بحوث في علم الأصول - ج ٤

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

وملخص الجواب على هذه الشبهة : ان الكلام إذا كان بلحاظ عالم الجعل فالمتعين الالتزام بالشق الأول وهو تعدد الحكم ولا يلزم محذور اجتماع المثلين لأنه انما يكون في الصفات الحقيقية الخارجية لا الأمور الاعتبارية ، وإن كان الملحوظ عالم الملاك ومبادئ الحكم من الحب والبغض والإرادة والكراهة فالمتعين الالتزام بالشق الثاني وهو التوحيد والتأكيد ولا ينشأ محذور من ناحية الطولية بين الحكمين إذ يكفي في دفعه أن يقال ان التأخر والتقدم بين الحكمين في المقام من التقدم والتأخر بالطبع لا بالعلية ، لوضوح ان الحكم الأول ليس علة للحكم الثاني وتوحد المتأخر بالطبع مع المتقدم بالطبع لا محذور فيه كما هو الحال بين الجزء والكل والجنس والنوع.

واما القسم الرابع ـ وهو أخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه. فالبحث فيه يقع في مقامين :

١ ـ في أخذ القطع بالحكم شرطا في ثبوت شخص ذلك الحكم.

٢ ـ في أخذه مانعا عن ثبوته أي أخذ عدم العلم بالحكم في ثبوته.

اما المقام الأول ـ فالمعروف بين المحققين استحالة أخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه بحيث يناط به ثبوته ولعل أول من تنبه إلى تسجيل هذا المطلب هو العلامة ( قده ) في بحوثه الكلامية في مقام الرد على العامة القائلين بالتصويب حيث أورد عليهم بان ذلك يستلزم المحال لأنه من أخذ العلم بالحكم في موضوع شخصه وهو دور ، إذ العلم بالحكم متأخر عن الحكم وفي طوله فإذا أخذ في موضوعه لزم أن يكون الحكم متأخرا عنه وفي طوله وهذا دور.

والتحقيق : انه إن أريد أخذ القطع بالحكم في موضوعه بنحو يكون كل من القطع والمقطوع به معا مأخوذين في موضوع الحكم أي القطع بما هو مضاف إلى معلومه بالعرض فهذا واضح الاستحالة لأنه دون بل أشد من الدور لأنه من توقف الشيء على نفسه ابتداء وبلا دوران وهو روح الدور ونكتة استحالته.

وإن أريد أخذ القطع دون المقطوع به أي القطع بما هو مضاف إلى المقطوع به بالذات ففي الصياغة المذكورة للمحذور إشكال واضح وهو ان الحكم الّذي أخذ في موضوعه العلم به وإن كان موقوفا على العلم ولكن العلم به غير موقوف على الحكم بل يتوقف

١٠١

بحسب بنائه ووجوده التكويني على المعلوم بالذات فان ما يقوم العلم هو المعلوم بالذات القائم في نفس العالم لا المعلوم بالعرض الموجود في الخارج ببرهان تخلفه عنه في موارد خطأ القطع وعدم اصابته للواقع.

وهنالك وجوه ثلاثة ذكرت من قبل المحققين بصدد التعويض عن محذور الدور تثبت الاستحالة بنحو آخر.

الوجه الأول ـ لزوم محذور الخلف ، فان القطع من خصائصه التكوينية الكشف عن الواقع وإراءته ولازمه أن القطع يرى القاطع ان المقطوع به شيء مفروغ عنه ثابت في الواقع بقطع النّظر عن قطعه بحكم كونه كاشفا ومرآتا ويترتب على ذلك استحالة أخذ القطع بحكم في موضوع شخصه ، لأنه إن أريد أخذ القطع بحكم ثابت بلحاظ نفس هذا القطع فهذا خلف الخصوصية التكوينية المذكورة ، وإن أريد أخذ القطع بحكم ثابت بقطع النّظر عن القطع نفسه فهذا الحكم ليس شخص ذلك الحكم بل حكم آخر لأن هذا الحكم المقطوع به الثابت بحسب نظر القاطع بقطع النّظر عن قطعه حكم مطلق والحكم الثابت بسبب القطع حكم مقيد والمطلق غير المقيد لا محالة ، والحاصل ، ان أخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه يستلزم الخلف بحسب نظر القاطع وهو مستحيل أيضا.

وهذا وجه فني صحيح.

الوجه الثاني ـ لزوم اللغوية ، بتقريب : ان شخص الحكم انما يراد جعله للقاطع به بحسب الفرض ففي المرتبة السابقة لا بد من فرض ثبوت القطع بالحكم لكي يجعل عليه ومن الواضح ان في هذه المرتبة إذا لم يكن القطع بالحكم كافيا في محركية العبد ودفعه نحو الامتثال فلا يجدي جعل الحكم عليه في ذلك أيضا والحكم انما يعقل جعله حيثما تعقل محركيته. وقد ذكر السيد الأستاذ سنخ هذا البرهان في التجري لإثبات استحالة أخذ القطع بالحرام في موضوع الحرمة. إلا انه قد تقدم منا عدم صحة هذا البرهان هناك إذ لم يفترض هناك وحدة الحرمة بل يمكن تعدده ولو بنحو التأكد وهو صالح للمحركية زائدا على محركية التكليف غير المؤكد. وهذا الكلام غير جار في المقام لأنه بحسب الفرض ليس هناك إلا شخص حكم واحد يراد أخذ القطع به في

١٠٢

موضوع محركية زائدة على محركية ما قطع به المكلف.

