جواهر الكلام - ج ٢٨

الشيخ محمّد حسن النّجفي

من غير أن ينقله هو » وهو ظاهر أو صريح في أن موضوع البطلان ما فرضناه ، لا ما حكمنا بصحته.

أو يقال : إن المدار في الصحة والبطلان في هذه المسائل كلها ملاحظة معنى العنوانية سواء كانت لوصف في الموقوف عليه ، أو في الواقف ، أو في غيرهما فيصح لعموم‌ « الوقوف (١) » وغيره وملاحظة معنى الشرطية التي تقتضي تعليقا في السبب أو إبطالا لما هو ثابت في الشرع أو إثباتا لما هو للشارع لا له أو نحو ذلك ، فيبطل جيدا ، فإن في كلامهم تشويشا حتى الرياض ، فإنه بعد الإغضاء عما حكاه فيه عن التذكرة وعما ذكره ، من غير ذلك.

قال : « والتحقيق أن يقال : إن هنا إجماعين متصادمين بحسب المرجحات ، فلا يمكن التمسك بأحدهما ، فيبقى الرجوع إلى حكم الأصل ، وهو عدم الصحة ، وإثباتها بالعمومات غير ممكن ، بعد فرض سقوطها ، كالشهرة المرجحين للإجماعين في البين ، كنفس الإجماعين ، مضافا إلى ما عرفت من وهن الإجماع الثاني ، فإذا المذهب مختار الأكثر ، وإن كان الصحة في الجملة أحوط ».

إذ هو كما ترى من غرائب الكلام ، بعد ما عرفت من أن موضوع إجماع التذكرة من انتقال الوقف ، غير موضوع إجماع الشيخ الذي هو النقل ، ومن هنا قد سمعت أن المحكي عنه هنا البطلان ، مع دعواه الإجماعين المزبورين.

بل ويظهر لك ما في المسالك ، بل وما في جامع المقاصد فضلا عن غيرهما من الكتب فلا حظ وتأمل كي تعرف الحال في المسائل الثلاثة ، وأن المدار في البطلان فيها أجمع على اشتراط الإدخال والإخراج والنقل ، وفي الصحة على اشتراط الدخول والخروج والانتقال ، وفي معقد إجماع التذكرة وغير ذلك من مسألة الوقف على الأولاد سنة ، ثم على الفقراء وغيرها والله العالم.

وعلى كل حال فقد قيل والقائل الشيخ في النهاية إذا وقف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث ١ ـ ٢.

٨١

على أولاده الأصاغر ، جاز له أن يشرك معهم من يتجدد له من الأولاد وإن لم يشترط ووافقه على ذلك القاضي ، ولكن بشرط عدم تصريحه بإرادة الاختصاص ، ولعل ذلك مراد الشيخ أيضا.

وكيف كان فهو ليس بمعتمد لمنافاته قاعدة الأسباب وما استفاضت به النصوص من عدم جواز الرجوع فيما كان الله ، إذا التشريك فيه رجوع عما فعله أولا ، ولغير ذلك ، ولذا أعرض المشهور عنه ، بل لم أجد من وافقهما عليه كما اعترف به غير واحد ، فإن احتج لهما بصدر‌ صحيح ابن يقطين « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يتصدق على بعض ولده بطرف من ماله ، ثم يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه غيره من ولده ، قال : لا بأس بذلك ، وعن الرجل يتصدق ببعض ماله على بعض ولده ويبينه لهم ، إله أن يدخل معهم من ولده غيرهم بعد أن أبانهم بصدقة؟ قال : ليس له ذلك ، إلا أن يشترط أنه من ولد له فهو مثل من تصدق عليه فذلك له ».

وخبر سهل « سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الرجل يتصدق على بعض ولده بطرف من ماله ، ثم يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه غيره من ولده ، قال : لا بأس به ».

وصحيح ابن الحجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الرجل يجعل لولده شيئا وهم صغار ثم يبدو له أن يجعل معهم غيرهم من ولده ، قال : لا بأس ».

وخبر علي بن جعفر (١) عن أخيه عليه‌السلام المروي عن قرب الاسناد « سألته عن رجل تصدق على ولده بصدقة ثم بدا له أن يدخل غيره فيه مع ولده ، أيصلح ذلك؟ قال : نعم يصنع الوالد بمال ولده ما أحب ، والهبة من والد بمنزلة الصدقة من غيره » فإن الجميع ـ بعد الإغضاء عما في السند مع عدم الجابر ، وعما في المتن من أنها غير مختصة بدعوى القائل من تشريك خصوص من يتحدد له من الأولاد ، واحتمال الصدقة والجعل غير الوقف أو إرادة الصدقة والعزم عليها ـ من المطلق الذي يجب حمله على المقيد الذي في خبر ابن يقطين ، بل هو كالصريح في ذلك ، ضرورة عدم الفرق بين سؤاليه حتى أجاب الأول منهما بنفي البأس ، والثاني بعدم الجواز إلا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الوقوف الحديث ٥.

٨٢

بالتقييد المزبور ، بل منه يظهر أن الإطلاق في مثل هذا السؤال منصرف إلى فاقد القيد ، المراد منه عدم الإقباض أو عدم بيان المتصدق به ، وإن كان عازما عليه.

وعلى كل حال يكون خارجا عن المفروض الذي هو التشريك في الوقف ، بعد وقوعه وجمعه لجميع شرائط الصحة اللزوم ، وتجرده عن اشتراط الشركة بالإرادة.

ومن الغريب ما في المسالك من الميل إلى قول القاضي حيث قال بعد ذكر النصوص « ويمكن التوفيق بين النصوص بأمرين أحدهما ـ أن يكون في الثاني قد شرط قصره على الأولين كما يشعر به‌ قوله « بعد أن أبانهم بصدقة » ويحمل الأول على ما لم يشترط ذلك على ما يدل عليه إطلاقه ، فيكون ذلك كقول القاضي ، والثاني حمل النفي في الثاني على الكراهة جمعا ، وكلاهما متجه ، إلا أن الأول من التأويلين أوجه ».

إذ هو كما ترى مناف للاستثناء الظاهر في الخبر المزبور ، وبعيد عن لفظ الإبانة أو التبيين ، فلا ريب في أن الجمع بينهما بما ذكرناه ، وخبر قرب الإسناد إنما هو على مذاق غيره من النصوص الدالة على ثبوت السلطنة للوالد على مال ولده ، نحو‌ (١) « أنت ومالك لأبيك » المحمولة على رجحان عدم معارضة الولد للوالد فيما أحبه لو كان بالغا ، وعلى ثبوت الولاية له على ماله على حسب الوجه الشرعي ، فلا بد من حمل الصدقة فيه على ما يقبل التشريك الحاصل من الوالد ، ولو بسبب جديد حتى في الوقف بالنظر إلى التشريك معه في المنفعة بصلح ونحوه.

