بحوث في علم الأصول - ج ٤

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

٢ ـ باب العلية والمعلولية بمعنى إدراك ما هو علة الحكم مثلا وملاكه التام فيستكشف لميا ثبوت الحكم الشرعي في مورد إدراك العقل لذلك الملاك. وحكم العقل الراجع إلى هذا الباب يمكن أن يستقل في إثبات الحكم الشرعي.

فظهر ان أحكام العقل النظريّ قد تستقل في إثبات حكم شرعي. واما العقل العملي فهو وحده لا يكفي لإثبات حكم شرعي ما لم نضم إليه حكم عقلي نظري سواء كان حكما منطبقا على فعل العبد كحكم العقل بقبح الكذب مثلا فانه بحاجة إلى ضم حكم العقل النظريّ بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، أو كان متعلقا بفعل المولى كحكمه بقبح تكليف العاجز مثلا فانه لا يستنبط منه حكم شرعي إلا بضم حكمه النظريّ باستحالة صدور القبيح من المولى. هذه نبذة عن حكم الدليل العقلي في كل من القسمين النظريّ والعملي.

وحيث اتضح موضوع هذا البحث وحيثياته نشرع في الحديث عن حجية الدليل العقلي وعدمه فنقول : الكلام حول الدليل العقلي يقع في ثلاث مقامات. لأن القصور المزعوم في الدليل العقلي اما أن يدعى بلحاظ عالم الجعل وإن هناك ضيقا فيه يستدعى عدم ثبوته في مورد الدليل العقلي ، واما أن يدعى بلحاظ عالم الكشف وعدم صلاحية الدليل العقلي للكشف بعد الفراغ عن عدم القصور في عالم الجعل ، واما أن يدعى بلحاظ عالم التنجز وان الدليل العقلي قاصر عن تنجيز الحكم أو التأمين عنه.

اما المقام الأول ـ فالضيق في عالم جعل الحكم بنحو لا يشمل العالم به بالدليل العقلي يمكن أن يدعى بأحد الأنحاء التالية :

١ ـ أن يؤخذ العلم بالجعل الحاصل من الدليل السمعي في موضوع المجعول بناء على ما تقدم منا من إمكان ذلك وهذا التقييد يستوجب أكثر مما يريده المنكر لحجية الدليل العقلي إذ يقتضي انتفاء الحكم في حق الجاهل به.

٢ ـ أن يؤخذ عدم العلم الحاصل من الدليل العقلي بالجعل في موضوع المجعول وهذا بمقدار المقصود إلا انه لا بد وأن يقيد بعدم العلم من الدليل العقلي وحده وإلا لزم عدم الحكم في مورد قيام الدليلين العقلي والنقلي الّذي لا إشكال في ثبوت الحكم فيه أيضا.

١٢١

٣ ـ أن يؤخذ عدم العلم الخاصّ بالمجعول في موضوعه بناء على ما تقدم منا أيضا من إمكانه.

٤ ـ أن يقيد الحكم بنفس ما قيد به في الوجوه السابقة ولكن بنتيجة التقييد وبجعلين لا بجعل واحد كما هو مسلك الميرزا ( قده ).

٥ ـ أن يؤخذ العلم الشرعي أي الناشئ من الدليل الشرعي قيدا في متعلق الحكم لا موضوعه ، فوجوب الصوم مثلا متعلق بالصوم مع قصد امره الّذي حصل العلم به من الدليل النقلي لا العقلي فيقصد قصد القربة بخصوص الحصة التي تنشأ من العلم الحاصل من هذا الدليل. وهذا ما ذكره المحقق العراقي ( قده ). وميزة هذا الوجه على ما سبق فعلية الوجوب في حق من قطع بالدليل العقلي وكان يمكن تحصيل العلم بالدليل النقلي إلا ان عمله لا يكون صحيحا وامتثالا ولكنه يختص بخصوص العبادات لا الواجبات التوصلية فضلا عن الأحكام الترخيصي ، كما انه يرد عليه : بأن قصد الأمر والامتثال لا يتوقف على العلم بالحكم لكي يمكن تحصيصه بحصة خاصة بل يمكن قصد الأمر رجاء أيضا ومعه لا يكون العلم أو منشأه محصصا لقصد الأمر.

ثم انه لا يرد على هذه الوجوه ما أورده الشيخ ( قده ) من ان التقييد المذكور حاصل في حق من قام عنده الدليل العقلي أيضا لأن القاطع بالحكم يقطع لا محالة بان الشارع قد بين هذا الحكم وبلغه بدليل نقلي ، فان هذا البيان مبني على أن يكون القيد هو العلم بتبليغ الحجج لا الوصول من قبل الحجج كما هو ظاهر بعض الروايات المستند إليها في المقام حيث ورد فيها عنوان ( بدلالة إمامه ) فان ظاهر الدلالة الوصول.

كما انه لا يرد ما أورده الميرزا ( قده ) من ان الوصول أو التبليغ بالحجة متحقق لأن العقل رسول الباطن وحجة على العباد. فانه ليس الكلام في لفظ الحجة ومدلولها العقلي أو اللغوي وانما الكلام في الحجة بمعنى الإمام المعصوم الّذي هو المقصود في الروايات المذكورة بلا إشكال.

والصحيح في المناقشة أن يقال : بان هذا التقييد غير تام لا إثباتا ولا ثبوتا.

اما إثباتا ـ فلوضوح ان مقتضى الإطلاقات في الأدلة الأحكام عدم تقيدها بشيء مما ذكر في الوجوه المتقدمة ، وما تمسكوا به من الروايات التي أشار إليها الشيخ ( قده ) في

١٢٢

الرسائل لا تتم دلالة شيء منها إثبات هذا التقييد ، لأن تلك الروايات لا تخلو من أحد أمور ثلاثة. فانها اما أن تكون مسوقة لبيان عدم جواز التعويل على الأدلة العقلية الظنية التخمينية والتي كان يدور عليها رحى الاستنباط عند جمهور العامة وأهل الرّأي منهم فشدد الأئمة عليهم‌السلام النكير على من كان يعول عليها وهذا هو النزاع الأول الّذي تقدم انه خارج عن محل الكلام ـ واما أن تكون دالة على اشتراط الولاية في صحة العمل وانه من دون معرفة الإمام عليه‌السلام لا تقع الأعمال صحيحة ـ وهذا أيضا أجنبي عن محل الكلام لأنه إضافة شرط جديد في صحة العبادة وهو الإيمان كشرطية الإسلام واما أن تكون ناظرة إلى التأنيب على ترك الفحص في الأدلة الشرعية والتوغل في الأدلة العقلية بسرعة وقبل مراجعة الشارع ، كما لعله المستظهر من رواية أبان المشهورة والصحيحة سندا ـ رغم ما قيل من ضعف سندها ـ فانها ناظرة إلى هذا المعنى عند ما تسرع أبان إلى القطع بالحكم الشرعي بينما لو كان قد فحص ودقق أكثر لزال القطع المذكور كما هو الحال في كل جاهل يراجع العالم ، وهذا هو ما يعبر عنه بالتقصير في المقدمات. وهذا أيضا أجنبي عن محل الكلام.