وهذا الوجه بهذا المقدار قابل للمناقشة ، فان فائدة الجعل هنا ـ كما هو فائدته في تمام الموارد ـ أن يصل إلى المكلف فيحركه فان الجعل بنفسه منشأ يتسبب به لإيجاد العلم بالحكم ، كيف وهذا السنخ من الإيراد لو تم لأمكن أن يورد به على كل جعل ولو لم يؤخذ في موضوعه العلم به ، فوجوب الصلاة مثلا يقال في حقه انه إن أريد جعله في حق العالم به فهو لغو لأنه يتحرك من علمه سواء كان هناك وجوب أم لا ، وإن أريد جعله في حق الجاهل فهو لا يتحرك منه على كل حال. والجواب في الجميع واحد وهو ان المحركية المصححة للجعل هو أن يحرك في طول وصوله ويكون نفس جعله من علل إيصاله.

الوجه الثالث ـ انه يلزم منه الدور في عالم وصول الحكم فتكون فعليته مستحيلة وكل جعل يستحيل فعليته يستحيل جعله ، وجه اللزوم يتضح ببيان مقدمتين :

١ ـ ان الأحكام بمعنى المجعولات الفعلية التي هي محل الكلام في المقام وصولها انما يكون بوصول موضوعاتها بعد فرض إحراز أصل الجعل فالعلم بالمجعول تابع للعلم بموضوعه خارجا أي يكون مستنتجا استنتاجا لميا دائما ولا يتصور فيه العكس إذ ليس المجعول امرا خارجيا حسيا ليحس به مباشرة.

٢ ـ ان تطبيق هذا فيما إذا كان العلم بالحكم مأخوذا فيه مستحيل لأن القطع بالحكم يكون متوقفا على القطع بموضوعه بحكم المقدمة الأولى والمفروض ان موضوعه هو نفس هذا القطع وهذا يعني ان القطع بالحكم يتوقف على القطع بالقطع بالحكم وهذا دور ، اما لأن القطع بالقطع هو نفس القطع لأن هذا هو قانون كل الصفات الوجدانية الحضورية ، فانها معلومة بنفس وجودها لا بصورة زائدة عنها فيكون معناه توقف القطع بالحكم على القطع بالحكم وهو روح الدور ونكتة استحالته. واما لو افترض ان القطع بالقطع غير القطع نفسه بل صورة زائدة مقتبسة منه على أساس الإحساس به على حد الإحساس بالأمور الخارجية والإحساس بالشيء غير إدراكه فلا إشكال في ان القطع بالصفات الوجدانية معلول لها وليس من قبيل العلم بالأمور الخارجية ولهذا لا يعقل فيها الخطأ والتخلف فيكون القطع بالقطع بالحكم في المقام متوقفا على القطع

١٠٣

بالحكم فإذا كان القطع بالحكم متوقفا على القطع بالقطع كان دورا لا محالة ، وهذا يعني استحالة وصول هذا الحكم وفعليته ومعه يستحيل جعله أيضا. وهذا وجه صحيح أيضا.

وهكذا يتبرهن استحالة الأخذ بالحكم في موضوع شخص ذلك الحكم.

ولكن يبقى التساؤل بعد هذا عن المخلص عن هذا المحذور في الموارد التي ثبت فيها اختصاص الحكم بالعلم دون الجاهل كوجوب القصر مثلا أو وجوب الجهر والإخفات. بل لا إشكال عقلائيا ومتشرعيا في إمكان تخصيص الحكم بالعالم به في نفسه لو أراد المشرع ذلك فلا بد من تخريج فني لكيفية إمكان ذلك.

وهذا التخريج يكون على أحد وجهين :

الوجه الأول ـ أن يؤخذ العلم بالجعل في موضوع فعلية المجعول ولا محذور لأن الجعل غير المجعول على ما حقق في بحوث الواجب المشروط ، فيكون العلم بالجعل متوقفا على الجعل وهو لا يتوقف على فعلية مجعولة فانه عبارة عن حقيقة ينشئها الجاعل قبل أن يكون موضوع في الخارج كما هو واضح. والّذي يتوقف على العلم بالحكم بهذا المعنى هو فعلية المجعول خارجا عند تحقق الموضوع ولا محذور في أن تكون فعلية المجعول متوقفة على العلم بكبرى الجعل على حد توقفها على ساير القيود والشرائط كالبلوغ والقدرة مثلا.

وقد ذكرنا هذا التخريج للسيد الأستاذ فأجاب عليه بما هو موجود في الدراسات من انه إن أخذ العلم بجعل الحكم على زيد في موضوع الحكم عليه فمن الواضح ان الجعل لا يكون جعلا على زيد إلا إذا كان قد تحقق موضوعه في حقه المساوق لفعليته والمفروض استحالة أخذ العلم بها في موضوع الحكم ، وإن أخذ العلم بجعل الحكم على غير زيد في موضوع الحكم عليه فهذا ممكن ولكنه خارج عن محل الكلام إذ لا إشكال في إمكان أخذ العلم بحكم شخص في موضوع الحكم على شخص آخر.

وهذا الجواب غير تام. فان الجعل نريد به القضية الحقيقية التي نسبتها إلى زيد وغيره على حد واحد.

وإن شئت قلت : ان المقصود من الجعل هو الكبرى وهو جعل وجوب الحج على

١٠٤

المستطيع العالم به مثلا فانه لا محذور حينئذ لا في عالم الجعل ولا في عالم فعلية المجعول ، اما في عالم الجعل فلوضوح ان المأخوذ فيه هو مجرد فرض العالم بالجعل ولا يتوقف ذلك على فعليته ، واما بلحاظ عالم المجعول والفعلية فلان المكلف يتعلق علمه بتلك القضية المجعولة لا العلم بفعليتها في حقه ولا العلم بانطباقها عليه وتلك القضية قضية واحدة ليست امرا إضافيا ، وانما العلم بالانطباق فرع العلم بالصغرى أيضا وهو العلم بتحقق تمام قيود موضوع تلك القضية خارجا في حق المكلف وهو الّذي يستحيل أخذه في فعلية الحكم وهذا مطلب واضح الصحة والإمكان عقلا وعقلائيا.

