جواهر الكلام - ج ٢٨

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وعلى كل حال فالقول بالانصراف المزبور هو المشهور بين الأصحاب كما في المسالك ولا يختص به فرقة نحلة الواقف خلافا للمحكي عن ابن إدريس فقال : « إن كان الواقف من احدى فرق الشيعة حمل كلامه العام عليه ، وصرف في أهل نحلته دون من عداهم ، عملا بشاهد الحال » وعن التذكرة نفي البأس عنه ، وهو كذلك مع فرض قيام قرينة عليه وإلا فالحكم لمصداق اللفظ في الواقع كالمسلم ، ومع فرض الاختلاف في مصداق الشيعي فالحكم على حسب ما قلناه في المؤمن ، وهو واضح ، كوضوح الانصراف الآن من هذا اللفظ ـ لو كان الواقف اثنى عشريا ـ إليهم خاصة ، ولا يدخل فيه أحد من الجارودية أو غيرهم ولعل كلام الأصحاب محمول على حال عدم القرينة ، فإن الأمر يدور حينئذ على المفهوم واقعا في نفسه ، ومن ذلك يظهر لك الحال فيما أورده بعض الناس ـ ممن قارب عصرنا ـ على الأصحاب من معلومية خروج غير الاثني عشرية إذا كان الواقف واحد منهم كما هو واضح وهكذا إذا وصف الموقوف عليه بنسبة دخل فيها كل من أطلقت عليه إلا أن تكون هناك قرينة صارفة ، وهذا هو الضابط في جميع هذه المسائل على حسب غيره من المقامات.

لكن في المسالك « لا كلام في ذلك مع اتفاق العرف والاصطلاح ، ومع التعدد يحمل على المتعارف عند الواقف ، وبهذا يتخرج الخلاف والحكم في الجميع » وهو كذلك مع فرض العرف الخاص ، لا القول الخاص في التفسير كما عرفته سابقا ، ولكن لا يخفى عليك عدم تخرج الخلاف على ذلك ضرورة عدم النزاع في تقديم العرفية الخاصة على غيرها في لفظ أهلها كما هو واضح.

وعلى كل حال فـ ( لو وقف على الإمامية ، كان للاثنى عشرية ) خاصة لأنهم المعروفون بهذا الاسم ، والظاهر عدم اعتبار اجتناب الكبائر هنا ممن اعتبره في المؤمن كما هو مقتضى دليل القائل اما اعتبار العصمة فقد يظهر من الدروس ذلك ، ولا يبعد أن يكون التحقيق فيها ما ذكرناه في المؤمن فلا حظ وتأمل ولو وقف على الزيدية كان للقائلين بإمامة زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام ثم لكل من خرج بالسيف من ولد‌

٤١

فاطمة عليها‌السلام من ذوي العلم والرأي والصلاح ، وما عن ابن إدريس من بطلان الوقف إذا كان الواقف غير زيدي خروج عن محل البحث.

وكذا الحال لو علقهم بنسبته إلى أب ، كان لكل من انتسب إليه بالأبوة كالهاشميين : فهو لمن انتسب إلى هاشم من ولد أبي طالب عليه‌السلام والحارث والعباس وأبي لهب ، والطالبيين : فهو لمن ولده أبو طالب عليه‌السلام منهم خاصة بلا خلاف ولا إشكال في شي‌ء من ذلك بل ولا إشكال في أنه يشترك الذكور والإناث في ذلك المنسوبون إليه من جهة الأب نظرا إلى العرف إذا كان بلفظ لا يخص أحدهم كالهاشمية والعلوية ، بل والهاشميين والعلويين ونحوهم مما يفهم إرادة الجنس منه أو هو مبني على التغليب وأما المنتسبون إليه بالأم ففيه خلاف للأصحاب وقد حققنا في كتاب الخمس عدم دخولهم في مثل هذه الأسماء التي هي نحو أسماء القبائل ، وإن قلنا بكونهم أبناء وأولادا حقيقة ، فضلا عن الذرية ونحوهما ، فلا يجزي عليهم الحكم الذي عنوانه ذلك كالخمس ، بخلاف الحكم الذي ـ عنوانه الثاني كالنكاح ، ولعل المرتضى ومن تابعه اشتبه في حكم العنوانين ، لا في الاندراج في الموضوعين فلا حظ وتأمل جيدا والله العالم.

ولو وقف على الجيران رجع إلى العرف كما في القواعد وكشف الرموز والتذكرة والتحرير والمختلف والإيضاح وجامع المقاصد والروض والمسالك والكفاية على ما حكي عن بعضها ، وقواه بعض ، واستحسنه آخر ، وحكاه في جامع المقاصد عن جماعة ، لأنه المدار في الألفاظ الصادرة من أهله. وقيل : لمن يلي داره إلى أربعين ذراعا كل ذراع أربعة وعشرون إصبعا من كل جانب وهو حسن بل في غير كتاب نسبته إلى الأكثر ، بل في المسالك وغيرها نسبته إلى المشهور ، بل في محكي الغنيمة وظاهر التنقيح الإجماع عليه ، بل قيل إنه يلوح أو يظهر من السرائر بل عن موضعين من الخلاف نسبته إلى روايات أصحابنا وإجماعهم ، بل قد افتى به من لا يعمل إلا بالقطعيات كالتقي وابني زهرة وإدريس ، وذكره من عادته التعبير بمتون الأخبار كالمقنعة والنهاية وغيرهما من كتب القدماء ، ولعله غير مناف‌

٤٢

للأول ضرورة أنه تحديد للعرف بذلك ، كما هي عادة الشارع في مثل ذلك ، كالوجه والمسافة ونحوهما مما يشك في بعض الافراد منها ، بعدم معرفة التحقيق في العرف على وجه يعلم الداخل فيه ، والخارج عنه فيضبطه الشارع الذي لا يخفى عليه الشي‌ء بما هو حد له في الواقع ، وليس ذلك منه معنى جديد ، ولا إدخال لما هو معلوم الخروج في العرف وبالعكس.

ومن هنا كان ما قيل وإن لم نعرف قائله كما اعترف به في المسالك من تحديده بما يلي داره إلى أربعين دارا من كل جانب صغيرة كانت أو كبيرة ضعيفا جدا ، بل في المتن وهو مطرح وفي غيره شاذ وفي ثالث ليس بشي‌ء ، كل ذلك للقطع بمخالفة العرف له وجعله عرفا شرعيا غير مجد في الألفاظ المتداولة بين أهل العرف في غيره كما هو المفروض.

وإن رواه‌ جميل بن دراج في الحسن أو الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) « حد الجوار أربعون دارا من كل جانب ، من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ».

وعمرو بن عكرمة عنه عليه‌السلام أيضا (٢) « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كل أربعين دارا جيران من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ».

