جواهر الكلام - ج ٢٨

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وخصوص ما مر من المعتبرة (١) المنجبر قصور سندها بالشهرة ، بل وعمل الكل ولو في الجملة الدالة على تنفر الملائكة عند الرهان ، ولعنها صاحبها ما خلا الثلاثة ، مع التصريح في بعضها بأن ما عداها قمار محرم ، ودعوى توقف صدق القمار والرهانة على بذل العوض غير معلوم الصحة مع صدقهما ، سيما الرهانة بدونه عرفا وعادة وربما جعل ذلك كله قرينة على صحة رواية السكوني التي دلالتها على عدم الصحة بل الحرمة ظاهرة ، لعدم إمكان إرادة نفي الماهية ، فتحمل على أقرب المجازات ، وهو إما نفى جميع أحكامها التي منها الصحة والمشروعية ، أو نفيهما خاصة ، لأنه المتبادر من نفي الماهية بلا شبهة ، سيما مع الاعتضاد بما عرفته من أدلة الحرمة وبذلك يظهر الجواب عما في الكفاية : من أنه لا دلالة في الرواية على الحرمة على النسختين ، فإنه على الفتح يحتمل أن لا لزوم ، أو لا تملك ، أو لا فضل للسبق ، والعوض إلا في هذه الثلاثة من بين الأفعال التي يسابق عليها ، وحينئذ فلا دلالة لها على تحريم الفعل ، أو الملاعبة مع العوض أيضا في غير الثلاثة ، بل لا يدل على تحريم العوض أيضا ، وعلى السكون يحتمل أن يكون معناها لا اعتداد بسبق في أمثال هذه الأمور إلا في الثلاثة ، أو لا فضل لسبق إلا في الثلاثة ، فلا دلالة فيها على التحريم » إذ هو كما ترى بعد ما عرفت ، إذ لا ريب في بعد الاحتمالات التي ذكرها ، ولهذا لم يشر أحد من الأصحاب إلى جريان شي‌ء منها في الرواية ، بل أطبقوا على دلالتها على الحرمة ، وإنما اختلفوا لاختلاف النسخة في متعلقها هل هو العوض خاصة ، أو نفس الرهانة ، وأين هذا الإطباق من صحة ما ذكره بل ينبغي القطع بفساده. سيما مع ما عرفت من الروايات ، بل للأدلة الأخر الظاهرة في الحرمة وأخبارهم يكشف بعضها عن بعض » هذا حاصل ما في الرياض ، ونقلناه بطوله لجودة محصوله.

لكن ينبغي أن يعلم أن التحقيق الحرمة وعدم الصحة إذا أريد إيجاد عقد السبق بذلك ، إذ لا ريب في عدم مشروعيته ، سواء كان بعوض أو بدونه ، ولو للأصل ، فضلا عن النهي في خبر الحصر.

أما فعله لا على جهة كونه عقد سبق ، فالظاهر جوازه ، للأصل والسيرة المستمرة على فعله في جميع الأعصار والأمصار من الأعوام والعلماء ، وما ورد من مصارعة الحسن والحسين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام السبق والرماية الحديث ـ ٦.

٢٢١

عليه‌السلام (١) ومكاتبتهما والتقاطهما حب قلادة أمهما ، بل‌ ما روته العامة من مسابقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) لعائشة بقدمه فسبق وسبق » لو قلنا بصحة ذلك ، وعدم منافاة مثله لمنصب النبوة ، لأنه من المداعبة مع الزوجة وغير ذلك.

بل لا يبعد جواز إباحتهما العوض على ذلك ، والوعد به مع استمرار رضاهما به ، لا على أنه عوض شرعي ملتزم ، بل قد يحمل عليه ما‌ روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طرق العامة (٣) « من المسابقة بالقدم مع أشخاص ثلاثة على شاة ، فغلب الثلاثة وأخذ الشياة الثلاث » ملتزم به ، والمراد من الخبر ـ على السكون ـ لا عقد سبق ، فإن السبق اسم لهذه المعاملة ، كالبيع والصلح والإجارة ، وعلى الفتح لا سبق إلا في الثلاثة لعدم مشروعية عقد السبق في غيرها ، وحينئذ يتحد المراد منها على النسختين ، والإجماعات المزبورة إنما هي على ما ذكرنا من عدم مشروعية عقد السبق في غير الثلاثة ، وإن كان بغير عوض ففعله حينئذ تشريع محرم ، لا أن المراد حرمة مطلق المغالبة ، وإن تعلق بها غرض صحيح ، ودعوى أنها مطلقا لهو ولعب ، وهما مطلقا حرام واضحة المنع ، خصوصا بعد معروفية مداعبة الصلحاء ومغالبتهم في كثير من الأمور ، بل ربما عد مثلها عبادة ، وبذلك ظهر لك ما في كلام من الأصحاب ، وإنه غير محرر ، فإن جملة من كلماتهم تقتضي بأن محل البحث إيقاع عقد المسابقة ، وجملة منها تقتضي بحرمة مطلق المغالبة بغير الثلاثة ، وإن لم يكن على أنه عقد مسابقة ، لأنها لهو ولعب وقمار ، إلا أن التحقيق ما عرفت.