اذن فالروايات المذكورة على الإجمال كلها أجنبية عن محل الكلام واما تفصيل الكلام فيها واستعراضها كل واحدة منها مع التعليق عليها فيخرجنا عن طبيعة البحث الأصولي.

واما ثبوتا ـ فيرد عليه : أولا ـ ان هذه الوجوه غايتها جعل النزاع بين الطرفين نزاع تخطئة لا نزاع اتهام ، بمعنى ان من يحصل له القطع من دليل عقلي يكون قطعه حجة ومنجزا عليه غاية الأمر يكون في نظر الاخباري مثلا مشتبها إذ لا حكم في حقه نظير النزاع في شرطية شيء أو جزئيته بين فقيهين فلا يثبت تقصير لا في النتائج ولا في المقدمات.

وثانيا ـ ان فرض ضيق الجعل وتقيده بعدم العلم العقلي انما يجدي في التخطئة في الأحكام التي يجعلها الشارع ابتداء لا الحكم الشرعي المستكشف بالدليل العقلي فانه بحسب الفرض لا إشكال في كاشفية الدليل القطعي وانما يراد دعوى ضيق الجعل المستكشف ومع فرض تمامية الكاشفية لا يعقل ضيق الجعل فان هذا خلف

١٢٣

مستحيل ، فمثلا لو فرض إدراك العقل لحكم شرعي على أساس قانون الملازمة وان كل ما يحكم به العقل يحكم به الشرع فمع التسليم بصحة هذه الكاشفية لا يبقى مجال لدعوى الضيق في الجعل فانه خلف إدراك العقل النظريّ للملازمة أو الإدراك العملي للحكم العملي وكلاهما مستحيل. نعم لو كان حكم العقل من باب إحراز ما هو الملاك في نظر الشارع فقد يفترض الخطأ في تشخيصه لتمام ما هو الملاك بافتراض ان من جملة ما هو دخيل فيه العلم الخاصّ مثلا.

وثالثا ـ ان الدليل العقلي قد يكون برهانا على عدم الحكم لا على ثبوته ، كما لو حصل يقين بعدم الخطاب الترتبي لاستحالته مثلا ولا يعقل جعل إلزام مشروط بقطع المكلف بعدم الإلزام كما هو واضح.

ثم لو فرض تمامية الوجوه المذكورة أو بعضها ثبوتا وإثباتا مع ذلك كان لنا أن نقول : بان الصغرى محفوظة في موارد القطع بالحكم من الدليل العقلي لا ببيان الشيخ ( قده ) أو المحقق النائيني ( قده ) الّذي قد عرفت الجواب عليهما بل ببيان آخر حاصله : ان الكتاب والسنة أمرنا باتباع العقل على الأقل العقل الفطري الخالي عن الشوائب فيكون الرجوع إلى العقل رجوعا إلى ما يرضى الشارع باتباعه بحكم امره المذكور وهذا نظير ما إذا أمرنا الشارع باتباع القرعة في تعيين الحكم الشرعي فعيناه بها وعملنا به فان هذا من العمل بأمر الشارع وليس خروجا عنه (١) فلا يكون مثل هذا الحكم من غير طريق الأدلة النقليّة.

المقام الثاني ـ في دعوى قصور الدليل العقلي بلحاظ كاشفيته بمعنى انه لا يصلح لتكوين اليقين بالحكم الشرعي ، ولعل هذا هو المناسب مع ظاهر جملة من كلمات المحدثين خصوصا المحدث الأسترآبادي في فوائده المدنية.

وحاصل ما يذكر من قبلهم لتقرير ذلك انا إذا لاحظنا المدركات العقلية رأينا

__________________

(١) يمكن ان يلاحظ على ذلك أولا : باختصاص الأوامر المذكورة بأصول الدين لا الفروع.

وثانيا ـ لعل نظر المحدثين إلى أن يكون العلم بالحكم الشرعي نقليا أي حاصلا من الشارع اما بأن يحصل العلم بالحكم الواقعي منه أو يحصل العلم بالحكم الظاهري المنجز للحكم الواقعي منه كما في المثال القرعة وكلاهما مفقود في المقام فان الأمر باتباع الدليل العقلي ليس إلا امرا إرشاديا لا يتضمن جعل حكم شرعي ظاهري في مورده كما هو واضح.

١٢٤

شيوع الخطأ والاشتباه فيها إذا استثنينا من ذلك جملة من فروع الرياضيات وعلم الحساب والهندسة. وقد حاول الأسترآبادي أن يبرر ذلك بأنها بحسب موادها حسية أو قريبة من الحس أو من البديهيات التي هي قضايا واضحة كالحسية واما غير الرياضيات من العلوم العقلية النظرية فلا تكون موادها حسية ولا قريبة منها ولهذا يكثر فيها الخطأ والاشتباه ولا يصح التعويل عليها ويندرج في ذلك بحوث الفلسفة والأصول العقلية.

وهذا النزاع لا يختلف فيه بين القول بوقوع الخطأ في القوة العقلية المدركة مباشرة أو في تلفيق النّفس واستنتاجها لمدركات القوة المدركة كما يدعيه بعض الفلاسفة القدماء ، فانه على كل حال بحسب النتيجة هناك خطأ في النتائج النظرية العقلية وهو كاف في الغرض الأصولي الّذي يتقصده الاخباري.

ومن الطريف ما نقل عن السيد البروجردي ( قده ) من ان هذه النزعة التي ظهرت على يد الأسترآبادي متسربة إلى الفكر الإسلامي من النزعة التجريبية الحسية في الفلسفة الأوربية آنذاك التي رفضت المدركات العقلية حيث كانت النزعتان متقاربتين زمانا.

وهذه الملاحظة غير صحيحة لما أشرنا إليه في معالم الأصول من ان الاتجاه التجريبي في الفلسفة الحديثة متأخرة زمانا من المحدث الأسترآبادي ، فانها حصلت في أواخر القرن الثاني عشر بينما المحدث الأسترآبادي كان يعيش في القرن الحادي عشر فلو كان هناك تأثير متبادل بين النزعتين فلا بد وأن يكون بالعكس بأن تتسرب النزعة التجريبية من الاتجاه الّذي أوجده المحدثون إلى الفلسفة الأوربية ، إلا ان هذا كله على فرض التعامل مع مدعيات الأسترآبادي على أساس انها تمثل النزعة الحسية في نظرية المعرفة وهذا غير واضح إذ ليس المستفاد من كلامه انه يروم حصر المعرفة البشرية في الحس والتجربة بل غرضه حصر المعرفة بالدليل الشرعي النقلي وإلغاء الدليل العقلي النظريّ في مجال استكشاف الحكم الشرعي.

