بحوث في علم الأصول - ج ٤

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

بالدليل العقلي كان بالإمكان أيضا الجواب على الاستدلال به بإيقاع المعارضة بين هذا الإطلاق وبين ما دلت عليه الروايات والنصوص من لزوم اتباع العلم وجواز القضاء أو العمل به وبراءة ذمة العامل به من دون تقييد بالعلم الحاصل من دليل شرعي ، والنسبة بينهما عموم من وجه كما هو واضح ، وبعد التعارض والتساقط لا يبقى دليل على النهي المذكور. وكذلك بالإمكان إيقاع المعارضة بين إطلاق هذه الروايات لو تم وإطلاق الروايات التي تحث على الرجوع إلى العقل فانها لو تمت سندا ودلالة وقعت طرفا للمعارضة بنحو العموم من وجه لأنها تشمل العقل الفطري الخالي عن شوائب الأوهام والعقل النظريّ.

ودعوى : أخصية روايات النهي عن العمل بالرأي لاختصاصها بخصوص النظريّ لا الفطري لعدم صدق الرّأي عليه.

مدفوعة : بان روايات النهي تكون أعم من جهة صدقها في الظنيات دون روايات الحث على الرجوع إلى العقل إذ لا يستفاد منها تشريع حجية لا يدركها العقل بل هي تدل وترشد إلى ما يرشد إليه العقل أيضا من لزوم الرجوع إلى العقل لتحصيل اليقين والقطع وعدم الاعتماد على الظنون والتخمينات فالنسبة عموم من وجه وبعد التعارض والتساقط في مادة الاجتماع لا يبقى ما يدل على مقصود الاخباري.

إلا ان هناك إشكالا في صحة هذه الطائفة الأخيرة التي تعرض لها الشيخ ( قده ) فانها بين ما لا يتم سندا وما لا يتم دلالة كما يظهر ذلك من خلال مراجعتها. وانما المهم في إيقاع المعارضة الطائفة الأولى.

ثم ان الشيخ الأعظم ( قده ) قد تعرض في ذيل هذا البحث إلى فروع قد يتوهم فيها وقوع الردع والنهي فقهيا عن العمل بالعلم مما قد يوهم إمكان ردع الشارع عن العمل بالقطع وامره بطرح علم تفصيلي حاصل للمكلف ، ونحن نقتصر على فروع خمسة ذكرها السيد الأستاذ أيضا ولكن لا بملاك تكميل النقاش مع المحدثين بل لاشتمالها في نفسها على نكات وحيثيات من البحث صناعية فنقول :

الفرع الأول ـ ما إذا علم إجمالا بجنابته أو جنابة شخص آخر ، وهذا علم إجمالي غير منجز لأن جنابة الاخر تكليف لشخص آخر لا له فلا يكون علما بالتكليف عليه على

١٤١

كل حال ، فتجري الأصول المؤمنة في حق كليهما مع ان إطلاق هذه الفتوى يؤدي إلى المخالفة لعلم تفصيلي وذلك فيما إذا اقتدى أحدهما بالاخر من دون غسل حيث يعلم المأموم حينئذ ببطلان صلاته تفصيلا.

وهذا الفرع يمكن حله بأحد وجوه مترتبة :

١ ـ يمكن أن يدعى بان صحة الائتمام موضوعها صحة صلاة الإمام ولو ظاهرا أو اعتقادا وهذا ثابت في المقام فلا علم تفصيلي ببطلان صلاة المأموم.

إلا ان هذا الجواب غير صحيح مبنى فانه لا موجب لتقييد إطلاقات الأدلة الأولية التي تقتضي إناطة صحة صلاة المأموم بصحة صلاة الإمام واقعا.

٢ ـ ان الأصول المؤمنة لا تجري في المقام في نفسها لكي يتوهم أداء إطلاق جريانها إلى مخالفة علم تفصيلي. وذلك لأن العلم الإجمالي بجنابة أحد الشخصين علم إجمالي منجز فيما لو فرض ان جنابة الاخر كان موضوعا لأثر بالنسبة إلى الأول كما لو كان عادلا يجوز الائتمام به أو كان ممن يمكن إدخاله في المسجد وقلنا بحرمة إدخال الجنب إليه أيضا ، فانه في مثل ذلك يتشكل علم إجمالي بالتكليف على كل حال ، إذ إما يجب عليه الغسل فلا يمكنه الاجتزاء بصلاة من دون غسل أو يحرم عليه الائتمام بالاخر أو إدخاله في المسجد ولو بعد أن يغتسل وهذا علم إجمالي منجز موجب لتساقط الأصول في الأطراف.

ودعوى : انحلاله تارة بان استصحاب عدم الجنابة في كل منهما باعتبارهما أصلين من سنخ واحد يسقطان فتصل النوبة إلى أصالة الصحة في صلاة الإمام مثلا وأصالة الاشتغال من ناحية إحراز الطهور من الحدث الكبر لكونه شكا في المحصل ، وأخرى بان جواز الائتمام مرجعه إلى إمكان تحمل الإمام القراءة عن المأموم أي عدم وجوب القراءة عليه وهذا بخلاف شرطية الطهور من الحدثين فبعد تساقط الاستصحابين يكون الأصل الحكمي الجاري في أحد الطرفين أصالة الاشتغال وفي الاخر أصالة البراءة عن وجوب القراءة لأنه من الشك في الجزئية.

مدفوعة : اما الأول ، فلان أصالة الصحة دليلها لبي لا إطلاق فيه لمثل هذه الحالات. واما الثاني فلان الائتمام بحسب ما يستفاد من أدلته أمر وجودي هو

١٤٢

الاقتداء بمن تكون صلاته صحيحة فيعلم بوجوب الجامع بين القراءة في الصلاة أو الاقتداء بالغير الّذي تكون صلاته صحيحة فيكون من الشك في تحصيل هذا الجامع المعلوم وجوبه.

٣ ـ لو غفلنا عن العلم الإجمالي المذكور وقلنا بجريان الأصول الموضوعية في حق الشخصين معا فلا إشكال في ان الأصل الموضوعي انما يؤمن بلحاظ التكليف الّذي لا علم تفصيلي بثبوته كما في صورة اقتداء أحدهما بالاخر من دون غسل من أحدهما ، لأن كل أصل مصحح انما يصح محتمل البطلان لا معلومه فيلتزم بالتبعيض في الآثار المترتبة على الأصلين بين ما لا يقطع بعدم ترتبه وما يقطع بذلك.

