جواهر الكلام - ج ٢٨

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ذلك؟ ولا ريب في أن الأولى الأول ، وإن كان يقوي جواز ذلك أيضا إذا فرض تراضيهم في العقد على ذلك ، ولا يعتبر في العاقد عن الحزبين أن يكون مطاعا فيما بينهم ، مقدما عليهم في الرمي ، وإن اعتبرا ذلك بعض ، ولكن لا دليل معتبر عليه ، ولو شرط السبق من الرئيس خاصة أو من أجنبي أو من أحد الحزبين أو منهما جاز.

نعم يسقط على الحزبين بالسوية غرما وأخذا ، إذا لم يشترط التفاوت ، واحتمال التوزيع على قدر الخطأ والإصابة لا دليل عليه ، ويشترط قسمة الشرق بين الحزبين بغير كسر ، فيجب عدد له ثلث إذا كانوا ثلاثة ، وربع إذا كانوا أربعة ، وهكذا ، ولو كان في أحد الحزبين من لم يحسن الرمي بطل العقد فيه ، وفي مقابلة ، وحينئذ ، يتخير كل من الحزبين في فسخ العقد ، لكونه حينئذ كتبعض الصفقة ، وكيفية الغلبة بين الحزبين على حسبما يشترطونه ويتفقون عليها بينهم ، والله العالم والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا وظاهرا وباطنا والشكر له على الإكمال.

٢٤١

( كتاب الوصايا )

جمع وصية من أوصى يوصي ، أو وصى يوصي ، قال في الصحاح : « أوصيت له بشي‌ء وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك ، والاسم معا الوصاية بالكسر والفتح ، وأوصيته ووصيته أيضا توصية بمعنى ، والاسم الوصاية ، إلى أن قال ووصيت الشي‌ء بكذا إذا وصلته به ، وذكر غير واحد من الأصحاب أن الوصية منقولة من وصى يصي بالمعنى الأخير ، لما فيها من وصل القربات الواقعة بعد الموت بالقربات في حال الحياة أو بالعكس أو وصل التصرف حال الحيوة به بعد الوفاة ، لكن ذلك كله كما ترى ، والأولى نقلها من الوصية بمعنى مطلق العدة ، يقال : أوصاه ووصاه توصية عهد إليه إلى خصوص ما يعهده الإنسان بعد وفاته ، بل الوصية بمعنى التمليك ألصق بهذا المعنى من الأول كما هو واضح ، والأمر سهل.

وعلى كل حال في النظر في ذلك يستدعي فصولا.

الأول : في الوصية وهي إنشاء الموصى تمليك عين أو منفعة بعد الوفاة وهذه لا اشكال بل لا خلاف في أنها تفتقر إلى إيجاب وقبول للإجماع بقسميه على أنها حينئذ بحكم العقود المتوقفة على ذلك ، وأنها بمنزلة الهبة والعطية والصدقة مضافا إلى أصالة عدم انتقال الملك من الموصى ، وعدم دخوله في ملك الموصى له بدونهما ، بل ليس في الشريعة في أسباب الملك ما هو كالايقاع في الحصول من جانب خاصة ، ودعوى صدق الوصية على الإيجاب وحده ، على وجه يشمل ما نحن فيه واضحة المنع ، خصوصا بعد ظهور إطلاقات الوصية فيها بمعنى العهد الذي يعهد الموصى فعله بعد وفاته بأمر ونحوه ، لا ما يشمل محل البحث ، وهي بهذا المعنى ليست من العقود قطعا بل ضرورة.

٢٤٢

ومن ذلك يظهر لك ما في إطلاق كثير من الأصحاب كون الوصية عقدا ثمرته تمليك العين أو المنفعة بعد الوفاة ، اللهم إلا أن يريدوا من ذلك أحد أفراد الوصية ، ولعل الظاهر ذلك ، وحينئذ ، فلا وجه لنقض التعريف المزبور بالوصاية وبالوصية بإبراء المديون وبالوقف ونحو ذلك ، ضرورة كون المراد تعريف ذلك الفرد من الوصية ، لا مطلق الوصية به ، بل لا يرد التدبير أيضا ، بناء على أنه عتق معلق جاز للدليل ، لا وصية ، بل لو سلمنا أنه وصية فهو قسم آخر منها خارج عما نحن فيه ، من البحث عن الوصية التمليكية الملحقة بكتاب العطايا والصدقات ، وحينئذ فالتعريف تام.

نعم زاد فيه محكي التذكرة وإيضاح النافع تبرعا ، ولعله لبيان الواقع باعتبار ظهور النص والفتوى في اعتبار المجانية في الوصية بالمعنى المزبور ، لأنها بمنزلة الصدقة ، فلو قال : هذا الفلان بعد موتي بكذا بطلت.

فما في جامع المقاصد ـ من اشكاله بما إذا أوصى بالبيع ونحوه من المعاوضات فإنه وصية ، ولا تبرع فيه ـ في غير محله لما عرفت من أن محل البحث في الوصية المملكة ، لا العهدية ، وقد عرفت اعتبار المجانية فيه ، بل الظاهر اقتصار التمليك فيها على ما كان نحو الصدقة ، فلو قال : بعث هذا من زيد بعد وفاتي بكذا مثلا بطل ـ لا للتعليق الذي يمكن دفعه بأنه ممنوع في البيع ، لا في الوصية به التي مبناها على ذلك ، ولذا ، جاز في صيغة التمليك المجاني ، بل لعدم ما يدل على صحة الوصية على الوجه المزبور ، بعد ما عرفت من ظهور نصوصها في خلاف ذلك فيما كان بلفظ التمليك ونحوه فضلا عما كان بلفظ البيع والصلح والإجارة ونحوها مما لا دليل على صحة إيجاب الوصية بها ، فضلا عن ملاحظة العوض فيها.

ومن ذلك لم يصح إنشاء الوقف والرهن ، وغيرهما مما لا عوض فيه بالوصية على وجه يكون كالتمليك ، بأن يقول : هو وقف بعد وفاتي على زيد ، أو هو رهن بعد وفاتي أو نحو ذلك.

نعم يصح الوصية بذلك على معنى العهد ، أي يأمر بوقفه بعد وفاته مثلا ، فتأمل جيدا كي يظهر لك ما في كثير من كلماتهم في المقام ، حتى أن منهم من زاد في‌

٢٤٣

التعريف « أو تسليط على تصرف » لإرادة شمول الوصاية بمعنى الولاية ، مع أنه ينتفض بالتدبير أيضا ، ولذا زاد في الكفاية مع ذلك « أو فك ملك قيل : أو تسليط ».