وأيا ما كان فلتمحيص هذا المدعى والتعليق عليه نتكلم في مقامين أولهما فيما يرجع إلى مدركات العقل النظريّ ، وثانيهما ما يرجع إلى مدركات العقل العملي.

١٢٥

اما المقام الأول ـ وهو البحث عن مدركات العقل النظريّ فحاصل البحث فيه ان اليقين له معنيان :

١ ـ اليقين بالمعنى الأصولي وهو الجزم والانكشاف التام الّذي لا يتضمن تردد وشك.

٢ ـ اليقين بالمعنى المنطقي في كتاب البرهان وهو الجزم المضمون الحقانية المطابق للواقع.

ومقصود المحدثين تارة يكون إنكار اليقين الأصولي في الأدلة العقلية وأخرى إنكار اليقين المنطقي.

اما الأول فلو تمت صغراه تمت كبراه بمعنى انه لا تكون الأدلة العقلية بحجة لأن موضوع الحجية هو اليقين الشخصي سواء كان برهانيا أم لا ، فإذا لم يكن ثمة يقين فلا حجة ولكن الشأن في تمامية الصغرى.

وقد ينقض عليه بأمرين :

١ ـ انه إذا تعطل الدليل العقلي لإيجاد اليقين حتى الأصولي منه وانحصر مصدره بالدليل الشرعي فكيف وبما ذا نثبت أصل وجود الشارع والشرع؟ وما ذا يقال عن الأدلة العقلية التي نثبت بها أصول الدين؟.

٢ ـ النقض بالاستدلالات التي يمارسها حتى المحدث نفسه في الفقه ، فان جملة منها أيضا اعتماد على أدلة وبراهين يكثر فيها الخطأ كالاستدلالات العقلية الأخرى.

وكلا هذين النقضين الظاهر عدم ورودهما على المحدثين ، وذلك لأنهم ليسوا بصدد إنكار كاشفية الدليل العقلي جملة وتفصيلا بل خصوص الأدلة العقلية ذات الطابع النظريّ التجريدي المستعمل في علمي الكلام والفلسفة والأصول أحيانا ، أي ينكرون العقل النظريّ القبلي ـ قبل التجربة والحس ويقطع النّظر عنه ـ ومثل هذا العقل لا يحتاج إليه لا في إثبات أصول الدين ولا في الاستدلالات الفقهية. اما في الأول فلما ذكرناه في مقدمة الفتاوى الواضحة من ان قضايا أصول الدين والعقيدة ثبوتها لدينا كثبوت القضايا العرفية والتجريبية في الوضوح والحقانية لأنها تملك رصيدا من الدليل الحسي والاستقرائي على حد سائر القضايا الاستقرائية التجريبية وإن كان

١٢٦

يمكن الاستدلال عليها بالأدلة العقلية النظرية أيضا.

واما الثاني فلان الاستدلالات الفقهية لا تعتمد غالبا إلا على قضايا الظهور والدلالة والتوفيق فيما بينهما والسند ونحو ذلك ، وهي كلها قضايا عرفية وليست بنظرية برهانية ولا إشكال في ان نسبة الخطأ فيها لا تبلغ نسبته في النظريات العقلية.

والتحقيق : ان هناك تقريبين يمكن أن نذكرهما لتبرير مدعى المحدث في المقام وكلاهما غير تام.

الأول ـ اننا بعد أن علمنا بوقوع الخطأ في كثير من القضايا البرهانية العقلية فمنطقيا ورياضيا ـ وقضايا الرياضيات مسلمة عندهم ـ سوف تتشكل نسبة معينة تحدد على ضوئها قيمة احتمال صحة كل قضية من تلك القضايا هي نسبة المقدار المعلوم خطئها من تلك القضايا إلى مجموعها وهو معنى زوال اليقين بها (١).

وفيه : ان هذه الطريقة انما تصح لتقييم استدلال يمارسه الغير واما الاستدلالات والبراهين التي يمارسها المستدل نفسه فلا تحكم فيها هذه النسبة المعلومة من الخطأ في مجموع القضايا البرهانية أو غير البرهانية ، والوجه في ذلك ان الّذي يعيش القضية البرهانية والدليل العقلي مدركه على اليقين العقلي انما هو وجدانه العقلي بما يتضمن من مواد وقضايا يرى بداهتها أو انتهائها إلى البديهي ويرى بحسب فحصه العقلي صحة الاستنتاج منها وهذا على حد الوجدان الحسي أمارة كاشفة تورث اليقين فكما انك لو فحصت عن أخيك في المسجد فلم تجده تحكم بعدم وجوده فيه كذلك يحصل نتيجة الفحص العقلي إذا صح التعبير في المدركات العقلية الأولية اليقين والكشف عن قضية عقلية.

الثاني ـ انه بعد العلم بوقوع الخطأ في القضايا العقلية كثيرا لا ينبغي أن يحصل للإنسان اليقين والجزم من أدلتها.

وهذا التقريب يرد عليه :

__________________

(١) ويرد عليه أيضا : ان الخطأ موجود حتى في القضايا الحسية ولكن بنسبة أقل فلا بد من الالتزام بعدم الجزم واليقين بالمعارف الحسية أيضا نتيجة تحكيم النسبة الرياضية المعلومة من الخطأ فيها على كل معرفة حسية أيضا ، وهذا خلف مقصود المحدث ومساوق لإنكار أصل المعرفة.

١٢٧

نقضا ـ بان المقصود لو كان دعوى قضية كلية هي ان العلم بوقوع الخطأ مانع عن حصول اليقين في كل معرفة عقلية نظرية فهذه القضية بنفسها لا بد وأن تستند اما إلى قضية رياضية فيرجع إلى التقريب السابق أو إلى قضية عقلية فتكون بنفسها محكومة بحكم القضايا العقلية الأخرى ، وان كان المقصود دعوى ان المحدث لا يحصل له بعد أن علم بالخطإ كثيرا اليقين من الدليل العقلي فهذا معناه انه شاك لا يقين له وليس دليلا على عدم انبغاء حصول اليقين موضوعيا ومنطقيا للآخرين الذين قد حصل لديهم منشأ لليقين.

وحلا ـ بان عدم حصول اليقين بقضية نتيجة العلم بخطإ قضية أخرى يكون في إحدى حالات ثلاث.

١ ـ أن يكون بين القضيتين تلازم موضوعي فإذا ثبت بطلان اللازم ثبت بطلان الملزوم لأن ما يستلزم الباطل وهذا استلزام موضوعي منطقي بين المعتقدين واليقينين يسري من أحدهما إلى الآخر.

