بحوث في علم الأصول - ج ٤

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

منهما صالح لأن يكون هو المشار إليه فالمشار إليه مردد وليس هذا بابه باب وجود الفرد المردد ذهنا أو خارجا ليقال بأنه مستحيل. وبهذا نصل إلى نظرية واضحة محددة عن العلم الإجمالي نجمع فيها بين الاتجاهات الثلاثة وندفع بها جميع المناقشات المثارة ضدها. والواقع ان كل واحد من الاتجاهات الثلاثة قد أخذ بطرف ولاحظ زاوية معينة في مقام تشخيص حقيقة العلم الإجمالي على ضوء التحليل الّذي ذكرناه.

وبعد أن اتضحت حقيقة العلم الإجمالي وكيفية تعلقه بالمعلوم نعود إلى أصل البحث عن منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة وقد ذكرنا ان هناك ثلاثة مسالك في المنجزية نبدأ فيما يلي بعرض المسلك الأخير والمختار فنقول : اما بناء على إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان فلا إشكال في منجزية الاحتمال فضلا على العلم ، وانما البحث مبني على قبول قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعلى هذا التقرير الصحيح هو التفصيل بين بعض موارد العلم الإجمالي وبعض والصيغة الأولية الساذجة التي نطرحها لبيان هذا التفصيل التفصيل بين الشبهة الحكمية والموضوعية.

ففي الأول لا يكون العلم الإجمالي منجزا وفي الثاني يكون منجزا بنفسه للموافقة القطعية.

وتوضيح ذلك : انه لا إشكال كبرويا في وجوب الموافقة القطعية في موارد الشك في تفريغ الذّمّة عن تكليف ثبت تنجزه واشتغال الذّمّة به ، والبحث في المقام بحسب الحقيقة بحث صغروي بلحاظ المقدار المنجز من التكليف المعلوم بالإجمال ليرى انه بما إذا يحصل الفراغ اليقيني عنه ، والمفروض بناء على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ان المقدار المنجز من التكليف هو المقدار المبين منه واما المقدار غير المبين منه فهو باق تحت تأمين القاعدة. وعلى أساس هذا المنهج نقول في المقام ان لنا دعويين إحداهما عدم وجوب الموافقة القطعية في الشبهات الحكمية من موارد العلم الإجمالي ، والأخرى وجوبها في الشبهات الموضوعية منها.

اما الدعوى الأولى ، فتتضح صحتها من خلال بيان مقدمتين :

أولاهما ـ ان العلم الإجمالي ينجز المقدار الّذي تم عليه العلم لأن هذا هو الّذي يخرجه عن اللابيان إلى البيان وبالتالي عن التأمين إلى التنجيز ، ومن الواضح ان العلم

١٦١

الإجمالي لا يجعلنا عالمين بأكثر من الجامع على جميع المباني والاتجاهات المتقدمة في شرح العلم الإجمالي حتى المبنى الأول والثالث منها ، لأن الإشارية في العلم الإجمالي غير متعينة من قبل نفس الإشارة ـ كما شرحنا ـ فلا توصلنا إلى أكثر من الجامع ، بل الأمر كذلك حتى لو جمدنا على حرفية كلام المحقق العراقي ( قده ) وافترضنا تعلق العلم الإجمالي بالواقع ولكن بمعنى ان الصورة العلمية يختلط فيها جانب الوضوح مع الخفاء فان الحد الواقعي على هذا التقدير وان كان داخلا في الصورة العلمية ولكنه في الطرف المجمل منها لا المبين فلا يكون بلحاظه قد تم البيان. نعم بناء على التفسير المغلوط الّذي افترضته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) لكلامه من تعلق العلم بالواقع الخارجي يتجه القول بالمنجزية ولكنك قد عرفت انه ليس بصحيح ولا هو مراد للمحقق العراقي ( قده ).

ثانيتهما ـ ان الجامع الّذي اشتغلت به الذّمّة عقلا وتنجز تحصل موافقته القطعية بالإتيان بالجامع وهو يتحقق بإتيان أحد الفردين أو الافراد ، لأن الجامع يوجد بوجود فرده فتكون موافقة قطعية للمقدار المنجز المعلوم ، وبعبارة أخرى ان المقدار المعلوم هو إضافة الوجوب إلى الجامع بين الظهر والجمعة لا الظهر بحدها ولا الجمعة بحدها فتكون إضافته إلى كل من الحدين تحت تأمين القاعدة واما إضافته إلى الجامع بينهما فتحصل موافقته القطعية بالإتيان إحداهما. فالحاصل : الجامع بين الوجوبين ليس له إلا الجامع بين الاقتضاءين لا مجموعهما.

وعلى ضوء هاتين المقدمتين يثبت ان العلم الإجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية في الشبهة الحكمية.

واما الدعوى الثانية وهي المنجزية في الشبهة الموضوعية فمن باب ان الشغل اليقيني تستدعي الفراغ اليقيني ، فإذا علم بوجوب إكرام العالم وتردد بين زيد وعمرو فقد علم بوجوب إكرام ذات وان يكون عالما وكلاهما قد اشتغلت الذّمّة بهما يقينا لأنهما معا معلومان فلا بد من الفراغ اليقيني ولا يكون إلا بالاحتياط ، وهذا بخلاف موارد الشبهة الحكمية فان المقدار المعلوم فيه ليس بأكثر من أحدهما الّذي يتحقق بإتيان أي واحد منهما.

١٦٢

فالحاصل : المقدار المعلوم والمبين في الشبهة الحكمية يعلم بانطباقه على كل منهما قهرا وهذا بخلاف المقدار المعلوم في الشبهة الموضوعية وهو إكرام العالم فانه لا يعلم بانطباقه على أحد الطرفين لو اقتصر عليه ، فلو كنا نقتصر على صناعة قاعدة قبح العقاب بلا بيان من دون تجاوز أو تقليص لها كان لا بد من التفصيل المذكور (١).

وبالتعميق والتدقيق يظهر ان فذلكة هذا التفصيل ليست قائمة بالشبهة الحكمية والموضوعية على الإطلاق بل قائمة في أن يكون العلم الإجمالي ناشئا من التردد في قيد قد علم تقيد الواجب به وأخذه تحت الأمر ، فانه حينئذ يكون ذلك التقيد داخلا في العهدة وتكون الذّمّة مشتغلة به يقينا فلا بد من الخروج عنه كذلك ، وهذا يكون في الشبهة الموضوعية كثيرا ولا يكون في الشبهة الحكمية ، إلا ان الشبهة الموضوعية أيضا قد تكون كالشبهة الحكمية لا يكون التردد فيها إلا في أصل الوجوب لا قيد الواجب ، كما إذا كان الموضوع المشتبه شرطا للتكليف أو للمكلف لا للمكلف به كما إذا ثبت وجوب الصلاة ركعتين عند قدوم الحاج ووجوب التصدق بدرهم عند قدوم الزوار وعلم إجمالا بقدوم أحدهما فانه يعلم حينئذ بوجوب الصلاة أو الصدقة وهو كالعلم بوجوب الظهر أو الجمعة المقدار المعلوم منه وهو أحدهما يعلم بانطباقه قهرا على أحدهما فلا يستدعي الشغل اليقيني به أكثر من تحقيق أحدهما.

