بحوث في علم الأصول - ج ٤

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

تشخيصه من ناحية متعلقه. وهكذا يمكن جعل وضوح هذا الاستثناء نقضا على من يتبنى أحد المسلكين.

ثالثها : ما إذا لم يلزم من الامتثال الإجمالي تكرار العمل كما في مورد الدوران بين الأقل والأكثر قبل الفحص مثلا ـ الّذي يكون منجزا ـ وهذا الاستثناء أيضا يختلف باختلاف المسالك المتقدمة فانه على المسالك الأول ينبغي أن لا يفرق بين المقام وبين موارد التكرار لأن الانبعاث بلحاظ الجزء العبادي المشكوك عن احتمال الأمر الضمني أي احتمال تعلق الاستقلالي به ضمنا مع التمكن من الانبعاث عن شخصه أو الأمر المعلوم ، فلا فرق واضح بين الموردين ، نعم بناء على الوجه الثاني والثالث يصح هذا الاستثناء لعدم الإجماع في المقام ، وعدم انطباق عنوان اللعب واللهو عليه لأن ما جاء به يمكن أن يكون هو المطلوب الشرعي بتمامه ولا زيادة فيه ولا تكرار ليتوهم كونه لعبا.

التنبيه الثالث ـ بناء على ما هو الصحيح من عدم الطولية بين الامتثال التفصيليّ والإجمالي يتضح أيضا عدم الفرق بين الامتثال الإجمالي الوجداني والامتثال الإجمالي التعبدي كما لو أتى بالوضوء مرتين بماءين قامت الحجة على الإطلاق أو طهارة أحدهما.

بل عدم الفرق بين الامتثال التفصيليّ والإجمالي التعبدي أيضا ، وكذلك عدم الفرق بين الامتثال التفصيليّ التعبدي والإجمالي التعبدي ، كل ذلك يتضح على ضوء ما تقدم من تحقق تمام ما هو معتبر في العبادة من قصد القربة والعبودية بالانبعاث عن احتمال الأمر من دون محذور ولو لزم تكرار العمل.

نعم ربما يفرض انه مع التمكن من الامتثال الوجداني لا حجية للحجة الإجمالية لأخذ انسداد باب العلم بالواقع في حجيتها. إلا ان هذا يعني رفع موضوع الحجة والتعبد فلا يجزي الامتثال الإجمالي التعبدي من باب عدم التعبد وهو خارج عن موضوع البحث.

ثم ان هنا بحثا اخر في موارد الامتثال الإجمالي التعبدي من ناحية انه قد يفرض عدم تعين مجرى الحجة الإجمالية حتى في الواقع ، وذلك فيما إذا كان مجراه عنوان إجمالي لا تعين له حتى واقعا كعنوان غير المعلوم بالإجمال مع فرض تعلق العلم الإجمالي بعنوان

١٨١

أحدهما بلا أي ميزة فانه في مثل ذلك لو كان كلاهما نجسا أو مضافا واقعا فنسبة العنوان المعلوم بالإجمال إليهما على حد واحد فيكون غير متعين في نفس الأمر والواقع ويكون غير المعلوم الّذي هو مجرى الأصل غير متعين أيضا في نفس الأمر والواقع ، وبما انه لا بد من افتراض مجرى للأصل إذ لا يعقل جريانه من دون مصب متعين وحيث يحتمل المكلف نجاسة كليهما فلا يمكنه حينئذٍ إحراز أصل التعبد والامتثال التعبدي فكيف يجتزئ بالامتثال حتى بنحو الاحتياط. إلا ان هذا الإشكال مربوط بحسب الحقيقة بكيفية تخريج جريان التعبد الإجمالي في مثل هذه الموارد وسوف يأتي التعرض له في مباحث الأصول العملية.

١٨٢

مباحث الحجج

مبحث الظن

مقدمة في إمكان التعبد بالظن وتأسيس الأصل

عند الشك فيه

حجية السيرة

السيرة المتشرعية ـ السيرة العقلائية

حجية الظواهر

حجية الظهور في نفسه ـ حجية ظواهر القرآن الكريم

ـ طريق إثبات صغرى الظهور.

حجية الإجماع

الإجماع المحصل ـ الإجماع المنقول

حجية الشهرة

حجية الاخبار

الخبر المتواتر ـ الخبر الواحد

حجية الظن المطلق

١٨٣
١٨٤

مقدمة في إمكان التعبد بالظن

وتذكر عادة قبل الشروع فيه مقدمة تتكفل أمورا ثلاثة :

١ ـ ان الحجية للظن ليست ذاتية له كما في القطع بل على فرض ثبوتها له تكون بحاجة إلى عناية جعل أو طرو حالة استثنائية كالانسداد مثلا ، وهذا بحث ثبوتي.

٢ ـ ان الظن ليس ممتنع الحجية خلافا لابن قبة ومن حذا حذوه ممن ادعى لزوم المحال أو القبيح من جعل الحجية للظن وهذا بحث ثبوتي أيضا يتحصل منه ومن البحث الأول إمكان جعل الحجية للظن بالإمكان الخاصّ.

٣ ـ بحث إثباتي بعد الفراغ عن البحثين السابقين حول تأسيس الأصل عند الشك في حجية الظن.

اما الأمر الأول من هذه الأمور فيتكلم فيه عادة من جهتين :

الجهة الثانية ـ في إثبات ان الظن ليس بذاته حجة في تنجيز الحكم المظنون.

الجهة الثانية ـ في انه ليس بذاته حجة في التأمين عن التكليف الّذي قد اشتغلت الذّمّة به يقينا في مقام الفراغ عنه.

اما الجهة الأولى ـ فقد أفيد في وجهه بان الظن باعتبار نقصان كشفه وعدم كونه وصولا وبيانا للتكليف فلا يكون بذاته منجزا للحكم المظنون ما لم يجعل له ذلك.