ومنهم من عرفها بأنها « تنفيذ حكم شرعي من مكلف أو ما في حكمه بعد الوفاة » وهو كما ترى خارج عما نحن فيه ، ضرورة كون التنفيذ فعل الوصي أو الحاكم ، وهما معا خارجان عن الوصية ، فضلا عن محل البحث ، والأمر في ذلك كله سهل.

وعلى كل حال فـ ( الإيجاب كل لفظ دل على ذلك القصد ) وضعا أو بقرينة ولو حالية كقوله : أعطوا فلانا بعد وفاتي ، أو لفلان كذا بعد وفاتي مريدا بالأول إنشاء التمليك بذلك ، لا الأمر بفعله بعدها أو أوصيت له بكذا من غير تقييد بما بعد الوفاة ، للاستغناء عنه بلفظ الوصية بخلاف الأولين.

نعم ينبغي أن يظهر إرادة إنشاء التمليك فيه بذلك ولو بقرينة حالية ، لا الوصية العهدية الخارجة عن محل البحث.

ولو قال : هو له فهو إقرار في الحال لا يقبل منه حمله على الإيصاء عند التداعي ، إلا أن يكون قد قرنه بما يفسد الإقرار ، ويجعله وصية.

نعم قد يقوي الإكتفاء بنيته التي قد فسر اللفظ بها بعد ذلك ، إذا لم يكن له معارض ولا خصم ، والمال في يده وتحت سلطنته ، وكذا الكلام في قوله وهبته ، ثم فسره ، بإرادة الوصية لا التنجيز ، أما لو قرن ذلك ونحوه بما يقتضي ذلك لم يكن إشكال حينئذ في الحكم بكونه وصية ، لعدم اختصاصها بلفظ ، وكذا لو قال : عينت له كذا بعد وفاتي أو جعلت له كذا.

نعم ينبغي أن يكون استعماله اللفظ في ذلك جاريا مجرى الاستعمال المتعارف ولا يكفي إرادته ذلك من لفظ غير صالح ، لإرادته حقيقة ولا مجازا ، وكذلك الكلام في القبول الذي هو أوسع من الإيجاب ولذا جاز فيه أن يكون فعلا دالا على الرضا بالإيجاب بلا خلاف أجده فيه ، وفي سائر العقود الجائزة.

٢٤٤

نعم ظاهرهم بل صريح بعضهم عدم تحقق العقد في شي‌ء منها بالفعل في الإيجاب ، لكن لا يخفى عليك مشروعيته في الجميع ، كما لا يخفى عليك صدق أسمائها كالعارية والوديعة ، ونحوهما على ذلك ، فلا مناص حينئذ عن القول بجواز ذلك فيها ولحوق أحكامها له ، إلا أنه ليس عقدا لها ، فهو شبه المعاطاة في العقود اللازمة التي تندرج في الاسم ، ولا يجري عليها حكم العقد ، وليس عدم الثمرة هنا بين المعاطاة والعقد بعد الاشتراك في الجواز مانعا من ذلك كما هو واضح ، فينحصر العقد هنا بالإيجاب لفظا والقبول كذلك أو فعلا ، وما عداه معاطاة ، وهو ما كان إيجابه فعلا ، سواء كان قبوله كذلك أو لا؟.

بقي الكلام في أمرين :

أحدهما : أن ظاهر إطلاق المصنف وغيره حتى معقد إجماع الغنية ونحوه وعدم الفرق في افتقار هذا القسم من الوصية إلى الإيجاب والقبول بين كونها لمعين وغير معين كالوصية بشي‌ء للفقراء أو لبني هاشم ، وغير ذلك مما هو غير محصور ، أو كان لجهة كالمسجد.

لكن في القواعد واللمعة وجامع المقاصد والمسالك والروضة ومحكي التذكرة والتحرير والمختلف والإيضاح والدروس والتنقيح وإيضاح النافع والكفاية أنه ينتقل بالموت من غير حاجة إلى القبول ، بل في المسالك « نفي الخلاف فيه ، وعن إيضاح النافع أن عليه الفتوى ، وظاهرهم أنه لا يحتاج إلى قبول من الحاكم إن أمكن ، كالوقف وربما قيل : فيه بذلك ، ولكن لا قائل به هنا » ونحوه في جامع المقاصد ، ولعله لإطلاق الأمر بإنفاذ الوصية بعد فرض صدقها هنا على ذلك ، من غير حاجة إلى قبول ، والسيرة المعلومة ، وما عساه يستفاد مما ورد من الوصايا بنحو ذلك ولما استدل به في التذكرة وغيرها من تعذر القبول منهم جميعهم ، والبعض ترجيح بلا مرجح ، على أن الكلام في البعض الآخر ، وإن أمكن المناقشة فيه إمكان اعتبار قبول الحاكم الذي هو بمنزلة الجميع ، أو الناظر.

لكن ، لا يخفى عليك أن فساد ذلك لا يقتضي فساد أصل الدعوى ، وإن تخيله بعض من عاصرناه ، قائلا قضية كلامهم أنه لو لا هذه العلة لوجب القول بالقبول ، وهذا يقضي بقوة القول به ، بعد أن عرفت فسادها بالقبول من الحاكم مضافا إلى عدم الانتقال ونحو ذلك ،

٢٤٥

وإلى إطلاقهم كونها عقدا الذي يمكن أن يكون هو السبب لهم في الاتكال على عدم التصريح بالقبول من الحاكم هنا ، بل مثله يعد إجماعا على الاشتراط ، ويؤخذ حجة عليه خصوصا بعد عدم المعارض لذلك كله إلا إطلاق الأدلة الذي لم يسبق لذلك ، بل قد يمنع صدق اسم الوصية على الفرض ، كما أنه قد يمنع إرادة هذا الفرد منها إلا أن الجميع كما ترى.

نعم قد يقوى كون الوصية للفقراء وللجهة غير ما نحن فيه من الوصية التمليكية بل هو من الوصية العهدية بالصرف على ذلك ، خصوصا الوصية للجهة ، ضرورة عدم صحة تمليك الجنس بعقد من العقود المملكة وإن قبل الحاكم عنه ، إلا الوقف على إشكال فيه لقصور أدلتها عن ذلك ، من غير فرق بين البيع والصلح والهبة وغيرها مما اشتمل على العوض ، أو لم يشتمل ، ولا يقاس التمليك بها على الملك الشرعي الثابت في الزكاة والخمس ، بل والوقف بناء على القول به ، لحرمة القياس ، على أن بناء الوقف على تمليك المعدوم بخلاف الوصية ، مع أن أفراد الجنس مختلفة ، كمال الاختلاف ضرورة كونهم حال الوصية غيرهم في الزمن الآخر ، لصيرورة الفقير غنيا والغني فقيرا ، بل فيهم من لم يكن موجودا أصلا ، ثم وجد فقيرا وهكذا ، ولا ريب في عدم ظهور معتد به في أدلة العقود على وجه يقتضي صلاحيتها لنحو هذا التمليك ، بل لا يبعد بطلان الوصية لو قصد بها التمليك المذكور.