ودعوى : إمكان تصوير عنوان معلوم لا يحرز انطباقه في الشبهات الحكمية أيضا من قبيل عنوان ما دلت عليه رواية زرارة أو الصلاة التي أمر بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

مدفوعة : بان مثل هذه العناوين انتزاعية ليست متعلق الأمر لكي يكون الاشتغال بها.

هذا كله في توضيح المسلك الثالث.

واما المسلك الثاني وهو ما جاء في تقرير أجود التقريرات من ان العلم الإجمالي انما يؤثر في التنجيز ووجوب الموافقة بتوسط تساقط الأصول بالمباشرة فينحل إلى دعويين أيضا.

__________________

(١) لا إشكال في ان البحث ليس عن تحديد المدلول اللغوي أو العرفي للبيان في قاعدة قبح العقاب وانما المقصود تحديد ما هو موضوع حكم العقل بقبح العقاب وتحليله ثبوتا فنقول : لا ينبغي الإشكال في ان هناك ثلاث مراتب متدرجة لارتباط الذهن.

١٦٣

إحداهما ـ عدم تأثير العلم الإجمالي مباشرة في ذلك ، وقد استدل عليها بما يشبه ما تقدم منا من ان العلم الإجمالي انما تعلق بالجامع فالاشتغال اليقيني بمقداره لا أكثر.

والثانية ـ المنجزية بعد تساقط الأصول وقد استدل عليها بان العلم الإجمالي باعتباره علة تامة لحرمة المخالفة فلا يمكن الترخيص في تمام الأطراف وشمول دليله للبعض دون البعض ترجيح بلا مرجح فتتساقط الأصول بالمعارضة وبعده يكون كل طرف شبهة من دون أصل مؤمن وهو كاف في التنجيز. وهذا وإن كان منجزية الاحتمال إلا ان سقوط المؤمن انما كان ببركة العلم الإجمالي ومن هنا صح أن

__________________

البشري بالخارج.

المرتبة الأولى ـ أن يستطيع الذهن الإشارة بمفهوم معين كلي أو جزئي إلى الخارج إشارة معينة لا تردد فيها لا في الإشارة ولا فيما به الإشارة وهذا هو العلم التفصيليّ.

المرتبة الثانية ـ الإشارة بمفهوم معين تصورا في الذهن إلى الخارج بإشارة مرددة والتردد بلحاظ المشار إليه بالعرض وقد يعبر عنه بالإشارة بمفهوم إجمالي وجامع إلى الخارج فيجعل الإجمال صفة للصورة العلمية التي بها الإشارة لا لنفسها وهذا هو العلم الإجمالي. المرتبة الثالثة ـ موارد عدم إمكان الإشارة إلى الخارج لعدم إحراز مطابقها فيه فالتردد في أصل الإشارة لا المشار إليه وهذا هو الشك البدوي.

وحينئذ تارة يقال : بأن العقل لا يحكم بصحة العقاب إلا إذا كانت الإشارة إلى التكليف إشارة متعينة لا تردد فيها لا على مستوى الصورة الحاضرة في الذهن والتي بها الإشارة ولا على مستوى نفس الإشارية وإضافتها إلى الخارج ، وهذا يعني اختصاص العقوبة بموارد العلم التفصيليّ. وأخرى يقال : بان العقاب يصح كلما أحرز التكليف خارجا يعني أمكن أصل الإشارة إليه سواء بإشارة معينة أو مرددة وبتعبير المشهور سواء حضرت صورته التفصيلية في الذهن أو الإجمالية التي يخترعها الذهن وتنطبق عليه بحده ، وبناء عليه يصح العقاب حتى في المرتبة الثانية من الانكشاف أي العلم الإجمالي ، لأن خصوصية أحد الفردين المعلوم بالإجمال وإن لم تكن حاضرة لدى الذهن تصورا فعلى مستوى التصور لا يوجد علم وبيان ولكن على مستوى التصديق والإشارية قد تم البيان لأن تلك الخصوصية مشار إليها بإشارة مرددة أيضا. فان هناك فرقا بين العلم التفصيليّ بوجوب الجامع بين الظهر والجمعة ـ ولو الجامع الانتزاعي ـ وبين العلم الإجمالي بوجوب أحدهما من حيث الإشارية والتصديق ببرهان : ان الذهن في العلم الإجمالي بالتحليل يمتلك إشارتين إشارة إلى وجوب الجامع ـ ولو ضمنا ـ وإشارة أخرى إلى وجوب إحدى الخصوصيّتين بينما لا ينحل العلم والإشارية في العلم التفصيليّ بوجوب الجامع إلى ذلك.

وبعبارة أخرى : على ضوء ما تقدم في شرح حقيقة العلم الإجمالي هناك تردد في مورد العلم الإجمالي لا يرجع إلى خصوصية مفهومية إلا مفهوم أحدهما المنتزع من الإشارة الذهنية نفسها ـ وهذا هو معنى اختراعيتها ـ بل هو من شئون نفس التصديق والإشارة الإجمالية كما يشهد به الوجدان وحيث ان الإشارة فيها في قبال المرتبة الثالثة التي لا توجد فيها أصل الإشارية. ومما يشهد على الفرق حكم الوجدان بأن درجة التجري والخروج على المولى في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال أكثر منها في مورد المخالفة للشبهة البدوية مع فرض عدم المؤمن حتى عندنا المنكرين للقاعدة في الشبهات البدوية وليس ذلك على أساس درجة احتمال التكليف فانه ربما يكون في الشبهة البدوية احتماله أكبر من احتماله في بعض أطراف العلم الإجمالي. بل نحن المنكرون للقاعدة انما ننكرها بالنسبة إلى الله سبحانه وحق مولويته الذاتيّة لا بالنسبة إلى الموالي العرفية. والوجدان العرفي يحكم بعدم إجراء القاعدة في موارد العلم الإجمالي وعدم اكتفائهم بإتيان الجامع.

١٦٤

يقال بان العلم الإجمالي منجز لوجوب الموافقة.

ولنا على الدعوى الأولى : ـ

أولا ـ ان إثباتها لا يتوقف على اختيار المبنى المختار من قبل مدرسة الميرزا ( قده ) في حقيقة العلم الإجمالي بل هو صحيح في الجملة على تمام المباني في حقيقته كما تقدم بيانه.