وهذا التخريج لا يفرق فيه بين أن يقال بان المجعول له وجود حقيقي وراء الجعل أو ليس له إلا وجود وهمي كما هو الصحيح.

ويترتب على هذا أثران مهمان :

أحدهما ـ ما تقدم من تصحيح التصويب في المورد الّذي يقوم الدليل عليه.

الثاني ـ إمكان نفي احتمال دخالة العلم بالحكم في الغرض والملاك من الحكم حيث انه يكون التقييد به ممكنا فيكون التمسك بالإطلاق في الخطاب لنفي إطلاق الغرض والملاك ممكنا أيضا خلافا لما إذا قيل باستحالة التقييد به فلا يمكن التمسك بالإطلاق للكشف عن إطلاق الغرض والملاك بلحاظ هذا القيد الّذي هو من القيود الثانوية.

الوجه الثاني ـ أن يؤخذ العلم بالإبراز في موضوع الحكم المبرز والإبراز غير الحكم المبرز فلا محذور في أخذ العلم بالأول في موضوع الثاني ، وهذا نظير أن يقول المولى ( من سمع كلامي هذا يجب عليه الحج ).

وهذا الوجه أيضا كالوجه السابق يكون وافيا بترتيب كلا الأثرين الأصوليين المطلوبين من وراء إمكان أخذ العلم بالحكم في موضوعه.

ثم ان المحقق النائيني ( قده ) بعد أن بنى على استحالة تقييد الحكم بالعالم به سار سيرا آخرا في التخلص عن الإشكال في الموارد التي ثبت فيها أخذ القطع وذلك بتطبيق طريقة متمم الجعل فانه حيث استحال تقييد الحكم بالعلم به بل وكذلك بعدم العلم به استحال الإطلاق المقابل لكل منهما وهذا يعني إهمال الجعل الأول لوجوب الصلاة

١٠٥

إهمالا مطلقا فيضطر المولى إلى أن يتمم ذلك توصلا إلى غرضه المطلق أو المقيد بجعل ثان يؤخذ فيه العلم بالجعل الأول لو فرض اختصاص غرضه به ـ ولا محذور فيه لتعدد الجعلين ـ أو يكون مطلقا من ناحية العلم بالجعل الأول وعدمه لو فرض الإطلاق في غرضه ، وهذان الجعلان باعتبارهما نابعين عن ملاك واحد فلا محالة يكونان في قوة حكم واحد روحا لا حكمين مختلفين غاية الأمر قد توسل المولى في مقام إبرازه بإنشاء جعلين أحدهما مهمل والثاني مبين إطلاقا أو تقييدا.

وهذه الطريقة غير سديدة ولتوضيح ذلك نتكلم أولا عن الجعل الأول الّذي ادعى إهماله وثانيا عن الجعل الثاني.

اما الجعل الأول. فالصحيح ان استحالة التقييد توجب ضرورة الإطلاق لا استحالته فان التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب ( التناقض ) فإذا استحال أحدهما وجب الآخر وليس التقابل بينهما تقابل العدم والملكة كما يدعيه المحقق النائيني ( قده ) على ما حققناه في محله من بحوث المطلق والمقيد. نعم مثل السيد الأستاذ الّذي يرى ان التقابل بينهما تقابل التضاد لا يمكنه أن يورد في المقام ضرورة الإطلاق باستحالة التقييد ما لم يثبت بعناية زائدة وبرهان ان هذين الضدين لا ثالث لهما وهذا ما سوف نشير إليه فيما يأتي.

ولكن هذا الإطلاق الضروري لا يفيد شيئا لأنه إطلاق مفروض على المولى فلا يكشف عن إطلاق حقيقي في الحكم بلحاظ غرضه وملاكه فحال هذا الإطلاق حال الإهمال عند الميرزا ( قده ).

والسيد الأستاذ قد اعترض على هذه الفقرة من كلام الميرزا ( قده ) باعتراضين :

أحدهما : ان التقابل بين الإطلاق والتقييد وإن كان من تقابل العدم والملكة ـ كما كان مبناه أولا ـ إلا ان القابلية الملحوظة في ذلك للمحل ليست القابلية الشخصية بل النوعية بدليل ما نجده من صدق الاعدام المقابل للملكات في موارد يستحيل فيها الملكة بحسب شخص مورد معين فمثلا العلم بكنه الله تعالى مستحيل ولكنه يصدق على الإنسان انه جاهل بكنه ذات الله تبارك وتعالى. وليس ذلك إلا بلحاظ ان الميزان هو انحفاظ قابلية المحل لنوع تلك الملكة وإن كان خصوص فردها في

١٠٦

المورد مستحيلا ، وكذلك الحال في المقام فان الحكم بعد أن كان محلا قابلا لنوع التقييد بالقيود فيكون عدم تقييده بالعلم إطلاقا وإن كان خصوص هذا القيد مستحيلا.

وفيه : ان البحث ليس عن تحديد مصطلح العدم والملكة الّذي ذكره الحكماء مثلا فانه لم ترد آية أو رواية بان الإطلاق والتقييد بينهما تقابل العدم والملكة لكي يبحث عن تحديد مفاد هذا الاصطلاح وانما المنهج الصحيح للبحث ان سريان الحكم إلى تمام افراد الطبيعة هل تكون متقومة بالقابلية الشخصية أو النوعية أو ليست متقومة بالقابلية أصلا سواء كان المصطلح أو الاستعمال العرفي يساعد على صدق عدم الملكة في مورد فقدان القابلية الشخصية أم لا ، فالمسألة ثبوتية وليست لفظية أو اصطلاحية.