فظهر من هذا كله أن الوقف متى تم لم يجز له حينئذ تغييره بإدخال أو إخراج أو نقل إلا مع الشرط الذي ذكرناه ، لكن في المقنعة « لو حدث في الموقوف عليهم حدث يمنع الشرع عن معونته والصدقة عليه ، والتقرب إلى الله تعالى بصلته جاز التغيير فإن الوقف صدقة ، فلا يستحقه من لا يستحقها ، فإذا أحدث في الموقوف عليه كفر أو فسق بحيث يستعان بذلك المال عليهما جاز حينئذ للواقف التغيير والإدخال ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧٨ ـ من أبواب ما يكتسب به الحديث ـ ٢ و ٨ و ٩.

٨٣

ونفى عنه البعد في المختلف قال : « وإن منعه الحلبي وغيره « ثم قال » وهذا مع حدوث المانع ، أما لو كان حاصلا حال الوقف فلا.

وهو كما ترى لا يخفى عليك ما فيه إذا لم يكن ذلك على جهة تغيير العنوان ، ضرورة معلومية اللزوم في عقد الوقف ، ولا دليل على جواز نقضه وتغييره بحدوث الحادث المزبور في الموقوف عليه الذي صار الموقوف بسبب الوقف كسائر أمواله ، اللهم إلا أن يدعي أن الوقف لما كانت صدقة جارية اعتبر في استدامته ما اعتبر في ابتدائه من كون الموقوف عليه محلا للصدقة ، ولكن هي أيضا كما ترى.

ومما ذكرنا ظهر لك جواز كل شرط سائغ في الوقف ، حتى أنه لو شرط أن يؤجر من ضعيف أو مماطل أو لا يؤجر أزيد من عام مثلا أو لا يوقع عليه عقدا حتى ينقضي مدة الأول ، أو لا يسلم حتى يقبض الأجرة ونحو ذلك.

نعم لو شرط أن له كلما شرط الواقفون في وقفهم أو سيشترطونه ، ففي الدروس « بطل للجهالة » وعن بعض العلماء جوازه ، وكأنه يحمله على الشروط السائغة بأسرها ، ولو أنه صرح بذلك فالظاهر البطلان لعدم انحصارها.

قلت : قد يقال : أنه لم يثبت البطلان بعدم الانحصار هنا بعد فرض تناول‌ عموم « الوقوف » و « المؤمنون » له والله العالم.

وكيف كان فـ ( القبض معتبر ) في الصحة أو اللزوم في الموقوف عليهم أولا وإن شاركهم في طبقتهم من يتحدد من المعدومين ويسقط اعتبار غير ذلك من القبض في بقية الطبقات.

بلا خلاف أجده فيه ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، بل وقد تشعر به عبارة بعضهم في باقي الطبقات ، لعموم الأدلة وإطلاقها التي اقتصر في الخروج عنهما على هذا المقدار من القبض ، دون غيره الذي يمكن دعوى القطع بعدم اعتباره ، وهذا هو العمدة لا ما ذكروه ـ من أنهم يتلقون الملك عن الأول ، وقد تحقق الوقف ولزم بقبضه ، فلو اشترط قبض الثاني لانقلب العقد اللازم جائزا بغير دليل ، وهو باطل.

٨٤

إذ هو كما ترى ، ضرورة أن التلقي من الواقف ، وخصوصا مع شركة المعدوم معهم في طبقتهم ، فمع فرض عموم دليل القبض وعدم حصوله من الحاكم الذي هو ولي البطون ، لا مانع من صيرورة العقد لازما في حق من قبض ، دون غيره ممن فقد الشرط ، وليس ذلك انقلابا للعقد ، ولا تبعيضا ممنوعا ، بل أقصاه أنه يكون منقطعا مع فرض الفسخ قبل قبض الطبقة الثانية أو عدم قبضهم ، والممنوع إنما هو انقلابه جائزا في حق من لزوم في حقه بلا دليل ، كما هو واضح والأمر سهل بعد معلومية الحال.

ولو وقف على الفقراء أو على الفقهاء أو نحو ذلك ممن لا يمكن حصول القبض منهم أجمع ، فلا بد بعد فرض تناول دليل اعتبار القبض لذلك من قبض الحاكم الذي هو الولي العام أو نصب قيم منه لقبض الوقف ولا يكفي قبض بعض المستحقين فإنه ليس هو الموقوف عليه بل الجنس الذي لا يتحقق القبض بالنسبة إليه إلا بقبض جميع أفراده أو الولي العام دون بعض أفراده.

ومن هنا كان قبض الحاكم للزكاة قبضا للفقراء اجمع وموجبا لبراءة ذمة الدافع وكان له الصلح عنها بخلاف قبض مستحقيها فإنه لا يكون قبضا لها عن الجميع ، وإنما له قبض ما يخصه الدافع به ، باعتبار كونه مصرفا من مصارفها ، كما هو واضح ، هذا.

ولكن في الدروس والمسالك والروضة والكفاية والمفاتيح أن للواقف نصب قيم لذلك ، بل في الثاني منها خصوصا مع فقد الحاكم ومنصوبه ، ومحل نصبه قبل إيقاع الصيغة إن اعتبرنا فوريته ، وإلا فقبله أو بعده.

وفيه أنه لا دليل على أن له هذه الوظيفة باعتبار كونه واقفا. نعم له اشتراط الناظر على وقفه في عقد وقفه ، لعموم‌ (١) « المؤمنون عند شروطهم » وهو غير قابض الوقف وربما استدل له بما‌ في صحيح صفوان (٢) السابق في مبحث القبض « إن كان أوقفها لولده ولغيرهم ، ثم جعل لها قيما ، لم يكن له أن يرجع فيها » إلى آخره.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الوقوف الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الوقوف الحديث ٨.

٨٥

وربما في التوقيع السابق (١) فإن ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيما عليها ، ولا يجوز لغيره ، إلا أن الثاني منهما إنما هو في الناظر ، ضرورة كون الوقف فيه خاصا عليه ، فلا يراد من القيم فيها إلا الناظر في عمارتها ، وأداء خراجها ، ومؤنتها وإيصال ما بقي من دخلها إليه ، وأما الأول منهما ـ فهو مع أن من الموقوف عليه ولده ، ولم يتعرض فيه لقبضهم أو للقبض عنهم ، والقيم لا يجدي بالنسبة إليهم ـ ظاهر في الإكتفاء في مثل هذا الوقف بذلك ، ولا يحتاج إلى قبض ، ولا دلالة فيه على ما ذكروه من النصب المزبور قبل الوقف أو بعده.