ومن ذلك ينقدح أن إطلاق الأصحاب كون الوصية عقدا محتاجا إلى الإيجاب والقبول في محله ، ولا يرد عليهم مثل ذلك ، لخروجه عن الوصية التمليكية ، ودخوله في الوصية العهدية الخارجة عن محل البحث ، خصوصا الوصية للجهة كالمسجد والقنطرة والمدرسة ونحوها ، مما هي غير قابلة للتمليك ، ولم يقصد منها تمليك غيرها من الفقراء ونحوهم ، فليس حينئذ إلا إرادة المصرف فتأمل جيدا فإنه جيد جدا ، وإن كان مخالفا لما صرح به بعضهم ، كالفاضل والمحقق الثاني وغيرهم من كون الوصية في الفرض مملكة ولكن لا تحتاج إلى قبول مطلقا أو تحتاج إلى قبول من الحاكم ، ضرورة منافاة ذلك لكونها عقدا مفتقرا إلى الإيجاب والقبول المعتبر ، فيهما ما يعتبر في باقي العقود إلا ما خرج بالدليل ، حتى العربية بناء على اعتبارها في العقود جميعها ، وإن صرح في الروضة بعدم اعتبارها هنا ، لكنه مسلم في العهدية منها دون العقدية ،

٢٤٦

لعدم الفارق بينها وبين غيرها من العقود في ذلك ، والقياس على ما خرج بالدليل من الفرق بينها وبين غيرها ممنوع عندنا.

اللهم إلا أن يدعي جواز ذلك من العقود الجائزة ، وإن قدر على العربية كما صرح به هنا في الدروس.

ولكن فيه أن دليل العربية مشترك بين العقود جميعها ، إذ هو انسياق العربي فيما اعتبر فيه اللفظ ، فتأمل جيدا ، فإنه قد يقال : إن الوصية في عهد الميت بعد وفاته ، بل لعله العقدية المستفادة من قوله تعالى ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ ) إلى آخر الآية باعتبار ظهوره في التمليك الناشئ ، من الوصية قسم من العهدية ، كما عساه يشعر به ذكرهم في إيجابها أعطوا وافعلوا ونحوهما ، وقد عرفت عدم الإشكال في جواز الفارسية ونحوها في العهدية فتأمل جيدا.

ثانيهما : أنه قد يظهر من اعتبار العجز عن النطق في كفاية الإشارة الدالة على المراد في كلام جماعة من الأصحاب ، بل هو معقد نفي الخلاف في محكي التنقيح بل لا كلام فيه كما عن إيضاح النافع ، بل في الروضة القطع به ، بل في الرياض الإجماع عليه ، بل لعله محصل أنه لا تجزى الإشارة مع التمكن من النطق ، وهو مناف لما ذكرناه من كفاية الفعل في إجراء حكم الوصية ، وإن لم يتحقق بذلك عقدها ، وأنه كالمعاطاة في البيع.

لكن يمكن أن يكون ذلك منهم لإرادة ما ادعوه من الإجماع ونفي الخلاف ونحو ذلك ، لا لإرادة اشتراط القاضي بعدم الجواز مع انتفاع ذلك ، أو لإرادة اشتراط القاضي بعدم الجواز مع انتفاع ذلك ، أو لإرادة تحقق العقد حينئذ وأنه ليس من المعاطاة في حال العجز ، بل تقوم الإشارة حينئذ مقام اللفظ من القادر ، لما دل عليه في الأخرس أو لغير ذلك ، وإلا فلا دليل لهم يدل على ذلك ، بل لعل الأدلة بخلافه ، بعد صدق اسم الوصية عليه عرفا ، فتجري جميع أحكامها.

٢٤٧

و‌صحيح الحلبي (١) عن أبي عبد الله « ذكر أن أباه حدثه عن أبيه أن أمانة بنت أبي العاص بن الربيع ، وأمها زينب بنت رسول الله عليهما‌السلام كانت تحت علي عليه‌السلام بعد فاطمة عليها‌السلام فخلف بعده وتزوجها بعد علي عليه‌السلام المغيرة بن نوفل ، ذكر أنها توجعت وجعا شديدا حتى اعتقل لسانها فجائها الحسن والحسين أبناء علي عليهم‌السلام لا تستطيع الكلام ، فجعلا يقولان لها والمغيرة كاره لما يقولان : أعتقت فلانا وأهله فتشير برأسها نعم وكذا وكذا فجعلت تشير برأسها نعم ، فلا تفصح بالكلام فأجاز ذلك لها ».

وخبر علي بن جعفر (٢) عن أخيه عليه‌السلام المروي عن قرب الإسناد « سألته عن رجل اعتقل لسانه عند الموت أو امرأة فجعل أهاليها يسائله أعتقت فلانا ، وفلانا ، فيومئ برأسه أو تومئ برأسها في بعض نعم وفي بعض لا ، وفي الصدقة مثل ذلك أيجوز ذلك قال : نعم ، هو جائز ».

مع أنه لا صراحة فيهما بالوصية التمليكية ، لا دلالة فيهما على الاشتراط بل يمكن أن يكون الإكتفاء بذلك لجوازه في نفسه ، لا للعجز عن النطق ، ولعله لذلك كان ظاهر عبارة النافع الإكتفاء بالإشارة مع إمكان النطق ، وإن قال بعض مشايخنا أنه لا موافق له ، ولا دليل عليه.

ولكن فيه ما لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما عرفت ، وكذا الكلام في الكتابة ، فإنه لا شك كما عن جامع المقاصد الاعتراف به في الإكتفاء بها مع العجز عن النطق والقرينة الدلالة على إرادة الوصية منها بل عن التنقيح أنه لا خلاف فيه ، بل عن الإيضاح الإجماع على ذلك.

وفي خبر سدير (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : دخلت على محمد بن علي الحنفية وقد اعتقل لسانه ، فأمرته بالوصية فلم يجب ، فأمرت بطشت بجعل فيه الرمل ، فوضع فقلت له : خط بيدك فخط وصيته بيده في الرمل ، ونسخته أنا في صحيفة » وربما ظهر من تقييد الإكتفاء بالعجز عدم الإكتفاء بها مع الاختيار ، بل هو صريح المحكي عن الفاضل وولده والشهيدين والمحقق الثاني والقطيفي ، بل عن السرائر نفي الخلاف فيه.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب أحكام الوصية الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب أحكام الوصية الحديث ـ ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب أحكام الوصية ـ الحديث ـ ٢.