الفرع الثاني ـ ما إذا اختلف شخصان في البيع والهبة بعد اعترافهما على انتقال المال فالمالك الأول يدعي البيع ويطالب الثاني بالثمن والثاني يدعي الهبة وبراءة ذمته من الثمن ، وفي مثل ذلك لا تثبت الهبة ولا البيع ـ مع عدم البينة ـ ويحكم برجوع المال إلى الأول مع انه يعلم تفصيلا انتقاله إلى الثاني فهذا حكم ظاهري مخالف للعلم التفصيليّ.

وقد ذكر الأستاذ هنا بان الهبة المحتملة تارة تفترض جائزة وأخرى تفترض لازمة ، كما إذا كانت من ذي رحم مثلا ، ففي الصورة الأولى يقطع فيها برجوع الملك إلى مالكه الأول إذ لو كان موهوبا فنفس تداعيه من قبل واهبه رجوع عرفا ولو كان بيعا فباعتبار ان المشتري لا يدفع الثمن يكون للبائع حق الفسخ والرجوع وتداعيه له رجوع لا محالة فلا مخالفة احتمالية فضلا عن القطعية.

واما في الصورة الثانية فكلا منهما يدعي شيئا وينكر ما يدعيه الاخر فالمالك الأول يدعي البيع وينكر الهبة والثاني يدعي الهبة وينكر البيع فيصير من موارد التخالف والتحالف من أسباب انفساخ المعاملة واقعا ومعه يرجع المال إلى صاحبه واقعا.

وهذا الّذي أفاده بالنسبة إلى الصورة الأولى تام واما بالنسبة إلى الصورة الثانية ـ أي ما إذا كانت الهبة لازمة ـ فمحل إشكال لأن الميزان في التحالف أن يكون كل منهما مدعيا ومنكرا لما يدعيه الاخر والمراد بالادعاء ليس مجرد ادعاء مطلب مهما كان بل المراد به دعوى إلزام على الاخر وحق عليه ، ومن الواضح انه في المقام المدعي هو

١٤٣

المالك الأول فقط حيث يدعي على الثاني إلزامه بالثمن وبحق استرجاع العين منه إذا لم يوفه الثمن واما الثاني فهو ينكر هذين الإلزامين ودعواه الهبة بالنسبة إلى أصل التملك وإن كان إلزاما للأول إلى انه معترف به من قبلهما بحسب الفرض ومن حيث كونه بالهبة لا بالبيع ليس إلا إنكارا لحق الأول وعليه فليس في المورد إلا مدع واحد ومنكر فليس الحلف إلا على الثاني وبه تثبت نتيجة الهبة.

نعم لو قلنا بان الجواز والخيار مرجعه إلى تقييد للملكية فالملكية اللازمة هي الملكية الطويلة والملكية الجائزة هي الملكية القصيرة المحدودة بما قبل الفسخ أو الرجوع كان الثاني في المقام مدعيا لأنه يدعي طول الملكية وبقائها والبائع يدعي عدم جعلها وانما المجعول الملكية المقيدة بالفسخ فمقتضى الأصل حينئذ عدم جعل الملكية المطلقة فيكون الثاني مدعيا كما ان الأول مدع بلحاظ حق إلزام الثاني بدفع الثمن.

الفرع الثالث ـ لو أقر شخص بعين لزيد ثم أقر بها لعمرو فانها تدفع للأول ويضمن المقر للثاني قيمتها إن كان قيميا أو مثلها إن كان مثليا مع انه يعلم إجمالا بعدم استحقاق أحدهما لذلك فلو انتقلا معا إلى شخص ثالث علم إجمالا بالبطلان في أحدهما ولو اشترى بهما معا شيئا ثالثا علم تفصيلا بعدم استحقاقه له.

وقد ذكر السيد الأستاذ ان ما أفاده الفقهاء في المقام على القاعدة لأن دليل حجية الإقرار يشمل كلا الإقرارين وبما ان العين تكون تالفة على المقر له ثانيا من قبل المقر بسبب إقراره الأول يضمن بدله لا محالة ويلتزم بتمام آثار حجية الإقرارين عدى ما يعلم تفصيلا والأحكام الظاهرية.

والنتيجة التي أفادها الأستاذ صحيحة لا غبار عليها إلا انه لا بد من تمحيص لها إفادة كتكييف وتخريج لها على قاعدة حجية الإقرارين ، فانه ربما يقال بان الإقرار الثاني لا يكون حجة ومشمولا لدليل نفوذ الإقرار إذ العين بالإقرار الأول قد خرجت إلى ملك المقر له أولا فيكون الإقرار الثاني إقرارا في حق مال الغير وهو لا يكون نافذا.

ولكن الصحيح ان تطبيق حجية الإقرار على الإقرار الثاني انما يكون بلحاظ المدلول الالتزامي لكلام المقر لا المطابقي حيث ان لازم إقراره انه قد أتلف العين على عمرو فيكون ضامنا لبدلها وهذا إقرار على نفسه فيكون نافذا لا محالة ولا يشترط في حجية

١٤٤

الإقرار أن يكون مدلولا مطابقيا لكلام المقر وهذا واضح. كما ان عدم ترتب الأثر على المدلول المطابقي لكلام المقر من جهة عدم كونه إقرارا لا يضر بشمول دليل نفوذ الإقرار للمدلول الالتزامي.

الفرع الرابع ـ لو اختلف المتبايعان في تعيين المبيع أو الثمن كما إذا قال البائع بعتك كتاب الحدائق بدينار وقال المشتري بل بعتني كتاب الجواهر ، فيكون من التحالف حيث ان كلا منهما يدعي على الاخر حقا وإلزاما وينكر ما يلزمه به الآخر اما البائع فلأنه وإن كان أصل ملكيته للثمن ـ الدينار مثلا ـ معلوما إلا انه يدعي على المشتري حق الإلزام بدفعه بمجرد إعطائه كتاب الحدائق ، واما المشتري فيدعي على البائع ملكيته لكتاب الجواهر وبالتالي حق إلزامه بدفعه بمجرد تقديم الثمن إليه ، وبعد التحالف يحكم ظاهرا بعدم كليهما مع انه يعلم إجمالا بعدم ملكية البائع لأحد الكتابين ويعلم تفصيلا ملكية المشتري للثمن إذا كان شخصيا.