٢ ـ أن تكون إحدى القضيتين دخيلة في تشكيل الدليل على صدق القضية الأخرى فإذا علم ببطلانها فقدنا البرهان على صدق القضية الثانية وان كان احتمال صدقها في نفسها واردا ، فمثلا يخبرك وأنت تصدقه لعلمك بورعه عن الكذب لو علمت انه قد كذب عليك مرة أو مرات فيما أخبرك به سابقا فسوف لن يحصل لك يقين من اخباره الجديد لأن مدرك يقينك كان حساب الاحتمالات المنتهية إلى القطع فيما سبق وقد زال بعلمك بأنه قد كذب وانقلبت الحسابات إلى نسبة معينة من الكذب أو الخطأ تتحكم على اخباره الجديد أيضا ، ومثال آخر ما أقامته الفلسفة القديمة من البرهان على العقول العشرة المبتني على افتراض ان العالم ذات سبعة أفلاك متغايرة سنخا وذاتا فلا بد وأن تكون متغايرة منشأ وعلة لأن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد.

فحيثما ثبت بطلان قصة الأفلاك السبعة زال البرهان المذكور وإن كانت قصة وجود العقول العشرة معقولة في نفسها.

٣ ـ أن يكون زوال اليقين نتيجة حصول تلجلج عقلي ذاتي لدى الإنسان بعد وقوفه على الأخطاء الكثيرة بحيث قد ينتهي إلى عدم حصول اليقين له أصلا ، كما حصل

١٢٨

ذلك للمشككين على فرض صدقهم في دعواهم وهذه حالة مرضية ذاتية وليست قائمة على أساس تلازم منطقي موضوعي ولا فقدان البرهان على الحكم كما هو واضح.

ولا إشكال ان محل كلامنا أعني موارد الدليل العقلي في استدلالات الأصوليين ليست من الحالة الأولى إذ لا كلام عندهم في انه لو ثبت ان دليلا عقليا ما يستلزم الباطل فهو باطل ، ولا الثانية لأن الدليل العقلي عند المستدل نفسه يقوم على أساس الوجدان العقلي لا النسبة الاحتمالية فالعقل بعد ان تتبع وفحص وجزم بمقتضى الكبريات التي طبقها وهو جازم بصحة تطبيقه بحسب وجدانه العقلي فسوف لا يتأثر بالخطإ في وجدان وفحص عقلي في استدلال اخر ، فلا تبقى لدينا إلا دعوى الحالة الثالثة من قبل المحدث وإثارتها ضد الأصولي ، وواضح ان هذه الحالة مطلب نفسي موضوعي على حد سائر الأمور النفسيّة والموضوعية تكون التجربة الخارجية هي الدليل على ثبوتها وعدم ثبوتها ، ونحن عند ما نلاحظ الوضع الخارجي للنشاط الفكري والعقلي للبشر نجد ان وجدانهم العقلي وقريحتهم العقلية لا تتعطل بالوقوف على الخطأ في مرات عديدة كثيرة أو قليلة بل تبقى قريحتهم تلك تؤثر أثرها في إيجاد الجزم واليقين في المرة الأخرى أيضا.

واما اليقين بالمعنى المنطقي البرهاني فلو كان مدعى المحدث زواله بالوقوف على الأخطاء فهذه الدعوى لو تمت فهو لا يضر بنا في المقام لأن موضوع الحجية هو اليقين الأصولي لا ما يسميه المنطقي باليقين أو البرهان ، هذا ما ينبغي أن يقال في مقام التعليق على ما يقوله المحدث بلحاظ مدركات العقل النظريّ.

ولكن للقوم اتجاه آخر في مناقشة كلمات المحدث الأسترآبادي والتعليق عليه. حيث ذكروا ان كثرة الخطأ في القضايا النظرية العقلية تنشأ عن عدم مراعاة علم المنطق فيكون ضمان تفاديه إتقان تلك القواعد المنطقية ومراعاتها فإذا ما روعيت كانت النتائج يقينية ومضمونة الحقانية جزما.

وقد أشكل على هذا المقدار في كلمات المحدث الأسترآبادي بان علم المنطق انما يعصم من ناحية الصورة وكيفية الاستدلال لا المادة والقضايا التي تدخل في الأقيسة.

وأجيب عن هذا الإشكال : بان الخطأ لا بد وأن ينتهي إلى الصورة لا المادة بعد

١٢٩

معرفة طريقة تولد المعارف البشرية ـ حسبما يصورها المنطق الصوري ـ حيث ان الفكر يسير دائما من معارف أولية ضرورية هي أساس المعرفة البشرية إلى استنباط معارف نظرية جديدة بطريقة البرهان والقياس التي يحدد صورتها علم المنطق ، فأي خطأ يفترض ان كان في الصورة فعلم المنطق هو العاصم منه ، وان كان في مادة القياس فان كانت تلك المادة أولية فلا مجال لوقوع الخطأ فيها. وان كانت ثانوية مستنتجة فلا محالة تكون مستنتجة من برهان وقياس فينقل الكلام إليه حتى ينتهي إلى خطأ يكون في الصورة لأن المعارف الأولية لا خطأ فيها بحسب الفرض لكونها ضرورية. وقد اصطلح على المعارف الأولية في الفكر البشري بمدركات العقل الأول وعلى المعارف المستنتجة منها بمدركات العقل الثاني. ونحن تارة نسلم بهذا التصنيف للمعارف البشرية وطريقة سير الفكر البشري فيها وأخرى لا نسلم به.

اما لو سلمنا بذلك فيمكن مع ذلك الانتصار للمحدثين في المقام بان قواعد علم المنطق اما أن تكون جميعها ضرورية كبرى وتطبيقا أو بعضها ليس ضروريا. اما الأول فواضح البطلان إذ لو كانت كذلك لما وقع خطأ خارجا إذ لا يوجد من يخالف البديهة والضرورة ولا خطأ فيها بحسب فرض هذا المنهج. وعلى الثاني فان قيل بعدم البداهة في الكبريات فسوف يقع الخطأ في نفس العاصم لا محالة ، وان قيل بعدم البداهة في التطبيق احتجنا إلى عاصم في مرحلة التطبيق ولم تكف مراعاة الكبريات المنطقية في عصمة الذهن عن الخطأ وعلم المنطق لا يعطي إلا الكبريات وهذا الكلام أفضل مما ذكره المحدث الأسترآبادي بناء على التصور المدرسي للمعرفة البشرية وطريقة التوالد فيها.

إلا ان هذا التصور أساسا غير صحيح على ما شرحناه مفصلا في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء ، فان هذا البحث كان منشأ لانتقالنا إلى نظرية جديدة للمعرفة البشرية استطاعت أن تملأ فراغا كبيرا في نظرية المعرفة البشرية لم يستطيع الفكر الفلسفي أن يملأه خلال ألفين سنة.

وفيما يلي نذكر مجمل تلك النتائج التي انتهينا إليها في نقطتين :

الأولى ـ فيما يتعلق بالعقل الأول ومدركاته. وهي المدركات التي حددها المنطق

١٣٠

الصوري في قضايا ست اعتبرتها مواد البرهان في كل معرفة بشرية وهي الأوليات والفطريات والتجربيات والمتواترات والحدسيات والحسيات.