٢٤٨

نعم عن التذكرة احتمال الإكتفاء بها مع الاختيار في أول كلامه ، بل لعله الظاهر من النافع وفي الرياض أنه لا يخلو عن قوة ، مع قطعية دلالة القرينة ، لكن يمكن أن يكون ذلك كله منهم في تحقيق العقد ، لا أن المراد عدم إجراء حكم الوصية على ذلك مطلقا لما عرفت في الإشارة ، من صدقها عرفا على ذلك ونحوه ، فيشمله إطلاق أدلتها مضافا إلى التأييد بكثير من النصوص الناهية عن أن يبيت الإنسان إلا وصيته تحت رأسه ، ومعقد نفي الخلاف في محكي السرائر غير ما نحن فيه ، قال : ولو أوصى بوصية وأدرج الكتاب وقال قد أوصيت بما أوصيت في هذا الكتاب ، وليس اختار أن يقف أحد على حالي وتركتي وقد أشهدتكما علي بما فيه ، لم يصح بلا خلاف ، ولعل مراده عدم صحة الشهادة عليه بذلك للإجماع ، وإن كان قد يقوي في النظر خلافه أيضا ، ضرورة تناول أدلة الإقرار لمثله ، فيصح الشهادة عليه به وإن اعتبر فيها العلم ، ولا إجمال بعد العموم في اللفظ بل ينبغي القطع بالاكتفاء بها أي الكتابة في الإقرار ، أو ما في حكمه نحو الإشارة بالرأس واليد مما يفيد معنى نعم ، ولا ، مثلا ، بل لا يبعد ذلك لو أفادته على وجه الظهور فضلا عن الصراحة.

والحاصل أنه يمكن حمل كلامهم السابق على ما عرفت ، أو يكون المراد عدم الإكتفاء بالكتابة في ثبوت الوصية ، بمعنى أنه لا يجب العمل بما يوجد مكتوبا ما لم يثبت بالبينة ، أو تقم القرائن على إرادته كالوصية بذلك ، وعمل الورثة ببعض ما يجدونه مكتوبا لأمور دلتهم على صحته ، لا يلزمهم العمل بالجميع.

خلافا للمحكي عن الشيخ في النهاية فألزمهم لرواية قاصرة سندا ودلالة ، ولو كتب وصية وقال اشهدوا علي بما في هذه الورقة ، أو قال : هذه وصيتي فاشهدوا على بها ففي القواعد والمحكي عن غيرها لم يجز حتى يسمعوا منه ما فيه أو يقرأ عليه ، فيقر به بل عن غير موضع من السرائر الإجماع عليه ، وفي المحكي عن الجامع إشهاد الشخص على نفسه في الأملاك والوصايا على كتاب يدرج لا يصح إجماعا.

لكن الإنصاف أنه إن لم يتم الإجماع المزبور كان للنظر فيه مجال ، لما عرفت ، ولأن المعروف القبول فيما لو قرأه الشاهد مع نفسه ، فقال له الموصى : قد عرفت ما فيه فاشهد عليه به ، وهما.

٢٤٩

عند التأمل متقاربان ، بل لا يبعد في النظر الإكتفاء بالكتابة في الإقرار والوصية مع ظهور إرادة ذلك منها ، فضلا عن صورة العلم ، ضرورة حجية ظواهر الأفعال كالأقوال في الجملة ، سيما ما كان منها نحو شاهد الحال بل الكتابة أخت الألفاظ ، وفي المرتبة الثانية في الوضع لا للدلالة على ما في النفس ، فتكون أولى من باقي الأفعال بل لا يجري على مدلول النقوش منها من الألفاظ ما يجري على اللفظ نفسه من الصراحة والظهور والإطلاق ونحو ذلك.

ودعوى عدم كفايتها ـ وغيرها من الأفعال في الوصية ونحوها من العقود الجائزة عقدا أو معاطاة ـ واضحة الفساد ، ضرورة الإكتفاء بها في البيع ونحوه مما هو أولى منها للصدق العرفي المشترك بين الجميع ، وعدم صدق اسم العقد بعد التسليم لا ينافي صدق اسم البيع والهبة والوصية ونحوها ، وهو المدار في إجراء الأحكام ، لا اسم العقد فتأمل جيدا.

وفي خبر إبراهيم بن محمد الهمداني (١) قال « كتبت إليه رجل كتب كتابا فيه ما أراد أن يوصي به هل يجب على ورثته القيام بما في الكتاب بخطه ، ولم يأمرهم بذلك فكتب إليه إن كان له ولد ، ينفذون كل شي‌ء يجدون في كتاب أبيهم في وجوه البر وغيره ».

وفيه إشارة في الجملة إلى ما ذكرناه ، بل لو قلنا بعدم صدق اسم البيع ونحوه على المعاطاة كما هو الأصح عندنا الآن ، أمكن الفرق بين المقام وبين ذلك ضرورة كون الوصية بمعنى العهد ، بل يمكن تكلف اندراج العقدية منها فيه ، ولا ريب في صدقها بمعناه على الحاصل بالفعل ، سيما الإشارة والكناية ونحوها ، وإن لم يكن من الوصية العقدية وعنوان أكثر الأحكام على الوصية بمعنى العهد ، لا العقد فلا ينبغي التوقف في جريان الأحكام على ذلك ، فإنه داخل تحت النهي عن التبديل ، بخلاف البيع والصلح ونحوه مما هو معنى واحد ، فلا يصدق على المعاطاة والله أعلم.

وكيف كان فـ ( ينتقل ) الموصى به بها أي الوصية إلى ملك الموصى له بموت الموصى ، وقبول الموصى له ، ولا ينتقل بالموت‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب أحكام الوصية الحديث ـ ٢ ـ باختلاف.

٢٥٠

منفردا عن القبول ولو متزلزلا كالعكس على الأظهر الأشهر بل المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا ، بل هي كذلك على الظاهر ، وإن حكى الخلاف عن ظاهر أبي علي بل قيل : إنه خيرة الخلاف والتذكرة وموضع من المبسوط ، بل لا ترجيح في جملة من كتب الأصحاب ، وهو يقتضي بقوته ، لكن في محكي السرائر أنه ليس لأصحابنا فتوى بذلك ولا وردت به أخبار عن الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم ، وفي جامع المقاصد أنه ترك العلاقة في القواعد حكايته لضعفه.