بل لعل التزام ذلك أولى منه ، بدعوى أنه لا دليل على اعتبار القبض في مثل الفرض ، لاختصاص أدلته بما لا يشمله ، فإطلاق الأدلة وعمومها بحاله بالنسبة إلى نفي شرطيته فيه ، وحينئذ فما ذكروه لا يخلو من إشكال ، خصوصا بعد اعترافهم بأن المراد مما أطلقه المصنف وغيره من النصب ، الحاكم ، لا ما يشمل ذلك.

ولو كان الوقف على مصلحة كالقنطرة والمسجد ونحوهما كفى إيقاع الوقف على اشتراط القبول عند المصنف وجماعة ، بل في المسالك أن وجهه ظاهر ، لأن القبول يكون من الموقوف عليه ، وقد عرفت أن الموقوف عليه في مثل ذلك هو الجهة ، ولا يعقل اعتبار قبولها ، بخلاف ما لو كان الوقف على معين ، فإن قبوله ممكن.

وإن كان لا يخفى عليك ما فيه ، ضرورة كون القبول جزء من الوقف الذي قد عرفت الإجماع على أنه من العقود ، فهو أولى من القبض الذي هو شرط على فرض اعتباره ، وتكلفوا حصوله بقبض الناظر والحاكم وغيرهما ، وقد مر تحقيق المسألة ، وقلنا الظاهر وحدة سببية الوقف ، لا أنه عقد في المعين ، وإيقاع في غيره ، وقد استظهرنا كونه عقدا في الجميع ، فلا بد من القبول من الحاكم أو منصوبه في المفروض ، فضلا عن سابقه.

إنما الكلام في قول المصنف ومن تأخر عنه هنا ، وكان القبض إلى الناظر في تلك المصلحة الذي هو مبنى على اعتبار القبض في الوقف مطلقا ، حتى في المسالك نفي الريب عنه ، كما أن فيها وفي غيرها أيضا أنه إن كان لتلك المصلحة ناظر شرعي من قبل الواقف تولى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ٣.

٨٦

القبض من غير اشتراط مراجعة الحاكم ، لأن الناظر مقدم عليه ، فإن لم يكن لها ناظر خاص فالقبض إلى الحاكم.

وإن كان قد يناقش بأن لا دليل على اقتضاء نظارته المستفادة من‌ عموم « المؤمنون » ثبوت ولاية له على وجه يكون قبضه لما يوقف على الصرف فيها قبضا عن الموقوف عليه ، اللهم إلا أن يقال : إن مشروعية نظارته تقتضي ذلك ، أو يقال : إن الوقف إنما هو على المصلحة التي تحقق ولايته عليها باشتراط النظارة فيها ، فيكون وليا لها بالنسبة إلى ذلك.

لكن فيه ما عرفت من أن الوقف في ذلك على المسلمين وإن صرف في المصلحة الخاصة لهم ، لعدم قابلية الجهة للوقف عليها ، وحينئذ فاشتراط نظارته فيها لا تقتضي الولاية على المسلمين على وجه يقوم قبضه ما يوقف لإرادة تعميرها ونحوه مقام قبضهم ، فضلا عن أن يكون هو مقدما على الحاكم الذي هو الولي العام ، ولعله لذا وغيره عبر في الرياض عن هذا الحكم بلفظ قالوا مشعرا بعدم الإذعان به.

ولو وقف مسجدا صح الوقف ، ولو صلى فيه واحد بإذنه بنية أنه قبض له ، بل حتى لو كان هو الواحد ، وكذا لو وقف مقبرة تصير وقفا بالدفن فيها ولو واحدا كذلك لتحقق القبض حينئذ بذلك ، ولعل دليله ما يقال : من الإجماع المستفاد من الإيضاح ، وجامع المقاصد ، وإن كنا لم نتحققه.

نعم ذكره غير واحد من الأصحاب ذكر المسلمات ، فان تم إجماعا وإلا فلا يخفى ما فيه من الإشكال ، ضرورة أنه لا ولاية للفاعل على جميع الموقوف عليهم ، حتى يكون القبض منه بالفعل المزبور قبضا عنهم ، على أنه لم يعتبر أحد منهم في القبض وغيرهما انتفاع القابض بالموقوف فيما وقفه عليه واقفة ، وإلا لا كتفي به في باقي الأوقاف العامة التي قد عرفت أنه لا بد من نصب قيم فيها ، ودعوى الفرق بينهما ـ بأن الوقف فيها على الجهة ، فيكفي قبض واحد من عباد الله بخلاف غيرها من الوقف على الفقراء ونحوهم كما ترى لا تستأهل ردا ، ضرورة أن الوقف هنا على المسلمين أو أخص منهم ، كما في المقبرة الخاصة ، مع أن الفعل المزبور فرع حصول الوقف لا أنه به يتم الوقف وخصوصا في أمثال ذلك من المصالح العامة التي مرجعها للمسلمين بل إن أريد‌

٨٧

حصر قبضها لمثل ذلك على وجه لا يجزي غيرها ازداد إشكالا ، لمخالفته لعموم ولاية الحاكم المقتضى للاكتفاء بحصول القبض منه ، ومن منصوبه بالاستيلاء عليه بإذن الواقف ، كغيره من الموقوفات من غير حاجة إلى صلاة أو دفن.

ولذا صرح الفاضل في القواعد والمحقق الثاني في جامعه والشهيد الأول في دروسه ، والثاني في مسالكه بالاكتفاء به ، كما هو المحكي عن الإيضاحين والتنقيح والكفاية والمفاتيح ، إلا أن الجميع ذكروا ذلك بلفظ الأقرب والأقوى ونحوهما ، مشعرين باحتمال العدم ، كما صرح به في جامع المقاصد قال : لعدم النص ، وظاهره وجوده في الأول ، لكن لم نعثر عليه.

وعلى كل حال فقد قيده غير واحد بوقوع ذلك بإذن الواقف ليتحقق الإقباض الذي هو شرط صحة القبض ، وبوقوعهما بنية القبض أيضا فلو أوقعاه لا بنيته كما لو وقع قبل العلم بالوقف أو بعده قيل الإذن في الصلاة أو بعدها لا يقصد أما لذهوله عنه ، أو لغير ذلك لم يعتب ، وهو مؤكد لما قلناه هناك في القبض.