وثانيا ـ انها على إطلاقها غير صحيح وانما تصح في الشبهات الحكمية وبعض الشبهات الموضوعية فالصحيح فيها بناء على قبول قاعدة قبح العقاب بلا بيان التفصيل المتقدم.

ولنا على الدعوى الثانية ـ انه ان قصد من تساقط الأصول المؤمنة جميع الأصول حتى العقلية ، ففيه : ان التعارض والتساقط في البراءة العقلية غير معقول لأنها حكم عقلي ولا يعقل فرض التعارض فيه ، لأن التعارض انما يكون بحسب عالم الإثبات لا الثبوت وأحكام العقل أحكام ثبوتية تابعة لملاكاتها الواضحة لدى العقل الحاكم بها دائما ، وحينئذ لا بد من ملاحظة الملاك وقد تقدم ان الخصوصيّتين بما هما خصوصيتان لا يتم عليه البيان فلا بأس في المخالفة ولا يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية لأن التأمين في الخصوصية لا يلزم منه التأمين في الجامع المعلوم ـ ولو الجامع الانتزاعي وهو عنوان إحدى الخصوصيّتين ـ ومثل هذا التحليل لا يمكن إجراءه في الأصول الشرعية لأنه ليس بعرفي فان تحليل الوجوب الواحد إلى وجوب الذات ووجوب الخصوصية غير عرفي.

وإن قصد تساقط البراءة الشرعية فقط فسقوطها غير مضر بعد فرض جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان بلحاظ الخصوصية.

وإن قصد عدم المقتضي لجريان القاعدة لكفاية هذا المقدار من البيان فهذا رفع لليد عن تطبيق حرفية القاعدة كما أشرنا وقد كان الصحيح أن يرفع اليد عنها في تمام الموارد.

واما المسلك الأول الّذي لعله المشهور وهو المتطابق مع ظاهر التقرير الاخر للمحقق النائيني ( قده ) فهو دعوى اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة ومن المتطرفين

١٦٥

في هذا المسلك المحقق العراقي ( قده ) حيث ادعى ان اقتضائه لذلك يكون بنحو العلية ، وسوف يأتي التعرض مفصلا لهذه الناحية.

ولا يتحصل من تقريرات المحقق النائيني وجه فني في إثبات هذا المسلك وانما يمكننا أن نستخلص من كلمات المحقق العراقي على ما في بعضها من التشويش بيانين لتقريب المنجزية :

البيان الأول ـ مركب من عدة أمور لو تمت ثبت ما هو المطلوب وهي :

١ ـ ان التنجز لا يقاس بالعلم فان الأخير انما يتعلق ويعرض على صورة في الذهن ويستحيل أن يتعلق بالواقع الخارجي واما التنجز فهو صفة للحكم الشرعي وهو امر واقعي ثابت في لوح التشريع.

٢ ـ ان الواقع الخارجي الموضوعي للحكم انما يتنجز بشرط العلم به ولكن لا بمعنى تعلق العلم به وعلى واقعه فان هذا غير معقول لما تقدم من ان العلم لا يتعلق بالواقع الخارجي بل بمعنى تعلق العلم بالصورة المنطبقة عليه والحاكية عنه.

٣ ـ ان الصورة العلمية المنطبقة على الواقع الخارجي كما تكون تفصيلية كذلك قد تكون إجمالية وهذان الحدان التفصيليّ والإجمالي بحسب الحقيقة حدان للصورة الحاكية لا للواقع المحكي بها الّذي لا يكون إلا تفصيليا.

وعلى ضوء تمامية هذه الأمور نستنتج ان العلم الإجمالي يكون منجزا لواقع التكليف المعلوم بالإجمال لا للمقدار الجامع ، لأن العلم وإن تعلق بجامع انتزاعي إلا ان الاشتغال والتنجز بواقع الحكم المعلوم على واقعيته بعد العلم بصورته المنطبقة عليه ، وهذا لا يحرز الفراغ عنه إلا بالاحتياط.

ولنا على هذا البيان ملاحظتان :

أولاهما ـ وهي ترتبط بالأمر الأول ـ ان التنجز من شئون الوجود العلمي للحكم لا الخارجي إذ المراد به حكم العقل باستحقاق العقاب على المخالفة وتمام موضوع ذلك هو الوجود العلمي للحكم ولو لم يكن حكم في واقع نفس المولى ، ولهذا قلنا بقبح التجري واستحقاق فاعله للعقاب على حد العاصي وبنفس الملاك ، وعليه فإذا لم يكن العلم ساريا إلى الواقع فكذلك التنجز لا يسري إليه بل يضع قدمه حيث يضع

١٦٦

العلم قدمه. فلا يثبت التنجيز بأكثر من الجامع.

ثانيتهما ـ ان المفروض اشتراط تنجز الحكم بوجوده الواقعي بشرط العلم به لكي يكون مبينا ومن الواضح ان الحد الشخصي للحكم الواقعي غير مبين في موارد العلم الإجمالي فلا معنى لأن يكون منجزا لأكثر من الجامع.

البيان الثاني ـ ان العلم وإن تعلق بالجامع الا انه قد تعلق بجامع قد فرغ عن انطباقه وتخصصه بخصوصية لا بجامع بحده الجامعي كما في موارد الوجوب التخييري.

وفيه : انه إن أريد ان الجامع في مرحلة تعلق العلم به مفروغ عن تخصصه فهذا ليس بصحيح إذ في هذه المرحلة لا يعلم بالخصوصية ، وإن أريد العلم بجامع الخصوصية فهذا أيضا جامع لا يوجب الاشتغال به إلا التنجز بمقداره المنطبق قهرا على كل من الطرفين. والحاصل هذا خلط بين الخصوصية بالحمل الأولي والخصوصية بالحمل الشائع فما هو معلوم جامع الخصوصية أي الخصوصية بالحمل الأولي لا الخصوصية بالحمل الشائع وما يراد تنجيزه في وجوب الموافقة واقع الخصوصية وبالحمل الشائع.

هذا تمام الكلام في إثبات أصل منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة.

واما كونه بنحو الاقتضاء بحيث يمكن ورود ترخيص شرعي في بعض أطرافه أو بنحو العلية فيستحيل الترخيص في شيء من أطرافه فهذا انما ينفتح مجال له بناء على القول بالعلية بلحاظ حرمة المخالفة واما نحن الذين أنكرنا العلية هناك فما ظنك في المقام ، فان حكم العقل بلزوم الإطاعة لو كان معلقا على ما عرفت لم يفرق في ذلك بين حرمة المخالفة أو وجوب الموافقة ، كما انه بناء على المسلك الثاني في هذا البحث القائل بعدم اقتضاء العلم الإجمالي للمنجزية مباشرة بل بتوسط تساقط الأصول أيضا لا مجال لهذا البحث لأن التأثير في التنجيز انما هو للاحتمال من دون مؤمن لا العلم ومع جريان الأصل المؤمن بلا معارض في طرف يرتفع هذا التنجز فهذا النحو من التنجز المتفرع على تعارض الأصول وتساقطها في الأطراف يستحيل أن يكون مانعا عن جريان الأصل في بعض الأطراف كما هو واضح. فالبحث عن العلية والاقتضاء انما يتجه بناء على المسلك الأول المشهور والمسلك الثالث المختار القائل بالتأثير في الجملة بعد

١٦٧

الفراغ عن علية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة.