١٨٥

وهذا الكلام منهم مسوق وفقاً لتصوراتهم في تحليل حجية القطع المتقدم شرحها ، حيث انهم كانوا يفصلون بين مولوية المولى المفروغ عنها في علم الكلام الأسبق رتبة من علم الفقه والأصول ، وبين تنجز تكاليف المولى ومقداره فجعلوا البحث عن دائرة التنجز بحثاً أصولياً. وقد تفرع عن هذا التفكيك أَن طرحت حجية القطع بصيغة انَّ القطع حجة بذاته ، لأنّها من لوازم الانكشاف والوصول الّذي يكون مقوماً للقطع ولازم ذلك انه إذا انتفى الانكشاف التام انتفت المنجزية وهذا ما سمي بقاعدة قبح العقاب بلا بيان الّذي هو بمثابة المفهوم المذكور وهو معنى انَّ الظن ليس منجزاً بذاته ما لم تتم بيانيته.

وقد شرحنا هنالك انَّ البحث عن المنجزية عين البحث عن المولوية فلا يصح التفكيك بينهما والمولوية مرجعها وروحها إلى إدراك العقل العملي لحق الطاعة وموضوعه ليس هو الوجود الواقعي النّفس الأمري للتكاليف بدليل معذورية القاطع بالعدم جهلاً ولا يكون جزءً الموضوع فيه بدليل استحقاق المتجري للعقاب وانَّما موضوعه إحراز التكليف فالمولوية ترجع إلى حكم العقل بلزوم إطاعة ما يحرز من تكاليف المولى فلا بدَّ حينئذٍ من ملاحظة انَّ أي مرتبة من مراتب الإحراز يكون بحسب نظر العقل الحاكم في هذا الباب هو موضوع هذا الحق. وقد ذكرنا انَّ العقل في المولى الحقيقي يرى كفاية مطلق الإحراز حتى الاحتمال لوجوب إطاعته وانَّ البراءة العقلية تبعيض في دائرة حق طاعة المولى الحقيقي وتحديد لمولويته في خصوص التكاليف القطعية فقط وهذا ما لا يوافق عليه وجداننا العملي. نعم هذا قد يصح في الموالي العرفية التي تكون مولوياتهم مجعولة ولو من قبل العقلاء ، فانهم جعلوها في خصوص التكاليف المعلومة لا مطلقاً فيكون العقاب منهم من غير بيان قبيحاً لأنه عقاب من دون مولوية وارتكازية هذا المطلب العقلائي هو الّذي ادعى القوم إلى تعميم القاعدة المذكورة وإسرائها إلى تكاليف المولى الحقيقي وقد عرفت انه خلاف الوجدان العملي.

وعلى هذا الضوء يعرف انَّ منجزية الظن في الجهة الأولى ذاتية له بمعنى انها ثابتة له أيضاً كما هي ثابتة للعلم وانما يفترق الظن عن العلم في انحفاظ مرتبة الحكم

١٨٦

الظاهري فيه بخلاف العلم لا بمعنى انحفاظ الشك وعدم العام المأخوذ في موضوع الحكم الظاهري فحسب بل انحفاظ روح الحكم الظاهري وملاكه وهو التزاحم الحفظي وقد تقدّمت الإشارة إليه ويأتي شرحه مفصلاً في بحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي. ومن هنا نحكم بعدم المنجزية في موارد الظن غير المعتبر من جهة ثبوت البراءة الشرعية التي هي حكم ظاهري شرعي بعدم وجوب الاحتياط ، وقد عرفت انَّ الحكم العقلي بالمنجزية وحقّ الطاعة معلق على عدم الترخيص الشرعي. وهكذا يتّضح انَّ البحث عن دليل حجية الظن بحسب الحقيقة بحث عن المخصص لدليل البراءة الشرعية بناءً على مسلكنا.

واما الجهة الثانية ـ فقد جاء في الكفاية انَّ الظن لا يكون حجة في تفريغ الذّمّة بذاته ولو كان يظهر من كلمات بعضهم الاكتفاء بالامتثال الظني على القاعدة ، ولعله باعتبار عدم وجوب دفع الضرر المحتمل لأنَّ الاقتصار على الامتثال الظني يوجب احتمال عدم تحقق الامتثال وبالتالي احتمال الضرر فلو قيل بعدم وجوب دفعه أمكن الاكتفاء بالامتثال الظني بل يكفي الامتثال الاحتمالي حينئذٍ أيضاً ولعله قصده بامره بالتأمل. وعلى كل حال قد ربط التنجز في المقام بمسألة دفع الضرر المحتمل.

وظاهر عبائر الدراسات إمضاء هذا الابتناء والتفريع ، ولكن أشكل عليه بأنَّ وجوب دفع الضرر في المقام متفق عليه لأنَّ الضرر المحتمل هو العقاب الأخروي ولا خلاف في لزوم دفعه من أحد وانما النزاع بينهم إنْ كان ففي لزوم دفع الضرر الدنيوي.

والتحقيق : انه لا ربط بين المسألتين من رأس لأنَّ قانون دفع الضرر المحتمل انما تنتهي إليه بعد فرض احتمال الضرر والعقوبة وهو فرع تنجز التكليف في الرتبة السابقة دائماً إذ مع عدم تنجز التكليف يقطع بعدم العقاب فيستحيل أَنْ يكون التنجز ناشئاً ببركة هذا القانون.

والحاصل ـ لو كان العقل يحكم بقاعدة قبح العقاب بلا بيان فهو رافع لموضوع قانون دفع الضرر بمعنى العقوبة ولو لم يحكم به ولو في المقام لوصول أصل التكليف وانما الشك في الفراغ والسقوط فلا يقبح العقاب على المخالفة بل يصح وهو عين التنجز واستحقاق العقوبة سواءً كان هناك حكم عقلي آخر بلزوم دفع الضرر أم لا.

١٨٧

والصحيح في المنهجة على ضوء ما تقدم منا مراجعة الوجدان العقلي العملي ليرى هل يحكم بحق الطاعة والمولوية للمولى في موارد الشك في السقوط أم لا ، وقد عرفت انه يحكم به في موارد الشك في الثبوت فكيف بموارد الشك في السقوط مع العلم بأصل ثبوت التكليف ففذلكة الموقف في الجهتين واحدة. هذا كلّه في الأمر الأول.