لكن في جامع المقاصد وتبعه غيره « وإنما اختص هذا الوقف بنية القبض ، ولم يشترط في مطلقه ، لأن المقصود هنا صرفه إلى الجهة الموقوف عليها ، وقبض بعض المستحقين كقبض الأجنبي بالنسبة إلى قبض الموقوف عليه ، فلا بد من نية صادقة له إلى الوقف ، بخلاف الوقف على معين ، فإن قبضه متحقق لنفسه ، والمطلوب صرفه إليه وهو حاصل ، فلا حاجة إلى قصد بعينه » ومن الفرق يظهر أن القابض لو كان وكيلا عن الموقوف عليه اعتبرا قصده القبض عن الغير ، وكذا لو وقف الأب والجد ما بيدهما على المولى عليه اعتبر قبضهما عن الطفل ، ولا يكفي استصحاب يدهما ، لأن القبض السابق محسوب لنفسه لا لغيره.

ولا يخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه سابقا ما في هذا الكلام ، بعد معلومية كون القبض يقع على وجوه متعددة ، فلا بد من تشخيصه بالقصد ، وإن كان الوقف على معين سواء كان في يده المال بعارية ونحوها أو لم يكن ، فلا يكفى فاقد القصد فضلا عن المقصود به عدم قبض‌

٨٨

الوقف كما هو واضح مع أنه قد يقال في المقام الذي فرض دليله إطلاق الأصحاب ذلك ، الاكتفاء بذلك كيف كان ، للإطلاق المزبور ، اللهم إلا أن يقال : بانسياق المقصود من القبض منه دون الأعم ، ومثله آت في الوقف على المعين مع فرض وجود إطلاق يقتضي الاكتفاء به ، وإلا فقد عرفت أن ظاهر الأدلة القبض المقصود به قبض وقف كما عرفت الكلام فيه مفصلا ، وكذا المنساق بعد انحصار الدليل في الإطلاق المزبور الوقوع على الوجه الشرعي ، وكون المدفون من جملة الموقوف عليهم ، وكالمسلم فيما يوقف على المسلمين ، وفي حكمه من يتبعه من طفل أو مجنون ، بل والمسبي في وجه قوى كما صرح بذلك كله بعضهم ، وإن كان لا يخلو من نظر في بعض الأفراد التي يمكن دعوى تحقق صدق القبض فيها كالدفن الذي لم يمنع الرائحة مثلا.

( ولو صرف الناس في الصلاة في المسجد أو في الدفن ولم يتلفظ بـ ) صيغة الوقف ، لم يخرج عن ملكه بلا خلاف أجده فيه هنا وكذا لو تلفظ بالعقد ولم يقبضه بل في المسالك هذا موضوع وفاق ، وإنما نبه به على خلاف أبي حنيفة حيث جعل الوقف متحققا بالاذن مع الصلاة وبالدفن كذلك محتجا بالعرف ، وقياسا على تقديم الطعام للضيف ، والعرف ممنوع ، والفرق ظاهر.

قلت : لكن قد ذكرنا في أحكام المساجد أنه قال في المبسوط : « إذا بنى مسجدا خارج داره في ملكه ، فإن نوى به أن يكون مسجدا يصلى فيه كل من أراده ، زال ملكه ، وإن لم ينو ذلك فملكه باق عليه ، سواء صلى فيه أو لم يصل » وقال في الذكرى ، : « ظاهره الاكتفاء بالنية ، وليس في كلامه دلالة على التلفظ ، ولعله الأقرب » ونحوه في الدروس ومحكي مجمع البرهان وقلنا هناك ، إن دليلهم دعوى السيرة من المسلمين على ذلك ، وهي ممنوعة ، وعن جامع المقاصد أن في النفس من ذلك شيئا ، لأن الحال فيه كالحال في غيره من العقود مثل النكاح.

قلت : هو حينئذ كالنكاح من العقود الخاصة مما شرعت المعاطاة فيه بالسيرة القطعية عند القائل بها كما نقحناه في محله إلا أنها لما كانت مفقودة في مثل المساجد ونحوهما فضلا عن غيره من‌

٨٩

الأوقات الخاصة قلنا : أنه كالنكاح لا يجرى فيه إلا العقد ، ولا تشرع فيه المعاطاة وإن حكى عن بعض المعاصرين المتأخرين توهم ذلك ، إلا أنه كما ترى.

( النظر الثالث : في اللواحق )

وفيه مسائل : الأولى : الوقف إذا تم زال عن ملك الواقف عند الأكثر ، بل عن المشهور بل في محكي الغنية والسرائر الإجماع عليه ، وهو الحجة على ما تفرد به أبو الصلاح في ظاهر المحكي من كافيه من البقاء على ملك الواقف ، مضافا إلى إمكان دعوى القطع به من النصوص التي ستسمع بعضها في إثبات انتقاله إلى الموقوف عليه ومضافا إلى دعوى كون ذلك هو المراد من إنشائه الذي شرع الشارع المعنى المتعارف فيه على نحو شرعه باقي العقود ، وإن جعل لها شرائط صحة ولزوم ، خصوصا بعد ملاحظة كونه قسما من الصدقات.

وقوله عليه‌السلام (١) « حبس الأصل وسبل الثمرة » لا دلالة فيه على ما ينافي ذلك ، ضرورة إمكان إرادة بقاء الأصل محبوسا ولو على ملك الموقوف عليه ، بحيث لا يباع ولا يوهب ولا يورث إذ الحبس فيه مقابل تسبيل الثمرة ، لا الحبس الذي هو العقد المقتضى بقاء ملك العين للمالك ، إذ هو قسيم الوقف ، لا نفسه ، وجواز إدخال من يريد فيه ـ مع صغر الأولاد وإن لم يشترط ـ قد عرفت منعه عندنا ، مع أنه لا يدل على ذلك ، ضرورة إمكان كونه لدليل شرعي ، وهو النصوص السابقة ، وإلا فلا إشكال في كون الثمرة للموقوف عليه فتكفي حينئذ في المنع عن التشريك المزبور كما هو واضح ، فما عن بعض العامة ـ من بقائه على ملك الواقف لذلك وللأصل المقطوع بما عرفت واضح الفساد.

بل الأقوى ما أطلقه المصنف من أنه ينتقل إلى ملك الموقوف عليه كما عن المبسوط وفقه القرآن والغنية والسرائر والتذكرة والإرشاد وشرحه لولده وجامع الشرائع والتحرير والمختلف ، سواء كان على معين أو غير معين أو جهة عامة حتى المسجد والمقبرة التي‌

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥١١.