قلت : ولعله لأنه مخالف للأصل بل الأصول ، وللمعهود من عدم الملك القهري في التمليكات ، ولسائر العقود ، ولغير ذلك ، لكن الإنصاف أنه لو لا دعوى الإجماع على خلافه لكان لا يخلو من قوة ، ضرورة ظهور أدلة الوصية في ملك الموصى به بمجرد الموت كما اعترف به القائل بالكشف ، من غير اعتبار القبول خصوصا ما دل على الانتقال إلى الوارث منها إذا مات الموصى له ، ولعله لذا كان خيرة بعض متأخري المتأخرين عدم الحاجة إلى القبول في اللزوم أيضا ، فضلا عن الملك ، إلا أنه يمكن تحصيل الإجماع على خلافه ، فضلا عن حكايته ، واستبعاد حصول الملك قهرا في التمليك بعد ظهور الدليل فيه لا وجه له ، خصوصا بعد أن لا يكون لازما عليه ، وله إزالته عنه برد الوصية كما هو مقتضى كلام القائل ، لأن القبول عنده شرط في اللزوم ، والإجماع على اعتبار القبول المسلم منه كون الوصية عقدا يعتبر فيها الإيجاب والقبول ، ولم يعلم مدخلية الثاني فيها في الملك ، أو في لزومه ، ومخالفته لباقي العقود على التقدير الثاني لا بأس بها بعد قضاء الدليل مع أنه بعينه وارد على المشهور ، من أن القبول كاشف.

نعم قد يقال : بظهور كلامهم في اعتباره في أصل الملك ، بل هو كصريح معقد المحكي من إجماع الغنية على اعتبارهما في صحة الوصية الذي مقتضاه فساد الوصية بدون القبول ، لا عدم اللزوم ، مع أنه يمكن أن يكون نظرهم في ذلك إلى رد الوصية ، لا مطلق عدم القبول الصادق على حال التجريد منه ومن القبول ، ولو لعدم العلم بالوصية ، فلا ينافي ذلك على القائل بالملك اللازم من دون قبول ، وهو مجهول القائل المعتد به.

والمناقشة في أصل دليل هذا القول بمنع ظهور إطلاق أدلة الوصية في الملك بمجردها‌

٢٥١

خصوصا بعد أن لم تكن إطلاقات معتدا بها ، ولا هي مساقة لبيان ذلك ، بل لعلها منزلة على ما هو الغالب من تحقق القبول في مثلها ، لندرة رد ما يتبرع بإعطائه.

تبطل ما هو المشهور عندهم من أن القبول كاشف ، ضرورة كون ذلك عمدة أدلته التي خرجوا بها عن أصالة مساواة هذا العقد لباقي العقود ، دون ما ذكروه له من الوجوه الاعتبارية التي منها أن الظاهر قوله تعالى (١) ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) عدم انتقال التركة معها إلى الوارث ، والميت غير قابل للملك ، والإجماع على عدم ملك الأجنبي فليس حينئذ إلا ملك الموصى له ، وإلا بقي المال بلا مالك ، ولما قام الإجماع وغيره من الأدلة على اشتراط القبول التجأنا إلى أنه كاشف ، جميعا بين الأدلة.

وهو كما ترى فيه نظر من وجوه ، منها : أن مقتضاه ملك الديان أيضا ما قابل بقاء ملكه على ثلثه الذي أوصى بصرفه عليه في عبادة ونحوها.

ومنها : أن البحث في اشتراط القبول في الملك ، فكيف يكون ما هو محل النزاع من مقدمات الاستدلال ، ومن هنا يقوى القبول بكون القبول جزءا ناقلا كغيرها من العقود كما هو خيره جماعة وظاهر آخرين.

لكن ومع ذلك فالقول بالكشف هو الأقوى ، لأن الموصى بإنشاء وصيته قصد التمليك بالموت ، والقبول إنما يتعلق بما أوجبه الموجب على الكيفية التي أوجبها فمع فرض تأخره ـ لعدم اعتبار اتصاله بالإيجاب ولا بالموت ـ يراد منه قبول المراد بالإيجاب الذي هو الملك بالموت ، كما عرفت ، وهو معنى الكشف ، فيكون دليله جميع ما دل على مشروعية هذا الفرد من الوصية التي لا وجه لقبولها إذا تأخر إلا الكشف ، وبذلك افترقت عن باقي العقود التي يراد بإيجابها معناه عند القبول حتى العقد الذي لم يعتبر فيه اتصال القبول بالإيجاب كالوكالة فضلا عما اعتبر فيه ذلك كالبيع ونحوه.

وقد ظهر بذلك أن الأقوال في المسألة ثلاثة ، أحدها : أن القبول تمام السبب الناقل كباقي العقود.

__________________

(١) سورة النساء الآية ـ ١١.

٢٥٢

والثاني : كونه شرطا في الملك كاشفا.

والثالث : كونه شرطا في اللزوم ، وقد يحتمل عدم مدخليته أصلا في ملك ولا لزوم ، وإنما الرد مانع ، بل قد يحتمل عدم مانعية الرد أيضا ، إلا أن كلام الأصحاب كأنه متفق على خلاف الأخيرين ، بل قد سمعت ضعف الثالث عندهم ، وأن المعتد به القولان الأولان ، كما أن المشهور منهما الثاني الذي قد عرفت كونه أقواهما.

ومنه يعلم عدم كون الوصية من العقود المتعارفة ، بل قد سمعت ما يصلح دليلا لكل من الأقوال ، وإن أطنب في ذلك بعض المتأخرين ، لكن على وجه غير مهذب ولا منقح ، بل ومشتمل على حشو كثير ، وما لا فائدة يعتد به ، كالإطناب في الفروع المتفرقة على القول بالنقل والكشف ، حتى عقد لذلك في التذكرة بحثا مستقلا ، ضرورة عدم خفائها على المتنبه الذي قد أحاط بما تقدم لنا في الفضولي الذي قد سمعت البحث فيه عن الإجازة بالنسبة إلى النقل والكشف ، والفروع المتفرقة على ، ذلك ، بل وقد عرفت هناك المراد من الكشف على وجه لا ينافي شرطية الرضا في الملك ، لا أنه شرط للعلم بحصول الملك ، وكذا الكلام هنا وإن كان هو ظاهر الكركي بل صريحه لكنه ضعيف مناف لما دل من الإجماع وغيره على اعتبار القبول في الملك ، كما هو واضح بأدنى تأمل ، والله هو العالم.

وعلى كل حال فـ ( لو قبل ) الموصى له قبل الوفاة أي وفاة الموصى جاز وفاقا للمشهور لصدق اسم الوصية والعقد معه ، فيندرج تحت أدلتهما ، وبه يستدل على نفي احتمال اشتراط الوفاة في صحته ، كما أنه بذلك يخرج عن أصالة عدم النقل ، وأصل بقاء المال وغيرهما من الأصول وكون متعلق الإيجاب الملك بعد الموت لا ينافي قبوله على هذا الوجه ، ضرورة كون القبول كالإيجاب في صحة التعلق حال الحياة ، فهما حينئذ متطابقان.