وقد ادعى المنطق الصوري ان هذه القضايا كلها بديهية ونحن نسلم معهم في اثنين منها هما الأوليات ـ كاستحالة اجتماع النقيضين ـ والفطريات وهي التي قياساتها معها ولم نقل برجوعها إلى الأوليات على ما هو التحقيق ـ فهاتان قضيتان قبليتان واما غيرهما أي القضايا الأربع الباقية فليست المعرفة البشرية فيها قبلية بل بعدية أي تثبت بحساب الاحتمالات وبالطريقة الاستقرائية التي يسير فيها الفكر من الخاصّ إلى العام حسب قوانين وأسس شرحناها مفصلا في ذلك الكتاب بعد إبطال ما حاوله المنطق الصوري من تطبيق قياس خفي فيها بمناقشات عديدة مشروحة في محلها.

وقد أثبتنا هنالك انه حتى المحسوسات التي هي أبده القضايا الأربعة الباقية تخضع للأسس المنطقية للدليل الاستقرائي ، وتوضيح ذلك ان القضايا الحسية على قسمين :

١ ـ أن يكون واقع المحسوس فيها امرا وجدانيا كالإحساس بالجوع والألم ، وهذا لا إشكال في أوليته ولا يقوم على أساس حساب الاحتمالات والطريقة الاستقرائية ، لأن الإدراك في هذا النوع يتصل بالمدرك بصورة مباشرة حيث يكون المدرك بنفسه ثابتا في النّفس لا انه أمر موضوعي خارجي له انعكاس على النّفس ليراد الكشف عن مدى مطابقة ذلك الانعكاس مع واقعه.

٢ ـ الإحساس بالواقع الموضوعي خارج عالم النّفس كإحساسك بالسرير الّذي تنام عليه وصديقك الّذي تجلس عنده وحرمك الّذي تسكن إليها ، وهذا هو الّذي لا يتعلق إحساسنا به مباشرة فكيف يمكن إثبات واقعيته من مجرد انطباع حاصل في النّفس أو الذهن وكيف نثبت مطابقة ذلك الانطباق للخارج؟ وهذه المسألة من ألغاز الفلسفة. والاتجاه المتعارف عند فلاسفتنا في حلها ان المحسوسات قضايا أولية وان كانت المسألة غير معنونة بهذا الشكل وانما عنونت كذلك عند فلاسفة الغرب ، وقد ظهر لدى بعض المحدثين (١) عندنا ان معرفتنا بالحسيات لا يمكن أن تكون أولية لوقوع

__________________

(١) السيد الطباطبائي ( قده ) في روش رئاليسم.

١٣١

الخطأ فيها مع انه لا خطأ في الأوليات ، ولكنه عاد وزعم ان معرفتنا الحسية بالواقع الخارجي إجمالا أولية وان كانت معرفتنا بالتفاصيل ليست كذلك ، فكان هذا اتجاه يفصل في المعرفة الحسية بين الإيمان بأصل الواقع الموضوعي في الجملة وبين الإيمان بتفاصيل المعرفة الحسية. ونحن في كتاب فلسفتنا حاولنا إرجاع المعرفة الحسية إلى معارف مستنبطة بقانون العلية لأن الصورة الحسية حادثة لا بد لها من علة وقانون العلية قضية أولية أو مستنبطة من قضية أولية. وفي قبال هذه الاتجاهات الثلاثة المثاليون الذين أنكروا الواقع موضوعي رأسا. وكل هذه الاتجاهات الأربعة التي تذبذب الفكر الفلسفي بينهما غير صحيحة وانما الصحيح بناء على ما اكتشفناه من الأسس المنطقية للاستقراء ان معرفتنا بالواقع الموضوعي جملة وتفصيلا في المدركات الحسية قائمة على أساس حساب الاحتمال الّذي يشتغل بالفطرة لدى الإنسان وبعقل رزقه الله له سميناه بالعقل الثالث قبال العقلين الأول والثاني.

وقد أوضحنا ذلك مشروحا في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء وبينا هنالك في ضمن ما بيناه اننا حينما نقارن بين أحساساتنا في عالم الرؤية مع أحساساتنا في عالم اليقظة لا نشك بان الأولى لا واقع موضوعي لها بخلاف الثانية ـ إذا استثنينا شيخ الإشراق الّذي كان قائلا بعالم الأمثال في الأحلام ـ مع انه لا فرق بين القسمين من ناحية وجدانية الإحساس عند النّفس وهذا دليل عدم بداهة المعرفة في الحسيات وان الإيمان بموضوعية الثانية قائم على أساس حسابات الاحتمال المبتنية على قرائن وخصوصيات مكتنفة بالثانية مفقودة في الأولى التي تكون إحساسات زائلة متقلبة بمجرد كف الذهن عنها وغير متشابهة إلى غير ذلك من خصائص ونكات تقوم على أساسها حساب الاحتمالات شرحناها في ذلك الكتاب. اذن فليست المحسوسات قضايا أولية كما انها لا يمكن أن تكون مستنتجة بقانون العلية لأن هذا القانون غاية ما يقتضيه وجود علة لحصول الصورة في النّفس واما هل هي خارجية أو حركة جوهرية في النّفس فلا يعين أحدهما ، هذا مجمل الحديث عما سموه بالعقل الأول ومنهجنا في طريقة تفسير المعرفة البشرية فيه.

الثانية ـ فيما يتعلق بالعقل الثاني ـ والمنطق الصوري بعد افتراضه للعقل الأول

١٣٢

بالنحو المتقدم ذكر ان كلما يستنبط من العقل الأول من المعارف بطريقة الاستدلال المنطقي الصحيح ـ الراجع بالأخير جميعا إلى الشكل الأول الضروري والبديهي الإنتاج ـ فهو مضمون الحقانية ويسمى بالعقل الثاني ، والقياس يحتوي على حد أصغر وأوسط وأكبر وفي القياس الأول لا تكون بين المحمول وموضوعه واسطة لأنها قضية أولية وانما المستنبط ثبوت الثالث للأول وعلى هذا الأساس يكون مشتملا على قائمتين قائمة للمحمولات الثابتة بالضرورة لموضوعاتها وقائمة أخرى للمحمولات الثابتة بالضرورة على تلك المحمولات وفي كل منهما القضية أولية ضرورية وليست مستنبطة لعدم حد أوسط ، نعم ثبوت المحمول الثاني للموضوع الأول يكون نظريا لأنه مستنبط بالحد الأوسط الّذي هو موضوع في القائمة الثانية ومحمول في الأولى. ومن هنا لا يخلو الكلام المعروف من صحة ببعض المعاني من أن المعرفة إذا كانت حسب هذه الطريقة فليس هناك نمو وزيادة حقيقية في المعرفة وانما هو تحليل لما هو مجمل وتطبيق لما هو عام وكلي.

