناً لعصر التشريع.

وقد يقال : انَّ الشارع قد أمضى السير العقلائية المعاصرة له لا بوصفها الشخصي بل بوصفها النوعيّ العقلائي بمعنى انه يفهم من عدم تصدّي الشارع لبيان أحكام وتأسيس تشريعات في أبواب متعددة من الحياة ممّا للعقلاء شأن فيه انَّه قد تركها إِليهم وحوّل على ارتكازاتهم فيكون هذا إمضاءً إجماليّاً لما ينعقد عليه بنائهم إِلاَّ ما ثبت جزئيّاً عدم متابعة الشارع لهم فيه وردعهم عنه.

وفيه : أولا ـ انَّه لم يثبت سكوت الشارع عن أعصار الأحكام والتشريعات في ساير الموارد التي يراد التحويل فيها على السيرة العقلائية بل قد بينت أحكامها أيضا أو ورد ما يحتمل صدوره عن الشارع في مقام بيانها ولو بنحو العموم والإطلاق أو القاعدة

٢٣٧

الكليّة وعدم كثرة ذلك لعله ناتج عن عدم كثرة الاستثناءات لتلك القواعد العامة الكليّة ، وما قد يقال من عدم كفاية مجرّد الإطلاق للردع عن سيرة مرتكزة إِنَّما يصحّ في سيرة معاشة حيّة لا ما سوف يحدث بعد عصر التشريع مع عدم ابتلاء المكلَّفين بها في زمانه.

وثانياً ـ انَّ سكوت الشارع إِنَّما يدلّ على إمضاء السيرة بنحو القضيّة الخارجية وليس فيه تقرير لأكثر من ذلك فلا يمكن استكشاف إمضاء عام منه لمطلق السير العقلائية بنحو القضية الحقيقية إِذ ليس الاستدلال في المقام بكلام ودلالة لفظيّة ليكون ظاهراً في القضيّة الحقيقية وانَّما بسكوت وتقرير وهو لا يقتضي أكثر من إمضاء القضية الخارجية كما هو واضح.

السيرة المتشرعيّة وكيفية الاستدلال بها :

الجهة الثانية ـ تبين ممّا سبق انَّ السيرة المتشرعية بحاجة إلى أَنْ يتوفر في حقّها أمران ليمكن الاستدلال بها :

أحدهما ـ إثبات معاصرتها لزمن وجود المعصوم عليه‌السلام.

والآخر ـ ثبوت الموقف الملائم منه تجاهها الكاشف عن إمضائه لمضمونها. وفيما يلي نحقق حال هذين الركنين وكيفية إحراز كل منهما :

١ ـ طرق إثبات معاصرة السيرة مع زمن المعصوم عليه‌السلام

إِذا واجه الفقيه سيرة عقلائية متشرعية فغايته انَّه يجد نفسه معاصراً معها فلا بدَّ من إثبات انَّها كانت ثابتة في زمن المعصومين عليهم‌السلام أيضا. وهذا ما قد يذكر بشأنه عدة وجوه :

الوجه الأول ـ أَنْ يجعل نفس انعقادها وتطابق العمل عليها بالفعل ـ مع كون موضوعها ومضمونهما عام البلوى بحيث لا محالة ينعقد فيه تطابق عملي عام ـ دليلاً على أنَّها ذات جذور قديمة ترتفع إلى عهد الأئمة المعصومين عليهم‌السلام فإذا فرض انعقاد السيرة مثلاً عند المتشرعة على الإخفات في صلاة الظهر من يوم الجمعة يجعل نفس هذا

٢٣٨

التطابق في العمل دليلاً على ثبوتها منذ عهود الأئمة وانَّها متلقى منهم ، وذلك بنكتة انَّه من المستبعد جداً بل من الصعب والممتنع عادة تحوّل التزام المتشرعة فجأة من لزوم الجهر في صلاة الظهر من يوم الجمعة إلى الإخفات فيها فانَّ ذلك إِذا لم يكن مستنداً إلى عصر التشريع فلا بدَّ وأن يكون مرتبطاً بسبب مثير وظروف استثنائية طارئة أدّت إلى ذلك يشار إِليها عادة إِذا ما كانت.