وعمرو بن عكرمة عنه عليه‌السلام أيضا في حديث طويل في آخره (٣) « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر عليا وسلمان وأبا ذر أن ينادوا في المسجد بأعلى أصواتهم بأنه لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه فنادوا بها ثلاثة ، ثم أومأ بيده إلى أربعين دارا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ».

لكنها محمولة على التقية من العامة الذين حكموا بذلك (٤) للمرسل عن عائشة « أن النبي سئل عن حد الجوار ، فقال : إلى أربعين دارا » أو على إرادة جوار الشرف كساكني النجف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩٠ ـ من أبواب أحكام العشرة الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩٠ ـ من أبواب أحكام العشرة الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨٤ ـ من أبواب أحكام العشرة الحديث ١.

(٤) المغني لابن قدامة ج ٤ ص ٥٥٦ طبع دار الكتب العربية بيروت سنة ١٣٩٠.

٤٣

وكربلاء وغيرهما بعنوان المجاورة لقبورهم ، أو غير ذلك ، فمن الغريب ميل ثاني الشهيدين إلى هذا القول مع شدة مخالفته للقواعد الشرعية ، ضرورة اقتضائه الوقف أو الوصية لمن يعلم بعدم إرادة الواقف والموصى إياه كما هو واضح.

ومن ذلك يعلم أن المدار في التحديد المزبور على نحو ذلك أيضا ، فلو علم بدخول من خرج عن التحديد في إرادة الواقف حكم بدخوله ، وإنما فائدة التحديد عنه الاشتباه.

ولو انتهى عدد الأذرع إلى باب الدار خاصة فعن ابن البراج الدخول ، وقواه في الدروس ، بل لعله ظاهر محكي المقنعة والنهاية أيضا وكأنه مبني على دخول الغاية في المغيا ، ولعله هنا كذلك : أما إذا انتهى إلى أثناء دار فلا إشكال في الدخول عرفا.

لكن في المسالك إن انتهى العدد إلى آخر دار أو بين دارين فالحد متميز ، وإن انتهى أثناء دار هل يدخل في الحد أم لا يبنى على دخول الغاية في المغيا مطلقا أم لا أم بالتفصيل بالمفصل المحسوس ، فلا يدخل وعدمه فيدخل ، والأقوى تفريعا عليه حينئذ الدخول ، ولو وصل المقدار إلى باب داره خاصة ، بني على ما ذكروا أولى بعدم الدخول هنا ، وصرح ابن البراج بدخوله في عبارة ردية وقواه في الدروس ، ولا يخفى عليك ما فيه ضرورة كون المدار في التحديد دخول من وصل إليه بعض الحد إنما الإشكال خاصة فيما إذا كانت باب الدار مثلا على رأس الذراع الأخير ، وهو المبني على ذلك كما هو واضح بأدنى تأمل. ولا يعتبر في الجار عرفا الملكية ، فيدخل حينئذ المستأجر والمستعير ونحوهما بل والغاصب في وجه قوي ، وإن كان المحكي عن التحرير عدم استحقاقه ، بل حكى عنه التوقف في المستأجر والمستعير ، ولو باع صاحب الدار داره فسكنها المشتري دخل هو وخرج البائع ، ولو عاد عاد الاستحقاق ، وكذا المستعير والمستأجر وغيرهما ضرورة دوران الحكم على التلبس بالوصف وجودا وعدما.

نعم لو غاب غيبة بقصد الرجوع مع بقاء عياله وعدمه لم يخرج بذلك عن الوصف وإن حصل الوقف حالها الا مع طول المدة المقتضية ذلك عرفا ، ولا عبرة بتقارب الدور مع عدم السكنى حتى على الثالث ، وإن احتمله في المسالك ، لكنه في غاية الضعف ، ضرورة مدخلية السكنى في صدق اسم الجار ، لا ملك الدار ونحوه ، لكن يكفى فيها صدقها عرفا ،

٤٤

فلو كان له داران يسكنهما صدق كونه جار الكل من يليهما مع تردده لكل منهما أما إذا كانت سكناه فيهما على التناوب ولو بحسب الفصول ، ففي المسالك استحق زمن السكنى.

والظاهر أن القسمة على عدد الرؤوس على الثلاثة ، لصدق الجيران عرفا على الجميع وإن دخل بعضهم في العيال في وجه قوي.

نعم يخرج العبد لعدم قابليته للملك ، إن كان المراد الملكية ، لكن في المسالك لو اعتبرنا عدد الدور ففي قسمته على رؤوس أهلها أو على عدد الدور وجهان ، وعلى الثاني يقسم على الدور أولا ، ثم يقسم حصة كل دار على رؤس أهلها ، وفيه ما لا يخفى من أنه لا اقتضاء في التحديد بالدور واعتبارها نفسها في الجوار لا ساكنيها ، بل المراد هم ، وإن كان التحديد بها كما هو واضح ، والله العالم.

ولو وقف على مصلحة كمسجد وقنطرة ونحوهما فبطل رسمها وأثرها بالمرة صرف في وجوه البر كما هو المشهور على ما اعترف به غير واحد ، بل لم أقف على راد له من الأصحاب عدا المصنف في النافع. حيث نسبه إلى قول ، مشعرا بتردده فيه ، وقد نسبه في محكي المهذب إلى الندرة ، وغيره إلى الضعف ، بل في محكي السرائر نفى الخلاف فيه ، بل قيل ظاهرة بين المسلمين ، وكان الوجه فيه بعد معلومية إرادة الواقف الدوام ، ولو زعم دوام تلك المصلحة ، بل عن جامع الشرائع وجامع المقاصد التصريح بكون الفرض مما تقتضي العادة بدوامها إلا أنه اتفق بطلان رسمها على خلاف العادة استصحاب صحته ، وإطلاق الأدلة التي ليس فيها ما يقتضي البطلان بتعذر المصرف المعين ، إذ هو ليس مقتضيا لانتفاء الموقوف عليه الذي هو في الفرض المسلمون ، كما أنه ليس فيها ما يقتضي الانتقال إلى ما يشابه تلك المصلحة ، فليس حينئذ إلا الصرف في وجوه البر التي هي الأصل في كل مال خرج عن ملك مالكه لمصرف خاص تعذر ، كما ستعرف في نظائر المقام.