والصحيح فيها على ما تقدم في بحوث المطلق والمقيد عدم أخذ القابلية أصلا في الإطلاق بل حيثية سريان الحكم إلى تمام الافراد متقومة بمجرد عدم التقييد فتكون العلاقة بينهما علاقة التناقض لا العدم والملكة مهما كان مصطلح العدم والملكة من الناحية المثارة في كلام السيد الأستاذ.

ثانيهما ـ ان الإهمال في الجعل غير معقول لأن الإهمال انما يعقل في مقام الإثبات وإبراز الحكم لا في مقام الثبوت فان كل شيء في مقام الثبوت يكون متعينا ومتحددا بحده ويستحيل عدم تعينه في متن ثبوته ووجوده ذهنا أو خارجا.

وهذا الاعتراض غير وجيه أيضا فانه تارة يبنى ان التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب وأخرى يفرض انه من تقابل الضدين أي ان التقييد هو لحاظ القيد والإطلاق لحاظ عدمه ، فان بنينا على الأول فالمطلب لا يحتاج إلى إدخال هذه الخصوصيات في مقام تسجيل الاعتراض على الميرزا ( قده ) بل يقال بعبارة مختصرة وبديهية ان الإهمال بمعنى عدم الإطلاق والتقييد معا معناه ارتفاع النقيضين وهو واضح الاستحالة. وإن بنى على الثاني ـ كما هو مبناه ـ أو بنى على مبنى الميرزا من التقابل بنحو العدم والملكة فلا يمكن إثبات استحالة الإهمال بالبيان المذكور لأن الإهمال حينئذ لا يعني اللاتعيين والوجود المردد وانما يعني عدم لحاظ الإطلاق وعدم لحاظ التقييد أو عدم القابلية لذلك بناء على مبنى الميرزا ( قده ) ـ فهو لحاظ للطبيعة بلا

١٠٧

لحاظ أي شيء زائد عليها لا لحاظها مرددا بين الإطلاق والتقييد فأين هذا الإهمال من الإهمال في الوجود؟ فلا بدّ في إثبات استحالة الإهمال في المقام من إبراز نكتة أخرى.

واما فيما يتعلق بالجعل الثاني فيمكننا أن نسجل على المحقق النائيني ( قده ) ما يلي : ان المأخوذ في موضوع الجعل الثاني ـ متمم الجعل ـ هل هو العلم بالجعل الأول أو بفعلية مجعولة ، فان قيل بالأول فهذا وإن كان ممكنا ومعقولا ولا يبتلى بمحذور الدور إلا انه تطويل للمسافة بلا موجب لما تقدم من ان العلم بالجعل يمكن أخذه موضوع نفس الجعل الأول بلا حاجة إلى متمم الجعل.

وإن قيل بالثاني ورد عليه حينئذ :

أولا ـ ان المهملة اما أن تفترض في قوة الجزئية بحيث تنطبق خارجا على المقيد فقط أو تفترض في قوة الكلية أو يفترض بأنها لا تنطبق على الخارج أصلا ولا شق رابع ، والأول يلزم منه ، الاكتفاء بالجعل الأول فيما إذا كان غرض المولى في المقيد فيلغو متمم الجعل المقيد حتى لو كان التقييد مستحيلا إذ نفس عدم جعل متمم الجعل المطلق يكون دليلا على ان غرض المولى مقيد ولهذا اكتفي بالمهملة التي هي في قوة المقيد ، والثاني يلزم منه أن يلغو الجعل الثاني إذا كان غرض المولى في المطلق إذ يمكنه أن يكتفي بالجعل الأول الّذي هو في قوة الكلية ، والثالث يلزم منه استحالة العلم بفعلية المجعول في الجعل الأول خارجا فيستحيل فعلية الجعل الثاني أيضا لكونه منوطا بالعلم بمجعول الجعل الأول.

وثانيا ـ أن افتراض ان المهملة في قوة الكلية واضح الفساد ، لأن المهملة معناها عدم التقييد والإطلاق معا والمقصود بالإطلاق حيثية السريان فإذا فرض عدم الإطلاق فلا بدّ من فرض عدم حيثية السريان والكلية وإلا كانت محفوظة في ذات الطبيعة وهو خلف. فيتردد الأمر بين أن تكون في قوة الجزئية أو لا تنطبق على الخارج أصلا وعلى كلا التقديرين يلزم استحالة العلم بفعلية مجعول الجعل الأول ، اما على الثاني فلما تقدم واما على الأول فلان الجزئية في المقام هو المقيد بقيد العلم بالحكم وهذا يعني ان انطباق المهملة على فرد فرع العلم بالحكم المجعول فيها والعلم بذلك فرع انطباقها وهذا دور وهو نفس المحذور المتقدم في أصل أخذ العلم بالحكم في موضوعه

١٠٨

فإذا استحال العلم بفعلية المجعول الأول استحال فعلية المجعول الثاني أيضا.