٩٠

وقف على المسلمين مثلا ، بل في المسالك نسبة ما في المتن إلى الأكثر وعن غيرها إلى المشهور لأن فائدة الملك باستحقاق النماء والضمان بالتلف ونحوهما موجودة فيه

ونقض ذلك بضمان بواري المسجد وآلاته مع أنها ليست مالا ـ يدفعه منع عدم كونها مالا ، وإلا لم تضمن ، ضرورة اقتضاء اعتبار المالية في الضمان المستفاد من قوله‌ عليه‌السلام (١) « من أتلف مال غيره » ونحوه فيتعين حينئذ ضمانها للمسلمين الذين هم الموقوف عليهم ، كباقي أموالهم من أرض الخراج وغيره ، لعلو رتبة ملك ، السموات والأرض عن التشبيه ، بملك الآدميين ، وما كان ذلك فهو لوليه ، كما في الأنفال ، ومن المعلوم عدم كونه المقام منها.

وعلى كل حال فلا محيص عن القول بالملك للموقوف عليه. والمنع من البيع لا ينافيه كما في أم الولد وغيره مع أنه قد يصح بيعه على وجه من الوجوه عند كثير من الأصحاب ، ولما سمعته سابقا من أن كل وقف لا بد له من موقوف عليه ، بل هو من أركانه ، وأن الوقف على الجهات في الحقيقة على المسلمين ، والمراد بالموقوف عليه هو الذي يتصدق عليه بعين الموقوف ومنفعته ، كما هو صريح ما ورد عنهم عليهم‌السلام في صدقاتهم.

ففي صدقة الكاظم عليه‌السلام (٢) « هذا ما تصدق به موسى بن جعفر عليه‌السلام تصدق بأرضه ، بمكان كذا وكذا وحد الأرض كذا وكذا كلها ونخلها وأرضها وبياضها ومائها وأرجائها وحقوقها وشربها من الماء وكل حق قليل أو كثير هو لها في مرفع أو مظهر أو مفيض أو مرفق أو ساحة أو شعبة أو مشعب أو مسيل أو عامر أو غامر ، تصدق بجميع حقه من ذلك على ولده من صلبه الرجال أو النساء » إلى آخره.

بل هو المستفاد من‌ « قول أمير المؤمنين عليه‌السلام لما جاءته البشير بعين ينبع (٣) فقال : بشر الوارث هي صدقة بتا بتلا في حجيج بيت الله تعالى وعابر سبيل الله لا تباع ولا توهب ولا تورث فمن‌

__________________

(١) قاعدة مستفادة من مضامين الأخبار.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام الوقوف الحديث ـ ٥. مع اختلاف يسير.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب أحكام الوقوف الحديث ـ ٢.

٩١

باعها أو وهبها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا » فإن المراد بالوارث الموقوف عليه كما أن المراد من‌ قوله عليه‌السلام « بتة بتلاء » بائنة منقطعة عن صاحبها ، بل لعل‌ قوله « لاتباع ولا توهب » يومئ إلى إرادة الصدقة بها عينا ومنفعة على الموقوف عليه ، إلا أن الصدقة بالعين ليس على حد غيرها من الصدقة التي تباع وتوهب بل هي له على إرادة ملك نحلتها مثلا ملكا مطلقا ، على أنه لا إشكال في أن أمثال هذه العيون والبساتين والدور والعبيد أموال تضمن بالتلف ، وليس في الشرع مال بلا مالك ، والفرض خروج الواقف بوقفه عنه ، فليس إلا الموقوف عليه الذي قصد التصدق به عليه ، ومقتضى شرعية ذلك ترتب ما قصده عليه لا غيره ، على أن رب العزة تعالى عن شبه ملك الآدميين ، وانما هو مالك السموات والأرضين وما نحن فيه من الملك المالى المختص بالآدميين ، وملكه بالمعنى المزبور إنما هو لوليه كما في النص ، والتزام ذلك هنا معلوم الفساد ، ضرورة عدم كون العين الموقوفة من الأنفال التي هي للإمام عليه‌السلام بحق الإمامة ، كما هو المعلوم من حصرها بغير المقام كما هو واضح.

وبذلك كله ظهر لك وجه الدليل في المسألة ، لا ما يذكر في جامع المقاصد والمسالك وغيرهما مما هو واضح الضعف ، ومن الغريب مع اعتراف بعضهم بضعف ما ذكروه دليلا قال : الأقوى الانتقال إليه ، لكنه إنما يتم في الموقوف عليه المعين ، أما لو كان على جهة عامة أو مسجد ونحوه فالأقوى أن الملك فيه لله تعالى شأنه ، لتساوى نسبة كل واحد من المستحقين إليه واستحالة ملك كل واحد أو واحد معين أو غير معين ، للإجماع واستحالة الترجيح ولا المجموع من حيث هو مجموع ، لاختصاص الحاضر به.

وكأنه تبع بذلك الفاضل في قواعده حيث أنه بعد أن جزم بزوال الوقف عن مالكه قال : « ثم إن كان مسجدا فهو فك ملك ، كالتحرير ، وإن كان على معين فالأقرب أنه يملكه ، وإن كان على جهة عامة فالأقرب أن الملك لله تعالى » وإن كان مخالفا له في المسجد ونحوه.

وفيه أولا : مضافا إلى ما عرفت إمكان دعوى الإجماع منا على الانتقال إلى الموقوف عليه ، خصوصا في المعين ، وإن أرسل في محكي المبسوط والسرائر قولا بالانتقال إلى الله تعالى إلا أن‌

٩٢

الظاهر كونه للعامة كما لا يخفى على المتتبع ، بل قيل : ظاهر التذكرة أو صريحها أن الخلاف بين الخاصة والعامة في أنه هل ينتقل إلى الموقوف عليه أو إلى الله سبحانه وتعالى ـ إنما هو فيما إذا وقف على معين أو جهة عامة.

وثانيا : إمكان دعوى القطع باتحاد كيفية سببية الوقف ، وأن مقتضاه مقتضى واحد سواء كان متعلقة عامة أو خاصا ولا إشكال في اقتضائه الانتقال إلى المعين ، فيثبت في غيره أيضا مطلقا ، إذ كل وقف لا بد له من موقوف عليه كما عرفته في محله.

وثالثا : قد ذكرنا غير مرة أن نسبة الملك إلى الكلي كنسبة المملوكية له ثابتة في الشرع ، ولا محيص عن القول بها في مثل الزكاة والخمس والأرض المفتوحة عنوة والوصية والنذور؟ وغيرها ، فما ندري ما السبب الذي دعاهم إلى هذه التكلفات والتجسمات التي لا توافق قواعد الفقه ، خصوصا بعد احتماله في الدروس أن الملك في المسجد فضلا عن غيره للمسلمين ، ضرورة اقتضاء ذلك عدم امتناعه ، فيجب أن يكون هو مقتضى العقد الذي قد قصد به الصدقة بالعين والمنفعة عليهم ، لكن على الوجه الذي اعتبره الواقف « فإن الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » بالنسبة إلى ذلك.