وقد اختار المحقق العراقي ( قده ) القول بالعلية كما ان المعروف نسبة القول بالاقتضاء إلى المحقق النائيني ( قده ) ولكنك قد عرفت ان ما يستفاد من أجود التقريرات هو المسلك الثاني الّذي ينكر أصل الاقتضاء ، واما التقرير الاخر لبحوثه المطابق مع المشهور فبعض عبائره ظاهرة في دعوى الاقتضاء وبعضها ظاهرة في دعوى العلية وكأن عدم وضوح هذه الأفكار في كلمات المحققين عموما أوجب مثل هذا التشويش في العبائر حتى ان كلا من الطرفين قد نسب مرامه إلى اختيار الشيخ ( قده ) في الرسائل مستفيدا ذلك من بعض عبائره ، هذا مجمل القول والمواقف في المسألة.

وأيا ما كان فهناك اتجاهان أحدهما ـ القول بالعلية ، والاخر ـ القول بالاقتضاء.

وقد حاول أصحاب كل منهما إثبات مدعاهم حلا تارة ، ونقضا أخرى.

اما الموقف الحلي في الاتجاهين. فقد ذكر الميرزا ( قده ) الّذي نفترضه ممثلا لاتجاه الاقتضاء على ما يستفاد من تقريرات فوائد الأصول.

ان العلم الإجمالي انما كان علة لحرمة المخالفة القطعية لكونها عصيانا قبيحا فلا يمكن الترخيص فيها واما الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي فلا يكون ترخيصا في مخالفة قطعية بل احتمالية كما في الشبهات البدوية فيعقل وروده.

وهذا الكلام بظاهره ليس له محصل إذ لا معنى لتعليل كون العلم الإجمالي علة لحرمة المخالفة ومقتضيا لوجوب الموافقة بان الترخيص هناك في معصية وهنا ليس فيها إذ المقصود بالمعصية ينبغي أن يكون حكم العقل بكون المخالفة منافية لحق طاعة المولى وحكم العقل بأنها منافية أولا فرع بحث العلية والاقتضاء فلا معنى للبرهنة على العلية وعدمها بذلك.

نعم يمكن حمل هذا الكلام على انه مجرد منبه وجداني إلى إمكان الترخيص في مخالفة أحد الأطراف.

واما الموقف الحلي للمحقق العراقي ( قده ) فهو انا لا نحتاج إلى مزيد برهان إضافة على ما تقدم في إثبات منجزية العلم الإجمالي لوجوب موافقة معلومه لإثبات العلية لأنا

١٦٨

متفقون على ان العلم الإجمالي ينجز ما تعلق به وانما الاختلاف في انه قد تعلق بالجامع حتى يجوز الترخيص في بعض الأطراف أو بالواقع حتى لا يجوز ذلك ولهذا من قال بتعلقه بالجامع أيضا يقبل العلية في منجزيته للجامع فلم يجوز الترخيص في مخالفته بالترخيص في تمام الأطراف.

وهذا الكلام أيضا بظاهره لا يكون برهانا لأن القول بمنجزية الواقع أيضا يستبطن منجزية الجامع ضمنه فحينئذٍ يمكن أن يقال بان هذه المنجزية بلحاظ الجامع على نحو العلية وبلحاظ الخصوصية الواقعية اقتضائي.

واما الموقف النقضي للاتجاهين فلكل من العلمين نقض على الآخر فالمحقق النائيني ( قده ) ذكر بأن حال العلم الإجمالي لا يكون بأشد وأفضل من التفصيليّ مع أنه لا إشكال في إمكان إجراء الأصل فيه في موارد الشك في امتثاله كما في القواعد الظاهرية كالفراغ والتجاوز.

وقد حاول المحقق العراقي ( قده ) الدفاع عن مسلكه والإجابة على هذا النقض بأنه خلط بين الأصل في مرحلة امتثال التكليف والأصل في مرحلة ثبوت التكليف ، فان قاعدة الفراغ تعبدنا بان العمل المأتي به امتثال ومواقفة للأمر وبذلك نكون قد أحرزنا الموافقة القطعية للتكليف المعلوم تعبدا وهو كالإحراز الوجداني لها وأين هذا من جريان أصل نافي للتكليف في أحد أطراف العلم الإجمالي ، نعم هذا يتم لو قامت أمارة على أحد الطرفين حيث انها تدل بالالتزام على ان الواقع في الطرف الاخر. وفي فوائد الأصول تقريرا لمطالب المحقق النائيني ( قده ) تعرض لهذا المطلب فذكر تارة ان العلم الإجمالي لا ينجز أكثر من الجامع فيجوز الترخيص في بعض الأطراف وهذا يطابق المسلك الثاني المستفاد من أجود التقريرات ، وذكر مرة أخرى بعد ذلك وكأنه يقرر للمحقق العراقي لا النائيني ( قده ) فيقول وإن شئت قلت : ان العلم الإجمالي باعتباره ينجز التكليف فلا بد من موافقته القطعية اما وجدانا أو تعبدا وجريان الأصل حتى النافي في أحد الطرفين يدل بالالتزام على جعل الطرف الاخر بدلا عن الواقع

المعلوم بالإجمال. وهذا الكلام انما هو جري على مسلك العلية في تنجيز العلم الإجمالي كما هو واضح.