نعم هو بعد الوفاة آكد ، وإن تأخر القبول عن الوفاة ما لم يرد بعدها خلافا لجماعة ، منهم الفاضل والكركي ( لا يجوز ) بل قيل : إنه المشهور ، وإن كنا لم نتحققه ، لعدم المحل له بعد أن كان القصد الملك بعد الموت ، فالقبول قبله كالقبول قبل الوصية ، وكما لو باعه‌

٢٥٣

ما سيملكه ، ولأن القبول كاشف أو ناقل ، وهما معا منتفيان هنا ، لمعلومية اشتراط الملك بالموت ، ولأن ما قبل الوفاة إن كان قابلا للقبول ، فليكن قابلا للرد أيضا ، كما بعد الوفاة ، والمشهور أنه لا حكم للرد قبل الوفاة ، كما ستعرف ، فالقبول كذلك أيضا ، ولأن القبول لو كان مقبولا حال الحياة لم يعتبر قبول الوارث ولا رده ، لو مات الموصى له قبل موت الموصى وقد قبل ، وهو باطل لأن إطلاق الأخبار يقتضي عدم الفرق بين تقدم قبول الموصى له وعدمه ، فيكون قبول الوارث ورده معتبرا ولما ستعرفه في شرح قوله « فإن رد إلى آخره ».

والجميع كما ترى ، ضرورة منع عدم المحل له بعد أن كان المقصود بالقبول الرضا بالمراد من الإيجاب كيفما كان ، فلا يتصور اختصاص الإيجاب في زمان دون القبول.

ودعوى ـ كونه كالقبول قبل الوصية الذي لم يتحقق فيها إيجاب أصلا ، وكما لو باعه ما سيملكه الذي يكون الإيجاب فيه باطلا ـ واضحة الفساد ، كوضوح فساد الثاني لأن الكشف والنقل إنما هو في القبول بعد الوفاة ، لانحصار مقتضى الملك حينئذ فيه ، بخلاف حال الحياة التي لا إشكال كما لا خلاف في توقف الملك معه على الوفاة التي قصد الموصى التمليك بعدها ، وعدم الحكم للرد بعد تسليمه ، لأصالة بقاء حكم الإيجاب وصلاحية الزمان للقبول ، لا تستلزم صلاحيته للرد ، وقبوله بعد الموت ليس لقبول القبول فيه ، بل للإجماع ونحوه مما هو مفقود في الفرض ، بل هو مظنة العكس ، وقبول الوارث إنما يكون معتبرا إذا مات الموصى له قبل القبول ، كما أن رده معتبر إذا كان للموصى له الرد.

أما لو فرض عدم الرد له لم يكن للوارث ذلك أيضا ، كما لو مات بعد القبول والوفاة وليس في النصوص ما يدل على اعتبار قبول الوارث ، كي يتمسك بإطلاقه ، الشامل لقبول الموصى له وعدمه ، كما لا يخفى على من لاحظها هذا.

وقد أشار المصنف بقوله وإن تأخر إلى آخره ، إلى عدم اعتبار اتصال القبول بالوفاة لو وقع بعدها ، سواء قلنا باشتراط صحته بذلك أولا لإطلاق الأدلة الشامل لذلك قطعا ، ضرورة ندرة اتفاق حصول ذلك ، بل تعذره فيما لو كان الموصى له غائبا مثلا فلا ريب ولا خلاف يعتد به في عدم اعتبار اتصال قبولها بالوفاة ، فضلا عن عدم اعتبار اتصاله بالإيجاب الذي هو معتبر‌

٢٥٤

في غيرها من العقود ، بل الظاهر عدم تسلط الحاكم على جبره على القبول وعدمه ، ما لم يستلزم ذلك ضررا وخصومة وتلفا للمال ، باعتبار احتياجه إلى النفقة ، وغيرها ، وإلا كان له إلزامه في وجه قوي بل لو تعذر إجباره أمكن تولي الحاكم ذلك فتأمل هذا.

ثم إن الظاهر جريان البحث المزبور في إجارة التنجيز بناء على اعتبار اجارة الوارث في الزائد على الثلث فتأمل ، ولما كان قول المصنف « لما لم يرد » موهما لخلاف الواقع فصله بقوله فإن رد في حياة الموصى ، جاز أن يقبل بعد وفاته ، إذ لا حكم لذلك الرد وفاقا للمشهور.

بل وجهه واضح ، بناء على أن القبول معتبر بعد الوفاة خاصة ، ضرورة كون الوجه فيه أن ذلك الوقت محل القبول ، والرد باعتبار التعليق في الإيجاب عليه إذ هو يقتضي عدم حصول المقصود منه قبل حصول المعلق عليه ، كتعليق الحج على الاستطاعة ، ونحو قول السيد اضرب زيدا إن جاء عمرو ، وصل الظهر إذا زالت الشمس ، ونحو ذلك مما لا أمر فيه قبل تحقق المعلق حال الحياة للإعلام بإرادة ذلك عند المعلق عليه ، وللاكتفاء بها عن تجديد الأمر والإنشاء عنده ، ولعله لذا اعتبر في القبول كونه بعد الوفاة ، كالرد ، ضرورة عدم حصول متعلقهما قبلها.

وإن كان منع ذلك كله واضحا ، لمعلومية تحقق الإنشاء بصدور الإيجاب ، والتعليق إنما هو لحصول الأثر لا للإنشاء المقتضي لذلك ، والأوامر المعلقة يتحقق معنى الأمر فيها ، بصدورها ، ولذا يتحقق وصف المطيع والعاصي بالعزم على امتثالها وعدمه ، قيل حصول المعلق عليه ، بل لعل التأمل يشرف الفقيه على القطع بعدم إرادة تعليق معنى الأمرية فيها ، على معنى أن يكون مأمورا عند حصول المعلق عليه ، مع أنه لم يتجدد أمر غير ذلك ، فيرجع إلى صيرورته مأمورا بلا أمر ، وهو معلوم الفساد.

ومن هنا اتجه صحة القبول قبل حصول المعلق عليه ، لتحقق المعنى الإنشائي القابل للقبول ، ولا يستلزم ذلك قبول الرد لعدم الدليل على بطلان حكم الإنشاء بقوله لم أقبله مثلا في مثل المقام ، بل وفي غيره حتى العقود اللازمة ، إذا كان قد وقع على وجه لم يقدح باتصال قبولها‌

٢٥٥

به اللهم ، إلا أن يكون إجماعا ، فيقتصر عليه كالاقتصار هنا له أيضا على تأثيره ، بعد الموت دون الحياة.