وأيا ما كان فالمنطق الصوري بعد ان افترض حقانية القضايا الست التي تشكل مواد الأقيسة والمعارف النظرية وكان استنتاج المعارف النظرية في العقل الثاني من تلك المواد حسب المقياس البديهي الإنتاج من هنا حكم بحقانية مدركات العقل الثاني أيضا كحقانية مدركات العقل الأول.

وهذا الكلام ينحل إلى جزءين :

١ ـ ان كل معرفة أولية تكون مضمونة الحقانية.

٢ ـ ان المعارف النظرية في العقل الثاني انما تستنتج من المعارف الأولية في العقل الأول بطريقة التوالد الموضوعي القائم على أساس التضمن أو التلازم المنطقي المضمون الحقانية أيضا.

وكلا هذين الجزءين محل نظر ، اما الأول فلان بعض المعارف الأولية قد لا تكون مضمونة الحقانية بالرغم من كونها أولية بل قد تكون مظنونة أو مشكوكة أو خاطئة ، ومن ذلك ينشأ ينبوع للأخطاء في العلوم النظرية فان الخطأ فيها لا ينشأ من خطأ الاستدلال عادة بل من الخطأ في أوليات الاستدلال حيث تطرح فكرة بتوهم صحتها وهي خاطئة فيبنى عليها والحاصل : كون الفكرة أولية لا تحتاج إلى الاستدلال

١٣٣

واستنباط شيء وكونها مضمونة الحقانية شيء آخر ولا تلازم بين الأمرين ويشهد على ذلك وقوع الخطأ أو الشك في المعارف الوجدانية المحسوسة ـ المحسوس بالذات ـ التي قلنا انها أولية لعدم توسيط شيء بينها وبين إدراكها بل ينصب الإدراك عليها مباشرة وأولا وبالذات ومع ذلك قد يشكك فيها أو يخطأ كمن يشك في انه هل يسمع الصوت أم لا إذا ما ابتعد عن مصدره تدريجا وهذا دليل على إمكانية وقوع الخطأ والاشتباه أو الشك في الوجدانيات الأوليات فكيف بقضايا أولية غير وجدانية. وقد كان قديما يبرهن على استحالة التسلسل ببرهان التطبيق أي تطبيق العلل على المعلولات فكأن يقال انه إن تساويا لزم تساوي الجزء مع الكل لأن سلسلة المعلولات هي سلسلة العلل بإضافة واحد ، والكل لا بد وأن يكون أكبر من الجزء وإن لم يتساويا كان معناه تناهي أحدهما على الأقل. وقد كان هذا برهانهم على استحالة التسلسل فترة طويلة من الزمن اعتمادا على بديهية ان الكل لا يكون أكبر من الجزء حتى جاءت الرياضيات الحديثة فأنكرت بداهة هذه القضية في الكميات اللامتناهية وجعلتها مختصة بالكميات المتناهية إذ ينعدم في غيرها معنى الكل والجزء وهذا خلاف قضية أولية. وقد قال بعض الحكماء في التسلسل ان كل مقدار من السلسلة عند ما نفترضه بنحو العام الاستغراقي نجده محصورا بين حاصرين فالعقل يحدس ان مجموع السلسلة أيضا محصور بين حاصرين مفترضا انها قضية أولية حدسية في نظره. ومن هنا امتاز المنطق والرياضيات البحتة على ساير العلوم النظرية في قلة الخطأ فيها نتيجة ان مصادرات العلوم الأولية منهما محدودة وواضحة لدى الجميع ومن هنا قل الخطأ فيهما إذ لا منفذ له حينئذ إلا الغفلة عن قواعد الرياضة والمنطق التي تتفادى بالدقة والممارسة والتطبيق.

واما الثاني ـ فالمعارف الأولية يتولد منها معارف على قسمين ، معارف يقينية بملاك التلازم الموضوعي بين متعلق المعرفتين ومعارف ظنية بدرجة من درجات الاحتمال حسب قواعد حساب الاحتمالات ، وهذا هو الّذي يدخل فيه أكثر معارفنا حيث يندرج فيه جميع المعارف المستمدة من التجربة والاستقراء ، فان حساب الاحتمالات لا توجب اليقين مهما امتد وانما ينشأ اليقين نتيجة ضعف الاحتمال إلى حد كبير حتى تتحول الظنون في نهاية المطاف إلى يقين وجزم بقانون ذاتي لا موضوعي

١٣٤

ضمن مصادرات معينة مشروحة في أسس الدليل الاستقرائي.

المقام الثاني ـ مدركات العقل العملي ، وقد نوقش العقل العملي أيضا من قبل المحدثين بأنه لا يمكن التعويل عليه كدليل على إثبات الحكم الشرعي لقصوره في مقام الكشف كالدليل العقلي النظريّ ، وقد ذكروا في وجهه ما نجده من الاختلاف بين الأعراف والمجتمعات فيما يرجع إلى هذه المدركات فكم من شيء كان يراه عرف أو قبيلة حسنا ويراه الآخرون قبيحا.

وهذا التشكيك الإثباتي في هذا العقل عند ما يتصاعد ينتهي به الشوط إلى تشكيك ثبوتي أشعري تجاه أصل هذه المدركات فينكر على أساسه ثبوت قبح أو حسن ذاتي بقطع النّظر عما حسنه الشارع أو قبحه.

وأيا ما كان فقد نوقش في هذا التشكيك ثبوتيا كان أو إثباتيا بالنقض تارة وبالحل أخرى.

اما النقض فبإيراد محذورين ولازمين باطلين :

أحدهما ـ انه لو شككنا في قضايا العقل العملي فكيف يمكننا أن نثبت بعد ذلك وجوب طاعة الشارع وحرمة معصيته إذ لا يمكن أن يكون هذا الحكم إلا عقليا كما هو مذكور في محله.

وهذا النقض جوابه واضح. اما إذا كان التشكيك في العقل العملي إثباتيا كما هو لدى المحدثين فلا مكان استكشاف إصابة العقل في خصوص هذا الحكم من الأدلة الشرعية الواردة بهذا الصدد وما أكثرها كتابا وسنة.

واما إذا كان التشكيك ثبوتيا فلأنه يقال بعدم الحاجة من أول الأمر إلى إثبات قبح المعصية في مقام تحريك العبد نحو الطاعة إذ يكفي فرض وجود العقاب لذلك وقد ثبت وجوده بالأدلة القطعية والتعرض له كاف لمنع العبد عن المعصية كما ان حصول الثواب كان لتحريكه نحو الطاعة.

ثانيهما ـ انسداد باب إثبات نبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل ساير النبوات لأن ذلك مبتن على مقدمة عقلية عملية هي قبح إجراء المعجزة على يد الكاذب لأنه تغرير بالناس ونحو من الكذب فيكون قبيحا على الله تعالى. فإذا أنكرنا القبح فكيف يمكن إثبات

١٣٥

صدق مدعي النبوة لمجرد جريان المعجزة على يديه.