١٦٩

والتحقيق : اننا إذا مشينا حسب الإطار الفكرية المتبناة من قبل العلمين وحسب تصوراتهم في المقام فالصحيح ما وقفه المحقق العراقي ( قده ) من النقض المذكور فان ما أجاب به عليه يفي في مقابل مثل الميرزا ( قده ) الّذي يفرق بين الألسنة كما أفاد ذلك في قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيما سبق ، حيث جعل لسان جعل لطريقية والعلية حاكما عليها ورافعا لموضوعها دون غيره من السنة الحكم الظاهري. واما ما أفيد من قبل الميرزا ( قده ) من ان جريان الأصل في أحد طرفي العلم يدل بالالتزام على جعل الطرف الاخر بدلا عن الواقع تعبدا فقد أشكل عليه المحقق العراقي ( قده ) بأنه إن أراد استفادة جعل البدل من نفس الأصل كما في الأمارة فهو من الأصل المثبت ، وإن أراد استفادته من دليل الأصل الّذي هو دليل اجتهادي لا عملي من باب استحالة جعل الأصل في طرف من دون جعل بدل الواقع في الطرف الاخر فمثل هذه الدلالة ممنوعة لأن الشرط لمعقولية جعل الأصل هو وصول جعل البدل لكي تكون الموافقة التعبدية حاصلة ولا يكفي جعله الواقعي من دون وصوله ، ومن الواضح انا لا نعلم بجعل الطرف الاخر بدلا بالوجدان اذن فشرط صحة جعل الأصل النافي مما يقطع بعدمه فيقطع بعدم صحة جعل الأصل النافي لا محالة. ولا يقال : ان الوصول يتحقق بنفس دليل الأصل.

لأن المفروض تقوم الدلالة الالتزامية في المرتبة السابقة بالوصول فلا مدلول التزامي من دون وصول لا ان المدلول ثابت ولا وصول له لكي يقال بأنه يصل بنفس دليل الأصل كما في موارد الأمارة ومدلولها الالتزامي.

هذا ولكن حينما لا تربط المسألة بالصياغة وعالم الألفاظ والاعتبارات فالصحيح ما عليه المحقق النائيني ( قده ) حينئذٍ في موقفه النقضي ما عليه المحقق العراقي ( قده ) وذلك لأننا أوضحنا فيما سبق بان كل القواعد والأحكام الظاهرية مهما كان لسانها بحسب عالم الإثبات ترجع إلى إيقاع التزاحم الحفظي بين الملاكات الواقعية الترخيصية والإلزامية سواء كانت القاعدة الظاهرية في مرحلة ثبوت الحكم أو مرحلة امتثاله وما عدا ذلك فصياغات واعتبارات وألفاظ والحكم العقلي بالتنجيز والتعذير الراجع إلى تشخيص حدود حق الطاعة للمولى يكون تابعا لهذه الحقيقة والمدلول الواقعي لا للصياغة ، وقد تقدم ان هذا الحكم العقلي معلق دائما على عدم إعمال المولى

١٧٠

نظره ومولويته في مقام حفظ ملاكاته المتزاحمة ، ولهذا لا يشك فقيه انه لو كانت قاعدة الفراغ بلسان اخر كلسان عدم لزوم الاحتياط إذا شك في صحة عمل فرغ عنه أيضا كانت حجة ومعمولا بها ، فهذه النقطة أيضا من الموارد التي دار فيها الأصوليون في عالم الصياغة والمصطلحات.

واما الموقف النقضي للمحقق العراقي ( قده ) فقد تمثل في نقضين. أحدهما ـ ما ذكره بنفسه في مقالاته الأصولية وحاصله : ان العلم الإجمالي لو لم يكن علة تامة لوجوب الموافقة القطعية بحيث لا يمنع عن جريان الأصل المرخص في المخالفة الاحتمالية بل الأصل المرخص شرعا مانع عنه وهذا المانع موجود دائما وذلك بالرجوع إلى أدلة الأصول المؤمنة القطعية ، لا في أحدهما المعين ليكون ترجيحا بلا مرجح ، ولا في الفرد المردد ليقال بأنه مستحيل ، بل في كل من الطرفين ولكن مشروطا بترك الاخر ، وهذا يرجع بحسب الحقيقة إلى تقييد الإطلاق الأحوالي لدليل الأصل بلحاظ كل من الفردين مع التحفظ على عمومه الأفرادي لكل منهما ، فان محذور الترخيص في المخالفة القطعية يرتفع بهذا المقدار فلا موجب لرفع اليد عن عمومه الأفرادي ، فينتج براءتين شرعيتين في الطرفين مشروطتين كل منهما بترك الاخر وهو من الجمع بين الترخيص لا الترخيص في الجمع بين الطرفين ، بل يستحيل أن يؤدي إلى الترخص في الجمع كما في باب الترتب بين الأمرين الّذي يكون من الجمع بين الطلبين لا طلب الجمع بين الضدين.

وقد شاع هذا النقض واستحكم حتى ان صاحب تقرير فوائد الأصول أفاد في المقام كلاما طويلا في مقام التخلص عنه لا يرجع إلى محصل. والواقع ان هذا النقض شبهة قوية في ضوء الإطار الذهني العام للفكر الأصولي. وباعتباره مرتبطا بحسب الحقيقة بجريان الأصل وإطلاق دليله بنحو ينتج التخيير في جريانه بحسب النتيجة فنؤجل البحث عنه إلى مباحث الأصول العملية.

والنقض الاخر ما جاء في تقريرات المحقق العراقي ( قده ) من النقض بموارد العلم التفصيليّ والشك في الامتثال إذ لو كانت المخالفة الاحتمالية للتكليف المعلوم مما يمكن للشارع الترخيص في خلافه فلما ذا لا يتمسك بدليل أصل البراءة في موارد الشك في

١٧١

الامتثال التي يشك فيها في التكليف بقاء إذ أي فرق بين أن يكون الشك في التكليف في مرحلة حدوثه أو بقائه ، مع انه لا إشكال عند أحد في عدم إجرائه فيه.

ولا يكفي لدفع هذا النقض دعوى محكومية البراءة في موارد الشك في الامتثال دائما لاستصحاب عدم الإتيان أو استصحاب بقاء الحكم ، لوضوح ان المنع عن البراءة فيها لعدم المقتضي لا لوجود الحاكم ولهذا لا خلاف في عدم جريانها حتى عند من يخالف في حجية الاستصحاب.

والجواب على هذا النقض اما بناء على ما هو الصحيح من ان التكليف لا تسقط فعليته بالعصيان والامتثال وانما تسقط فاعليته فالامر واضح فانه لا شك في فعلية التكليف وثبوته لكي يكون مجرى لأدلة الرفع والإباحة (١). واما بناء على المسلك المشهور من سقوط فعلية التكليف بالامتثال والعصيان فلدعوى انصراف أدلة البراءة ورفع ما لا يعلمون إلى موارد الشك في أصل ثبوت الحكم لا الشك في امتثاله وإن شئت قلت : ان ثبوت الحكم في الآن الأول معلوم وهو يستدعي الفراغ اليقيني عنه ولو فرض انه بلحاظ الآن الثاني يكون بقاء الحكم مشكوكا فتطبيق قاعدة البراءة الشرعية على الحصة البقائية للحكم لا يكون مؤمنا من ناحية اشتغال الذّمّة بلحاظ الحصة الحدوثية منه المعلومة.