ولعله لذا أطلق المصنف والمعظم أن الوقف ينتقل إلى الموقوف عليه لمعلومية عدم خلو وقف عن موقوف عليه ، إما عام ، وإما خاص حتى الوقف على الجهات ، بل لعل ما تقدم من الفاضل من جواز وقف البقرة للحرث مثلا خاصة ، على معنى بقاء غيره من المنافع على ملك المالك أيضا كذلك فتكون عين البقرة ومنفعتها الخاصة للموقوف عليه ، وإن بقي غيرها من المنافع على ملك الواقف كما لو استثنى بعض المنافع من تسبيل الوقف ، فتأمل جيدا في ذلك بل وفي غيره من الوقف المنقطع بناء على المختار عندنا من أنه قسم من الوقف لا أنه حبس ، فيتجه حينئذ ما ذكرناه في الوقف المؤبد ، والله العالم.

وبذلك كله يظهر لك النظر فيما في جملة من كتب الأصحاب كالدروس والإيضاح وجامع المقاصد وغيرها ، فتأمل جيدا.

٩٣

فلو وقف عبده أو حصة من عبد مشترك بينه وبين غيره مثلا ثم أعتقه لم يصح العتق قطعا لخروجه عن ملكه عندنا‌ « ولا عتق في ملك (١) » بل وعن القول ببقائه له ، لمنافاته ما سبق من الوقف المقتضى حبس العين على وجه لا تتغير عينا ولا منفعة عما وقعت عليه بسبب قهري كالإرث فضلا عن الاختياري من بيع ونحوه ، وفسخه بالشفعة إنما هو لسبق تعلقها بالعين قبل حصوله ، فكأنه صار وقفا مستحقا في عينه الشفقة وليس كذلك الخيار المتعلق بالعقد دون العين كما أوضحناه في محله.

وعلى كل حال ظاهر أدلة مشروعيته عدم تغيره بسبب من الأسباب إلا ما خرج ومن هنا لو أعتقه الموقوف عليه الذي قد عرفت أنه المالك عندنا لم يصح أيضا لما سمعت ، ولتعلق حق البطون به حيث يكون مؤبدا عليهم مثلا ، بل وكذا الحال فيما لو أعتقه الشريك وإن مضى العقد في حصته ولكن لم يقوم عليه في الحصة التي هي الوقف ، لما عرفت من اقتضاء الوقف بقاءها ول كن في المتن تعليله بـ ( أن العتق لا ينفذ فيه مباشرة فأولى أن لا ينفذ سراية ) لأن العتق مباشرة أقوى من العتق بالسراية ، لأنه يؤثر إزالة الرق بلا واسطة ، وهي إنما تؤثر فيه بالواسطة ، ولأنها من خواص عتق المباشرة وتوابعه ، فإذا لم يؤثر الأقوى المتبوع وذو الخاصة فالأضعف والتابع أولى فاتجه له أن يقول.

ويلزم من القول بانتقاله إلى الموقوف عليهم انفكاكه من الرق ويفرق بين العتق مباشرة وبينه سراية لفقدان الشرط الأول لـ ( أن العتق مباشرة يتوقف على انحصار الملك في المباشر أو فيه وفي شريكه ) وهو هنا مفقود لتعلق حق البطون وليس كذلك افتكاكه فإنه لا يشترط فيه ذلك إذ هو ازالة للرق شرعا بطريق القهر لقوله عليه‌السلام (٢) « من أعتق شقصا من عبد وله مال قوم عليه الباقي » وحينئذ فيسري في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب العتق.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب العتق الحديث ـ ٨.

٩٤

باقية ، ويضمن الشريك القيمة ، لأنه يجري مجرى الإتلاف الموجب لذلك.

ولكن فيه تردد بل منع بعد ما عرفت من أن الدليل ظهور أدلة الوقف في بقاء العين على وجه لا يؤثر في تغييرها عنه السبب الاختياري بعوض ودونه كالهبة والبيع ، ولا القهري كالإرث.

بل لعل ما في النصوص من أنه لا تباع ولا توهب ولا تورث يشير إلى ذلك ، وحينئذ فلا يعارضه أدلة الأسباب الأخر من غير فرق بين دليل السراية وغيره ـ مع عدم (١) ( تمامها ) في المنقطع بناء على المختار من كونه قسما من الوقف حقيقة لا حبسا وليس مبنى المنع شركة البطون التي لاحظها المصنف في الفرق بين العتق مباشرة وسراية.

على أنه قيل : من شرط السراية ، أن تستلزم الانتقال إلى ملك المعتق وهو مفقود في المقام فلا ريب في عدم نفوذ العتق فيه مباشرة ولا سراية وفاقا للمشهور ، بل في المسالك كاد أن يكون إجماعا بل لم أجد قائلا بخلافه.

ثم إن ظاهر المتن اختصاص جريان الاحتمال المزبور على القول بانتقاله إلى الموقوف عليهم ، دون القول ببقائه على ملك الواقف أو انتقاله إلى الله تعالى شأنه ، بل هو صريح الدروس حيث قال : « إن الوجهين مبنيان على المالك ، فإن قلنا : هو الله تعالى أو الواقف فلا سراية ، وإن جعلناه الموقوف عليه فالأقرب عدم السراية ».

وفي غاية المراد « أن احتمال التقويم على تقدير القول بالانتقال إلى الله تعالى ويقوى على تقدير القول بانتقاله إلى الموقوف عليهم » ولم يتعرض لحكمه على القول ببقائه على ملك الواقف ، وربما وجه بأن انتقاله إلى الله سبحانه في معنى التحرير فلا وجه للسراية فيه ، إلا أنه كما ترى ، ضرورة إرادة قطع سلطنة الآدميين عنه ، وإلا فهو كملكهم ولذا يباع في بعض الوجوه ، وحينئذ فلا مانع من نفوذ العتق فيه مع الدليل ، كما أن توجيه عدم السراية فيه ـ على القول ببقائه على ملك الواقف ، بأنه ليس ملكا محضا له لملك البطون منفعته بالوقف ، ومن شرط السراية محضية الملك ـ واضح المناقشة بأن دليلها عام.

__________________

(١) هكذا في النسخ والظاهر « تماميتها ».

٩٥

ومن هنا قال في المسالك : « الحق أن الاحتمال قائم على الجميع ، لأن عموم خبر السراية شامل للجميع ، والمنع مباشرة لعارض موجود كذلك ، وقد قررناه سابقا ، والفرق بين ملك الواقف والموقف عليه ضعيف جدا ، فإن كلام منهما ، ممنوع من التصرف ، أما لحق الموقوف عليه مطلقا ، أو لباقي البطون ، أو لعموم اقتضاء الوقف تحبيس الأصل عن مثل هذا التصرف.