ومن ذلك بان الوجه في عدم اعتباره على التقديرين ، لكن ومع ذلك فالإنصاف يقتضي عدم الفرق بينه وبين القبول بالنسبة إلى تحقق المعنى المقابل ، لتعلقهما به ، ولعل شهرة الأصحاب هنا غير معتد بها ، بعد أن علم أن المدرك فيها عدم حصول ما يقبل الرد لتعليق الأثر على الموت الذي قد فرض عدم تحققه ، فيكون كالطلاق قبل النكاح الذي صححه أبو حنيفة ، لما عرفت من بطلانه بتحقق المعنى القابل للقبول والرد هنا ، ويمكن أن لا يكون مدركهم ذلك ، وإن ذكره بعض المتأخرين لهم ، ولذا ، كان خيرة المصنف جواز القبول حال الحياة ، وعدم الحكم للرد فيها ، ولعله لما أشرنا إليه من عدم دليل يصلح لقطع استصحاب صحة الإيجاب بذلك ، لا لما ذكروه.

بقي شي‌ء في المقام ، وهو أنه ربما استفيد من إطلاق المصنف وغيره عدم الفرق في ذلك بين سبقه بالقبول وعدمه ، ولكن يشكل ذلك بما ظاهرهم الإجماع عليه من كون الوصية عقدا جائزا من الطرفين ، ومقتضاه تسلط الموصى له على فسحة حينئذ ، ولا ريب في اقتضائه بطلان العقد ، إذ هو معنى الفسخ ، كما أن معنى الرد والفسخ واحد ، واحتمال التزام عدم الحكم بهذا الفسخ يقتضي مخالفتها للعقود الجائزة بالنسبة إلى ذلك ، ويمكن حمل كلامهم على رد الإيجاب خاصة الذي لا يدخل تحت حكم فسخ العقد الجائز.

ودعوى أنه إذا كان له الفسخ بعد تمام العقد ، فللإيجاب خاصة أولى يمكن منعها بعد بطلان القياس عندنا ، وكذا دعوى تنزيل جواز الفسخ الذي له بعد تمام العقد على إبطال القبول خاصة ، فيحتاج إلى تجديد القبول خاصة ، بل قد عرفت أن ذلك مخالف للفسخ في العقود فتأمل جيدا فإن المسألة غير محررة في كلامهم.

وتحريرها ما ذكرناه غير مرة من أن الوصية ليست من العقود ، وإن كانت هي جائزة بمعنى أن للموصى الرجوع ، وللموصى له عدم القبول ، أما إذا قبل فلا رد له حتى في حال الحياة ، فضلا عما بعد الوفاة.

٢٥٦

نعم لو لم يقبل بل لو رد كان له القبول بعد ذلك حال الحياة ، بخلافه بعد الموت ، ولعل الفرق بينهما أن ما بعد الموت هو محل القبول والرد ، باعتبار أن التمليك في الوصية حينه ، بخلافه حال الحياة ، على أنه لو لم يقبل الرد بعد الموت ترتب الضرر لعدم أمد له ينتظر ، مضافا إلى ما عرفت من كون القبول بعد الموت كاشفا ، فالرد والقبول فيه نحو إجازة الفضولي بخلافه حال الحياة والله العالم.

وكيف كان فـ ( إن رد بعد الموت وقبل القبول بطلت ) على وجه ، لا ينفعه تجديد القبول بلا خلاف ، بل الإجماع بقسميه عليه ، وهو الحجة في انقطاع الأصل المزبور.

إنما الكلام فيما ذكره المصنف وغيره بقوله وكذا تبطل الوصية لو رد بعد القبض وقبل القبول مع أنك قد عرفت سابقا تحقق القبول بالفعل والقول فالقبض ، ـ بعنوان أنه موصى له ـ قبول ، فلا يؤثر الرد حينئذ بعده ، بل لا وجه لفرضه قبل القبول ، ضرورة تحققه بذلك ، اللهم إلا أن يحمل كلامهم على القبض الذي لا يكون قبولا ولو لغفلة عن الوصية أو جهل بها أن غير ذلك ، وإن كان هو مناف لإطلاقهم ، ولما تسمعه مما ذكروه متصلا بذلك من أحكام القبض نحو قول المصنف.

ولو رد بعد الموت والقبول وقبل القبض قيل : والقائل الشيخ في المحكي عن مبسوطة وابن سعيد في المحكي عن جامعه تبطل استصحابا لجوازها قبله ، ولكونها أضعف من الهبة والوقف اللذين يعتبر فيهما ذلك ـ وقيل لا تبطل ، وهو أشبه بأصول المذهب وقواعده وأشهر بين الطائفة ، بل هو المشهور ، بل كاد أن يكون إجماعا ، كما أن النصوص (١) كادت تكون متواترة في عدم اعتباره ، ولذا تضمنت انتقاله إلى وارثه إذا كان قد مات الموصى له قبله ، مضافا إلى إطلاق أدلة الوصية وبذلك كله ينقطع استصحاب الجواز بعد تسليم جريانه ـ والثاني ـ مع وضوح فساده بعد بطلان القياس مقتضاه كون القبض شرطا في الصحة وهو خلاف ما حكي عن المبسوط من كونه شرطا في اللزوم كما أومى المصنف بقوله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب أحكام الوصايا.

٢٥٧

أما لو قبل وقبض ثم رد لم تبطل إجماعا لتحقق الملك واستقراره.

نعم ربما احتمل بعضهم ذلك ، لكن الأمر في ذلك سهل ، إذ على كل حال لا يخفى عليك ما فيه بعد ما عرفت ولورد الموصى له بعضا مما أوصى له وقبل بعضا صح فيما قبله خاصة ، وكذا لو رجع الموصى ببعض دون بعض ، لإطلاق أدلة الوصية وإنفاذها الشامل للفرض ، لا لعدم اعتبار المطابقة بين إيجابها وقبولها باعتبار كونها من التبرعات المحضة ، بخلاف عقود المعاوضة ولذا لم يجز للقابل فيها الاقتصار على بعض ما ذكره الموجب ، ولو بما يخصه من الثمر ، بل لما عرفت وتعرف ، ضرورة اعتبارها في جميع العقود من غير فرق بين الجميع ، لاتحاد المدرك فيها ، إلا أنه في المقام لم يصدر من الموجب غير تعلق قصد الإيصاء بكل منهما ، من غير مدخلية لاجتماعهما وانفرادهما ، بخلافه في عقد المعاوضة الظاهر بسبب الجمع بالعوض في أن القصد قد حصل عليهما من حيث الاجتماع ، وإن لم يكن ذلك على جهة الشرطية ومن هنا لو فرض تشخيص الثمن لكل منهما كما لو قال : بعتك العبد بمائة ، والجارية بخمسين ، فقبل أحدهما بثمنه لم يبعد الصحة ، بحصول المطابقة بالنسبة إلى ما قبله وعدم قبول الثاني ليس من المخالفة بين الإيجاب والقبول الممتنعة ، وإن كان الإنصاف عدم خلوه من الإشكال ، بل قد يقوي عدم حصول المطابقة إلا مع تعدد إنشاء للإيجاب.