وهكذا يتضح ان الصحيح ما عليه الميرزا ( قده ) من عدم علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية وتظهر الثمرة بين المسلكين فيما إذا كان أحد أطراف العلم الإجمالي مجرى للأصل المؤمن ولم يكن في الطرف الاخر دليل أو أصل شرعي منجز للتكليف ، فانه بناء على العلية لا يجري الأصل المؤمن في الطرف الواحد وبناء على الاقتضاء يجري الأصل فيه من دون محذور.

__________________

(١) هذه الحيثية ليست مؤثرة في المقام إذ لا إشكال في إمكان جعل الحكم الظاهري في هذه الموارد سواء كان من الشك في الفعلية أو الفاعلية وانما المهم ملاحظة لسان أدلة الأصول المؤمنة ولعل المراد انه على هذا التقدير عدم الإطلاق في أدلة البراءة أوضح وأجلى.

١٧٢

الامتثال الإجمالي

الجهة الثامنة : في الامتثال الإجمالي ، لا إشكال في صحة الامتثال الإجمالي واجزائه إذا كان الواجب توصلياً كما انه لا ينبغي الإشكال في اجزائه في التعبدي مع تعذر الامتثال التفصيليّ ، وانما الكلام في اجزائه فيه مع إمكان الامتثال التفصيليّ ، والوجوه التي ذكرت للمنع عنه تنطلق من أحد مآخذ ثلاثة :

١ ـ أن يدعى توقف تحقيق شرط مفروغ عنه في العبادات على الامتثال التفصيليّ بحيث من دونه مع إمكانه لا يتحقق ذلك الشرط فيبطل العمل من جهته.

٢ ـ أن يدعى تقيد الواجبات التعبدية بعنوان التفصيلية في الامتثال والتمييز فيه مع التمكن ، وهذا بحث فقهي بحسب الحقيقة عن اعتبار قيد جديد في العبادات زائدا على شرائطها العامة.

٣ ـ أن يدعى اللزوم العقلي للامتثال التفصيليّ مع إمكانه اما لكونه من مقتضيات نفس التكليف الواقعي وإطاعته أو بنكتة أخرى سوف تأتي الإشارة إليها.

وعلى ضوء هذه المنطلقات نعالج الوجوه المذكورة في المقام للمنع عن صحة الامتثال الإجمالي فنقول :

الوجه الأول ـ ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) من ان العبادة يجب فيها الإتيان بها

١٧٣

بعنوان حسن عقلا مقربا للمولى ، لأن هذا هو معنى العبودية والعبادية وهو امر مفروغ عنه في باب العبادات فلا بد وأن يتعنون العمل العبادي بعنوان يحكم العقل بحسنه ومقربيته وفي المقام لا يحكم العقل بحسن الامتثال الإجمالي مع التمكن من التفصيليّ ، وهذا الوجه ظاهر في الانطلاق من الأخذ الأول ولم يرد في تقريرات فوائد الأصول مزيد مطلب على صرف هذه الدعوى ، ولكن في أجود التقريرات كأنه حاول إقامة صورة برهان عليه حاصلها : ان الامتثال الإجمالي انبعاث عن احتمال الأمر وهو متأخر عن الامتثال التفصيليّ الّذي هو انبعاث عن شخص الأمر ، ولعله يريد دعوى انه كما ان احتمال الأمر متأخر عن شخصه كذلك الانبعاث عنه متأخر عن الانبعاث عن شخص الأمر.

وفيه : اننا لا نرى بالوجدان طولية بين الامتثال الإجمالي والتفصيليّ بلحاظ حكم العقل بالحسن والمقربية لأن هذا الحكم ليس جزافا بل بملاك الطاعة والانقياد للمولى وتعظيمه وهذا حاصل في الامتثال الإجمالي حتى من المتمكن من التفصيليّ ، بل إن لم يكن الانقياد فيه أشد فليس بأقل عن الانقياد في موارد الامتثال التفصيليّ جزما.

واما البرهان المذكور فيرد عليه : أولا ـ ان كلا الانبعاثين ليسا عن شخص الأمر بل عن احتمال الأمر أو القطع به لوضوح ان الأمر بوجوده الواقعي لا يكون محركا بل يحرك بوجوده الواصل ، فالانبعاثان من هذه الناحية في مرتبة واحدة.

وثانيا ـ لو سلمنا الطولية التكوينية بينهما في الوجود فأي ربط لذلك بمحل كلامنا؟ إذ الكلام في الطولية في نظر العقل وحكمه بان الامتثال الإجمالي حسن مع إمكان الامتثال التفصيليّ أم لا ، وملاك هذا الحكم هو انتساب العمل إلى المولى سواء كان بتوسيط احتمال الأمر أو بشخص الأمر ابتداء ، فهذا خلط بين التقدم والتأخر التشريعي في نظر العقل والتقدم والتأخر التكويني في عالم الخارج.

ثم أفاد المحقق النائيني ( قده ) في ذيل كلامه انه إن أبيت عن ذلك فلا أقل من الشك وهو مجرى الاحتياط لأنه من موارد الدوران بين التعيين والتخيير وهو مجرى الاحتياط لا البراءة.

ويرد عليه : أولا ـ انه لا يناسب الجزء الأول من كلامه ، لأنه كما أشرنا ظاهر في

١٧٤

الانطلاق من المأخذ الأول وهو توقف امر مفروغ عن اعتباره وهو المقربية وحسن العمل في العبادة على الامتثال التفصيليّ ، وبناء عليه يكون الشك فيه شكا في المحصل لا شكا في التكليف الدائر بين التعيين والتخيير (١).

وثانيا ـ لو فرض رجوعه إلى الشك في جعل زائد فهو من الشك في الشرطية الزائدة وهو مجرى البراءة لا الدوران بين التعيين والتخيير لأن الشك في الحكم الشرعي يرجع إلى الشك في اعتبار التفصيلية وعدمها.

وثالثا ـ ان الصحيح في موارد الدوران بين التخيير والتعيين أيضا البراءة لا الاحتياط.

إلا انه جاء في أجود التقريرات في مقام تقرير الأصل العملي عند الشك في اعتبار التفصيلية في الطاعة عقلا ان الشك فيه شك في الواجب العقلي لا الشرعي فلا تشمله أدلة البراءة الناظرة إلى نفي ما يحتمل اعتباره في التكليف شرعا ، نعم لو ورد دليل خاص ناظر إلى ذلك كان رافعا لموضوع الحكم العقلي إلا انه بالأدلة العامة النافية والمؤمنة لا يمكن التأمين عن مثل هذا الاحتمال ولهذا وجب الاحتياط.