وثالثا ـ ان المهملة في خصوص المقام يستحيل أن تكون في قوة الجزئية أيضا أي تنطبق حتى على المقيد لأن الانطباق على ذلك فرع أحد امرين ، اما أن تؤخذ الطبيعة المقيدة بذلك القيد في موضوع الحكم ، أو تؤخذ مطلقة وغير مقيدة بما يقابل تلك الحصة من الحصص لأن حيثية الإطلاق وسريان الحكم إلى فرد وحصة عند الميرزا ( قده ) ـ وبناء على مسالكه ـ انما يكون من جهة إطلاق الحكم بالنسبة إلى الحصة المقابلة لتلك الحصة أي عدم تقيده بعدم تلك الحصة فإذا كان هذا الإطلاق مستحيلا كان شمول الحكم للحصة الأولى مستحيلا أيضا على مسالكه ، نعم بناء على مسلكنا من ان حيثية الإطلاق هي نفس عدم التقييد مع الصلاحية الذاتيّة في الطبيعة للانطباق فلا موضوع لهذا الكلام. فيكون انطباق الطبيعة المهملة في المقام على الخارج مستحيلا وهذا يؤدي بالنتيجة إلى استحالة الإهمال لوضوح ان الحكم في القضايا المجعولة انما يجعل بلحاظ الافراد الخارجية وانطباق الطبائع عليها فالطبيعة غير المنطبقة على الخارج لا يتعلق بها حكم وهذا يعني استحالة الإهمال ، وهذه هي النكتة الأخرى التي أشرنا إليها في إثبات استحالة الإهمال في خصوص المقام (١).

المقام الثاني ـ في أخذ عدم العلم بالحكم في موضوعه أي أخذ العلم به مانعا عن الحكم ، وهذا تصور قد سلكه الشيخ ( قده ) في مقام توجيه كلمات بعض المحدثين القائلين بعدم حجية القطع الناشئ من الدليل العقلي بان ذلك ليس من باب الردع عن الحجية الذاتيّة للقطع الطريقي بل من باب أخذ عدم العلم المخصوص وهو العلم الحاصل من مقدمات عقلية في موضوع تلك الأحكام فلا يكون هذا القطع طريقيا لكي لا يمكن الردع عنه فانفتح الكلام في إمكان ذلك واستحالته.

__________________

(١) لا يقال : لعل الميرزا يدعي ان استحالة التقييد بحصة يؤدي إلى استحالة سريان الحكم للحصة المقابلة بالإطلاق ، لأن السريان الإطلاقي يستحيل باستحالة التقييد واما أصل السريان فيمكن أن يكون له وجه آخر ثابت في المهملة ويكون ميزانها هو صلاحية ذات الطبيعة للانطباق.

فانه يقال : نحن نسمي الإطلاق لكل حيثية تقتضي السريان فإذا كانت صلاحية الطبيعة وحدها كافية لذلك كانت هي الإطلاق وهذا خلف مسالك الميرزا ( قده ).

١٠٩

والصحيح : ان أخذ عدم العلم بالجعل في موضوع فعلية المجعول لم يكن فيه محذور الدور في طرف العلم فضلا عن أخذ عدم العلم الّذي من الواضح عدم توقفه على ثبوت الحكم ، نعم هنا شبهة أخرى هي لغوية جعل حكم مشروط بعدم العلم بجعله فان فائدة الجعل انما هو التحريك نحو الامتثال في طول وصوله فإذا قيد الحكم بعدم وصول الجعل كان لغوا لكونه غير قابل للتحريك حينئذ بلا للجاهل به لكونه جاهلا لا يتحرك ولا للعالم به لأنه بحسب الفرض مقيد بعدمه فلا يكون شاملا له. والجواب : ان هذا انما يلزم لو كان القيد المأخوذ هو عدم وصول الحكم بتمام مراتب الوصول لا عدم الوصول المخصوص كما هو مدعى الشيخ في المقام وهو الوصول العلمي العقلي مثلا إذ يتبقى أثر الجعل ومحركيته بلحاظ موارد الوصول والتنجز بغير الطريق المذكور.

واما أخذ عدم العلم بالمجعول الفعلي قيدا فهذا لا يرد فيه محذور الدور المتقدم في أخذ العلم لأن العلم وإن كان موقوفا على المعلوم إلا ان عدم العلم ليس موقوفا على ذلك ليلزم دور في البين.

واما محذور اللغوية فقد يقرب وروده في المقام بان أخذ العلم المخصوص بالحكم الفعلي مانعا عن فعلية الحكم لا يترتب عليه أثر المانعية لأن غير العالم بفعلية الحكم لا يكون موضوعا للمانعية المذكورة والعالم بها لا يمكن أن تصل إليه المانعية المذكورة لأنه خلف كونه عالما بفعلية الحكم في حقه. والحاصل : ان العالم بالحكم الفعلي يستحيل في حقه التصديق بهذه المانعية فاجتماع المانع مع وصول المانعية مستحيل ومعه يكون جعل مثل هذه المانعية مستحيلا.

والجواب : أولا ـ ان هذه المانعية مجعولة بنفس جعل الحكم مقيدا بعدم العلم وليست مجعولة بجعل مستقل فهي منتزعة من تقيد الجعل الثابت في حق غير العالم بالعلم المخصوص بعدم العلم المذكور ، والتقييد المذكور وإن لم يكن له أثر عملي لا في حق العالم بالعلم المخصوص ولا في حق غيره ، إلا انه يكفي في عدم لغويته تصور المقتضي وضيق الملاك والغرض من الجعل بفرض وجود القيد المذكور.

وثانيا ـ ان جعل المانعية المذكورة ـ ولو مستقلا ـ اثره عدم وجود المانع خارجا لا عدم وصول المانعية كما افترض في الشبهة فانه بعد علم المكلفين بتقييد فعلية الجعل

١١٠

بعدم العلم المخصوص كالعلم الناشئ من مقدمات عقلية فسوف لن يحصل علم منها لا انه يحصل علم ولا تكون المانعية فعلية كما زعم ، فاستحالة وجود المانع في المقام يكون من بركات نفس جعل المانعية ويكفي هذا أيضا في تصحيح جعل المانعية مستقلا ومعقوليته رغم كونه أثرا تكوينيا لنفس جعل المانعية وليس في طول الامتثال.