وقد أفاد الأستاذ في المقام بان هذا مبني على أن يكون التحالف غير موجب للانفساخ واقعا وإلا فلا مخالفة لعلم إجمالي فضلا عن تفصيلي بل يعلم بمالكية كل منهما بما في يده بعد التحالف وبناء على القول بان الانفساخ ظاهري في موارد التحالف لا واقعي يلتزم به حيثما لا يؤدي إلى مخالفة علم منجز.

وفيما يلي لا بأس بالتحدث عن ان الانفساخ المذكور في موارد التحالف هل يكون واقعيا أم ظاهريا بعد الفراغ عن انه لو فرض انه ظاهري فيما أفاده الأستاذ من تقييده بما إذا لم يلزم منه مخالفة علم منجز صحيح لا غبار عليه في مقام دفع النقض. فنقول :

يمكن أن يستدل على اقتضاء التحالف للانفساخ الواقعي بأحد وجوه ثلاثة :

١ ـ دعوى استفادة ذلك من دليل حجية اليمين وفصل الخصومة بها فان هذا يقتضي سد باب الخصومة باليمين فينفسخ العقد لا محالة لكي تنتهي الخصومة بين المترافعين.

وفيه : ان غاية ما يستفاد من دليل اليمين إنهاء الخصومة بها بان لا يجوز الترافع ثانيا ولا المطالبة لا إنهاء منشأ الخصومة كما هو المطلوب ، كما ان إنهاء الخصومة لا تتوقف على الفسخ الواقعي كما هو ظاهر.

١٤٥

٢ ـ دعوى لغوية بقاء العقد عقلائيا بعد فرض نفوذ اليمين في فصل الخصومة وإسقاط حق المطالبة ، بل لقد أفتى الفقهاء بان صاحب الحق الواقعي لو عثر بعد ذلك على ما له أيضا لا يجوز له أخذه بعد نفوذ اليمين عملا بالروايات الدالة على ذلك والظاهرة في انه لا يجوز له ذلك واقعا بعد الخصومة واليمين ، وواضح ان بقاء العقد وعدم انفساخها لغو في مثل هذه الحالة إذ لا أثر ولا ثمرة له.

وفيه : انه يكفي لدفع اللغوية إمكان استرجاع الحق فيما إذا تاب غير المحق وأقر بالحق للآخر حيث يكون إقراره حينئذ حاكما على اليمين.

٣ ـ ان التحالف إتلاف للمال على من انتقل إليه قبل قبضه عرفا لأنه يوجب امتناع فرصة المطالبة به من قبل مالكه حتى بالمرافعة. بل بناء على عدم إمكان أخذه ولو بالسرقة واقعا ولو أمكنه فكأن هذا المال تألف عرفا فيكون من تلف المبيع قبل قبضه وهو من مال بائعه. والحاصل : يتعدى من مورد الرواية إن كانت هي المدرك على هذه القاعدة أو يتوسع في الارتكاز العقلائي من التلف الحقيقي إلى هذا النحو من التلف ، بل بناء على ان مدرك القاعدة هو الارتكاز العقلائي الممضى شرعا يمكن التعدي إلى غير البيع من سائر المعاوضات أيضا لأن روح المعاوضة عقلائيا هو التسليم والتسلم فإذا تعذر ذلك انفسخت لا محالة. نعم الرواية واردة في البيع بالخصوص.

وهذا ولكن الصحيح انه يمكن تخريج الفسخ الواقعي في المقام حتى لو قيل بان التحالف لا يقتضي أكثر من التفاسخ ظاهرا وذلك باعتبار ان أحد المتبايعين في المقام صاحب الحق فيكون له الخيار لأنه متصد إلى تسليم ما بيده بينما الاخر غير متصد له فإذا ادعي ان مقام التحالف خصوصا مع تصرف الطرفين في العوضين بعد التحالف كما هو الغالب دليل على ان المحق منهما يفسخ المعاملة أيضا كانت النتيجة حصول الفسخ واقعا.

الفرع الخامس ـ ما إذا أودع شخصان عند ثالث أحدهما درهما والآخر درهمين ثم ضاع أحدهما من دون تمييز للضائع اما نتيجة خلطها أو لجهل الودعي بالتالف مع انه يعلم بأنه كله لأحدهما.

والتحقيق أن يقال : ان المشهور حكموا في هذا الفرع بإعطاء درهم لصاحب

١٤٦

الدرهمين لأنه حقه على كل حال وتنصيف الاخر بينهما عملا برواية السكوني التي وردت في المسألة بالذات ، وذهب الشهيد الثاني في المسالك ـ ناسبا له إلى الشهيد الأول في الدروس وقيل انه أحد أقوال العلامة ـ ان الدرهمين الباقيين تقسم بينهما أثلاثا فيعطى لصاحب الدرهمين درهم وثلث ولصاحب الدرهم ثلثا درهم بدعوى ضعف رواية السكوني سندا وتطبيق قاعدة الشركة القهرية على المال فتقع الخسارة فيهما بحسب النسبة على القاعدة. وهذا الّذي حكم به الشهيد في المسالك مما لا يمكن المساعدة عليه لأن الشركة فرع الامتزاج لا مجرد الاشتباه الّذي يمكن فيهما انحفاظ ملكية كل من الشخصين مستقلا على حاله والمشهور أيضا قد حكموا بالشركة القهرية في الامتزاج الّذي يكون قد تجزأ ملك كل منهما إلى حيث لا يعقل عرفا افتراض تعلق الملكية به مستقلا.

وأيا ما كان فعلى قول الشهيد لا موضوع للنقض لأن الشركة انقلاب واقعي ، واما على القول المشهور فهو مبني على أن يكون المستفاد من رواية السكوني التنصيف كحكم ظاهري فيتعين حينئذ في مقام الجواب عليه أن يقال بعدم الالتزام بإطلاقه لما إذا خالف علم منجز ، ولكن لا موجب لحمل الرواية على الحكم الظاهري بل قد لا يعقل ذلك مع العلم بعدم مطابقة التنصيف للواقع على كل حال ، وانما المستفاد منها الصلح بينهما بذلك من قبل الشارع قهرا ولو باعتباره وليا لهما فيكون كما لو تصالحا بأنفسهما وبذلك يكون الانقلاب واقعيا أيضا فلا موضوع للنقض.