وامّا الأمر الثاني ـ فما ذكر أو يمكن أَنْ يذكر بشأن إثبات امتناع جعل الحجية للظن بل مطلق الحكم الظاهري صنفان من المحاذير :

١ ـ ما يرجع إلى انَّ جعل الحكم الظاهري مخالف لحكم العقل بقطع النّظر عن التشريع الإلهي.

٢ ـ ما يرجع إلى انَّ هذا الجعل مخالف مع الأحكام الشرعية الواقعية.

امّا الصنف الأول من المحذور فقد تقدمت الإشارة إليه سابقاً أيضاً من انَّ حجية غير العلم منافٍ مع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، لأنَّ غير العلم لا يخرج عن كونه غير العلم مهما جعلت له الحجية شرعاً أو عقلائياً فيكون العقاب في مورده عقوبة بلا بيان والأحكام العقلية لا تقبل التخصيص ، وقد اضطر بعضهم في مقام علاج هذه النقطة من الالتزام بأنَّ العقوبة في موارد الحكم الظاهري على مخالفة نفس الحكم الظاهري لا الواقع. وذهبت مدرسة الميرزا ( قده ) من انَّ المجعول في الحجج هو العلمية والطريقية وبذلك يكون قد تحقق البيان والعلم وقد تقدم الجواب على كلا هذين المطلبين وقلنا انَّ الصحيح في علاج هذا الإشكال أحد امرين : اما إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أو الالتزام بأنَّ موضوع حكم العقل انما هو عدم بيان الحكم الواقعي وعدم بيان اهتمام المولى به على تقدير ثبوته ودليل الحجية كاشف عن الاهتمام المذكور فيرتفع موضوع القاعدة العقلية.

وامّا الصنف الثاني من المحذور فعبارة عن ثلاثة أمور بعضها يثبت المحذور على المستوى مدركات العقل النظريّ وبعضها يثبته على مستوى مدركات العقل العملي.

وهي على ما يلي :

١ ـ انَّ جعل الحجية للظن بل مطلق الحكم الظاهري يؤدي إلى محذور اجتماع الضدين أو المثلين قطعاً أو احتمالاً وكلها محال ، وجه الاستحالة واضح ، ووجه اللزوم

١٨٨

انَّ الحكم الظاهري في معرض الخطأ والإصابة فيكون في مورده حينئذٍ حكم واقعي مضاد أو مماثل بعد البناء على عدم التصويب. وهذا محذور على مستوى العقل النظريّ.

٢ ـ انه يؤدي إلى نقض الغرض المولوي من الأحكام الواقعية المجعولة وهو محال في حق المشرع الملتفت والمهتم بأغراضه التشريعية. وهذا المحذور أيضاً بلحاظ مدركات العقل النظريّ.

٣ ـ انه يؤدي إلى إيقاع المكلف في مفسدة الحرام وتفويت مصلحة الواجب عليه بناءً على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد وهو قبيح لا يصدر من الحكيم وهذا محذور على مستوى مدركات العقل العملي ، أي انه يتوقف محذوريته على افتراض حكمة المولى المشرع.

هذه هي المحاذير التي أَنْ تذكر تحت هذا الصنف من براهين الامتناع.

وقبل البداء في مناقشة هذه البراهين. لا بأس بالإشارة إلى ما جاء في كلمات الشيخ الأنصاري ( قده ) ، حيث حاول إثبات الإمكان بعد الفراغ عن بطلان تلك البراهين. بمجموع امرين :

١ ـ اننا بعد مراجعة وجداننا لا نجد ما يدل على الامتناع.

٢ ـ انَّ عدم الوجدان وإِنْ كان لا يدل على عدم الوجود إِلاَّ انه يكفي في المقام احتمال الإمكان لإثباته استناداً إلى أصالة الإمكان التي قد انعقد بناء العقلاء عليها عند الشك في الإمكان.

وقد اعترض على الأمر الثاني من هذا الدليل من قبل صاحب الكفاية ( قده ) باعتراضات ثلاثة :

أحدها ـ انه إِنْ فرض قيام دليل قطعي على جعل الحجية ، والحكم الظاهري فهو بنفسه دليل قطعي على الإمكان ، لأنَّ الوقوع أخص من الإمكان فلا موضوع لأصالة الإمكان عند الشك في الإمكان ، وإِنْ فرض عدم وجود دليل قطعي على جعل الحجية فلا فائدة في إثبات الإمكان بأصالة الإمكان أو بغيره ، لأنَّ مجرد الإمكان لا أثر له كما هو واضح.

١٨٩

ثانيها ـ انا لا نسلم انعقاد بناء من العقلاء على الإمكان عند الشك فيه ليكون هنالك أصل عقلائي بعنوان أصالة الإمكان ، نعم قد يحصل غالباً للعقلاء العلم بالإمكان بحسب قريحتهم عند ما بحثوا فلم يجدوا وجها للامتناع.

ثالثها ـ انه لو سلمنا انعقاد البناء العقلائي وجريهم على الإمكان إِلاَّ انه لا قطع بموافقة الشارع لذلك وإمضائه لهم ، والسيرة العقلائية بما هي عقلائية لا تكون مجدية وانما المفيد إمضاء الشارع لها وهذا ما لا قطع به غايته الظن.

يبقى في هذا الاعتراض التساؤل عن وجه عدم كشف الإمضاء الشرعي في خصوص هذه السيرة وكيف كانت بدعاً من السيرة العقلائية الأخرى التي لم يناقش في إمضاء الشارع لها صاحب الكفاية ( قده ).

والجواب يمكن أَنْ يكون باستحالة القطع بإمضاء الشارع لهذه السيرة في المقام ، لأنَّ حصول القطع بذلك بنفسه قطع بوقوع الحكم الظاهري وبالتالي ارتفاع الشك وموضوع أصالة الإمكان.