ومن ذلك يعرف ما في المسالك وغيرها حتى فيما ذكره من التحقيق الذي قد اعترف بتوجه كلام الأصحاب فيما لو كان الوقف في مصلحة ما شأنه الدوام ، لخروج الملك عن الواقف بالوقف فعوده يحتاج إلى دليل ، وهو منتف ، وصرفه في وجوه البر أنسب بمراعاة غرضه الأصلي‌

٤٥

إن لم يجز صرفه فيما هو أعم منه ، وإنما توقف في الوقف على مصلحة مما تنقرض غالبا كشجر التين والعنب أو مجهولة الحال كالوقف على مسجد في قرية صغيرة أو على مدرسة كذلك ، بل جزم في الأول بأنه كمنقطع الآخر ، بل هو بعض أفراده ، فيرجع بعد انقضائه إلى الواقف أو ورثته على الخلاف حيث لا يجعله بعده لمصلحة أخرى تقتضي التأبيد وأما الثاني فقد استشكل فيه من أصالة البقاء فيكون كالمؤبد ، ومن الشك في حصول شرط انتقال الملك عن مالكه مطلقا الذي هو التأبيد فيحصل الشك في المشروط فلا يحكم إلا بالمتيقن منه ، وهو خروجه عن ملكه مدة تلك المصلحة ، ويبقى الباقي على أصالة البقاء على ملك مالكه.

ولا يخفى عليك ما فيه بعد ما عرفت من ظهور كلمة الأصحاب في إرادة الوقف المؤبد لا ما يشمل منقطع الآخر الذي هو بناء على مشروعيته ما يراد انقطاعه من أول صدوره وكون ذي المصلحة مما ينقرض غالبا لا ينافي دوام الوقف بعد عدم انحصاره فيها ، وإنما هو مصرف فيها حيث يكون ، ولو بأن يعود بعد الخراب وإلا فهو وقف على المسلمين ، ويراد حينئذ بوجوه البر ذلك ، أو أن المراد تلك الجهة ، ولكن قد تعذرت ، وتعذرها لا يقتضي البطلان كما عرفت وأن الصرف في وجوه البر للأصل الذي قد ذكرناه في كل مال قد تعذر مصرفه ، كما يومي إليه في الجملة ما في كثير من النصوص الواردة في نحو الوصية والنذر المعين الذي له مصارف مخصوصة وقد تعذر.

كالخبر (١) « عن إنسان أوصى بوصية فلم يحفظ الوصي إلا بابا واحدا منها كيف يصنع بالباقي ، فوقع عليه‌السلام الأبواب الباقية اجعلها في وجوه البر ».

ونحوه‌ خبر طويل (٢) يتضمن « أنه لو أوصى رجل بتركته إلى رجل وأمره أن يحج بها عنه ، قال الوصي : فنظرت فإذا شي‌ء يسير لا يكفى للحج ، فسألت الفقهاء من أهل الكوفة فقالوا تصدق به عنه ، فتصدق به ، ثم لقي بعد ذلك أبا عبد الله عليه‌السلام فسأله وأخبره بما فعل ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨٧ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ـ ١.

٤٦

فقال : إن كان لا يبلغ أن يحج به من مكة فليس عليك ضمان ، وإن كان يبلغ ما يحج به ، فأنت ضامن ».

بل قد يؤيده في الجملة ، ما في جملة وافرة من الاخبار (١) مما يدل أن ما أوصى به للكعبة أو كان هديا أو نذرا يباع إن كان جارية ونحوها ، وإن كان دارهم يصرف في المنقطعين من زوارها ، على أن القسم الأول الذي قد اعترف بصحة كلام الأصحاب فيه مبني على ذلك ، ضرورة عدم مدخلية زعمه لدوام المصلحة في صحة الوقف بعد فرض بيان فساده ، ولو لاتفاق خلاف العادة ، إذ لو لم يكن مبني الصحة ما ذكرناه توجه بطلانه لعدم الموقوف عليه حينئذ ولو في الفرض النادر. هذا.

وربما احتمل وجوب الصرف في الفرض إلى ما شابه تلك المصلحة فيصرف وقف المسجد في مسجد آخر ، والمدرسة إلى مثلها ، اقتصارا على المتيقن ، لاحتمال إرادة المثالية فيما ذكره مصرفا في الوقف المراد تأبيده أو لفحوى ما دل على صرف آلات المسجد بعد اندراسه أو خرابه في مسجد آخر ، على ملاحظة الشارع الأقرب إلى نظر الواقف.

ولكن قد عرفت إطلاق فتوى الأصحاب الذي مبناه ما قلناه ، من استواء القرب كلها في عدم تناول عقد الوقف لها ، وعدم قصده إليها بخصوصها ، فلا أولوية لبعضها على بعض بالنسبة إلى ذلك ، ومجرد المشابهة لا دخل لها في تعلقه بها ، فيبطل القيد ، ويبقى أصل الوقف من حيث القربة ، فيصرف في كل فرد منها ، ولعل ذلك منشأ ما ذكرناه من الأصل ، ونوقش بأن تحري الأقرب فالأقرب ليس من حيث المشابهة ، بل من حيث دخوله في نوع المصلحة الخاصة ، وإن تميزت عنه بالخصوصية ، فإذا زالت بقي أفراد النوع الآخر الممكنة داخلة ، فكان الوقف تضمن أشياء ثلاثة ، القربة والمسجدية مثلا ، وخصوصية المسجد ، فإذا زال الأخير بقي الأول ، لقاعدة « الميسور » و « ما لا يدرك ».

بل في المسالك ولعل هذا أقرب ، وتبعه في الرياض ، الا أنه أشكله في الأول بأنه آت في المصلحة التي تعلم انقطاعها أيضا ، مع أن حكم منقطع الآخر متناول لها ، الا أن يخص هذا بما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ـ ١.

٤٧

لا يتعلق بمصالح المسلمين ، مثل الوقف على أولاده من غير أن يسوقه في باقي البطون ونحو ذلك ، ثم قال (١) وليس بذلك ، البعيد وللتوقف مجال ، وكذا في الرياض ، فإنه بعد أن ذكر مثل ذلك قال : هذا كله في غير معلومة الانقطاع ، أما فيها ففي انسحاب الحكم أو لحاقها بمنقطع الآخر كما يظهر من بعض الأجلة وجهان ، من إطلاق الفتاوى هنا وثمة ، والاحتياط لا يترك في المقام.

وفيه ما لا يخفى بعد الإحاطة بجميع ما ذكرناه ، بل منه يعلم عدم تحريرهم موضوع البحث عند الأصحاب ، وأنه الوقف المؤبد الذي ذكر فيه الصرف على مصلحة خاصة وقد تعذرت ، وأنه لا محل هنا لقاعدة الميسور ، بعد ما سمعت من الأصل ومعلومية عدم قصد الواقف ذلك ، إذ لم يصدر منه إلا ذكر المصرف الخاص الذي يرتفع بارتفاع الخصوصية كما هو واضح.