١٤٧
١٤٨

منجزية العلم الإجمالي

الجهة السابعة ـ يقع البحث عن منجزية العلم الإجمالي في موضعين ضمن مباحث القطع تارة وضمن مباحث الأصول العلمية أخرى ، ورغم التداخل بين البحثين إلا أنه بحسب المنهجية الفنية لكل من الموضعين حصة من الحديث غير الأخرى. فان البحث في الموضع الأول ينبغي أن يكون عن منجزية العلم الإجمالي بلحاظ حرمة المخالفة القطعية تارة وبلحاظ وجوب الموافقة القطعية أخرى وفي كل منهما بعد الفراغ عن المنجزية يبحث عن كون ذلك بنحو الاقتضاء أي معلق على عدم ورود ترخيص شرعي أو بنحو العلية بحيث يستحيل الترخيص بخلافه فان كل ذلك بحث عن شئون العلم وآثاره ، واما في الموضع الثاني فإذا فرض اختيار علية العلم الإجمالي للتنجيز بلحاظ حرمة المخالفة ووجوب الموافقة معا فلا تصل النوبة إلى بحث اخر إلا من باب التنبيهات والتطبيقات وإن فرض اختيار مسلك الاقتضاء في منجزية العلم الإجمالي ولو بلحاظ وجوب الموافقة على الأقل فسوف يبقى مجال للبحث عن جريان الأصول العملية في نفسها في مورده حيث فرض ان تنجيزه كان بنحو الاقتضاء والتعليق على عدم ورود ترخيص شرعي فيه فيكون البحث في الموضع الثاني حول شمول أدلة الأصول والأحكام الظاهرية لموارد الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

١٤٩

وأيا ما كان فالكلام هنا عن منجزية العلم الإجمالي بلحاظ مرحلتي حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية وفي كل منهما يبحث عن ان تأثيره في التنجيز هل هو بنحو العلية أو الاقتضاء.

حرمة المخالفة القطعية للعلم الإجمالي :

اما البحث عن المرحلة الأولى وهو حرمة المخالفة القطعية فينبغي أن يعلم ان البحث عن أصل منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة انما يتجه بناء على مسلك المشهور من افتراض قاعدة قبح العقاب بلا بيان العقلية حيث يبحث عن ان العلم الإجمالي هل يصلح لأن يكون بيانا أم لا. واما بناء على مسلكنا القائل بالاحتياط العقلي على أساس حق الطاعة فسوف يكون احتمال التكليف منجزا بحسب افتراض هذا المسلك فكيف بالعلم به فينحصر البحث على هذا المسلك في ان حصول العلم الإجمالي هل يوجب صيرورة التنجيز العقلي المذكور مطلقا وعلى نحو العلية أو يبقى على تعليقيته واقتضائه.

وعلى أي حال فلا ينبغي الإشكال في أصل منجزية العلم الإجمالي بلحاظ حرمة المخالفة حتى على المسلك المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان لأن البيان تام بالنسبة إلى المخالفة القطعية لمعلومية الجامع أو الواقع المعلوم بالإجمال أو الفرد المردد حسب المسالك المختلفة في تفسير هوية العلم الإجمالي وما يتعلق به.

وانما الّذي ينبغي البحث فيه تشخيص ان هذه المنجزية هل تكون بنحو العلية أو الاقتضاء. والمشهور بين المحققين علية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة وخالف في ذلك المحقق الخراسانيّ مدعيا انه مقتض لذلك وليس علة. والصحيح هو ما ذهب إليه ولكن لا بالنحو الّذي ذهب إليه وبطريقته.

وقد ذكر المشهور وجوها في مقام إثبات العلية وامتناع ورود الترخيص في تمام أطراف العلم الإجمالي ، من قبيل ان ذلك يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية وهي معصية والترخيص في المعصية قبيح عقلا وسوف نتعرض إلى هذه الوجوه ومناقشتها بعد توضيح ان منهج البحث في المسألة ينبغي أن يكون بالرجوع إلى بحث الجمع بين

١٥٠

الأحكام الظاهرية والواقعية وكيفية دفع شبهات التضاد فيما بينهما أو استلزامها لنقض الغرض ونحو ذلك ليرى هل ان المسلك المختار للتوفيق جار هنا أيضا أم لا ، فان البحثين بملاك واحد إذ معنى البحث عن العلية والاقتضاء هو البحث عن إمكان التوفيق بين الحكم الظاهري في تمام أطراف العلم الإجمالي مع الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال وعدمه فلا بد من الرجوع إلى مسالك التوفيق بينهما ليرى هل يجري شيء منها في المقام أم لا فإذا لم يجر كان معناه ان العلم الإجمالي يمنع عن ذلك التوافق وهو معنى عليته لحرمة المخالفة القطعية.

ومسلكنا في دفع شبهة التضاد أو نقض الغرض هو توضيح ان الأحكام الظاهرية ليست لها مبادئ مستقلة وراء مبادئ الأحكام الواقعية الإلزامية أو الترخيصية المقتضية لإطلاق العنان لكي يقع التضاد أو نقض الغرض بلحاظها. بعد وضوح ان لا تضاد بين مرحلتي الجعل والاعتبار والتنجر والامتثال لأن الاعتبار سهل المئونة والتنجز لأحد الحكمين دائما لا لهما معا. بل الأحكام الظاهرية انما تجعل على طبق الأهم من الملاكات الواقعية في مرحلة التزاحم الناشئ من الالتباس والاشتباه بين مواردها حفظا تشريعيا للأهم من الملاكين ، بأي لسان كانت صياغة الحكم الظاهري وقد أوضحنا هناك الفرق بين التزاحم الحفظي والتزاحم الملاكي ( الآخوندي ) أو الامتثالي ( الميرزائي ) فلا نعيد. وعلى هذا الأساس لا تضاد لعدم وجود ملاكات مستقلة عن نفس الملاكات الواقعية ولا نقض غرض لأن ما يفوت منهما انما كان تحفظا على ما هو الأهم وليس هذا بنقض غرض بل طبق الغرض.

وهذا الجمع والتوفيق كما يمكن ان يورد في موارد الشبهات البدوية كذلك يعقل في موارد العلم الإجمالي فيما لو فرض ان الملاك الترخيصي الموجود في البين جزما أو احتمالا أهم من الملاك الإلزامي المعلوم بالإجمال لأن كون ذلك الملاك الإلزامي إجماليا يعني وقوع التزاحم بينه وبين الملاكات الترخيصية نتيجة هذا الإجمال والاشتباه لدى المكلف.