قلت : ودعوى أنها على خلاف القواعد فيقتصر فيها على المتيقن ، وهو غير الملك المفروض تقتضي عدم جريانها حتى إذا كان الملك للموقوف عليهم كما هو واضح ، والأمر سهل بعد معلومية الحال.

المسألة الثانية : إذا وقف مملوكا ففي محكي المبسوط كانت نفقته في كسبه شرط ذلك أو لم يشترط وإن قلنا بانتقاله إلى الموقوف عليه ، لأن نفقته من شروط بقائه كعمارة العقار ، وهي مقدمة من غلته على حق الموقوف عليه ، ولأن الغرض بالوقف انتفاع الموقوف عليه ، وهو موقوف على بقاء عينه وإنما تبقى بالنفقة فيصير كأنه شرطها من كسبه.

نعم لو عجز عن الاكتساب بما لا ينعتق به ، كانت نفقته على الموقوف عليهم وفيه أن الكسب أحد أموال المولى الذي هو الموقوف عليه ولا دليل على اختصاص الإنفاق الواجب عليه من المال المزبور ، وكذا العقار الا مع الشرط المفروض عدمه.

ومن هنا لو قيل في المسألتين كذلك أي أنها عليهم بناء على الانتقال إليهم كان أشبه بالأدلة لأن ها مطلقة في أن نفقة المملوك تلزم المالك من غير فرق بين الموقوف عليه وغيره ، وبين كسبه وغيره ، ومن هنا اختاره جميع من تأخر عن المصنف.

نعم قيده جماعة بما إذا كانوا معينين ، وإلا كانتفي كسبه ، إن كان ذا كسب ، قال بعضهم : وإلا ففي بيت المال ، فإن لم يكن بيت مال وجبت كفاية كغيرها من المحتاجين ، بل في الدروس هي في كسبه أيضا ، وان كان لمعينين إن قلنا بأن الملك لله تعالى ، فإن تعذر فعلى الموقوف‌

٩٦

عليهم ، وبناه في المسالك على أن نفقة الأجير الخاص والموصى بخدمته على مستحق المنافع أم لا ، لإن جعلناها عليه فهي على الموقوف عليهم أيضا ، وإلا ففي كسبه ، فإن تعذر ففي بيت المال ، ويحتمل كونها في بيت المال مطلقا ، ثم قال : « وعلى القول بكونه للواقف ، فالنفقة على الموقوف عليه على الأول وعلى الواقف على الثاني ، فإن تعذر لإعسار أو غيره ففي كسبه ، فإن قصر ففي بيت المال ويحتمل تقديم كسبه ، وتقديم بيت المال » وعن الإيضاح وظاهر الدروس أو صريحها أنها في كسبه ، وعن ظاهر التذكرة في بيت المال.

ولكن لا يخفى عليك أن مقتضى إطلاق دليل لزوم النفقة للمالك عدم الفرق بين كونه معينا أو غير معين ، مع فرض وجود مال للأخير كما لو فرض أنه للفقراء. ولهم مال زكاة أو غيرها ، فلا يتعين كونه في كسبه ، وكذا لو قلنا : أنه لله تعالى شأنه كانت نفقته على غيره من أموال الله تعالى إن كانت ، والا وجب على بيت المال ، أو على الناس كفاية كغيره من المحتاجين ، وبناء على أنه للواقف تكون النفقة عليه ، وفإنه تعذر كان في بيت المال ، وإلا وجب على الناس كفاية ، لأن المولى هو ، لا مالك المنفعة ، فالنفقة عليه ، وكذا نفقة الأجير والموصى بخدمته إن لم يفهم الاشتراط ، أو يكون متعارفا ينزل عليه العقد ، وكذا الكلام في مؤنة تجهيزه بعد مدته ، وأما عمارة العقار مع عدم الشرط فلا يتعين كونها من غلته ، بل لهم بذلها من غيره.

نعم مع عدمه أخذت عمارته منها ، لمعلومية إرادة بقاء العين ، فإذا قصرت لم تجب على أحد ، بخلاف الحيوان الذي يجب حفظ حياته لمكان النفس المحترمة ، وربما تسمع في النفقات ماله دخل في المقام.

وعلى كل حال فـ ( لو صار مقعدا ) مثلا انعتق عندنا فتسقط حينئذ عند الخدمة وعن مولاه نفقته لصيرورته حرا فيجري عليه حينئذ حكم الأحرار وكأنه لا خلاف في ذلك بيننا ، ولولاه لأمكن الإشكال في تأثير نحو هذه الأسباب العتق لنحو ما سمعته في السراية ، اللهم إلا أن يدعى قوة دليلها على أدلة الوقف ولو لهذا التسالم.

المسألة الثالثة : لو جنى العبد الموقوف عمدا ، لزمه القصاص بلا خلاف ، بل الإجماع بقسميه عليه لعموم أدلته على وجه لا تصلح أدلة الوقف لمعارضتها فإن كانت‌

٩٧

دون النفس بقي الباقي وقفا للأصل ، وإن كانت نفسا اقتصا منه ، وبطل الوقف حينئذ بانتفاء موضوعه ، وليس للمجنى عليه استرقاقه هنا كما هو ظاهر الأكثر ، وإن جاز في غيره ، لما فيه من إبطال الوقف الذي قد عرفت اقتضاء الصحيح منه بقاء العين على حالها حتى يرثها وارث السموات والأرض.

لكن في جامع المقاصد والمسالك أن له ذلك ، لأولويته من استحقاق الإبطال بالقتل بعد مطلوبية العفو شرعا ، بل فيه جمع بين ذلك ، وبين حق المجني عليه ، والتأييد في الوقف إنما هو حيث لا يطرأ عليه ما ينافيه ، وهو موجود هنا في القتل الذي هو أقوى من الاسترقاق ، وهو كما ترى بعد القطع بعدم الأولوية المزبورة ، وحرمة القياس عندنا والتخيير الثابت للمجنى عليه إنما هو في غير الفرض المعتذر فيه أحد الفردين ، لظهور قوة أدلة الوقف على ذلك من وجوه بالنسبة إليه ، دون القصاص الذي لا مدخلية له في تغيير الوقف المستفاد منعه من الأدلة الظاهرة في إرادة نقله عما هو عليه بالنسب الاختياري أو القهري ، لا نحو ذلك الذي هو من قبيل حده بالارتداد ونحوه ، ولذا يتعين حينئذ القصاص دونه.

وإن كانت الجناية خطأ تعلقت بمال الموقوف عليه وإن كان ذا كسب ، كما عن الشيخ وجماعة ، بناء على الانتقال إليهم لتعذر استيفائها من رقبته الموقوفة ، لاقتضاء ذلك بطلان الوقف في الكل والبعض فيتعين عليه الفرد الآخر من التخيير ، وهو الفداء كما تعين القصاص من الفردين في الأول.