نعم يقوي في الوصية عدم كونها من العقود المعتبر فيها المطابقة لتحقق معنى اسم العقد الذي هو الإيجاب ، وقبول ذلك الإيجاب بها.

ومن ذلك يظهر الإشكال هنا في صحة جزء معين من الموصى به باسم كله ، كما لو قال الموصى : بساطي مثلا لزيد ، فقال الموصى له : قبلت هذا الجزء المعين منه ، فإنه لا مطابقة بين الإيجاب والقبول حينئذ ، بل لا إيجاب بهذا الجزء إلا ضمنا وفي الإكتفاء به ظهر ، وإن قلنا إنها ليست من العقود ، بل في الاجتزاء بها في الإذن ونحوه منع.

أما لو قبل جزءا مشاعا منه مقدرا بالثلث أو الربع منه مثلا ، فهو أقرب إلى الصحة منه ، كما يشهد له صحة الوصية بالثلث بأزيد منه ، فقبل الموصى له ، ولم يجز الوارث الزائد ، وإن كان قد يفرق بأن الموصى له قد طابق قبوله الإيجاب ، لكن لم يسلم له باعتبار عدم اجازة الوارث ،

٢٥٨

نحو ما لو باع ماله ومال غيره فقبل المشتري ، ولم يجز الغير ، فإنه يصح في الأول دون الثاني.

إنما الكلام فيما لو جعل متعلق القبول أولا وبالذات ، وكلام الأصحاب هنا وإن كان مطلقا ، لكن يمكن حمله على إرادة البعض المستقل كما لو قال : عبدي وداري لزيد ، فقال الموصى له : قبلت العبد فتأمل جيدا فإن المسألة محتاجة إليه.

ضرورة عدم المطابقة فيه لو قلنا بكون الوصية من العقود ، فإن القبول المزبور ، لم يكن له إيجاب لأن الإيجاب الذي صدر من الموجب متحد وإن تعدد متعلقة ، لا أنه إيجابان وإنشاء ان والعطف لا يصيره كذلك ، فلو وقع في مثل الهبة ونحوها من العقود ولو التبرعية لم يكف ، إذ لم تحصل المطابقة ، نعم قد عرفت غير مرة ، أن الوصية ليست من العقود المعتبر فيها ذلك.

وكيف كان فـ ( لو مات ) الموصى له قبل القبول ، قام وارثه مقامه في قبول الوصية وردها سواء كان في حياة الموصى أو بعد وفاته على المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا ، بل عن كشف الرموز أنه هو الذي انعقد عليه العمل ، بل لا خلاف محقق أجده فيه في الثاني وإن حكى ، بل وفي الأول وإن حكى عن أبي على البطلان فيه أو مطلقا ، وربما مال إليه بعض المتأخرين لكنه في غير محله ، لأصالة بقائها للموصى له ، فتكون حقا من حقوقه فينتقل إلى وارثه كحق الخيار والشفعة وغيرهما خصوصا بعد أن كان اعتبار القبول فيها ليس على حسب اعتباره في غيرها كما عرفته سابقا ، بل هي مع قبول الوارث تندرج في إطلاق أدلة الوصية ، وما دل على إنفاذها ، وعدم جواز تبديلها وتغييرها.

ولما رواه المحمدون الثلاثة بطريق صحيح وحسن كالصحيح عن محمد بن قيس (١) الثقة على الظاهر بقرينة رواية عاصم بن حميد عنه ، وكونه الراوي لقضايا أمير المؤمنين عليه‌السلام عن أبي جعفر عليه‌السلام التي هذه منها « قال : قضي أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل أوصى لآخر والموصى له غائب ، فتوفي الموصى له قبل الموصى قال : الوصية لوارث الذي أوصى له ، قال : ومن أوصى لأحد شاهدا كان أو غائبا فتوفي الموصى له قبل الموصى فالوصية لوارثه الذي أوصى له ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ـ ١.

٢٥٩

إلا أن يرجع في وصيته قبل موته » على أنه معتضد بخبر الساباطي (١) « قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل أوصى إلى وأمرني أن أعطي عما له في كل سنة شيئا ، فمات العم فكتب أعط ورثته ».

وبالصحيح عن المثنى (٢) « قال : سألته عن رجل أوصى له بوصية فمات قبل أن يقبضها ، ولم يترك عقبا قال ، أطلب له وارثا أو مولى فادفعها إليه ، قلت : فإن لم أعلم له وليا قال : اجهد على أن تقدر له على ولي ، فإن لم تجده وعلم الله فيك الجهد فتصدق بها. » وبما عرفت وهو وإن كان في الأول ، لكن قد عرفت أنه محل الخلاف كما يقضي به التتبع ، وإن حكى عن بعضهم البطلان مطلقا ، لكنه غير محقق ، كما أن القول بالتفصيل أي البطلان في الأول دون الثاني واضح الفساد ، بعد النص والجامع لشرائط العمل الذي منه يعلم أيضا أنه لا وجه للتفصيل بين من يعلم كون غرضه خصوص الموصى له ، فتبطل حينئذ مطلقا ، وبين من لم يعلم غرضه فتصح وتنتقل إلى الوارث ، بل ربما ظهر من بعضهم خروج القسم الأول عن الخلاف ، لكن فيه أنه إن لم يكن ذلك على جهة الشرطية أو ما في معناها لا وجه للبطلان أيضا كالتفصيل بين علم الموصى وظهور أمارات البقاء فكالمشهور ، وبين عدم علمه ، أو ظهور كون المقصود ـ ، خصوص الموصى له ، فالبطلان وإن تجرد عن جميع القران فالتوقف ، إذ كل ذلك اجتهاد في مقابلة النص ، أو تهجس بلا داع ، سوى الأصل ـ المقطوع بما عرفت.

والصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أنه سئل عن رجل أوصى له أحد ، فمات الموصى له قبل الموصى قال : ليس بشي‌ء » الذي مثله موثق منصور بن حازم عنه أيضا القاصرين عن معارضة ما عرفت من وجوه.

منها الاعتضاد بالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع المخالفة للمشهور بين العامة ، ومنه ينقدح حملها على التقية دون العكس الذي لم ينقل إلا عن الحسن البصري والتقية فيه مع بعدهما لا تتأتى فيما روى عن الصادقين عليهما‌السلام ومن بعدهما ، لتأخر زمانهم عنه ، بل قد يشهد لذلك العدول في الجواب إلى ما هو غير واضح الدلالة ، إذ من المحتمل كون المراد عدم كون‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب أحكام الوصايات الحديث ـ ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب أحكام الوصايات الحديث ـ ٢.

٢٦٠