ودعوى : وقوع التضاد بين الحكم الواقعي الإلزامي المعلوم بالإجمال والحكم الظاهري الترخيصي في تمام الأطراف بلحاظ مرحلة التنجز والامتثال حينئذ لأن

١٥١

الإلزام المعلوم بالإجمال منجز بالعلم فيقتضي الامتثال وهو ينافي الترخيص في تمام الأطراف.

مدفوعة : بما سوف يأتي في مناقشة مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من ان الحكم العقلي بالتنجيز في موارد العلم الإجمالي كحكمه به في موارد الشك البدوي بناء على مسلكنا معلق على عدم ورود الترخيص الشرعي وليس حكما منجزا فبورود الترخيص الشرعي يرتفع موضوع التنجيز للإلزام الواقعي المعلوم بالإجمال ومعه لا تضاد.

وبهذا ظهر وجه الفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيليّ فان مرتبة الحكم الظاهري محفوظة في موارد العلم الإجمالي دون التفصيليّ إذ لا تزاحم بين الملاكات في موارد العلم التفصيليّ ولو بنظر العالم على الأقل وهو مانع عن إمكان جعل حكم ظاهري بالترخيص فيه على ما تقدم شرحه فيما سبق.

وفيما يلي نستعرض كلمات مدرسة المحقق النائيني بهذا الصدد أولا وكلمات المحقق الخراسانيّ ثانيا فنقول : ذهبت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) إلى علية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية وامتناع جعل الترخيص الشرعي الظاهري في تمام أطرافه لأن في المخالفة القطعية عصيانا قطعيا للمولى وهو قبيح فيكون الترخيص فيه قبيحا ممتنعا على الشارع.

وهذا الكلام لا بد وأن يستبطن دعوى ان حكم العقل بحرمة المخالفة القطعية أي منجزية العلم الإجمالي حكم تنجيزي لا تعليقي وإلا كان الترخيص الشرعي رافعا لموضوع العصيان والقبح.

وإثبات التنجيزية في الحكم العقلي لا بد وأن يكون على أساس افتراض خصوصية فيه تمنع عن إمكان رفعه من قبل الشارع بالترخيص ، وهي يمكن أن تكون أحد الأمور التالية :

١ ـ خصوصية مولوية المولى التي قلنا بأنها ليست مجعولة من قبل جاعل بل هي مولوية ذاتية يدركها العقل وروحها وملاكها كونه سيدا وله حق الطاعة على عباده على ما شرحناه فيما سبق من البحوث. وهذه الخصوصية لا إشكال في ذاتيتها وامتناع ارتفاعها على حد ارتفاع وجوب الوجود عنه تعالى.

١٥٢

إلا ان الترخيص الشرعي ليس رفعا لها بل رفع لموردها أي إعمال للمولوية وتقديم جانب الأهم من الملاكات الواقعية.

٢ ـ خصوصية قبح ظلم المولى وهتكه والخروج عن قوانين الرقية والعبودية بالنسبة إليه بالعصيان وعدم إطاعته ، وهذه الخصوصية أيضا ذاتية أعني ان قبح هتك المولى امر ذاتي ، إلا ان هذا غير حاصل في المقال لأن الارتكاب مستند إلى ترخيص من قبل المولى نفسه وبذلك لا يكون خروجا عليه بل على العكس موافقة لقراره وتشريعه الّذي اتخذه نتيجة التزاحم بين ملاكاته الإلزامية والترخيصية في مقام الحفظ.

٣ ـ دعوى ان العقل يمنع المولى نفسه من أن يعمل مولويته في مقام التزاحم الحفظي وتقديم جانب المصالح الترخيصية. ومن الواضح ان هذه الخصوصية غير مقبولة لأن هذا معناه التضييق وتحديد مولوية المولى مع ان حرمة المخالفة انما يكون على أساس احترام مولويته كما لا يخفى.

وهكذا وبهذا التحليل يتضح ان الحكم العقلي بحرمة المخالفة القطعية بل بحرمة المخالفة مطلقا حتى التفصيلية حكم تعليقي منوط بعدم استناد ذلك إلى ترخيص الشارع نفسه فيرتفع بترخيصه غاية الأمر ان الترخيص المذكور لا يعقل في موارد العلم التفصيليّ لعدم معقولية التزاحم الحفظي فيها بحسب نظر القاطع على ما تقدم مرارا ، واما في موارد الشك والاشتباه ولو المقرون بالعلم الإجمالي فهو معقول وعلى تقدير ثبوته يكون رافعا لموضوع الحكم العقلي بحرمة المخالفة القطعية.

واما صاحب الكفاية ( قده ) فقد أفاد في المقام ان التكليف الواقعي سواء كان مشكوكا أو معلوما بالإجمال بل وحتى إذا كان معلوما بالتفصيل على ما يستفاد من مجموع كلامه إن كان فعليا من جميع الجهات فيستحيل الترخيص على خلافه لأن محذور التضاد لا يفرق فيه بين القطع باجتماع المتضادين أو احتماله إذ كلاهما محال وإن لم يكن فعليا من جميع الجهات فلا بأس بالترخيص بخلافه حتى في موارد العلم لأنه مجرد حكم إنشائي وليس بفعلي ولا تضاد بين الأحكام إلا بلحاظ مرحلة فعليتها.

وسوف يأتي تفصيل المناقشة مع تصورات المحقق الخراسانيّ ( قده ) لدى التعرض

١٥٣

إلى كيفية الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية من بحوث الأصول العملية ولكنه في المقام على سبيل الإجمال نقول : بأنه إن أراد بالتكليف الواقعي الفعلي الإرادة والحب والبغض والمصلحة والمفسدة بل وحتى الأمر والاعتبار والاهتمام بقطع النّظر عن التزاحم الحفظي فالحكم الواقعي فعلي في موارد الشك والاشتباه ومع ذلك يعقل جعل حكم ظاهري على خلافه من دون لزوم تضاد لا قطعا ولا احتمالا لأن ملاك هذا الحكم الظاهري هو التزاحم المشار إليه وهو لا يستدعي التضاد بلحاظ المبادي ، وإن أراد بالفعلية الفعلية بلحاظ التزاحم الحفظي فليس الحكم الواقعي بفعلي في موارد الأحكام الظاهرية بعد فرض شمول أدلتها لأنها تدل على عدم الفعلية بهذا اللحاظ.