ولو وقف على وجوه البر الذي هو كما قيل : اسم جامع للخير كله وأطلق صرف في الفقراء والمساكين وكل مصلحة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى بلا خلاف محقق أجده ، وإن تعلق بعض وجوهه في الأغنياء أيضا بعد أن يكون من الخير المأمور يفعله شرعا ولا يحب تحري الأكمل فالاكمل بعد إطلاق العنوان كما هو واضح ، وما عن الوسيلة والجامع من أن سبل البر الجهاد والحج والعمرة : ومصالح المسلمين ، ومعونة الفقراء والضعفاء ـ لا خلاف فيه لما ذكرناه ، مع أن العنوان فيه سبيل البر لا وجوهه ، وإن كانا هما بمعنى.

ولو وقف على بنى تميم ونحوهم مما هو غير محصور صح ولو بنى آدم ويصرف إلى من يوجد منهم ولا يجب عليه تتبع غيرهم ، بل لا يجب استيعاب الموجودين على الأصح كما ستعرفه في المسألة العاشرة في اللواحق.

وقيل : والقائل ابن حمزة منا والشافعي من غيرنا لا يصح لأنهم مجهولون فيعتذر المصرف والأول هو المذهب بل حكى الإجماع عليه غير واحد صريحا وظاهرا واشعارا ، مضافا إلى إطلاق الأدلة وخصوص‌ خبر النوفلي (٢) « كتبت إلى أبي‌

__________________

(١) هكذا في النسخ لكن الظاهر‌ « وليس ذلك ببعيد ».

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الوقوف والصدقات الحديث ـ ١.

٤٨

جعفر الثاني عليه‌السلام أسأله عن أرض وقفها جدي على المحتاجين من ولد فلان ابن فلان ، وهم كثير متفرقون في البلاد فأجاب عليه‌السلام ذكرت الأرض التي وقفها جدك على الفقراء من ولد فلان ابن فلان ، وهي لمن حضر البلد الذي فيه الوقف ، وليس لك أن تتبع من كان غائبا » ويمكن حمل كلام المخالف على ما إذا علم ارادة الاستيعاب المفروض تعذره فيه ، لا ما إذا علم العدم أو أطلق وحينئذ يكون خارجا عما نحن فيه.

وعلى كل حال ففي وجوب استيعاب من حضر على السوية أو التفاوت أو يكفي الصرف إلى أحدهم كالزكاة أو إلى الثلاثة التي هي أقل الجمع مع فرض كون العنوان جميعا بحيث يأتي تحقيقه عند تعرض المصنف له في المسألة العشرة والله العالم.

ولو وقف على الذمي جاز كما عرفت البحث فيه مفصلا لأن الوقف تمليك ، فهو كإباحة المنفعة التي لا إشكال في جوازها له ، ولكل من لم تنه عن موادته من الفرقة الباطلة وقيل : لا يصح ، لأنه يشترط فيه نية القربة وهي مفقودة فيه وفي كل فرقة غير محقق ، وفي أصل الاشتراط منع قدمناه ، وعلى تسليمه نمنع فقده بعد فرض مشروعيته لشمول العمومات له ، فإنه نفسه حينئذ قربة.

وقيل لا يصح الا على إحدى الأبوين المأمور بمعاشرتهما بالمعروف ، وقيل يصح على ذوي القرابة خاصة.

والأول أشبه بأصول المذهب وقواعده ، كما عرفت الكلام فيه مفصلا ، وكلام المصنف صريح أو كالصريح هنا في عدم اشتراط نية القربة فيه والله العالم.

وكذا يصح على المرتد كما في القواعد والمسالك ، لكن قيداه بما إذا كان عن علة وزاد في الأخير الفطري إذا كان امرأة ، ولم أجد شيئا من ذلك لغيرهم ، بل الذي عثرت عليه من محكي التذكرة والإيضاح وجامع المقاصد على الجواز في الملي ، فضلا عن الفطري الذي قد صرح بعدم جواز الوقف عليه الشهيدان أيضا وغيرهم ، بل لم نعرف فيه خلافا ، عدا ما يحكى عن التذكرة أنه حكي فيه قولا ولم نعرفه بل ولا وجهه ، بناء على عدم قبول توبته ،

٤٩

وعدم قابليته للتملك ، كما صرح به في المسالك ، بل وعلى تقدير قبول توبته ، فلا أقل من أن يكون حينئذ مساويا للملي الذي قد عرفت التصريح أيضا بعدم جواز الوقف عليه ، ولعل الوجه فيه ما سمعته في الحربي ، ضرورة عدم إقراره على دينه الذي يرجع إليه وقبول توبته لا يخرجه عن الحربي الذي نهينا عن موادته ، وإن كان مقبول التوبة فيجري حينئذ ما يجري فيه ، وقد عرفت عدم جواز الوقف عليه ، وإن قال المصنف هنا وفي الوقف على الحربي تردد ، أشبهه المنع لكن قد عرفت الكلام فيه مفصلا ، والله العالم.

ولو وقف ولم يذكر المصرف بطل الوقف على المشهور بل لم أقف فيه على مخالف الا ابن الجنيد كما اعترف به في المسالك بل قد سمعت فيما سبق إجماعي الغنية والسرائر على كونه معروفا متميزا ، بل لعل كون الموقوف عليه من أركان العقد من ضروريات الفقه ، بل لعل ابن الجنيد غير مخالف في ذلك ، فإن المحكي عنده لو قال : صدقة لله ولم يذكر من يتصدق بها عليه جاز ذلك وكانت في أهل الصدقات التي سماهم الله تعالى وهو ليس خلافا في أصل اعتبار الموقوف عليه ، بل هو دعوى انصراف ذلك إلى أهل الصدقات ، وليس بأبعد من انصراف الوقف على مصلحة المسلمين باعتبار عودها إليهم.

ولعله لذا مال إليه في المختلف ، واقتصر في الدروس على نقل القولين مشعرا بالتردد بل ربما يؤيده معلومية صحة الوصية بالثلث ، وإن لم يعين مصرفه ، ودعوى ـ عدم جواز ذلك أو اختصاص الوصية به دون الوقف مع أن كلا منهما عقد ـ كما ترى ، وكذا نذر الصدقة بالمال ، وحينئذ فلا وجه لرده بأن الوقف يقتضي التمليك المستلزم لذات تقويم به ، كما في كل عرض بالنسبة إلى جوهر ، بل لا يخلو قوله من قوة.

نعم لو فرض ملاحظة الواقف عدم موقوف عليه اتجه البطلان فيه ، بل وفي المصالح أيضا ونحوها ، وأما إذا كان يكفي في ملاحظة ما يرجع إليه فهو مستحق في المقام فتأمل جيدا.