والسيد الأستاذ حاول الإجابة على الاعتراضات الثلاثة بافتراض انَّ مقصود الشيخ من أصالة الإمكان أصالة حجية ظاهر كلام المولى وتشريعه ما دام لا يقطع بامتناع مدلوله ولا إشكال في ذلك الا ترى انه لو قال المولى ( أكرم كلَّ فقير ) واحتملنا استحالة إيجاب إكرام الفقير الفاسق فهل ترى يرفع اليد عن الإطلاق أو العموم بمجرد هذا الاحتمال؟ فكذلك في المقام يبني على صحة ما دل بظاهره من الأدلة المعتبرة على جعل الحجية والحكم الظاهري في مورد ما لم يثبت الامتناع فليس المقصود التمسك بالسيرة العقلائية بذلك المعنى فلا يرد شيء من هذه الوجوه (١).

أقول : هناك فرق واضح بين التمسك بظهور مثل أكرم الفقير في مورد احتمال امتناع مدلوله وبين المقام فانَّ المحتمل امتناعه هناك ثبوت مدلول الظهور لا حجيته فانه ممكن بحسب الفرض ولا إشكال في انَّ الحجة لا يمكن رفع اليد عنه إلا حيث يثبت بطلانه بالقطع أو بحجة أقوى.

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٩١.

١٩٠

وامّا في المقام فالمفروض انَّ المبحوث عنه إمكان نفس الحجية والحكم الظاهري وامتناعه ومعه سوف يسري الشك والاحتمال إلى حجية نفس الظهور الّذي يراد افتراض التمسك به في إثبات الحكم الظاهري المفاد به ، نعم لو فرض اختصاص الشك بإمكان صنف خاص من الحجج والأحكام الظاهرية كالاخبار الآحاد بعد الفراغ عن إمكان حجية الظهور أمكن التمسك به لإثباته ولكن هذا غير ما هو المدعى في هذا البحث من افتراض البحث عن إمكان وامتناع أصل جعل الحكم الظاهري.

والتحقيق في الإجابة على اعتراضات الكفاية أَنْ يقال : امّا بالنسبة إلى الاعتراض الأول فهناك ملاحظتان :

أولاهما ـ انه يمكن افتراض قيام دليل قطعي على التعبد بالحكم الظاهري من غير ناحية الإمكان أي تام الدليليّة لو كان الإمكان تاماً في الواقع فدلالته منوطة بثبوت الإمكان. وتوضيحه : اننا لا نفرض الدليل القطعي متمثلاً في اية قطعي السند والدلالة لكي يقال انه يؤدي إلى القطع بالوقوع وهو أخص من الإمكان بل نفترضه مثل السيرة العقلائية ـ كما هو الغالب في أدلة الحجية ـ والسيرة انما تكون دليلاً إذا ثبت إمضاء الشارع له واستكشف ذلك من عدم ردعه عنها وعدم الردع انَّما يمكن أَنْ يجزم به على تقدير عدم استحالة جعل الحجية وإلا فمع احتمال الاستحالة وكونها استحالة عرفية فلعل عدم الردع من ناحية الاكتفاء بهذا الاحتمال والاعتماد عليه فلا يمكن تحصيل الجزم بالإمضاء من سكوت المولى فتكون دلالة مثل هذا الدليل حينئذٍ فرع ثبوت الإمكان فإذا بنى على أصل عقلائي يثبت الإمكان على حد الأصول العقلائية التي تكون لوازمها حجة فسوف يدل مثل هذا بالالتزام على إمضاء الشارع لحجية الظن التي قد انعقدت السيرة عليها أيضاً (١).

__________________

(١) هذا الدليل أيضاً لا يكون بحاجة إلى أصالة الإمكان بالمعنى الّذي يقصده الشيخ ( قده ) بل تماميته فرع أَنْ يكون العقلاء يرون إمكان جعل الحجية ـ كما هو لازم افتراض قيام سيرتهم على الحجية ـ فانه حيث لم يردع الشارع عن ذلك يستكشف إمكانه فانَّ الشارع لا يسكت عن سلوك ممتنع بحسب مدركات العقل النظريّ أو العملي فنقطع بالإمكان من نفس السيرة على الحجية وعدم الردع سواء كان هناك أصالة الإمكان في موارد الشك في الإمكان والامتناع أم لا. ونكتة الامتناع والاستحالة ليست تختلف من مشرع إلى مشرع حتى يمكن أَنْ يقال بأنهم لعلهم يرون الإمكان في أحكامهم العقلائية وامَّا الشرعية فيحتملون الاستحالة في جعل الحجيّة بلحاظها وانَّما يرفعون اليد عن هذا الاحتمال بسيرة أُخرى هي أصالة الإمكان. وإن شئت قلت : انَ.

١٩١

الثانية ـ اننا نفرض قيام دليل قطعي على جعل الحكم الظاهري ونقصد به الحكم المجعول في مورد الشك أو الظن إِلاَّ انَّ مجرد هذا لا يوجب ارتفاع موضوع أصالة الإمكان كما أفيد في الاعتراض الأول. لأنَّ محذور الامتناع والإمكان ليس في جعل هذا الحكم بحسب الحقيقة بل في الجمع بينه وبين الحكم الواقعي فغاية ما يلزم من قطعية دليل هذا الحكم المجعول هو القطع بثبوت أحد الحكمين وهو الحكم الثابت بعنوان الظن أو الشك وامّا كونه واقعياً أو ظاهرياً بمعنى انه في مورده حكم واقعي مضاد أو مماثل فلا يثبت من هذا الدليل لكي يقال بأنه قد ثبت الإمكان بلا حاجة إلى أصالة الإمكان وانما نثبت ذلك ببركة أصالة الإمكان بمعنى إطلاقات أدلة الأحكام الواقعية ، وهذا الإطلاق مقطوع الحجية بحسب الفرض وانما الشك في إمكان مدلوله واستحالته فيكون من موارد صحة كلام السيد الأستاذ الّذي تقدم في معنى أصالة الإمكان.