ثم ان الشيخ ( قده ) والمحققين من بعده أجروا كلاما طويلا في الظن واقسامه وموازاتها مع أقسام القطع والتفتيش عن الفروق بينهما إلا ان تلك الأقسام والأبحاث حيث انها مجرد افتراضات وليس لها تطبيق فقهي أو علمي إلا في مجال جعل الأحكام الظاهرية التي سوف يأتي الحديث عنها وعن حيثياتها موضوعا ومحمولا فنطوي هنا عن تلك البحوث صفحا.

١١١
١١٢

وجوب الموافقة الالتزامية

الجهة الخامسة : في وجوب الموافقة الالتزامية ، وهذا البحث يتكلم فيه عن الموافقة الالتزامية من جهتين. من حيث وجوبها في نفسها أولا ومن حيث مانعيتها على تقدير القول بوجوبها عن جريان الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي ، ويظهر اثره فيما إذا لم يكن هناك مانع من ناحية الموافقة العملية كما إذا كانت الأصول مثبتة والعلم الإجمالي ترخيصيا أو كان من موارد الدوران بين المحذورين الّذي يستحيل فيها الموافقة أو المخالفة العملية القطعية وتكون الموافقة الاحتمالية قهرية.

والمراد بالموافقة الالتزامية ذلك الفعل الاختياري النفسانيّ للإنسان الّذي هو من سنخ التوجه النفسانيّ الخاصّ المنتزع منه مفهوم الخضوع والتسليم والانقياد وهذا غير اليقين والقطع والاعتقاد الّذي هو من مقولة الانفعال لا الفعل ، فيقال ان الحكم الشرعي كما يستدعي فعلا خارجيا من المكلف فهل يستدعي فعلا نفسيا والتزاما قلبيا أم لا؟.

والتحقيق في المقام يستوجب التكلم في أمور :

الأمر الأول ـ في كيفية تصوير وتقريب مانعية وجوب الموافقة الالتزامية عن إجراء الأصول في أطراف العلم فانه تارة يقرب ذلك على أساس انه يؤدي إلى الالتزام

١١٣

بالمتنافيين وهو محال باعتبار ان الالتزام بالحكم المعلوم بالإجمال مع الحكم الظاهري المخالف في أطراف العلم يستحيل صدوره من العاقل.

وهذا البيان واضح الفساد ، فان المفروض ان متعلق أحد الالتزامين حكم واقعي ومتعلق الاخر حكم ظاهري واننا جمعنا بينهما من دون تناف أو تضاد ، بمعنى ان كليهما ثابت وواقع فالالتزام بهما ليس التزاما بمتنافيين بل بمتوافقين.

وأخرى تقرب المانعية : بان الالتزام بالحكم الواقعي المعلوم وإن لم يكن التزاما بالمنافي مع الحكم الظاهري المعلوم أيضا لأنه لا منافاة بينهما ولكن نفس هذا الالتزام مناف مع الحكم العملي بالخلاف في تمام الأطراف فالالتزام الجدي بإباحة شيء لا يجتمع مع فرض جريان استصحاب حرمته ووجوب الاجتناب عنه عملا.

وكأن هذا التقريب هو الملحوظ في الدراسات عند ما أجيب عنه : بان هذه المنافاة انما تتم لو كان الواجب هو الالتزام التفصيليّ في من الطرفين واما الالتزام الإجمالي بإباحة أحد الإناءين فلا منافاة بينه وبين الحكم بحرمتهما عملا وظاهرا. هذا مضافا إلى انه أساسا لا منافاة بين الالتزام بشيء وكون العمل الخارجي على خلاف ذلك فانا لا نسلم ان الالتزام والبناء يقتضي موقفا عمليا من الملتزم دائما.

والصحيح : ان هناك تقريبا ثالثا للمانعية هو الّذي ينبغي أن يقصد في المقام لا يفرق فيها بين كون الالتزام بالحكم الواقعي بعنوانه الإجمالي أو التفصيليّ.

وحاصله : ان موضوع وجوب الالتزام هو الحكم الواقعي المعلوم وبإجراء الأصل في تمام الأطراف ينفي ذلك الواقع المعلوم بالإجمال فينفي موضوع وجوب الالتزام ظاهرا إجمالا أو تفصيلا مع انه معلوم التحقق إجمالا فيكون ترخيصا في المخالفة من هذه الناحية وهو على حد الترخيص في المخالفة العملية إذ الميزان في المنع عن جريان الأصول أن يؤدي إلى الترخيص في مخالفة التكليف الشرعي المعلوم بالإجمال سواء كان متعلقه فعلا خارجيا أو فعلا نفسيا كما لا يخفى.

الأمر الثاني ـ في تحقيق حال المانعية المذكورة بالصياغة المتقدمة فنقول : ان وجوب الموافقة الالتزامية فيه احتمالات عديدة نذكرها مع بيان النتيجة على كل منها.

١ ـ أن يكون وجوب الالتزام وجوبا عقليا في طول تنجز التكليف بأن يقال ان

١١٤

العقل كما يحكم بلزوم الموافقة العملية للتكليف المنجز كذلك يحكم بوجوب الموافقة الالتزامية والنفسيّة لما يتنجز من التكاليف ، وعلى هذا التفسير يختص وجوب الموافقة الالتزامية بالاحكام الإلزامية لا الترخيصية إذ لا تنجز لها ولا الأحكام غير الواصلة لأنها ليست بمتنجزة ولا الواصلة بعلم إجمالي دائر بين محذورين.