وكذا لو وقف على غير معين كأن يقول : على أحد هذين ، أو على أحد المشهدين أو الفريقين فالكل باطل بلا خلاف أجده ، بل في المحكي من إجماعي الغنية والسرائر اعتبار كونه معروفا متميزا مضافا إلى ما عرفت ، من اقتضاء الوقف التمليك الذي لا بد له من مالك‌

٥٠

معين ، ولو في ضمن عام أو مطلق ، ولا يعقل تمليك ما ليس بمعين.

ولما في المسالك من أن الوقف حكم شرعي ، فلا بد له من محل معين يقوم به ، كما يفتقر مطلق العرض إلى المحل الجوهري ، وأحد الأمرين كلي لا وجود له خارجا ، وإن كان كل واحد منهما موجودا خارجا ، ومقتضاه اختصاص البطلان بالمبهم الذي لا يتقوم في فرد في الخارج ، أما لو كان الموقوف عليه أحدهما الصادق في كل منهما فلا بأس به ، ولعله لقابليته حينئذ التمليك كغيره من المفاهيم الكلية المالكة والمملوكة ، ولا دليل على اعتبار العلم في الموقوف عليه على وجهه تقدح فيه مثل هذه الجهالة.

ولا ينافي ذلك ما في القواعد من الحكم بالبطلان في رجل غير معين أو امرأة كذلك بناء على إرادته المبهم الذي لا يتحقق في فرد ، ولا يعقل تمليكه بل ولا تملكه ، لا في الاكتفاء فيهما بالإطلاق والعموم ، ولا يتوهم الانحلال ما ذكرناه إلى الوقف عليهما ضرورة اقتضاء ذلك التصنيف بينهما ، وجواز تناول كل منهما من حيث انه مصداق لأحدهما لا يقتضي الوقف عليهما من حيث الخصوصية كما هو واضح.

وإذا وقف على أولاده ، أو اخوته أو ذوي قرابته ، اقتضى الإطلاق اشتراك الذكور والإناث والأقرب والأبعد بعد فرض التساوي في صدق القرابة عرفا والتساوي في القسمة ، إلا أن يشترط ترتيبا فيهم أو اختصاصا لبعضهم على بعض أو تفضيلا له على آخر ، بزيادة النصيب ولو للأنثى أو الأبعد ، بلا خلاف معتد به أجده في شي‌ء من ذلك ، بل ولا إشكال ضرورة اقتضاء الإطلاق ذلك كاقتضاء قاعدة‌ « المؤمنون » و « الوقوف على ما اشترطه » ، وما عن الإسكافي من أن للذكر مثل حظ الأنثيين في الوقف على الأولاد والذرية في غير محله ، الا أن يريد الوقف عليهم على حسب الإرث لا مع الإطلاق الظاهر في التساوي كما هو واضح.

نعم الظاهر خروج الإناث مع فرض كون الضيعة تخص الذكور ، الا مع القرينة وما في المسالك وغيرها ـ من أن الإناث يدخلن تبعا في اللفظ المختص في مثل هذه الإطلاقات ، كما يدخلن في الأوامر الشرعية المختصة بالذكور إجماعا ـ كما ترى ، ضرورة الفرق بينهما بمعلومية‌

٥١

دليل الاشتراك فيها دون المقام الا مع فرض القرينة على ارادة الجميع كما هو واضح.

ولو وقف على أخواله وأعمامه تساووا جميعا لاشتراكهم في أصل الوقف الظاهر في التسوية ، بلا خلاف أجده فيه ، وإن حكى عن ابن الجنيد ، لكن لم أتحققه وإنما المحكي عنه أنه‌ روى عن الباقر عليه‌السلام (١) « وإذا أوصى بشي‌ء معين لا عمامة وأخواله كان لا عمامة الثلثان ، ولأخواله الثلث » والرواية ليست فتوى ، والوصية غير الوقف ، وعلى تقديره فهو واضح الضعف.

وإذا وقف على أقرب الناس إليه ففي القواعد وغيرها بل المشهور هم الأبوان والولد ، وإن سفلوا ، فلا يكون لأحد من ذوي القرابة شي‌ء ، كما لم يعدم المذكورون ثم الأجداد والاخوة وإن نزلوا ، ثم الأعمام والأخوال على ترتيب الإرث ، لكن يتساوون في الاستحقاق ، إلا أن يعين التفضيل لتساويهم في سبب الاستحقاق ، لكن في محكي المبسوط أن المتقرب بالأبوين من الاخوة ، الأقرب مطلقا ، لأن الانفراد بقرابة يجري مجرى التقدم بدرجة.

وقواه في محكي المختلف ، بل اختاره في محكي التحرير بل زاد الأعمام والأخوال فجعل المتقرب بالأبوين منهم مقدما على غيره وإن كان متقربا بالأم الذي عن بعضهم استبعاد دخوله ، وخروج المتقرب بالأب. لكن في الجميع أن مبني كلام الأصحاب تعليق قصد الواقف على مفهوم الأقرب في الواقع الذي كشف عنه الشارع بما ذكرناه في الميراث الذي سببه آية (٢) ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ ) لأن الناس لا يعلمون أيهم أقرب إليهم.

نعم لو كان قصد الواقف على ما هو أقرب في ظاهر ما عندنا من العرف اختلف مع الميراث في كثير من الافراد ، لا في خصوص ما ذكروه كما هو واضح.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ـ ١.

(٢) سورة الأنفال الآية ـ ٧٥.

٥٢

( القسم الرابع في شرائط الوقف )

وهي أربعة : الدوام ، والتنجيز ، والإقباض ، وإخراجه عن نفسه بلا خلاف أجده في الأول بمعنى عدم توقيته بمدة كسنة ونحوها ، بل الإجماع محصله ومحكيه ـ في الغنية وعن الخلاف والسرائر ـ عليه ، وبذلك يخص عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) بناء على أنه منها ، بل وعمومات الوقف أيضا إن لم نقل باعتبار ذلك في مفهومه كما هو ظاهر تعبيره عنه بالشرطية ، والا فلا شمول فيها له حينئذ ، وحينئذ فلو وقفه وقرنه بمدة بطل قطعا مع فرض ارادته وقفا ، أما إذا لم يعلم فهل يكون التوقيت قرينة على ارادته حبسا ، كما صار التأييد قرينة على ارادة الوقف لو كان اللفظ حبسا ولو لا صالة الصحة ، صرح المصنف والشهيدان في الدروس والمسالك والروضة بالأول منهما ، وفي جامع المقاصد فيه قوة ، لكن قد يناقش بعدم صلاحية ذلك صارفا عن المعنى الحقيقي ، ولو بملاحظة أصالة الصحة التي لا مدخلية لها في الدلالة على المقصود الشامل للصحيح والفاسد بعد ظهور اللفظ في الحقيقة المقتضية للفساد.