وهذا البيان كأنه اقرب إلى مسألة الشك في المحصل ولكنه لا يخلو من غموض ، إذ لو أُريد به ان عنوان الطاعة يحتمل أن لا تتحقق بدون التفصيلية فهذا يكون شكا في المحصل فلا بد من التعليل به لا بقصور دليل البراءة وكونه ناظرا إلى ما يحتمل اعتباره شرعا ، وإن أريد ان التفصيلية في الامتثال معتبر عقلا كقيد زائد على أصل الطاعة المعتبرة شرعا فهي واجب عقلي زائدا على الواجبات الشرعية فمن الواضح انه لا موجب لاعتباره في العبادات ، فان المقدار المفروغ لزومه فيها انما هو أصل الطاعة والتقريب لا أكثر. ولعل المقصود ان هذا القيد مما لا يمكن اعتباره شرعا وانما يجب الإتيان به عقلا ككل القيود الثانوية لكونه مجرى لأصالة الاشتغال وهذا مسلك سوف يأتي التعرض له.

__________________

(١) لا يقال : المعتبر واقع ما يحكم العقل ويدرك حسنه لا عنوان الحسن فالحكم الشرعي دائر بين التعيين والتخيير لا محالة.

فانه يقال : ان حيثية الحسن العقلي والمقربية تقييدية لا تعليلية أي يعلم تقيد الواجب التعبدي به بعنوانه فلا يمكن نفيه بالبراءة.

١٧٥

ثم ان ما أفاده الميرزا ( قده ) من ان الانبعاث عن احتمال الأمر متأخر عن الامتثال عن شخص الأمر أو الأمر المعلوم قد يقال بأنه انما يفيد لإبطال عرضية الامتثال الاحتمالي مع التفصيليّ لا الامتثال الإجمالي لأن الانبعاث فيه أيضا عن الأمر المعلوم. اللهم إلا أن يدعى دعوى إضافية هي تقدم الانبعاث التفصيليّ على الإجمالي أيضا وإن كان الانبعاث منهما معا عن الأمر المعلوم.

إلا ان الصحيح ان الأمر في المقام وان كان معلوما إلا ان هذا الأمر المعلوم لا يكفي للتحريك والبعث نحو كل من الطرفين إلا بعد ضم احتمال انطباق المعلوم بالإجمال فيه فيكون التحرك من مجموع الأمرين العلم بأصل الأمر واحتمال انطباقه على هذا الطرف ، أي التحرك عن احتمال انطباق الأمر المعلوم وهو متأخر عن التحرك عن نفس الأمر المعلوم لأن احتمال الأمر المعلوم في طول الأمر المعلوم نفسه.

الوجه الثاني ـ ان التفصيلية واجب شرعي بعنوانه اما ملاكا فقط أو خطابا أيضا.

وهذا تارة يستدل عليه بالإجماع على بطلان تارك طريقي الاجتهاد والتقليد فانه يناسب مع دعوى شرط شرعي ولو ملاكا لا عقلي لعدم حجية الإجماع في الأحكام العقلية. وجوابه : حينئذٍ انه لا يمكن تحصيل إجماع في مثل هذه المسألة غير المعنونة إلا في كلمات المتأخرين ، خصوصا وان جملة منهم من المحتمل قويا في كلامهم أو المقطوع به انهم لا يريدون دعوى الاشتراط الشرعي بل العقلي كما تقدم عن المحقق النائيني ( قده ) وأخرى يستدل عليه : بان احتمال الاعتبار كاف في إثبات اللزوم لأن التفصيلية في الامتثال مما لا يمكن أخذه قيدا في متعلق الأمر لأن مرجعه إلى تخصيص الانبعاث بحصة خاصة منه وحيث لا يمكن أخذ أصل قصد الامتثال في متعلق الأمر فكذلك لا يمكن أخذ حصة منه ، فإذا ضممنا إلى ذلك كبرى لزوم الاحتياط في القيود الثانوية المحتملة الاعتبار والدخل في غرض المولى لأنه لا يمكن نفيها لا بالإطلاق اللفظي فانه فرع إمكان التقييد فمع استحالته لا يكشف عدمه عن إطلاق ملاكه ، ولا بالأصل العلمي لأن أدلته ناظرة إلى ما يكون معتبرا شرعا في الواجب لا عقلا ثبت بذلك وجوب الامتثال التفصيليّ في المقام. وهذا الوجه أيضا غير تام لا بلحاظ الأصل اللفظي ولا العملي.

اما بلحاظ الأصل اللفظي فلأنه أولا ـ يمكن التمسك بالإطلاق اللفظي لنفي قيدية

١٧٦

التفصيلية في الامتثال اما بناء على إمكان التمسك بالإطلاق اللفظي لنفي القيود الثانوية فواضح. واما بناء على استحالة ذلك فلان القيد المحتمل في المقام ليس أصل قصد القربة والامتثال وانما تفصيليته الراجعة إلى معلومية الواجب واما أصل قصد الامتثال فمشترك بين الامتثالين ومعلوم الاعتبار على كل حال. والمعلومية أو التفصيلية مما يمكن أخذه في متعلق التكليف على ما تقدم منا في مستهل هذه البحوث.

وثانيا ـ بالإمكان التمسك بالإطلاق المقامي لنفي دخالة القيود الثانوية المحتملة كما أفاد صاحب الكفاية ( قده ) وتقدم مفصلا في محله.

واما بلحاظ الأصل العملي فلعدة وجوه.

فانه أولا ـ قد عرفت منع الصغرى وان هذا القيد مما يمكن اعتباره شرعا كالقيود الأخرى المحتملة فيمكن إجراء البراءة الشرعية لنفي اعتبارها ظاهرا.

وثانيا ـ لو فرض كونه قيدا ثانويا مع ذلك صح إجراء البراءة عنه ، وما ادعى في الوجه المذكور من ان هذا الاعتبار عقلي لا شرعي مغالطة واضحة فان الاعتبار على كل حال شرعي اما خطابا أو ملاكا وحكم العقل في مورد الشك انما هو بملاك أصالة الاشتغال في تحصيل غرض الشارع دائما ودليل البراءة يؤمن عن كل ما يحتمل اعتباره شرعا كما هو واضح.

وثالثا ـ لو فرض انصراف أدلة البراءة الشرعية عما يحتمل اعتباره من القيود ملاكا لا خطابا فيكفينا البراءة العقلية وقاعدة قبح العقاب بلا بيان بناء على القول بها ، فانها جارية في المقام ، إذ يمكن للمولى أن يبين ذلك ولو بجملة خبرية فإذا لم يبين قبح العقاب عليه ودعوى : أن الشك من ناحية التكليف شك في السقوط فيجب الاحتياط بلحاظه. مدفوعة : بما تقدم في بحث التعبدي والتوصلي من ان اشتغال الذّمّة يكون بالمقدار المعلوم من التكليف وملاكاته لا أكثر فراجع.

الوجه الثالث ـ إثبات لزوم التفصيلية في الامتثال من باب ان العقل يحكم بقبح الامتثال الإجمالي وتكرار العمل مع التمكن من التفصيليّ لكونه لعبا بأمر المولى وهو قبيح بل حرام شرعا أيضا وهما ينافيان التقرب والاجزاء.