ومنه يظهر التعليق المناسب على الاعتراض الثالث الّذي أفاده صاحب الكفاية ( قده ) بالبيان الّذي نحن تممناه به من انَّ هذه السيرة العقلائية بالخصوص لا يعقل القطع بإمضاء الشارع لها. فاننا نفترض القطع بالإمضاء وغاية ما يلزم منه القطع بجعل أصالة الإمكان كحكم شرعي ولكنه لا يعني القطع بالجمع ـ إذ لعله جعل واقعي لا ظاهري ـ وانما نثبت ذلك بإجراء أصالة الإمكان بالمعنى الآخر أي التمسك بإطلاقات أدلة الأحكام الواقعية لأن المفروض انَّ الظهور حجة بقطع النّظر عن مسألة الإمكان والّذي أثبتناه بأصالة الإمكان القطعية.

نعم لو كان مقصود صاحب الكفاية ( قده ) انه لا موجب لحصول القطع بالإمضاء لأنَّ القضية ليست شائعة ذائعة حتى يحصل القطع بالإمضاء فهو كلام آخر وجيه في نفسه.

وامّا الاعتراض الثاني في صغرى السيرة العقلائية على أصالة الإمكان ففي كل

__________________

استكشاف إمضاء الشارع للسيرة القائمة على حجية الظنّ في المقام يكون موقوفاً على انتفاء احتمال الاستحالة لا انتفاء الاستحالة واقعاً وثبوت الإمكان ليمكن ان يستعان بأصالة الإمكان لتتميم دليلية السيرة.

١٩٢

مورد أرجعنا أصالة الإمكان إلى التمسك بدليل مفروغ عن حجيته فهذا طبق الارتكازات والبناءات العقلائية لأنها لا تقبل رفع اليد عن حجية دليل لمجرد احتمال استحالة مدلوله. ولو أُريد بأصالة الإمكان التعبد ابتداءً بالإمكان فالاعتراض المذكور متجه جداً ، فانَّ العقلاء ليس لهم تعبدات كذلك على ما ذكرنا ذلك مراراً نعم قد يحصل لهم القطع بالإمكان بحسب قريحتهم من مجرد عدم وجدان وجه للاستحالة.

بل لا يعقل بنائهم على الإمكان لو كان عندهم الشك في إمكان جعل الحكم الظاهري في مجال علاقات الموالي والعبيد لأنَّ هذا البناء بنفسه حكم ظاهري فإثبات إمكانه به مصادرة واضحة.

واما الوجوه التي ذكرت لدفع المحاذير والشبهات المثارة بوجه الحكم الظاهري المتقدمة ففيما يلي نستعرض ما ذكر لدفع شبهة التضاد ونقض الغرض أي المحاذير العقلية النظرية مع التعليق عليه ثم نتكلم عن المحذور العقلي العملي وهو قبح الإيقاع في المفسدة :

الوجه الأول ـ ما ذهب إليه جملة من الأصوليين من انَّ الحكم الظاهري في بعض الموارد على الأقل كالأمارات مثلاً ليس حكماً تكليفياً بل هو من سنخ الأحكام الوضعيّة لأنَّ المجعول فيه انما هو الحجية بمعنى المنجزية والمعذرية كما أفاده صاحب الكفاية ( قده ) أو العلمية والطريقية كما أفاده الميرزا ( قده ) بينما الأحكام الواقعية هي أحكام تكليفية من أمر أو نهي والتنافي انما هو بين حكمين تكليفيين مختلفين أو متماثلين لا بين حكم وضعي وآخر تكليفي ، وانما اختلف العلمان في تحديد صياغة المجعول باعتبار ما تقدم في بحث القطع من قبل مدرسة الميرزا من انّ جعل المنجزية غير معقول لأنه خرق لقاعدة قبح العقاب بلا بيان بخلاف جعل العلمية فانه رافع لموضوعها ، وقد تقدم التعليق على هذا الكلام وعدم صحته وانَّ هذه مجرد صياغات لا تأثير لها على قاعدة قبح العقاب ، نعم أثر اعتبار العلمية وجعل الطريقية قد يظهر بلحاظ القيام مقام القطع الموضوعي.

وهذا الوجه لا محصل له لأنَّ جعل المنجزية أو المعذورية أو العلمية أو أي اعتبار آخر انْ كان غير مستلزم لموقف عملي من قبل المكلف فعلاً أو تركاً فلا أثر لجعل مثل

١٩٣

هذا الحكم الوضعي ولا يكون موضوعاً لحكم العقل بلزوم الإطاعة ، وإنْ كان مستلزماً لذلك فانْ كان ، غير ناشئ عن مبادئ الحكم التكليفي من ورائه من اراده وشوق نحو الفعل أو كراهة وبغض فهذا وحده كاف لدفع المحاذير المتوهمة في المقام سواءً كان الحكم الظاهري بحسب صياغته واعتباره القانوني من سنخ الأحكام التكليفية أو الوضعيّة لأنَّ التنافي والمحاذير الناشئة منه انما تنشأ بلحاظ تلك المبادئ لا بين الصيغ الإنشائية للحكمين ، وإنْ كان جعل المنجزية والمعذرية ناشئاً عن ملاكات واقعية فمحذور التنافي باقٍ على حاله سواءً كانت صيغة الحكم الظاهري المجعول من سنخ الأحكام التكليفية أو الوضعيّة. هذا مضافاً إلى انَّ هذا الوجه لا يدفع محذور نقض الغرض.

الوجه الثاني ـ انّ مبادئ الحكم الظاهري ومصلحته في نفس الجعل لا في متعلق الحكم ليلزم المنافاة بينهما وبين مبادئ الحكم الواقعي الثابت في متعلقه.

وهذا الوجه أيضاً غير تام لأنَّ نشوء الحكم عن مصلحة في الجعل نفسه غير معقول وانما الحكم لا بدَّ وأَنْ ينشأ من مصلحة في متعلقه سواءً كانت ثابتة فيه بقطع النّظر عن جعل ذلك أو في طول الجعل وبلحاظه ، كما في الأوامر التي يراد منها تطويع العبيد على الإطاعة والأمثال ، ولعل جملة من الأوامر العبادية تكون كذلك. وامّا جعل الحكم لمصلحة في نفس الجعل الّذي هو فعل المولى مع خلو المتعلق عن كل مصلحة حتى في طول الجعل فمثل هذا الحكم لا يكون موضوعاً لحق الطاعة عقلاً ، لأنَّ تمام الغرض منه تحقق بنفس جعله الّذي هو فعل المولى من دون حاجة إلى امتثال أصلاً. مع انه لا يدفع شبهة نقض الغرض.