نعم لو قيل : بصيرورته حبسا وأن قصد معنى الوقف بدعوى أنه قدر مشترك بينهما كما عساه يظهر من بعضهم ، وأن تشخيص كل منهما يحصل بذلك ونحوه كان متجها إلا أنه كما ترى ، ضرورة تباينهما مفهوما حتى بالنسبة إلى تمليك العين وإن اشتركا في شي‌ء في الجملة نحو اشتراك البيع والصلح مثلا في نقل العين على أنك قد عرفت فيما مضى أن التمييز على هذا الفرض منحصر في القصد حينئذ فمع فرض عدمه يبطلان معا كما هو واضح.

ومن هنا قال في المسالك تبعا لجامع المقاصد ، بعد أن ذكر التعليل المزبور أنما يتم مع قصد الحبس فلو قصد الوقف الحقيقي وجب القطع بالبطلان ، وإن ناقشه في الرياض بأنه كذلك بناء على المختار من اشتراط الدوام ، وأما على مختاره من التردد في اشتراطه ، فلا وجه للقطع به ، ولعل مراده على تقدير اشتراطه ، ولكن يدفعها ان تردده فيه بالنسبة إلى المسألة الآتية ، لا بالنسبة إلى التوقيف الذي لم نعرف قولا بصحته ، بل ولا احتمالا.

__________________

(١) سورة المائدة الآية ـ ١.

٥٣

ومن ذلك يظهر لك أن ما أتعب به نفسه ـ حتى أنه ذكر أدلة المسألة الآتية وما فيها من الشهرة وغيرها في هذه المسألة ـ في غير محله واشتباه ، وكان الذي أوقعه في ذلك ما في الكفاية من نسبة القول باعتبار الدوام إلى جماعة ، وفرع عليه الاقتران بمدة ، إلا أنه لم يذكر فيه أيضا قولا بالصحة وقفا بخلاف المسألة الآتية ، فإنه هو قد اختار الصحة وقفا.

كما أنه غره في الاستدلال في المقام على الصحة حبسا بالصحيحين فقال : الأظهر الاستدلال عليه بصحيح ابن مهزيار (١) « قلت له : روى بعض مواليك عن آبائك عليهم‌السلام أن كل وقف إلى وقت معلوم فهو واجب على الورثة ، وكل وقف إلى غير وقت جهل مجهول فهو باطل مردود على الورثة ، وأنت أعلم بقول آبائك عليهم‌السلام ، فكتب عليه‌السلام هو كذلك عندي ».

وصحيح ابن الصفار (٢) « كتبت إلى أبي محمد عليه‌السلام أسأله عن الوقف الذي يصح كيف هو ، فقد روى أن الوقف إذا كان غير موقت فهو باطل مردود على الورثة ، وإذا كان موقتا فهو صحيح ممضى ، وقال قوم : ان الموقت هو الذي يذكر فيه أنه وقف على فلان وعقبه ، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها ، قال : وقال آخرون : هو موقت إذا ذكر أنه لفلان وعقبه ما بقوا ولم يذكر في آخره للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، والذي غير موقت ان يقول : هذا وقف ولم يذكر أحدا ، فما الذي يصح من ذلك ، وما الذي يبطل؟ فوقع عليه‌السلام : الوقوف بحسب ما يوقفها إن شاء الله تعالى » ثم قال : وهما وإن دلا ظاهرا على الصحة وقفا الا أن حملهما على الصحة حبسا متعين جدا ، جمعا بينهما وبين ما دل على كون التأبيد شرطا ورجوع مثل هذا الوقف بعد موت الموقوف عليه إرثا فإنه من لوازم الحبس كما يأتي إن شاء الله تعالى.

وفيه انه لا وجه لما ذكره في الصحيح الثاني المشتمل على تفسير الموقت فيه بما سمعت ، بل هو شاهد على إرادته أيضا من الصحيح الأول كما ذكره شيخ الطائفة خصوصا بملاحظة كونه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث ـ ٢.

٥٤

المعروف فيما بينهم من السؤال والنزاع فيه ، لا المقرون بمدة الذي لم يعرف قديما وحديثا قول بصحته وقفا ، ولا أقل من احتمال ذلك فيها على وجه يرتفع ظهورها ، فكيف يصح الاستدلال بها؟

ومنه يعلم كون المراد من معاقد الإجماعات على اعتبار الدوام عدم التوقيت بمدة كما هو صريح ابن زهرة وغيره ، وإلا كان ما تسمعه منهم من الخلاف في صحته وقفا لو وقف على من ينقرض غالبا متدافع مع ذلك ، ضرورة منافاته للإجماع على اعتبار الدوام المنافي لذلك.

ودعوى كون النزاع في صحته حبسا وعدمها لا وقفا لا يخفى بطلانها على من له أدنى ممارسة ودربة كدعوى الاستدلال بعموم الجواب في الثانية على المطلوب ، ضرورة كونه كما ستعرف دالا على الصحة منقطعا لا الحبس ، وبذلك كله ظهر لك الخلط في كثير من الكلمات المتأخرين في تحرير موضوع المسألة الذي قد عرفت أنه لا كلام في بطلانه وقفا في الاقتران بمدة ، وإنما الكلام في صحته حبسا بمعنى أن ذلك قرينة على قصده الحبس أولا ، وقد سمعت الحال فيه.

وكذا قد سمعت غير مرة اعتبار التنجيز في كل سبب شرعي إلا ما خرج وأنه يبطل لو علق شيئا بصفة متوقعة الحصول فيما يأتي ، بل أو متيقنة بلا خلاف ولا اشكال كما تسمع تمام الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

وكذا ظهر لك الحال في الجملة لو جعله وقفا لمن ينقرض غالبا ، كأن يقفه على زيد ويقتصره أو يسوقه إلى بطون ينقرضون غالبا ، أو يطلقه في عقبه ولا يذكر ما يصنع به بعد الانقراض وإن هذه مسألة ثانية لا تتفرع على اعتبار الدوام بالمعنى المزبور وتحقيق البحث فيها أنه لو فعل ذلك قيل : يبطل الوقف كما عن المبسوط إرساله أيضا ولكن لم أتحقق قائلة.

نعم في القواعد ومحكي الوسيلة وجامع الشرائع والإرشاد والمختلف والتنقيح والمقتصر وإيضاح النافع وجامع القاصد والمسالك والروضة ، وكذا الروض التصريح بكونه حبسا ،

٥٥

وهو يوهم في بادى النظر ذلك لكن من المحتمل إرادتهم الحبس حكما كما يقضى بذلك بعض كلماتهم ، بل هو صريح المختلف والمسالك وفي جامع المقاصد بعد أن حكى عن التذكرة عدم نقل العين منه إلى الموقوف عليه ، معللا له بأن ذلك في المؤبد منه قال : فعلى هذا أقسام الوقف كان حبسا ، وحينئذ فالنزاع يرجع إلى التسمية فقط » انتهى.