وفيه : أولا ـ النقض بالواجبات التوصلية فانه إذا كان الامتثال الإجمالي ـ لهوا

١٧٧

ولعبا وكان محرما فسوف لا يقع مصداقا للواجب ولا يكون مجزيا عن امره ولو كان توصليا ، لأن الواجب يتقيد بغير الحرام لا محالة واجزاء غير المأمور به عن المأمور به بحاجة إلى دليل خاص فلا بد وأن يلتزم ببطلان الامتثال الإجمالي حتى في التوصليات وهو ما لا يلتزم به أحد مما يكشف عن وجود خلل في هذا الوجه إجمالا.

ثانيا ـ ما أفاده صاحب الكفاية ( قده ) من ان التكرار قد يكون لداع عقلائي كما إذا كان تحصيل العلم التفصيليّ أصعب وأشق فلا يكون لعبا أو لغوا.

وقد نوقش فيه : بأنه لا بد في صحة العبادة من عنوان حسن ولا يكفي مجرد عدم اللعب.

وفيه : ان العمل معنون بعنوان التقرب على كل حال لو لا حيثية اللغو أو اللعب ، فلو حصل داع عقلائي يخرج العمل عن عنوان اللغو أو اللعب كان حسنا عباديا.

وثالثا ـ ان اللعب إذا لم يكن بأمر المولى بل لعب في نفسه أو في تحصيل اليقين على حد تعبيرات بعض المحققين فلا قبح فيه عقلا ولا حرمة له شرعا ، فلا يكون مانعا عن صحة العبادة ولو انطبق عليه.

ورابعا ـ ما أفاده صاحب الكفاية ( قده ) أيضا من ان هذا اللغو أو اللعب لو سلم فهو في تطبيق المأمور به خارجا لا في امر المولى ابتداء فلا يضر بقصد التقرب والامتثال في الإتيان بأصل المأمور به خارجا في ضمن أحد الامتثالين.

إلا ان هذا الجواب مبني على أن لا يكون اللعب واللغو متحدا مع المأمور به ومنطبقا عليه بل مجرد اقتران وإلا فيؤدي إلى بطلانه لا محالة على تقدير قبحه أو حرمته.

وهكذا يتضح صحة الامتثال الإجمالي حتى مع التمكن من التفصيليّ.

١٧٨

تنبيهات

التنبيه الأول ـ انه لو بني على تقدم الامتثال التفصيليّ على الإجمال فهل هذه الطولية تختص بخصوص الامتثال التفصيليّ الوجداني أو يشمل ما إذا كان الامتثال التفصيليّ تعبديا ، كما لو أمكن تحصيل الحجة على تعيين العبادة؟.

الظاهر ان الجواب يختلف حسب اختلاف المسالك المتقدمة في تقريب هذه الطولية. فانه بناء على مسلك المحقق النائيني ( قده ) القائل بالطولية على أساس ان الانبعاث عن احتمال الأمر متأخر عن الانبعاث عن شخص الأمر أو الأمر المعلوم تختص الطولية بالامتثال التفصيليّ الوجداني ولا تشمل التعبدي ، لأن الانبعاث فيه عن احتمال الأمر أيضا لا عن شخصه ولا عن العلم به ، والحجية لا تقتضي أكثر من تنجيز الاحتمال والتأمين عن الاحتمال الآخر لا جعل ما ليس بعلم علما حقيقة ليكون الأمر العبادي معلوما حقيقة ويكون الانبعاث عن شخص الأمر حتى لو قيل بمسلك جعل الطريقية في باب الحجج. اللهم إلا أن تضاف دعوى ان الوجدان قاض بتقدم الامتثال التفصيليّ التعبدي على الإجمالي أيضا.

واما بناء على الوجه الثاني وهو التمسك بالإجماع فهو لا يبعد تعميمه للمقام لأنه قد نقل بصيغة بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد مع وضوح انه بالتقليد يكون

١٧٩

الامتثال تفصيليا تعبديا لا وجدانيا بل وكذلك بالاجتهاد في أكثر الموارد. كما انه إذا تنزلنا عن الإجماع وفرضنا منشأ للاحتياط بنحو لا يمكن نفيه بأصل لفظي أو عملي فائضا يكون ذلك جاريا في المقام.

واما الوجه الثالث وهو مسألة ان التكرار يكون لغوا أو لعبا بأمر المولى وهو ينافي الامتثال فهو غير جار في المقام ، لوضوح ان الامتثال الإجمالي في قبال التفصيليّ التعبدي يكون بداع عقلائي لأنه اما أن يكون بدلا عن الامتثال التفصيليّ التعبدي فقط فداعيه حفظ غرض المولى احتياطا وإحراز اصابته وأي لغوية أو لهوية فيه؟ واما أن يكون بدلا عن الجمع بين الامتثال التعبدي والإجمالي فداعيه العقلائي هو الاختصار ودفع المئونة الزائدة.

التنبيه الثاني ـ ان المستشكل في الامتثال الإجمالي قد استثنى من ذلك عدة موارد.

أولها ـ ما إذا كان الامتثال التفصيليّ غير ممكن ، وملاك هذا الاستثناء واضح فان الوجوه السابقة لا يرد شيء منها فيه ، اما الإجماع فواضح لأن مورده التمكن من الاجتهاد أو التقليد بل الإجماع على الخلاف في المقام. واما اللهو واللعب فلان داعي التكرار هو الاحتياط وإحراز الامتثال وأي داع أوضح منه. واما الطولية فلأن موردها ما إذا كان الانبعاث عن شخص الأمر ممكنا لا ممتنعا.

ثانيها : ـ ما إذا كان الحكم غير منجز على المكلف بحيث كان يمكنه تركه رأسا.

وهذا له مصداقان :

أحدهما ـ باب المستحبات.

ثانيهما ـ أن يكون الواجب العبادي محتملا باحتمال مؤمن عنه غير منجز وهو مردد عنده بين عملين بنحو يمكنه رفع التردد المذكور ، وهذا الاستثناء وإن كان واضحا على بعض المباني ولكنه غير واضح على بعضها الاخر ، كالمسلك الأول والثالث. اما على الثالث فلأنه لو كان التكرار لعبا بأمر المولى فأي فرق بين المستحب والواجب والمنجز وغير المنجز؟ وإذا كان الانبعاث التفصيليّ متقدما على الإجمالي بحيث لا يكون حسنا ولا طاعة مع التمكن من التفصيليّ فأي فرق بين المستحب والواجب؟ نعم في المصداق الثاني يكون الانبعاث احتماليا على كل حال بلحاظ أصل التكليف وإن أمكن

١٨٠