إلا ان هذا انما يكون في غير العلم التفصيليّ لأن التزاحم المذكور غير متصور فيه على ما تقدم مرارا.

واما المحقق العراقي ( قده ) فقد أفاد في المقام بأنا لا نتعقل الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيليّ في المنجزية لأن الإجمال انما هو في خصوصيات لا دخل لها فيما يدخل في موضوع حكم العقل بوجوب الامتثال ، لأن ما هو موضوع لذلك انما هو الأمر أو النهي الصادرين من المولى واما خصوصية كونه متعلقا بصلاة الجمعة أو الظهر فلا دخل لها في المنجزية وإلا كان وجوب صلاة الجمعة مثلا منجزا لكونه وجوبا لصلاة الجمعة بالخصوص وهو واضح البطلان وعليه فالمنجز هو أصل الإلزام وهو معلوم تفصيلا ولا إجمال فيه.

وهذا الكلام صحيح بمعنى انه لا فرق بين العلمين التفصيليّ والإجمالي في المنجزية بمقدار أصل الإلزام والعقل في كل منهما يحكم بحرمة المخالفة القطعية ، وإلا ان الحكم العقلي المذكور معلق على عدم ورود ترخيص من الشارع وهذا المعلق عليه في موارد العلم التفصيليّ ضروري الثبوت لاستحالة الترخيص فيه إذ لو كان نفسيا لزم التضاد وإن كان طريقيا فهو غير معقول لعدم معقولية التزاحم الحفظي فيه وهذا بخلاف العلم الإجمالي.

وهكذا ثبت انه بحسب عالم الثبوت يمكن الترخيص في تمام أطراف العلم الإجمالي وانه ليس علة ليس لحرمة المخالفة القطعية واما وقوع ذلك بحسب عالم الإثبات فهذا

١٥٤

موكول إلى بحوث الأصول العملية لأنه بحث عن مدى الإطلاق في أدلتها وقد ذكرنا في منهجتنا لهذا البحث ان ذلك خارج عن بحوث القطع.

ولكنا نذكر المدعى إجمالا في المقام وحاصله : المنع عن إطلاق أدلة الأصول لتمام أطراف العلم الإجمالي لأنه ليس بعقلائي فانه بحسب إنظارهم يعتبر هذا مناقضا ومنافيا مع الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال رغم كونه ممكنا عقلا. وإن شئت قلت : ان الأغراض الإلزامية التي يدركها العقلاء يتعاملون معها على أساس انه لا يوجد بينها غرض ترخيصي يكون بالغا درجة بحيث يرفع اليد عنها لمجرد تردد بين أطراف محصورة ، وهذا باعتباره امرا ارتكازيا يكون بمثابة القرينة اللبية المتصلة بالخطاب المانعة عن انعقاد إطلاق فيه لتمام أطراف العلم الإجمالي. وسوف يأتي ما يترتب على هذا المسلك الإثباتي في المنع عن جريان الأصول في تمام الأطراف من الثمرات والفوارق مع ما يترتب على المسلك الثبوتي المشهور.

وجوب الموافقة القطعية :

والكلام فيه في مرحلتين أيضا كما أشرنا ، فانه تارة في أصل تنجيز العلم الإجمالي له ، وأخرى في كونه بنحو الاقتضاء أو العلية. اما أصل المنجزية فالمشهور ذلك كما انه بالنسبة إلى البحث الثاني المشهور انه بنحو الاقتضاء لا العلية. وذهب المحقق العراقي ناسبا لذلك إلى بعض عبائر الشيخ انه بنحو العلية. وأيا ما كان فبالنسبة لأصل المنجزية توجد ثلاثة مسالك :

١ ـ ان العلم الإجمالي بنفسه ومباشرة يكون منجزا لوجوب الموافقة القطعية وهو ظاهر عبائر تقريرات فوائد الأصول.

٢ ـ انه منجز لذلك بعد تساقط الأصول فالعلم الإجمالي يوجب أولا تساقط الأصول ثم التساقط المذكور يقتضي المنجزية ووجوب الموافقة وهو ظاهر عبائر أجود التقريرات.

٣ ـ انه بناء على مسلكنا من إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان فالاحتمال منجز فما ظنك بالعلم. واما بناء على قبولها فالصحيح هو التفصيل بين بعض موارد العلم

١٥٥

الإجمالي فيحكم فيه بمنجزيته مباشرة لوجوب الموافقة وبعض آخر يحكم فيه بعدم المنجزية أصلا.

وحيث انه وقع في كلمات الباحثين بناء على هذه المسألة على ما هو المدعى والمتصور في حقيقة العلم الإجمالي وانه إذا كان متعلقا بالجامع فلا يقتضي بنفسه وجوب الموافقة القطعية وإذا كان متعلقا بالواقع فينجز وجوب الموافقة فلا بد من صرف الكلام أولا إلى توضيح حقيقة العلم الإجمالي وما يتعلق به فنقول :

ان الاتجاهات في شرح حقيقة العلم الإجمالي ثلاثة :

١ ـ أن يكون متعلقا بالفرد المردد وهو ما يستفاد من كلام للمحقق الخراسانيّ ( قده ) في بحث الواجب التخييري حيث حاول تصويره بأنه متعلق بالفرد المردد ودفع إشكال كيفية تعلق صفة الوجوب بالفرد المردد بان الوجوب امر اعتباري لا بأس بتعلقه بالمردد كيف وصفة العلم التي تكون حقيقية قد يتعلق بالفرد المردد كما في موارد العلم الإجمالي.

وقد استشكل عليه المشهور بان هذا مستحيل لأن الفرد المردد مستحيل خارجا وذهنا وتوضيح هذا الإشكال ان الحديث عن المعلوم بالذات وهو الصورة الذهنية المقومة للعلم وهي وجود ذهني والوجود ذهنيا كان أو خارجيا يساوق التشخص والتعين فلا بد من تعين المعلوم بالذات كوجود ذهني ، وإذا كان الوجود متعينا كانت ماهيته كذلك أيضا لأنها حد للوجود فبترددها يتردد الوجود أيضا فلا يكون مشخصا وهو خلف ، فلا بد من تعين المعلوم بالذات وجودا وماهية أي بالحمل الشائع والأولي معا.