وقيل : كما عن الشيخ أيضا يتعلق المال بكسبه ، لأن المولى لا يعقل عبده ولا يجوز إهدار الجناية ، ولا طريق إلى عتقه فيتوقع فيتعين ذلك جمعا بين الحقين وهو هنا أشبه عند المصنف وفاقا للقواعد وغيرها ، بل عن ظاهر التذكرة الإجماع عليه ، وفيه أن كسبه أحد أموال المولى ، فالتأدية منه يقتضي عقل المولى له ، ولا دليل على اختصاص هذا المال من أمواله على أنه لا يتم في غير الكسوب.

ومن هنا قال في المسالك : « يتجه حينئذ تعلق حق الجناية برقبته ، إذا لم يكن كسوبا ، فيجوز بيعه كما يقتل في العمد ، بل هو أدنى منه ».

وفيه أن ذلك يقتضي ترجيح أدلة الجناية على أدلة الوقف ، وحينئذ يتجه تعلقها من أول‌

٩٨

الأمر برقبته ، إلا أن يفديه المولى ، كما احتمله الفاضل في المحكي من المختلف ، ولعله لا يخلو من قوة ، وإلا كان المتجه سقوط حق الجناية عن المولى مطلقا حتى في كسب العبد الذي هو أحد أمواله ، لأنه لا يعقل عبده ، فينتظر حينئذ انعتاقه القهري أو يأخذ الأرش من بيت المال كالحر المعسر.

وبالجملة فالمتعين في المسألة أحد الاحتمالين ، وإن كان الأول أقواهما ، لا التعلق بمال المولى مطلقا ، ولا خصوص كسبه ، فإن لم يكن كسوبا فبرقبته ، إذ لا يخفى عليك خروجهما عن قواعد الفقه ، ولا ينافي ذلك ما ذكرناه في مسألة العمد الذي تعين حق الجناية ، وعدم بطلان دم المسلم بالقصاص ، بخلافه هنا ، لأنه مع عدم التعلق برقبته الذي هو مقتضى دليل الجناية يقتضي بطلان دم المسلم مرجوجية حق الجناية بالنسبة إلى حق الوقف ، والمعلوم خلافه فتأمل جيدا ، فإنه دقيق نافع والله العالم.

هذا كله على القول بانتقاله إلى الموقوف عليهم ، أما لو قلنا بعدم انتقاله أو انتقاله إلى الله تعالى ففي القواعد وغيرها تعلق بكسبه ، بل في المسالك « هو كذلك قطعا ـ لكن قال متصلا بذلك ـ ويحتمل تعلقها بمال الواقف بيت المال ، بل في القواعد وكذا إن كان على المساكين أو على المعسر أي في التعلق بالكسب.

ولكن لا يخفى عليك بعد التأمل فيما ذكرنا أنه لا فرق بين الجميع فيما سمعته من الاحتمالين وأقواهما.

أما لو جنى عليه فإن أوجبت الجناية أرشا لكونها خطأ أو كان الجاني حرا فللموجودين من الموقوف عليهم دون غيرهم كما في محكي السرائر والتبصرة ، واحتمله في القواعد وقواه في محكي المبسوط والإيضاح لكونه حينئذ شبه المنفعة المختصة بهم ، إن لم يكن منها ، فلا استحقاق لغيرهم من البطون الذين يتوقف استحقاقهم على وجودهم المفروض عدمه ، وعلى وجود العين الموقوفة.

وإن كانت نفسا توجب القصاص فإليهم بناء على أنهم المالكون ، بل ربما احتمل ذلك حتى على القول بكون المالك هو الله تعالى شأنه ، من حيث استحقاقهم المنفعة ،

٩٩

ولاحتمال مصالحة القاتل على مال فيرجع نفعه إليهم طلقا أو وقفا ، وان كان هو كما ترى ، بل المتجه أنه للحاكم ، وإلا لاقتضى كون ذلك إليهم وإن كان المالك الواقف وإن لم أجد من احتمله ، ضرورة منافاته ما دل على كون ذلك للمولى الذي هو مالك الرقبة قطعا لا المنفعة.

وإن أوجبت دية أخذت من الجاني قطعا وهل يقام بها مقامه؟ قيل : نعم واختاره في المسالك لأن الدية عوض رقبته وهي ليست ملكا تاما للموجودين ، ( لـ ) تعلق حق لبطون بها ، ولو بالقوة القريبة باعتبار حصول سبب الملك ، ومقدماته حينئذ فيلحق القيمة حينئذ حكم العين ، ولا يكون ذلك الا بشراء مثلها ووقفها ، ولأن الوقف تابع لبقاء المالية ، ولهذا يجب الشراء بقيمته حيث يجوز بيع ما يكون وقفا ، ولأن حق الوقف أولى من نحو حق الرهن الذي يتعلق بالقيمة.

وقيل : لا ، بل تكون للموجودين من الموقوف عليهم لعين ما سمعته في الأرش ضرورة أنها عوض المنافع في الحقيقة ، لعدم قيمة للعين مسلوبة منها ، فكان المنافع أجمع وجدت دفعة لا تدريجا كي يستحقها البطون بتدرجهم.

وهو أشبه بأصول المذهب وقواعده ، لأن الوقف تعلق بالعين الذي فرض نقلها ، المقتضى لبطلان الوقف وانقطاع حق البطون ، ولم يتناول القيمة والا لاقتضى صيرورتها نفسها وقفا ، والشراء بها عبدا مماثلا بالذكورة أو الأنوثة أو شقصا فيكون وقفا أو بصيغة جديدة من الموقوف عليهم ، أو من الحاكم الذي هو ولي البطون فيتولى الشراء والوقف مع التمكن منه أو منصوبه والا فعدول المؤمنين حسبه أحكام شرعية تحتاج إلى دليل ، ولا تكفى فيها البدلية المعنوية وأسبق إلى الذهن ذلك لكنه من الاستحسان الفاسد عندنا ، مع عدم الدليل المعتبر على أن وقف العين المشتراة بالقيمة على الموجودين مع فرض كونها ملكهم ، مناف لوجوب إخراج الواقف نفسه عن الوقف ، سواء كانوا هم الواقفين أو الحاكم إذ لا نيابة عن الواقف الأصلي الذي قد فرض خروجه عن العين بوقفه ، وأضعف من ذلك دعوى مساواة الأرش للدية في ذلك كله ، خصوصا في أرش الصفة ونحوها ، على أنه حيث يكون المستحق القصاص فالدية عوض عن نفس الجاني المستحق ازهاقها ، لا نفس المجني عليه‌

١٠٠