وبناء على هذا الاحتمال لا تعقل مانعية المخالفة الالتزامية عن جريان الأصول لأن موضوع هذا الحكم هو التكليف المنجز والمفروض ان جريان الأصول يرفع التنجز حقيقة فلا تكون هناك مخالفة.

٢ ـ أن يكون وجوب الالتزام عقليا في عرض تنجز التكليف من الناحية العملية وذلك بأن يكون موضوعه نفس وصول التكليف لا تنجزه.

وبناء عليه أيضا لا مانع من جريان الأصول العملية من ناحية هذا الوجوب لأن العلم الإجمالي ينجز الجامع لا الواقع ، ومن الواضح ان المقدار الّذي يتنجز بهذا العلم يكون بمقدار الجامع لأنه المقدار الواصل وجريان الأصول حينئذ في الأطراف لا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة الالتزامية القطعية كما يؤدي إلى الترخيص في المخالفة العملية ، ونكتة الفرق انه في باب الموافقة العملية وإن كان الواصل والمنجز بالعلم بمقدار الجامع أيضا لا أكثر إلا ان إجراء الأصول في الأطراف يرخص في ترك الطرفين خارجا والجامع الخارجي لا يوجد إلا في ضمن أحدهما فيكون المكلف مرخصا في ترك الجامع أيضا ، وهذا بخلاف الالتزام فان موضوعه هو الصورة الذهنية والصورة الذهنية بمقدار ما هو واصل من التكليف يمكن الالتزام بها لأنها مباينة مع الصورة الذهنية لكل من الفردين بعينه فيمكن الامتثال بمقدار الجامع مع ترك الالتزام بالطرفين معا.

٣ ـ أن يكون وجوب الالتزام وجوبا شرعيا مترتبا على واقع الحكم الشرعي الأولي سواء كان معلوما وواصلا أم لا ، وهنا قد يتخيل ان جريان الأصول في الأطراف يوجب نفي تلك الإباحة أو الحرمة الواقعية ظاهرا فيترتب عليه نفي أثرها من وجوب الالتزام بها وهو ترخيص في المخالفة القطعية.

إلا ان هذا التوهم باطل.

١١٥

أولا ـ لأن الموافقة الالتزامية الواجبة تجاه الحكم الشرعي الواقعي غير الواصل لا يعقل أن يكون بمعنى الالتزام به بعنوان التفصيليّ وإلا يلزم التشريع بناء على انه عبارة عن الالتزام بما لا يعلم ـ ولو كان عبارة عن الالتزام بما ليس من الدين واقعا من دون دخل عدم العلم فيه دخل المقام في موارد الدوران بين المحذورين بلحاظ وجوب الالتزام في كل من الطرفين نعم بلحاظ الطرفين معا لو لم يلتزم بشيء منهما خالف وجوب الالتزام مخالفة قطعية بخلاف ما لو التزم بأحدهما دون الاخر فان المخالفة احتمالية لا قطعية إلا ان الصحيح عندنا ان التشريع يتحقق بالالتزام بما لا يعلم كونه من الدين ـ وعليه فالواجب هو التعبد والالتزام بالحكم الواقعي على إجماله ومن الواضح ان هذا موضوعه معلوم الثبوت لأن كل واقعة لها حكم واقعي وهو يستدعي وجوب الالتزام الإجمالي به وجريان الأصول في أي واقعة لا ينفي هذا الوجوب المتعلق بطبعي الحكم المعلوم بالإجمال ثبوته في كل واقعة. وإن شئت قلت : ان لازم حرمة التشريع بالمعنى المذكور أخذ العلم بالحكم الشرعي في وجوب الالتزام به شرعا وإلا لزم اجتماع الأمر والنهي النفسيين كما لا يخفى فلا يجب الالتزام إلا بمقدار العلم فيكون حال هذه الصورة حال الصورة السابقة.

وثانيا ـ لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بوجوب الالتزام بالحكم بعنوانه التفصيليّ ولو كان تشريعا ، مع ذلك لا مانع من جريان الأصول العملية في الأطراف.

اما الأصول غير التنزيلية منها أي التي لا تتعبد بنفي آثار المؤدى وانما تتعبد بالوظيفة العملية تجاه كل حكم شرعي فمن الواضح ان جريانها في الأطراف لا ينفي ما هو موضوع وجوب الالتزام وانما تثبت التأمين أو التنجيز بلحاظ الحكم الشرعي الأولي المعلوم بالإجمال في كل طرف واما الحكم بوجوب الالتزام الّذي هو حكم شرعي ثان بحسب الفرض فلا بدّ بلحاظه من إجراء أصل آخر مؤمن أو منجز ولا يكون ارتباط بين الأصلين والموقفين العملي والالتزامي المترتب عليهما كما هو واضح.

واما الأصول التنزيلية التي تتعبد بنفي المؤدى فغاية ما يلزم من جريانها وقوع التعارض بين إطلاق نفيها آثار المؤدى بلحاظ هذا الأثر بالخصوص وهو وجوب

١١٦

الالتزام لأن هذا الوجوب بعد أن كان شرعيا فهو حكم آخر مستقل لا محالة عن الحكم الشرعي الأولي له عصيان مستقل وإطاعة مستقلة. واما بلحاظ أصلها فلو لم يلزم مخالفة عملية فلا محذور من إجرائها وهذا واضح أيضا.

ومما ذكرناه في هذا الاحتمال ظهر حال احتمال رابع وهو أن يكون وجوب الموافقة الالتزامية وجوبا عقليا موضوعه مطلق الحكم الشرعي ولو لم يصل كما في الاحتمال الثالث فانه يرد على هذا الوجه ما أوردناه على الوجه الثالث أولا.