وهذا النقض أيضا واضح الجواب : فانه يرد عليه :

أولا ـ ان دلالة المعجزة على النبوة يستحيل أن تتوقف على هذه المقدمة العقلية أعني قبح الكذب والتغرير ، لأن المعجزة ان كانت بقطع النّظر عن قبح الكذب والتغرير دالة على نبوة من جرت على يديه فهذا معناه عدم الحاجة في إثبات النبوة إلى مقدمة عقلية كهذه ، وإن كانت لا تدل على ذلك إلا بضم هذه المقدمة العقلية أي انها بقطع النّظر عن كبرى قبح الكذب لا تدل على نبوة مدعيها فسوف لا تدل على ذلك حتى بعد الاعتراف بهذه الكبرى لأن كبرى قبح الكذب لا تحقق صغراها إذ لا بد من كذب وكشف عن النبوة ليقال بقبحه والمفروض انه لا دلالة ولا كشف لمجرد ظهور إعجاز على يد النبي.

والحاصل : ان توقف دلالة المعجزة على نبوة مدعيها على كبرى عقلية هي قبح الكذب وإظهار خلاف الواقع تغريرا للناس دوري لأن فعلية الكبرى المذكورة فرع فعلية الدلالة والكشف ليكون كذبا فيستحيل أن تكون فعلية الدلالة متوقفة على فعلية الكبرى.

اللهم إلا أن يقال : بأنه يكفي في موضوع الكبرى العقلية التغرير بحسب فهم العوام ، وظهور المعجزة عند العوام له دلالة على النبوة في نفسه وهذه الدلالة وان لم تكن عقلية وبرهانية وتامة بالدقة ولكنها بضمها إلى الكبرى العقلية يتشكل دليل فني على النبوة. إلا ان للأخباري أن يقول حينئذ بأننا نكتفي بالدلالة العرفية ونطمئن إليها في إثبات النبوة ولا نحتاج إلى غيرها.

وثانيا ـ بالإمكان استبدال قضية قبح الكذب والتغرير إلى قضية عقلية نظرية هي منقصة الكذب وهي منفية عن الواجب سبحانه وتعالى على حد نفي العجز عنه ، وبهذا يمكن لمن ينكر خصوص العقل العملي أن يعتمد على هذه المقدمة لإثبات النبوة ويبقى بعد ذلك البحث عن كيفية تحويل القضية العملية إلى قضية نظرية وهو خارج عن هذا البحث.

وثالثا ـ ان خصوص نبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يحتاج إثباتها إلى المقدمة المذكورة لأن

١٣٦

نفس كتابه ورسالته التي جاء بها يكون معجزا ومثبتا لصحتها بالنحو المشروح في مقدمة كتابنا الفتاوى الواضحة.

واما الحل : فالمستفاد من كلمات الاعلام في المقام إنكار أن يكون الاختلاف بين العقلاء المستويين في التفكير في كبرى العقل العملي بل يرجع خلافهم دائما إلى الاختلاف في الصغريات والتطبيقات ، لأنهم يرون رجوع الكبريات العملية إلى قضيتين رئيسيتين هما قبح الظلم وحسن العدل ولا يوجد هناك من يسمح لنفسه الإقرار بعدم قبح الظلم مع الاعتراف بكونه ظلما وانما يشكك في صغرى الظلم والعدل وان هذا الفعل ليس بظلم أو ليس بعدل ، اذن فلا طعن في حقانية مدركات العقل العملي كبرويا.

وهذا الجواب صوري يتضح وجه المناقشة فيه مما تقدم في بعض البحوث السابقة حيث أوضحنا هنالك ان قضيتي قبح الظلم أو حسن العدل ليستا هما المدركين العقلين العمليين الأوليين لأنهما قضيتان بشرط المحمول ، إذ الظلم والعدوان هو الخروج عن الحد وليس المراد به الحد التكويني إذ لا خروج عنه بل الحد الّذي يضبطه العقل ويحدده بنفسه بأنه ينبغي أو لا ينبغي أن يتعداه الإنسان وهو عبارة أخرى عن القبيح بل هذه القضية ان كانت مفيدة فهي تقيد كإشارة إلى مدركات العقل العملي اختصارا وإجمالا لا أكثر ، فعنوان الظلم أخذ مشيرا ومعرفا إلى واقع ما لا ينبغي فعله في نظر العقل من الكذب والخيانة ومخالفة الوعد وغير ذلك ، وكذلك عنوان العدل يكون مشيرا إلى واقع ما ينبغي في نظر العقل فعله من الإحسان والشكر والصدق والمروءة (١) إذا فقضيتا حسن العدل وقبح الظلم تكونان في طول القضايا العقلية العملية لا انهما الأساس لها كما أفيد. وعلى هذا الأساس لا يكون الاختلاف في عنوان الظلم والعدل

__________________

(١) الظاهر ان عنوان الظلم ليس مشيرا إلى ما لا ينبغي ولهذا لا يقال عن الكذب انه ظلم وعن الصدق انه عدل بل الظلم خصوص سلب الحق والعدل إعطاؤه الحق الّذي يدركه العقل أيضا ويعبر عنه بأنه له ، فمثلا للمولى على عبده حق الطاعة فإذا لم يعطه فقد سلب حقه ولكن ليس للسامع على المتكلم أن يصدق عليه بحيث إذا كذب يكون قد سلب حقه إلا أن هذا لا يغير ما ذكر في المتن لأن تحديد الحق وان له ذلك أم لا أيضا من مدركات العقل العملي فالاختلاف فيه يعني الاختلاف في إدراك العقل لا الجزئيات والمصاديق.

١٣٧

إلا اختلافا في نفس الحكم العقلي العملي لا في صغراه.

والصحيح ـ في الجواب الحلي أن يقال : بان مدركات العقل العملي لا خلاف فيها في نفسها أعني فيما يدركه العقل بنحو الاقتضاء انه لا ينبغي أو ينبغي ، فالكذب مثلا لو لوحظ في نفسه يحكم العقل بأنه يقتضي أن لا يرتكب والصدق فيه اقتضاء أن يكون هو الصادر من الإنسان ولكن قد يقع التزاحم بين هذه المقتضيات كما إذا لزم من عدم الكذب الخيانة مثلا فيتزاحم اقتضاء الصدق للحسن مع اقتضاء الخيانة للقبح. وفي هذه المرحلة قد يقع اختلاف بين العقلاء في الترجيح وتقييم أحد الاقتضاءين في قبال الاخر فتشخيص موازين التقييم والتقديم في موارد التزاحم هو الّذي قد يكون غائما يشوبه الشك أو الخطأ ولا يكون بديهيا أوليا بل ثانويا ، ولا نقصد بالثانوي هنا كونه مستنتجا بالبرهان بل كونه مشوبا بالشك وعدم الوضوح ، وقد ذكرنا فيما سبق انه قد تكون معرفة غير برهانية وغير مستنتجة أي أولية ومع ذلك لا يكون واضحا بل يكون غائما ، وعليه فالاختلاف بين العقلاء في بعض مدركات العقل العملي لا يوجب تشكيكا في أصل إدراكات هذا العقل. ثم ان هنا شبهات وإشكالات أخرى للأشعريين تذكر في كتب الكلام لا مجال هنا لطرحها ومناقشتها فليراجع في مظانها.