الوجه الثالث ـ ما هو ظاهر عبارة الكفاية. من افتراض مراتب أربع للحكم.

١ ـ مرتبة الاقتضاء والشأنية فانَّ كل حكم له ثبوت اقتضائي في رتبة مقتضية وهذا نحو من الثبوت التكويني للحكم.

٢ ـ مرتبة الإنشاء اما بمعنى الوجود الإنشائي للحكم بناءً على المسلك القائل بإيجادية بعض المعاني أو بمعنى الاعتبار والجعل القانوني المبرز باللفظ.

٣ ـ مرتبة الفعلية التي تعني وجود إرادة أو كراهة بالفعل على طبقه للتحريك.

١٩٤

٤ ـ مرتبة التنجز التي هي تعبير عن حكم العقل بلزوم الامتثال واستحقاق العقاب على المخالفة.

والتنجز نوع بلوغ الحكم مرتبة الفعلية ووصولها خارجاً فلا يكفي فيه العلم بالمرتبة الأولى أو الثانية من الحكم كما انَّ التنافي بين الأحكام انما يكون بلحاظ مرحلة الفعلية لا الإنشاء والاقتضاء. وحينئذٍ في موارد الحكم الظاهري إذا فرض انحفاظ الحكم الواقعي أيضاً بمراتبه الثلاثة لزم محذور التضاد ونقض الغرض وامّا إذا فرض عدم انحفاظها كذلك بل كانت إنشائية مثلاً فلا يلزم محذور التضاد ولا نقض الغرض.

نعم افتراض انَّ الأحكام القطعية إنشائية بحتة مطلقاً يؤدي إلى عدم تنجزها حتى بعد العلم بها لما تقدم من انَّ العلم بالحكم الإنشائي لا يكون منجزاً ، ومن هنا التزم بفرضية وسطى هي انها أحكام فعلية ولكن معلقا على عدم فعلية الحكم الظاهري أي فعلي من سائر الجهات وفعليتها قد استوفت تمام شروطها عدا شرط واحد هو أَنْ لا يكون على خلاف حكم ظاهري.

وقد اعترض عليه من قبل الاعلام بجملة اعتراضات.

منها ـ ما وجهه المحقق النائيني ( قده ) من اننا لا نتعقل التفكيك بين الإنشاء والفعلية ، لأنَّ قيد العلم اما أَنْ يكون قد أخذ في موضوع الجعل والإنشاء أو لا ، فانْ كان مأخوذاً ففي موارد عدم العلم لا جعل ولا مجعول ، وإِنْ كان غير مأخوذ فكل من الجعل والمجعول ثابت في موارد الحكم الظاهري لتحقق موضوعه وهو يستلزم الفعلية لا محالة.

وهذا الاعتراض مبني على تحميل صاحب الكفاية مصطلحات الميرزا ( قده ) في تفسير الإنشاء والفعلية بحمل الأول على الجعل والقضية الحقيقية الشرطية وحمل الثاني على المجعول والقضية الفعلية وهذا بلا موجب ، بل مقصوده من الفعلية الإرادة أو الكراهة بوجوديهما الفعليين في نفس المولى والمراد بالإنشاء الوجود الإنشائي للحكم أو الاعتبار المبرز على الاختلاف المتقدم في تفسير الإنشاء ، والتضاد انما هو بين الأحكام بلحاظ مرحلة فعلية مباديها من الإرادة الفعلية والكراهة الفعلية وامّا الوجود الإنشائي لها بكلا المعنيين فلا تضاد فيما بينها لأنَّ الإنشاء أو الاعتبار القانوني سهل المئونة فإذا ثبت

١٩٥

بطلان التصويب التزمنا بأنَّ الأحكام الواقعية ثابتة بمرتبتها الإنشائية وامّا مرتبة فعليتها فمعلقة على عدم جريان الحكم الظاهري فلا تضاد ولا نقض للغرض أيضاً لأنَّ الغرض يراد به الملاك الّذي يريده المولى بالفعل.

ومنها ـ ما عن بعض إفادات المحقق العراقي ( قده ) من انَّ هذا يؤدي إلى سلخ الخطاب الواقعي عن الفعلية رأساً وكونه إنشائياً بحتاً وهذا باطل ولا يمكن الالتزام به ، والوجه في ذلك في انَّ تقيد الإرادة الجدية الفعلية بالعلم به وعدم الشك الّذي هو موضوع الحكم الظاهري لا يمكن استفادته من دليل الحكم الواقعي لأنَّ الفعلية المقيدة بالعلم بالخطاب متأخرة عن نفس الخطاب برتبتين لأنها متأخرة عن العلم بالخطاب تأخر المشروط عن شرطه والعلم بالخطاب متأخر عن الخطاب أيضاً تأخر العلم عن معلومه ومعه يستحيل أَنْ يكون مدلولاً للخطاب لأنَّ مدلول الخطاب متقدم على الخطاب الدال عليه.

وهذا الإشكال فيه مواقع للنظر. نكتفي في المقام بالقول بأنَّ الفعلية المدلول عليها بالخطاب هي الفعلية المعلقة لأنَّ مدلول الخطاب انما هو القضية الحقيقية الشرطية والتي يكون موضوعها في موقع الفرض والتقدير فمدلول الخطاب لا يتضمن إِلاَّ فرض العلم بالخطاب وما يدعى كونه متأخراً عن الخطاب انما هو العلم به فعلاً وواقعاً لا فرض العلم به.

والصحيح في مناقشة هذا الوجه إذا أُريد ما هو ظاهره : انه التزام بالإشكال وليس جواباً عليه لأنَّ الإشكال ينشأ من أصل موضوعي مفترض وهو بطلان التصويب عند العدلية بمعنى اشتراك العالم والجاهل في الحكم الواقعي والمراد منه ليس قضية مهملة ليقال بكفاية اشتراكهما في الحكم الإنشائي بل المراد به هو انحفاظ الأحكام الواقعية بمبادئها الحقيقية في حق الجاهل كالعالم تماماً إلا من ناحية عدم تنجزه عليه.