وعلى أساس هذا البرهان انصرف المشهور عن هذا المسلك.

٢ ـ أن يكون متعلقا بالجامع فالعلم الإجمالي علم تفصيلي بالجامع وشك في الخصوصيات وهو ما ذهبت إليه مدرسة المحقق النائيني وذهب إليه أيضا المحقق الأصفهاني ( قده ) وقد حاول البرهنة عليه بان الأمر في متعلق العلم الإجمالي لا يخلو من أحد شقوق أربعة ، فاما أن لا يكون متعلقا بشيء أصلا أو يكون متعلقا بالفرد بعنوانه التفصيليّ أو بالفرد المردد أو بالجامع. والشقوق الثلاثة الأولى كلها باطلة لأن الأول

١٥٦

خلف كون العلم من الصفات ذات الإضافة ، والثاني يوجب انقلاب العلم الإجمالي تفصيلا إذ لا يقصد به إلا ذلك ، والثالث مستحيل بالبرهان المتقدم في رد مسلك صاحب الكفاية ، فيتعين الرابع.

ومن هنا ذكر ان العلم الإجمالي علم بالجامع وعلم بكونه غير خارج عن أحد الفردين أو الافراد وكأنه يريد بذلك ان العلم بالجامع المقيد في ضمن إحدى الخصوصيّتين يمكن تحليله إلى علمين كذلك.

٣ ـ ما ذهب إليه المحقق العراقي ( قده ) من دعوى تعلق العلم الإجمالي بالواقع. وقد ذكر انه بلغني ان بعض أهل الفضل من المعاصرين يدعي تعلقه بالجامع وانه لا تفاوت بينه وبين العلم التفصيليّ من حيث العلم وانما الفرق بينهما في المعلوم وانه في التفصيليّ صورة الفرد وفي الإجمالي صورة الجامع مع الشك في الخصوصية الفردية ، وهذا غير تام بل الفرق بينهما من ناحية نفس العلم مع كون المعلوم فيهما معا الواقع أي الفرد المعين وانما العلم الإجمالي علم مشوب بالإجمال كالمرآة غير الصافية بخلاف العلم التفصيليّ والفرق بينهما نظير الفرق بين الإحساس الواضح والإحساس المشوب.

وقد جاء في كلام المحقق العراقي ( قده ) بان العنوان القائم في أفق العلم أعني المعلوم بالذات ينطبق على الواقع بتمامه ، وهذا كأنه إشارة إلى صورة برهان على هذا الاتجاه وإبطال للاتجاه الثاني ، وتوضيحه : ان العلم لو كان متعلقا بالجامع فلا ينطبق إلا على الحيثية الجامعة في الافراد التي هي جزء تحليلي من الفرد لأن الجامع انما ينتزع بطرح الخصوصيات الفردية ومعه يستحيل أن ينطبق على الفرد بتمامه أي بما هو فرد مع اننا نجد ان المعلوم الإجمالي كذلك ، ولا يجدي في إبطال هذا البرهان ما تقدم من المحقق الأصفهاني ( قده ) من دعوى العلم بالجامع والعلم بكونه ضمن إحدى الخصوصيّتين إذ لو أريد بذلك العلم بالجامع المقيد فننقل الكلام إلى خصوصية التقيد وانه الفرد والواقع أو الجامع فإذا كان الواقع فليقل به من أول الأمر وإن كان الجامع نقلنا الكلام فيه أيضا وانه كيف ينطبق على الواقع بتمامه مع انه جزء منه. وإن أريد وجود علمين أحدهما علم بالجامع بنحو القضية الموجبة والاخر علم بقضية سالبة هي عدم خروج الجامع عن الفردين فمن

١٥٧

الواضح ان العلم الإجمالي فيه زيادة على هذين العلمين وهو العلم بوجود الجامع ضمن أحد الفردين لا مجرد عدم وجوده في الافراد الأخرى ، فلا بد من فرض العلم بوجود الجامع ضمن أحد الفردين فيقال هل انه متعلق بالجامع أو الواقع ونجري فيه البرهان المتقدم ، إلا ان هذا انما يتم لو سلمنا الأصل الموضوعي له وهو ان كل عنوان جامع يستحيل أن ينطبق على الفرد بخصوصيته إلا اننا ذكرنا في بحث الوضع العام والموضوع له الخاصّ ان هذا ليس بصحيح على إطلاقه ، وإن هناك نوعا من الجوامع ينطبق على الفرد بخصوصه وهي الجوامع العرضية بالنسبة لما هو فرده بالعرض لا بالذات كعنوان الفرد والخاصّ والشخص فراجع. بل المحقق العراقي ( قده ) نفسه أيضا التزم بذلك وقد اعتبرها جوامع اختراعية اصطناعية من قبل الذهن لا انها منتزعة من الخارج ومعه كيف يستدل في المقام على تعلق العلم الإجمالي بالواقع بأنه ينطبق على الفرد بتمامه. اللهم إلا ان يقصد من تعلقه بالواقع نفس هذا المعنى أي انه غير متعلق بالجامع الذاتي المنتزع من الخارج بل بجامع عرضي أو اختراعي هذا حاصل الكلام في توضيح هذا الاتجاه.

وقد اعترض عليه من قبل مدرسة المحقق النائيني ( قده ) بان العلم الإجمالي لو كان متعلقا بالواقع فما ذا يقال في الموارد التي لا تعين فيها للواقع ثبوتا كما لو علم بنجاسة أحد إناءين بالنجاسة البولية مثلا وكانا واقعا معا نجسين بالبول فان نسبة النجاسة المعلومة بالإجمال هنا إلى كل منهما على حد واحد فتطبيقه على كل منهما بعينه جزاف محض ، وتطبيقه عليهما معا خلف كون المعلوم نجاسة واحدة لا نجاستين فلا محيص عن الالتزام بتعلقه بالجامع الّذي هو امر واحد.