بقيت في المقام نقطة هامة حاصلها : ان العقل العملي وحده لا يجدي في استكشاف الحكم الشرعي على أساسه ما لم نضم إليه مقدمة عقلية نظرية دائما هي قانون الملازمة بين ما حكم به العقل وما يحكم به الشرع.

وقد توهم بعضهم ان هذه الملازمة بديهية واضحة باعتبار ان الشارع سيد العقلاء فإذا حكم العقلاء بحكم بما هم عقلاء كان في طليعتهم وأول الحاكمين به ، ومن هنا ذكر ان التعبير بالتلازم مسامحة وانما الأصح التضمن لاندراج الشارع في العقلاء فيكون حكمه ضمن حكمهم.

وهذا مما لا يمكن المساعدة عليه لما تقدم مرارا من ان الحسن والقبح أمران واقعيان ثابتان في لوح الواقع الأوسع من لوح الوجود وليسا امرين تشريعيين ، فحكم العقلاء في المقام يراد به إدراكهم لا تشريعهم أو بنائهم ، ثم لو فرض ذلك جريا مع مشرب

١٣٨

هذا الأصولي في باب الحسن والقبح مع ذلك لا موجب لدعوى الملازمة بين حكم العقلاء وحكم الشارع الّذي هو سيدهم إذ حكمهم انما يصدر عنهم باعتبار وقوعه في طريق مصالحهم وحفظ أنظمتهم والشارع سبحانه وتعالى خارج عن دائرة تلك المصالح والنظام فأي ملزم لأن يحكم بأحكامهم وتشريعاتهم.

وقد يدعى في قبال دعوى الملازمة استحالة جعل حكم شرعي وبالتالي استكشافه على طبق الحكم العقلي ، وذلك لأن الحكم الشرعي انما يكون بداعي التحريك بتوسيط حكم عقلي في النهاية بقبح المعصية ولزوم الإطاعة للمولى والمفروض في المقام ان الحكم العقلي بالقبح أو الحسن ثابت منذ البداية ، فإذا كان محركا للعبد كفى وحصل المقصود بلا حاجة إلى توسيط جعل شرعي وإلا فلا فائدة في جعله لأنه وحده لا يكون محركا من دون محركية الحكم العقلي بقبح معصيته.

وهذه الدعوى مع أصل دعوى الملازمة كلتاهما باطلة.

اما الأولى : فلأنه تقدم مرارا من ان إعمال المولى لمولويته في موارد الحسن والقبح يوجب تحقق ملاك ثان للحسن والقبح زائدا على الحسن والقبح الثابتين في العقل بعنوانه الأولي حيث يتحقق عنوان إطاعة المولى أو معصيته فيتأكد الملاك العقلي وقد يكون محركا حينئذ للعبد.

واما دعوى الملازمة ـ فلان الشارع تارة يكون غرضه في مقام حفظ الحسن وترك القبيح بنفس مرتبة ودرجة حافظية ومحركية المرتبة الذاتيّة الموجودة في الفعل نفسه من حيث اقتضائه للحسن أو القبح واستحقاق المدح والثواب أو الذم والعقاب ، وأخرى يفرض ان غرضه يتعلق بمرتبة أقوى وأشد من ذلك ، فعلى الأول لا موجب لافتراض ان المولى يعمل مولويته ويجعل على وزان الحكم العقلي حكما شرعيا وانما يرشد إلى ما هو واقع من الحسن أو القبح الذاتيين في الفعل ، وعلى الثاني فلا محالة يتصدى من أجل تأكيد تلك الحافظية وتشديدها إلى إعمال المولوية والأمر به أو النهي عنه. وتشخيص مرتبة هذا الاهتمام قد يكون بدليل شرعي وقد يكون راجعا إلى مناسبات وأذواق عقلائية لا يمكن التعويل عليها ما لم تبلغ مرتبة الجزم واليقين ومن هنا يظهر انه لا برهان على أصل الملازمة.

١٣٩

المقام الثالث ـ في دعوى قصور الدليل العقلي من حيث المنجزية والمعذرية بعد الفراغ في المقامين السابقين عن عدم قصوره في كاشفيته وعدم ضيق في الجعل المستكشف به. وذلك بدعوى نهي الشارع عن اتباعه ، وهذا النهي كما ذكر الشيخ الأعظم ( قده ) يمكن أن يفترض تارة نهيا عن الدليل العقلي بعد حصول اليقين به ، وأخرى نهيا عن التوجه إلى ميدان الاستدلالات العقلية وصرف الذهن عن هذا المجال إلى الأدلة النقليّة. والأول غير معقول على ما تقدم شرحه في البحوث السابقة ، وانما المعقول هو الثاني لأنه يرجع إلى تنجيز الواقع من أول الأمر من ناحية ما يؤدي إليه التوجه إلى المطالب العقلية من الوقوع في المخالفة ، والمكلف بعد أن حصل له القطع وإن كان مضطرا إلى العمل على وفق قطعه لكونه حجة بالذات عليه إلا ان اضطراره هذا مسبوق بسوء اختياره فلا ينافي تنجز الواقع في مورد قطعه عليه أيضا إذا صادف مخالفة الواقع نظير من توسط الدار المغصوبة فاضطر إلى الغصب في حال الخروج بسوء اختياره.

والفرق العملي بين النحوين يظهر فيما إذا صادف حصول القطع من الدليل العقلي للمكلف صدفة لا بتسبيب منه وتوجه إلى باب الأدلة والاستدلالات العقلية فانه إذا كان النهي بالنحو الأول بناء على معقوليته كان مشمولا له وإذا كان بالنحو الثاني لم يكن مشمولا له كما هو واضح.

هذا إلا ان الشأن في ثبوت مثل هذا النهي إذ لا دليل عليه عدى ما يتوهم من إمكان دعوى استفادته من الروايات الناهية عن العمل بالرأي بدعوى صدقها على العمل بالأدلة العقلية.

والصحيح ـ ان من يلاحظ هذه الروايات وألسنتها وملابساتها وتاريخ صدورها لا يكاد يشك في ان المقصود من الرّأي فيها ما كان مطروحا وقتئذ من الاعتماد على الأقيسة والاستحسانات الظنية والاستقلال في مقام الاستنباط عن الأئمة عليهم‌السلام بالرجوع مباشرة إلى الكتاب أو السنة أو العقل من دون مراجعتهم في الوقوف على المخصص أو المقيد أو المفصل والمبين كما كان على ذلك ديدن فقهاء العامة والجمهور ، هذا مجمل الجواب على التمسك بهذه الروايات ولو سلم إطلاق الرّأي فيها على القطع الحاصل

١٤٠