وقيل : يجب إجراؤه حتى ينقرض المسمون بمعنى أنه يصح وقفا كما هو صريح جماعة ، بل في جامع المقاصد نسبته إلى الشيخين والمختلف والتذكرة وأكثر الأصحاب بل قد عرفت احتمال كونه مذهب الجميع بناء على إرادة المساواة في الحكم من التصريح بكونه حبسا.

وبذلك يظهر لك وجه نقل الأصحاب في المسألة ، ففي المختلف ومحكي الإيضاح نسبة صحته وقفا إلى الشيخين وابن الجنيد وسلار وابن البراج وابن إدريس ، وقال ابن حمزة « يكون حبسا بلفظ الوقف » ، وعن المهذب البارع مثل ذلك ، وفي التنقيح نسبته إلى النافع والشيخ وابني حمزة وإدريس والعلامة في محكي المقتصر أنه يكون سكنى أو عمري أو حبسا بلفظ الوقف ونسبه إلى الشيخين وتلميذهما وأبي علي وابن إدريس والمحقق في النافع وقد سمعت ما في جامع المقاصد ، ولا تلتئم كلماتهم إلا على ما ذكرنا مؤيدا بأن المفهوم من أدلتهم وعنوانهم وغير ذلك كون البحث في صحة الوقف المنقطع آخره وبطلانه ، ومن المعلوم أن المراد مع قصد الوقفية ، وهذا لا يمكن القول بصحته حبسا ، ضرورة كون الحبس عقدا آخر يحتاج إلى قصد مستقل وهو مباين لقصد الوقف المقتضى لنقل العين للموقوف عليه وخروجها عن الواقف بخلاف الحبس فلا يتصور حينئذ القول به في مفروض المسألة الأعلى إرادة المساواة له في الحكم كما هو واضح بأدنى تأمل.

نعم القول بالحبس في مسألة أخرى وهي أنه بعد البناء على بطلان الوقف المنقطع لو عبر بلفظ وقفت وجعل متعلقها منقرضا ، فهل يكون ذلك قرينة على قصد الحبس دون الوقف نحو ما سمعته في الاقتران بمدة ، وهذه مسألة لفظية لها طريق آخر من الاستدلال لا نحو هذا المذكور في كلماتهم ، وقد عرفت تحقيق الحال في نظيرها ، وهي الاقتران بمدة.

٥٦

ومن ذلك يظهر لك ما في جامع المقاصد والمسالك من ذكر أقوال ثلاثة ، أحدها الحبس في مفروض مسألة المتن وغيره من كتب الأصحاب التي هي صحة الوقف المنقطع وعدمها ، وأعجب من ذلك ما أطنب في الرياض من أن المسألة ذات قولين : أحدهما البطلان مطلقا ، والآخر الصحة والمراد الصحة حبسا لا وقفا ، واستشهد على ذلك بتصريح جماعة ممن قال بالصحة بانتقال العين الموقوفة بعد الانقراض إلى الواقف وورثته ، وهذا من لوازم الحبس فتكون كلمة القائلين بالصحة متفقة على إرادة الصحة حبسا لا وقفا ، وهو من غرائب الكلام ، وما كنا لنؤثر وقوع ذلك منه خصوصا بعد قول جماعة منهم بالانتقال إلى ورثة الموقوف عليه.

وقول آخر أنه يصرف في وجوه البر وتصريح غير واحد بأن الأكثر على صحته وقفا ، بل التتبع يشهد به ، بل قد عرفت عدم إمكان تصور القول بصحة ذلك حبسا ، وما ذكره من اللازم المزبور كاد يكون صريحا بخلافه ، ضرورة ظهور كلام بعض وصريح آخر بعود ذلك الى الواقف بعد الانتقال إلى الموقوف عليه ، وهذا لا يكون في الحبس الذي لم تنقل فيه العين عن المالك ، والمصرح ببقاء العين هنا ـ مع ندرته ـ مدع أن هذا الوقف له حكم الحبس ، وانما الذي يخالفه الوقف المؤبد دونه ، وبالجملة لا ينبغي التأمل في ضبط تحرير المسألة منه ومن غيره والتحقيق ما عرفت.

كما أن التحقيق فيها القول بالصحة وأنه هو الأشبه بأصول المذهب وقواعده ، لا لكثير مما ذكروه مما هو محل للنظر ، بل لأصالة عدم الاشتراط المستفادة من عموم أدلة العقود وخصوص أدلة الوقف ، سيما نحو‌ قولهم عليهم‌السلام « الوقوف على حسب ما ـ يوقفها (١) » وخصوصا الصحيحان المزبوران (٢) الظاهران أو الصريحان بعد تفسير أحدهما بما في الآخر في أن الوقف الموقت المحكوم فيهما الأعم من القسمين ، بل هما ظاهران أو صريحان لمن وهبه الله تعالى قريحة نقادة في أن كل وقف موقت صحيح ، وكل وقف غير موقت باطل مردود‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الوقوف الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب أحكام الوقوف الحديث ١ ـ ٢.

٥٧

على الورثة ، ففي مثل المفروض هو موقت ما دام الموقوف عليه موجودا ، وغير موقت إذا انقرضوا فيثبت له حكم كل منهما من الصحة والفساد ، ضرورة أن‌ قوله عليه‌السلام في الصحيح الأول « هو كذلك عندي » تقرير للكليتين المفسرتين بالصحيح الآخر الذي هو كالصريح في صحة الوقف بالتفسير الثاني منهما وهو مفروض مسألتنا فالجمع بينهما حينئذ نتيجة ما ذكرناه.

بل من قوله « على حسب » إلى آخره ، يستفاد أيضا اعتبار الموقوف عليه في الصحة وإلا لم يدخل تحت المصداق الظاهر للفظ حسب هنا ، كما أن منه يستفاد تأثير عقد ، الوقف بالنسبة إلى نقله العين والمنفعة على حسب ما تضمنه العقد ، وما زاد عليه مما لم يكن فيه موقوف عليه هو من غير الموقت الذي حكم ببطلانه ورجوعه إلى الوارث.

بل لا يخفى ظهور قوله عليه‌السلام في الصحيح الأول باطل مردود على الورثة في نحو المفروض ، لظهور لفظ الرد في ذلك ، وكذا الورثة إذ لو كان المراد خصوص الباطل من أول الأمر لكان الرد فيه على الواقف الذي لم ينتقل عنه حتى يرد عليه ، فتأمل جيدا.