وهذا البرهان لا ربط له بالاتجاه المذكور أصلا إذ ليس مدعى صاحب هذا الاتجاه تعلق العلم بالواقع الخارجي مباشرة لوضوح ان الواقع ليس هو المعلوم بالذات في العلم التفصيليّ فضلا عن الإجمالي وإلا كان العلم مصيبا دائما ، وانما الكلام في المعلوم بالذات الّذي يفرغ في الاتجاهات الثلاثة عن كونه صورة ذهنية في أفق النّفس والخارج معلوم بالعرض له. وحينئذ يرجع مدعى صاحب الاتجاه الثالث إلى ان هذه الصورة الذهنية هي صورة الفرد لا الجامع أي صورة متطابقة مع الفرد الخارجي على

١٥٨

تقدير وجوده وبإزائه بما هو فرد لا صورة تتطابق مع الجامع وبإزاء الحيثية الخارجية المشتركة على تقدير وجودها ، إلا ان هذه الصورة الذهنية للفرد حيث انها إجمالية أي انكشافها مشوب بالإجمال وليس واضحا فيمكن أن يجعل بإزاء كل من الفردين في مورد عدم تعين المعلوم بالعرض واقعا كما ان الجامع المعلوم بالذات يمكن أن يجعل بإزاء الحيثية المشتركة في كل من الفردين أي بإزاء كل من الحيثيتين الخارجيتين التي تكون إحداهما معلومة بالعرض لا كليهما بحسب الفرض. وإن شئت قلت : انه كما يوجد فردان في الخارج كذلك يوجد جامعان فان نسبة الكلي إلى افراده في الخارج نسبة الآباء إلى الأب الواحد وكما يقال ان أي الفردين معلوم كذلك يمكن ان يقال ان أي الجامعين الخارجيين معلوم وبإزاء الصورة الذهنية.

والمحقق الأصفهاني ( قده ) كأنه يظهر من مجموع كلماته البرهنة على إبطال هذا الاتجاه بما حاصله : ان الصورة الذهنية للفرد هل يكون حدها الشخصي داخلا فيها أولا؟ والأول معناه العلم بالحد الشخصي أيضا وهو خلاف الوجدان وإلا كان علما تفصيليا. والثاني لا فرق بينه وبين الجامع إذ لا نريد به إلا الصورة المعراة عن الحدود الشخصية.

والجواب : ان الفرق بحسب مدعى أصحاب هذا الاتجاه من ناحية نفس العلم لا المعلوم وعليه فالمعلوم صورة الفرد بحده الشخصي إلا انه مع ذلك ليس كالعلم التفصيليّ لأن العلم والانكشاف مجمل مخلوط فيه بحيث لا تتميز فيه الخصوصيات ولا تحكى بالجانب التوضيحي من العلم والانكشاف.

والتحقيق أن يقال : انه بالإمكان الجمع بين هذه الاتجاهات الثلاثة ودفع الإشكالات عنها جميعا في نظرية واضحة محددة صحيحة لتفسير حقيقة العلم الإجمالي يكون كل واحد من هذه الاتجاهات الثلاثة قد لاحظت جانبا منها وتوضيح ذلك يتوقف على بيان مقدمة حاصلها : ان ما قرأناه في المنطق من انقسام المفاهيم إلى كلية وجزئية لا ينبغي أن يراد ما هو ظاهره من ان المفهوم الجزئي يمتاز على الكلي في أخذ الخصوصية الزائدة على الجامع مع الجامع ، بل من هذه الناحية لا يكون المفهوم إلا كليا لأن أي قيد وخصوصية لو لاحظناها فهي خصوصية كلية في نفسها قابلة للصدق

١٥٩

على كثيرين وان فرض انحصار مصداقها خارجا ، فبإضافته إلى الجامع يستحيل أن نحصل على مفهوم لا يصدق على كثيرين فان إضافة الكلي إلى الكلي لا يصيره جزئيا حقيقيا بل إضافيا ، وانما الجزئية انما تكون بالإشارة بالمفهوم إلى واقع الحصة والوجود الخارجي المتشخص به ذلك المفهوم حيث ان التشخص الحقيقي يكون بالوجود لا بالماهيات مهما جمعناها بنحو التركيب والتلفيق ، والوجود لا لون له ولا مفهوم ذاتي وانما يكون إدراكه بطريق الإشارة والإشارة نحو استخدام للمفهوم من قبل الذهن كالإصبع الخارجية عند ما نشير بها إلى شيء وهي غير الفنائية وملاحظة المفهوم فانيا في مصاديقه الخارجية فان ذلك لا يقتضي التشخص ولا ينافي الصدق على كثيرين انما الّذي يقتضيه هو الإشارة فحسب.

فإذا اتضحت هذه المقدمة اتضح حقيقة الحال في متعلق العلم فان العلم الإجمالي متعلق بمفهوم كلي إلا ان هذا المفهوم الّذي تعلق به ملحوظ بنحو الإشارة إلى الخارج ، وبهذا يختلف عن الجامع الّذي يتعلق به الوجوب في مرحلة الجعل مثلا لأنه غير ملحوظ كذلك وإن كان ملحوظا بما هو فان في الخارج ، ومن هنا صح الاتجاه الثاني المشهور من افتراض تعلق العلم بالجامع لأن هذا الاتجاه لاحظ المفهوم المتعلق به العلم وهو كلي لأن المفهوم بقطع النّظر عن كيفية استخدامه كلي دائما ، والإشكال عليه بان العلم يكون بأكثر من الجامع جوابه انه علم بالجامع بنحو الإشارة إلى الخارج وبهذا النّظر يكون جزئيا بلا حاجة إلى ضم خصوصية بل لا فائدة في ضمها ما لم تكن إشارة كما صح الاتجاه الثالث القائل بتعلق العلم الإجمالي بالفرد لا الجامع لأن المفهوم الكلي مستخدم بنحو الإشارة إلى الخارج وقد قلنا ان حقيقة الجزئية والفردية هو ذلك أيضا ، والإشكال عليه بان حد الفرد إن كان داخلا في الصورة العلمية فالعلم تفصيلي لا إجمالي وإلا فالعلم بالجامع ، جوابه ان الجزئية ليست بدخول الحد في الصورة العلمية بل بالإشارة وبما ان الإشارة في المقام ليست إلى معين اختلف عن العلم التفصيليّ.

كما صح الاتجاه الأول القائل بتعلق العلم الإجمالي بالفرد المردد لأن الإشارة في موارد العلم الإجمالي لا يتعين المشار إليه فيها من ناحية الإشارة نفسها لأنها إشارة إلى واقع الوجود وهو مردد بين الوجودين الخارجيين لا محالة ، فالتردد في الإشارة بمعنى ان كلا

١٦٠