وهذا الوجه لا يمكن المساعدة عليه في كثير من الأحيان ـ حتى لو افترضنا انَّ مضمونها ممّا ينعقد فيه تطابق عملي ـ إِذ انَّ صعوبة التحوّل في الالتزامات المتشرعيّة والعقلائية مسلمة بمعنى انَّ التحوّل الفجائي يقطع بعدمه عادة بحساب الاحتمالات إلا انَّ أصل هذا الافتراض في كيفيّة تحوّل السيرة ليس متعيناً بل هناك افتراضات أُخرى كأن تكون السيرة قد تحوّلت تدريجاً وخلال قرون متمادية حسب عوامل مساعدة توفرت بالتدريج بأَنْ نفرض في المثال بروز فتوى بعدم وجوب الجهر في ظهر الجمعة لعدم تمامية دليل شرعي عليه تؤدي إلى عدم التزام جملة من المتشرعة بالجهر فيها ثمّ يجيء آخر بعد فترة من الزمن ويشكك في أصل جواز الجهر لكون الإخفات في الظهرين هو مقتضى القاعدة على مستوى الأدلة والسيرة أو الإجماع قد انثلمت نتيجة الفتوى السابقة فيفتي بلزوم الإخفات ويصبح ذلك تدريجاً هو الموقف الفنّي والعلمي من هذه المسألة فتتطابق الفتاوى على لزوم الإخفات فيها فتنعقد سيرة متشرعية عليه.

ففرضيّة من هذا القبيل ليست بغريبة ولا صعبة التوقّع.

الوجه الثاني ـ إثبات معاصرة السيرة ووجودها في زمن المعصوم عليه‌السلام بالنقل والشهادة من قبيل ما ينقله الطوسي ( قده ) من استقرار بناء أصحاب الأئمة والمتشرعة في حياتهم على الاعتماد على اخبار الثقات في مقام أخذ معالم دينهم جيلاً بعد جيل. وهذا الوجه إِنْ فرض فيه تظافر النقل واستفاضته بنحو قطعي أو توافر قرائن على قطعيّته فلا إِشكال ، وإِنْ فرض فيه النقل بخبر ثقة فهو انَّما يجدي فيما لو ثبتت حجيّة خبر الثقة في المرتبة السابقة بدليل آخر فلا يجدي إِذا كانت السيرة يراد الاستناد إِليها في إثبات حجيّة نفس الخبر كما هو واضح. والتسامحات التي تثبت من قبل الناقلين للإجماعات المنقولة لا تقدح في المقام لأنَّها عادة إِنَّما كانت في مقام نقل فتاوى

٢٣٩

الأصحاب حيث كان يتسامح فيه لا في مقام نقل التزام المتشرعة وسيرة أصحاب الأئمة فانَّه لم يثبت التسامح منهم في مقام نقلها فانَّه اخبار عن عمل خارجي لا عن مسألة علمية ليكتفي في تحصيل الموافق فيها على مجرّد توفر الدليل واقتضائه لتلك الفتوى.

الوجه الثالث ـ استقراء الأوضاع الاجتماعية المتعددة في مجتمعات مختلفة وبعد ملاحظة تطابقها على شيء واحد يعمم الحكم على جميع المجتمعات العقلائية حتى المعاصرة لعهد المعصومين عليهم‌السلام.

وهذا الوجه أيضا لا يتمّ في جملة من الأحيان لأنَّنا بهذا الاستقراء نلاحظ المجتمعات المعاصرة بينما يراد التعميم إلى مجتمع يفصلنا عنه زمان طويل بما كان يحتويه من أحداث وظروف ووقائع ومثل هذا التعميم متعذّر بحسب قواعد حساب الاحتمالات غالباً لأنَّ التعميم انَّما يصحّ فيما إِذا لم تحتمل نكتة وخصوصيّة في حالة معيّنة تميزها عن غيرها من الحالات وهذا الاحتمال ثابت هنا بعد أَنْ علم إجمالاً بتغير الأوضاع الاجتماعية في الجملة عمّا كانت عليه في الأزمنة السابقة وعدم ثباتها جميعاً على ما كانت عليه نتيجة طرو عوامل مختلفة يحتمل تحقق بعضها بالنسبة إلى تلك السيرة.

الوجه الرابع ـ انَّ المسألة التي يراد إثبات السيرة فيها إِذا كانت من المسائل الداخلة في ابتلاء الناس بها كثيراً وكان السلوك الّذي يراد إثباته وانعقاد السيرة عليه نحو سلوك لا يكون خلافه من الواضحات لدى الناس والمتشرعة مع عدم تكثر السؤال والجواب عنها على مستوى الروايات والأدلة الشرعية فانَّه في مثل ذلك يستكشف انَّ ذلك السلوك كان ثابتاً في زمان المعصوم عليه‌السلام أيضا وإِلاَّ لزم امَّا أَنْ يكثر السؤال عنه أو يكون خلافه من الواضحات عند الناس عادة وكلاهما خلف ، مثلاً إِذا فرض انعقاد السيرة على العمل بخبر الثقة الأمر الّذي ليس عدمه من الواضحات بحسب الطباع العقلائية مع كون المسألة محلاً للابتلاء كثيراً ولم ترد في الأدلة والنصوص الصادرة عنهم ما يمنع عن العمل بخبر الثقة بل فيها ما تؤكد العمل به كان ذلك دليلاً على أنَّ هذا السلوك كان متبعاً في تلك الأزمنة أيضا.

٢٤٠