الوجه الرابع ـ هو الوجه الموروث من الشيخ الأنصاري وتلميذه الشيرازي ( قدهما ). من دعوى ارتفاع التضاد بتعدد الرتبة ، حيث انَّ مرتبة الحكم الظاهري الشك في الواقعي وهو متأخر عنه وفي طوله فلم يجتمع الحكمان في مرتبة واحدة. وهذا الجواب يمكن أَنْ يقرب بأحد بيانين :

١٩٦

١ ـ ما هو ظاهره من انَّ الحكم الظاهري باعتبار أخذ الشك في الحكم الواقعي في موضوعه يكون متأخراً عنه رتبة.

وقد اعترض عليه في الكفاية : بأنَّ الحكم الظاهري وإِنْ كان متأخراً عن الواقعي وفي طوله فيستحيل أَنْ يجتمع معه في مرتبته إلا انَّ الحكم الواقعي باعتباره مطلقاً شاملاً للعالم والجاهل يكون محفوظاً مع الحكم الظاهري فانَّ المعلول وإِنْ لم يكن ثابتاً في مرتبة العلّة إلا انَّ العلة ثابت في مرتبة المعلول فيلزم محذور التضاد والتنافي.

وهذا الكلام واضح البطلان لأنا إذا لاحظنا الاجتماع في عالم الرتب فكما لا يجتمع المعلول مع العلّة في رتبتها كذلك لا تجتمع العلّة مع المعلول في رتبته والتعاصر بينهما زماني لا رتبي ، وإذا لاحظنا عالم الزمان فكل منهما يجتمع مع الاخر. فالصحيح في الجواب.

أولا ـ اننا لا نسلم الطولية بالملاك المزبور لأنَّ الشك متأخر عن المشكوك بالذات لا عن المشكوك بالعرض والتنافي والتضاد بين الحكمين بوجوديهما الواقعيين لا العلميين إذ الكلام في كيفية اجتماع الحكمين بمبادئهما في نفسه لا بحسب نظر المكلف أي في نفس المولى وبحسب نظره وهو يفترض الشك الواقعي في موضوع جعله الظاهري لا انه يشك فيه بالفعل كما هو واضح.

وثانياً ـ انَّ الطولية بحسب الرتبة لا ترفع غائلة التضاد لأنَّ المستحيل هو اجتماعهما في زمان واحد لا اجتماعهما في رتبة واحدة بشهادة اننا لو فرضنا علّية أحد الضدين للآخر أيضاً استحال اجتماعهما بل نستنتج من نفس التضاد عدم العلّية لا انَّ التضاد موقوف على عدم العلّية وهذا واضح أيضاً.

٢ ـ والبيان الثاني ما قد يتحصل من كلمات المحقق النائيني ( قده ) حيثما تصدى لشرح كلمات السيد الشيرازي ( قده ) من انَّ الأحكام الظاهرية في طول الأحكام الواقعية إذ لولاها لم يكن جعل الحكم الظاهري معقولاً فيستحيل أَنْ تكون الأحكام الظاهرية مانعة عن الأحكام الواقعية إذ يلزم من مانعيتها نفيها لنفسها ومن وجودها عدمها وهو محال.

وهذا البيان غير تام أيضاً لأنَّ الأحكام الظاهرية وإِنْ استحال أَنْ تكون مانعة

١٩٧

عن الأحكام الواقعية لأنها مترتبة عليها إلا انه لا محذور في مانعية الأحكام الواقعية عن الظاهرية ولا يلزم من ذلك نفيها لنفسها. وإِنْ شئت قلت : انَّ فرض ترتب الحكم الظاهري على الواقعي مستحيل إِلاَّ انْ تحل المضادة في المرتبة السابقة لأنَّ المتضادين يستحيل أَنْ يكون أحدهما علّة للآخر فانْ حلت مشكلة التضاد فذاك هو الجواب وإِلاَّ كان فرض الترتب مستحيلاً في نفسه فلا يمكن حل المضادة بهذا الفرض نفسه ، وبتعبير ثالث أوضح : انَّ من يدعي التضاد بين الحكمين لا يفهم الحكم الظاهري إلا كحكم واقعي ومعه لا تكون طولية بينه وبين الحكم الواقعي بل يكون في عرضه فافتراض الطولية بالنحو المبين في التقريب انما يكون بعد تعقل الحكم الظاهري وإمكانه كما هو واضح.

الوجه الخامس ـ ما أفاده المحقق العراقي ( قده ) في مقالاته وكأنه مخصص لدفع شبهة نقض الغرض وحاصلة : افتراض مقدمة ثم البناء عليها امّا المقدمة ففي بيان انَّ الا إرادة إذا تعلقت بشيء سواءً التشريعية أو التكوينية فالمقدمات التي يتوقف عليها وجود ذلك الشيء على قسمين :

١ ـ ما يكون مقدمة لذات المراد في نفسه بنحو يكون محفوظاً بقطع النّظر عن تعلق الإرادة به من قبيل طي المسافة للحج مثلاً.

٢ ـ ما يكون في طول تعلق الإرادة والخطاب بذلك الشيء ، وهذا القسم بعضه يرجع إلى المولى نفسه وبعضه راجع إلى العبد فالأوّل من قبيل إبراز الإرادة لكي يتحرك العبد بموجب التنجز العقلي وهذه مقدمة في طول تعلق الإرادة بالمراد إذ هي من تبعاتها لا محالة ولولاها لما إبراز المولى شيئاً ، والثاني من قبيل إرادة المكلف للامتثال فانها أيضاً في طول الإرادة التشريعية للمولى.