ودعوى ـ أن ملك العين لا يكون إلى أمد ، وأنها متى خرجت عن ملك المالك يحتاج عودها إلى سبب جديد ـ واضحة الفساد ، لا لما في المسالك من النقض بالحبس وإخوته ، ضرورة اقتضائها نقل المنافع إلى العين التي لا إشكال في بقائها على ملك المالك في الثلاثة ، بل لأنها كالاجتهاد في مقابلة النص والفتوى في الوقف الذي قد شرع نقله على هذا الوجه ، ولذا يتغير بتغيير الأوصاف التي منها الحياة والموت ، والفقر والغنى ، والعلم والجهل ، وغير ذلك وفي الجميع يتلقى الثاني الملك عينا ومنفعة من الواقف لا من زائل الوصف.

وحينئذ فلا بأس في مفروضنا من دعوى كون العين المملوكة للموقوف عليه المفروض انقراضه ما دام موجودا مثلا ، وبعده تعود إلى الواقف ، لأن عقد الوقف بعد فرض مشروعيته على هذا الوجه انما اقتضى نقلها عن المالك ما دام الموقوف عليه غير منقرض ، ومتى صار غير موقت صار باطلا مردودا على الواقف أو ورثته كما هو صريح الصحيح الأول ، فلا يحتاج حينئذ إلى سبب جديد ، بأن الناقل عن مقتضى الملك إنما نقل هذا المقدار ، وليس هذا من‌

٥٨

التوقيت في الملك أو في الوقف الذي قد حكينا الإجماع على عدم جوازه ، ضرورة كون ذلك الذي قد أخذت فيه المدة غاية ، لا ما إذا جائت تبعا لانقراض الموقوف عليه فالعود إلى الملك بانتهاء سبب النقل كالعود بسبب الفسخ بالإقالة والخيار اللذين ليسا سبب ملك جديد للمال ، الذي خرج عن ملك المالك ، وإنما هما سبب فسخ للسبب الذي اقتضى النقل ، فعاد مقتضى السبب الأول على حاله ، بل لعل ذلك هو الأصل في بطلان كل سبب طار على السبب الأول الذي منه ما نحن فيه كما هو واضح.

ومن ذلك كله ظهر لك أنه لا وجه للقول بانتقاله إلى ورثة الموقوف عليه كما في المقنعة ومحكي السرائر ، بل ربما حكى عن سلار أيضا ، بل مال إليه أو قال به الفاضل في محكي التحرير ، باعتبار كونه ملكا لمورثهم ، إذا المورث إنما ملكه على الوجه المزبور فلا يدخل في تركته حتى تشمله أدلة الإرث.

وكذلك القول بصرفه في وجوه البر الذي جعله في الغنية أحوط ، ونفى عنه البأس في المختلف ، إذ هو إما مبنى على بقائه وقفا وترك ذكر المصرف فيه فيصرف فيها أو على أنه مال جهل مالكه ، ولو من حيث الأدلة الشرعية بمعنى عدم دليل بالخصوص يشخص مالكه وكلاهما كما ترى ، ضرورة عدم صحة بقائه وقفا ، بعد فرض أن الواقف لم يقصد بوقفه الا على خصوص المفروض انقراضهم ، وقد عرفت‌ أنه عليه‌السلام قال : « الوقوف على حسب ، ما يوقفها أهلها (١) » فبقاؤه وقفا حينئذ وصرفه في ذلك مناف للعنوان المزبور قطعا.

وأما دعوى كونه مجهول المالك شرعا فيدفعها ما عرفت من أن عقد الوقف لم يقتض إلا الإخراج عن الملك بالقدر المزبور ، وما عرفت من التصريح برجوع الوقف إلى الورثة وأنه المراد بعدم التوقيت الذي منه ما نحن فيه بعد الانقراض.

نعم قد يتوقف في انتقاله مع فقد الواقف إلى ورثته حين انقراض الموقوف عليه ، باعتبار صيرورته بحكم ماله في ذلك الوقت ، فلا مدخلية للوارث السابق الذي كان وارثا للمال الذي هو‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الوقوف الحديث ٢.

٥٩

للميت حال موته ، أو إلى الوارث الأول باعتبار تأهل الميت لصيرورته ملكا له بانقراض الموقوف عليه ، لأن الملك إنما خرج عنه متزلزلا وهذا التأهل يتنقل إلى وارثه ، لأن كل ما هو له يكون لوارثه ، فهو حينئذ كفسخ المشتري بخياره بعد موت الميت بمدة ، فإنه يكون المبيع للوارث الأول ، ولو لأن انتقال المبيع عنه كان متزلزلا ، بفسخ المشتري. إذ هو هنا كذلك قد انتقل المال عنه متزلزلا.

ولعل الثاني منهما لا يخلو من قوة ، وإن أمكن الفرق بين المشبه والمشبه به ، بوجود الثمن في البيع الذي ملكه البائع متزلزلا ، والفسخ يقتضي رد العوض بخلاف المقام إلا أنه فرق لا ينافي ما ذكرناه من القوة التي مبناها تناول أدلة الإرث لمثل ذلك.

وبذلك كله ظهر لك وجه القول بالرجوع إلى ورثة الواقف على فرض الصحة وقفا. وأما دعوى أن الفرض وإن كان وقفا إلا أنه لا يفيد الا مفاد الحبس ـ حتى ذكر بعضهم ندور الثمرة في الفرق بينهما ، وانما هي في النذر والوصية ، والنية المصححة لمثل هذا الوقف إن كان متعلقها الحبس والمفسدة له إن كان الوقف ، ونحو ذلك فلا يفيد حينئذ نقل العين إلى الموقوف عليه ، وإن أفاده في المؤبد ـ فيدفعها ظهور أدلة الوقف في اتحاد مقتضاها في جميع أفراده ، وإلا لاقتضى التوقف حينئذ في الحكم بملك العين وعدمه في نحو الفرض المحتمل لانقراض الموقوف عليه وعدمه وهو معلوم البطلان كما هو واضح.

ومن الغريب دعوى هؤلاء كون الفرص من الحبس ، وقولهم بندور الثمرة بينه وبين الحبس ، ضرورة عدم معقولية ذلك إلا على جعله وقفا ، كي يتجه ظهورها بمثل النذر واليمين ، وكل ذلك ناشئ من عدم تحريهم المسألة على وجهها.

ولا يخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه ما في كثير من الكلمات في المقام ـ فضلا عما فيها من التشويش ، والله الهادي والحافظ من زلل الاقدام والأقلام ـ ولا ما في دليل القول بالبطلان الذي أرسله الشيخ المبني على دعوى اعتبار الدوام في الوقف على وجه يشمل الفرض ـ وهي مصادرة محضة ، كدعوى رجوع ذلك إلى التوقيت الذي قد عرفت بطلانه ، للفرق الواضح بينهما ـ وعلى أنه يكون وقفا على مجهول وهو باطل وفيه أن المجهول إن أريد به بالابتداء فظاهر‌

٦٠