الأمر الثالث ـ في أصل وجوب الالتزام وهذا بحث فقهي وحاصله : انه إن كان المراد بالالتزام هو البناء على ان هذا الحكم حكم صادر من الشارع فمن الواضح ان مثل هذا البناء ليس بواجب لا شرعا ولا عقلا ولا هو من شئون إطاعة التكاليف ، فان كل تكليف ليس فيه اقتضاء ذاتي شرعا وعقلا لأكثر من إتيان متعلقه فإذا لم يؤخذ في متعلقه الالتزام والبناء فلا مقتضي لوجوبه. نعم لا بد للمسلم أن يتعبد بان كل ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو من قبل الله سبحانه وتعالى وإلا لم يكن مصدقا ومسلما بنبوته ، واما التعبد في كل حكم بأنه مما قد جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يجب.

والحاصل الواجب هو الالتزام والبناء والتعبد بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسالته وان ما جاء به واقعا من عند الله سبحانه ، وهذه مرحلة أخرى غير مربوطة بمحل البحث ، واما وجوب الالتزام والتعبد بان هذا حكم جاء به النبي وذاك حكم جاء به النبي فلا دليل على وجوبه.

وإن أريد بالالتزام التسليم والانقياد والخضوع لشريعة الإسلام على العموم والإجمال فهذا من شئون الإيمان ويكون واجبا بوجوبه ولا دخل له في المقام.

١١٧
١١٨

حجية الدليل العقلي

الجهة السادسة : في حجية الدليل العقلي ، بعد الفراغ عن حجية القطع في نفسه يقع البحث في خصوص القطع الحاصل من غير الكتاب والسنة أي من الأدلة العقلية. ولتوضيح الحال في تحرير هذا النزاع الّذي وقع بين الاعلام لا بد من إيراد مقدمتين :

الأولى ـ ان هناك نزاعين وبحثين حول مشروعية استخدام الأدلة العقلية في مجال استنباط الأحكام الفقهية.

أحدهما ـ النزاع بين الإمامية وغيرهم حول ان الدليل العقلي ، الظني كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة ونحو ذلك الذين بنى جمهور العامة على حجيته هل يصح الاعتماد عليه أم لا؟ وقد أجمع الإمامية تبعا لأئمتهم عليهم‌السلام على عدم جواز التعويل على ذلك.

الثاني ـ نزاع بين الإمامية أنفسهم في مشروعية استنباط الأحكام الشرعية عن الأدلة العقلية القطعية. وقد ذهب المشهور إلى صحة ذلك وذهب المحدثين إلى عدم حجيتها وهذا النزاع هو محل الكلام هنا لا الأول.

كما انه ينبغي أن يعلم بان المراد بالحكم العقلي ليس هو حكم القوة العاقلة

١١٩

بمعناها الفلسفي بل حكم يصدره العقل على نحو الجزم واليقين غير مستند إلى كتاب أو سنة.

كما ان النزاع مخصوص بالاحكام العقلية التي يراد استنباط حكم شرعي منها في عرض الكتاب والسنة لا الحكم العقلي الواقع في مبادئ التصديق بالكتاب والسنة ، إذ لا إشكال في حجيته عند الجميع وان حجية الكتاب والسنة لا بد وأن تنتهي إلى استدلال وقناعة عقلية ، ولا الحكم العقلي الواقع في طول الكتاب والسنة وفي مرحلة معلولات الأحكام الشرعية بحسب تعبير المحقق النائيني ( قده ) كحكم العقل بوجوب الامتثال وإطاعة الحكم وقبح معصيته.

الثانية ـ ان الأحكام العقلية على قسمين أحكام نظرية وأحكام عملية وقد قيل : ان العقل النظريّ إدراك لما هو واقع والعقل العملي إدراك لما ينبغي أن يقع. ولعل الأحسن تغيير التعبير لأن العقل العملي أيضا إدراك لما هو واقع فان العقل ليس له شأن إلا الإدراك لما هو واقع وثابت في لوح الواقع الأوسع من لوح الوجود والحسن والقبح أيضا امران ثابتان في لوح الواقع ، وانما الفرق ان الأمر الواقعي المدرك للعقل إن كان لا يستدعي بذاته موقفا عمليا وسلوكا معينا على طبقه فهو مدرك نظري وإن استدعى ذلك فهو مدرك عملي.

ثم ان تشكيل دليل عقلي على الحكم الشرعي تارة يكون مقتنصا من العقل النظريّ ، وأخرى من العقل العملي ، والقسم الأول يرجع إلى أحد بابين :

١ ـ باب العلاقات والاستلزامات الواقعية التي يدرك العقل ثبوتها بين الأحكام كما يدركها في الأمور التكوينية ، وإن شئت عبرت باب الإمكان والوجوب والاستحالة. فيحكم مثلا باستحالة اجتماع الأمر والنهي أو بإمكان الخطاب الترتبي أو بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته أو حرمة ضده ، وهذه الأحكام العقلية النظرية وإن كانت تكفي وحدها في مقام نقي الحكم الشرعي في مورد كنفي اجتماع كلا الحكمين المتضادين مثلا حيث يكفي في انتفاء شيء ثبوت استحالته ولكنها لا تكفي لإثبات الحكم واستنباطه منها وحدها بل لا بد من ضم ضميمة إليها. فان مجرد إمكان شيء أو استحالة ضده أو ثبوت الملازمة بينه وبين شيء آخر لا يشكل دليلا على ثبوته.

١٢٠