والقسم الأول من هذين القسمين تكون نفس الإرادة المتعلقة بشيء محركة نحوه ، وامّا القسم الثاني فيستحيل أَنْ يكون التحريك نحوه من قبل نفس الإرادة الأولية بل لا بدَّ من إرادة أخرى لأنه في طول الإرادة ومحركيتها بحسب الفرض وقد استنتج من ذلك مطلبين :

١ ـ في بحث مقدمة الواجب أثبت انَّ تمام مقدمات الواجب تتصف بالوجوب

١٩٨

الغيري عدا الإرادة لأنها في طول الخطاب ، فلا يمكن أَنْ تتصف به.

٢ ـ انَّ إرادة المولى لشيء لا يمكن أَنْ تكون هي المنشأ المحرك نحو إبراز نفسها بالخطاب لكون الإبراز هذا من المقدمات الطولية بل يحتاج ذلك إلى إرادة أخرى من قبل المولى نحو الإبراز. وهذه النقطة هي روح الجواب في المقام في هذا الوجه حيث يستنتج المحقق العراقي ( قده ) على ضوئها انَّ إرادة إبراز الإرادة بالخطاب لها مراتب شدة وضعفاً حسب ملاكها ، فتارة يتعلق إرادته بإبراز الإرادة الأولى بأي خطاب ممكن واقعياً وظاهرياً وفي تمام المراتب ، وأخرى تتعلق إرادته بالإبراز بالخطاب الواقعي فانْ لم يصل إلى المكلف فالمولى لا تتعلق إرادته بأَنْ يبرز إرادته الأولية بخطاب اخر ظاهري بل قد تتعلق أردته بخلاف ذلك يجعل خطاب ترخيصي ولا يكون في ذلك نقض للغرض لأنَّ الغرض انما تمثله إرادة المولى وفي المقام لا نقض لشيء من الإرادتين ، امّا الأولى فلأنها لم تكن تقتضي التحريك نحو الإبراز أصلاً لكي يكون هذا نقضاً لها ، واما الثانية فلأنَّ مرتبتها بهذا المقدار من أول الأمر بحسب الفرض.

وهذا الّذي أفاده غير تام. لا وجداناً ولا برهاناً.

امّا وجداناً ـ فلشهادته بأنَّ من يريد شيئاً من غيره تكون نفس إرادته تلك محركة له إلى إبرازها له ولو بترشيح إرادة غيرية منها نحو الإبراز لا انَّ هناك إرادة نفسية أخرى تتعلق بالإبراز.

واما برهاناً ـ فكأنه وقع خلط بين طوليتين ، طولية المقدمة وطولية المقدمية بمعنى انَّ القسم الثاني من المقدمات طوليتها للإرادة بلحاظ وجودها لا مقدميتها فانَّ المقدمة إذا كانت في طول الإرادة وتحريكها استحال تحريك الإرادة نحوها لأنَّ مقدميتها حينئذٍ فرع التحريك فيستحيل أَنْ يكون التحريك نحوها باعتبار مقدميتها ، واما إذا كانت المقدمية من أول الأمر غايته وجود المقدمة يكون في طول الإرادة فلا إشكال في تحريك الإرادة نحو تلك المقدمة والمقام من هذا القبيل فانَّ صدور الفعل خارجاً من العبد متوقف على إبراز المولى لإرادته كتوقفه على سائر المقدمات.

١٩٩

الوجه السادس ـ وهو أيضاً منسوب (١) إلى المحقق العراقي ( قده ) وكأنه أريد به دفع شبهة اجتماع الضدين أو المثلين وهو متوقف على مقدمة حاصلها : انَّ الوجود الواحد قد يكون له حيثيات متعددة بلحاظ بعضها يكون مطلوباً وباعتبار بعضها الاخر لا يكون كذلك ، وهذا له تطبيق واضح في المركبات الحقيقية والمحقق العراقي ( قده ) يطبقه على الوجود الواحد أيضاً بلحاظ مقدماته إذا كانت متعددة فيقول : انه قد يكون الوجود الواحد من ناحية بعض مقدماته ومباديه مطلوباً دونه بلحاظ مباديه الأخرى ويستنتج من هذه المقدمة انَّ التكليف والمرام الواقعي للمولى لتحققه خارجاً وانبعاث المكلف نحوه مقدمات عديدة راجعة للمولى ، منها جعل الخطاب الواقعي ومنها جعل الخطاب الظاهري بالاحتياط حين جهله بالخطاب الأول الواقعي ، وحينئذٍ ربما يفترض انَّ ذلك المرام من ناحية المقدمة الأولى الراجعة إلى الخطاب الواقعي مراد ولكن من ناحية المقدمة الثانية الراجعة إلى جعل خطاب ظاهري بإيجاب الاحتياط غير مطلوب بل مرخص في تركه ولا يلزم من ذلك التضاد لتعدد الحيثيات.

وهذا الوجه أيضاً لا محصل له فانه يرد عليه.

أولاً : انَّ ما افترض في المقدمة من انَّ لوجود ذي المقدمات حيثيات متعددة بعدد مقدماتها غير معقول في طرف الوجود ، فانَّ الوجود البسيط مهما تكثرت مقدماته فليس له إلا باب واحد وهو باب تحقق جميع تلك المقدمات نعم هناك تكثر وتحصيص بلحاظ أبواب عدم ذلك الشيء فقد يعدم من ناحية عدم هذه المقدمة وقد يعدم من ناحية عدم مقدمته الأخرى فلا بدَّ من تصحيح كلامه بما يرجع إلى هذا المعنى.

وثانياً ـ انَّ إرادة سد باب عدم المرام من ناحية عدم الخطاب الواقعي إرادة غيرية لا بدَّ من فرض إرادة قبلها ببرهان انَّ هذه إرادة سد باب عدم المرام من ناحية عدم الخطاب الواقعي الّذي هو كاشف عن الإرادة فننقل الكلام إلى تلك الإرادة المبرزة بالخطاب الواقعي فانْ أُجري فيها التحصيص المذكور أيضاً فكانت غيرية كان لا بدَّ من إرادة قبلها تكون نفسية فلا بد من الانتهاء إلى إرادة كذلك لاستحالة أَنْ تكون

__________________

(١) الناسب هو السيد الحكيم ( قده ) في حقائق الأصول.

٢٠٠