الفصل ( الثالث : في عقد المسابقة والرماية )

وهو يفتقر مضافا إلى ما يعتبر في غيره من العقود من البلوغ والعقل ونحوهما إلى إيجاب وقبول كغيره من العقود بالنسبة إلى ذلك ، وإلى جميع ما يعتبر في اللازم منها ، بناء على أنه منها من العربية والمقارنة ونحو ذلك.

نعم الظاهر جريان المعاطاة فيه كغيره ، بناء على عموم مشروعيتها.

__________________

(١) المستدرك ج ص ٥١٧.

(٢) المغني لابن قداحة ج ١١ ص ١٢٧.

(٣) المغني لابن قداحة ج ١١ ص ١٢٧.

٢٢٢

وقيل : والقائل الشيخ فيما حكى عنه والفاضل في محكي مختلفة هي جعالة فلا تفتقر إلى قبول ، ويكفي البذل كما يكفي فيها قول من رد عبدي فله درهم ونحوه ، وعلى الأول : فهو لازم كالإجارة لعموم (١) ( أَوْفُوا ) و (٢) « والمؤمنون » والأصل وعلى الثاني : هو جائز ، شرع فيه أو لم يشرع كالجعالة وإن كان التحقيق خروجه عنهما معا ، ضرورة انتفاء جملة من خواص كل منهما فيه ، منها ـ العوض ، فإن الظاهر عدم اعتباره فيه ، لإطلاق الأدلة وعمومها ، بل وقد وقع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدونه.

قال الصادق عليه‌السلام في خبر طلحة بن زيد (٣) « أغار المشركون على سرح المدينة ، فنادى فيها مناديا سوء صباحاه فسمعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فركب فرسه في طلب العدو وكان أول أصحابه ولحقه أبو قتادة على فرس له ، وكان تحت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سرج دفتاه من ليف ليس فيه أشر وبطر ، فطلب العدو فلم يلقوا أحدا ، وتتابعت الخيل. قال : أبو قتادة : يا رسول الله إن العدو قد انصرف ، فإن رأيت أن نستبق فقال : نعم فاستبقوا فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سابقا ثم أقبل عليهم فقال : أن ابن العواتك من قريش إنه لهو الجواد البحر » ومنها عدم معلومية السابق ، ومنها عدم رجوع العمل للجاعل إلى غير ذلك مما يظهر بأدنى تأمل ، على وجه يقطع بخروج هذا العقد عنهما ، وكونه عقدا برأسه ، وثاني الشهيدين وإن ذكر ذلك هنا احتمالا لكنه جزم بعد ذلك بخروجه عنهما ، كالمحقق الثاني وعليه فرع جملة من الأحكام الخارجة عنهما محتجا عليه بأنه عقد برأسه ، بل لعل الأصحاب أجمع كذلك ، وإن وقع من بعضهم كونه إجارة أو جعالة ، إلا أن مرادهم كالأول في اللزوم ، والاحتياج إلى القبول ، وكالثاني في الجواز ، وعدم الاحتياج إلى القبول العقدي ، لا أن المراد كونه فردا منهما ، ولذا جعلوا له كتابا مستقلا على نحو غيره من العقود ، وأثبتوا له أحكاما لا توافق شيئا من العقدين كما هو واضح.

وعلى كل حال فالدليل على عقديته ذكر الأصحاب له في نظمها ، بل ظاهر المصنف في النافع ، والفاضل في المختلف بل وغيرهما المفروغية من ذلك ، وان التردد إنما هو في اللزوم والجواز ، وإن كان ظاهره هنا تفريغ لزومه وجوازه على عقديته وعدمه ، لكنه في غير محله ،

__________________

(١) سورة المائدة الآية ـ ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ـ ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام السبق والرماية الحديث ـ ٢.

٢٢٣

ضرورة كون كل منهما أعم من ذلك.

كما أن التردد في الجواز واللزوم بعد فرض عقديته في غير محله ، ضرورة أن الأصل في العقد اللزوم ، لعموم ( أَوْفُوا ) (١) والاستصحاب الذي مقتضاه ذلك أيضا ، وإن لم نقل بعقديته ، وما في المختلف « من أن المراد من الأمر بالوفاء بالعقد العمل على مقتضاه إن كان جائزا ، وليس المراد مطلق العقود ، وإلا لوجب الوفاء بالجائزة » واضح الفساد ضرورة ظهور الأمر بالوفاء بالشي‌ء التزامه والعمل به ، لا العمل بمقتضاه من جواز أو لزوم ومن هنا كان طريقة الأصحاب حتى هو الاستدلال بها على اللزوم ، وإلا كان دورا واضحا وخروج العقود الجائزة منها للأدلة ، لا ينافي بقاء حجيتها في الباقي.

وبذلك كله ظهر لك أنه لا إشكال في اللزوم على تقدير عقديته الذي قد عرفت ثبوتها من التسالم المزبور ، بل ومن أن ثبوت العوض في ذمة المسبوق ، مع فرض كون الإيجاب من السابق من الأمور التي لا تثبت إلا بالعقود ، المعلوم كون موردها نحو ذلك بخلاف موارد الإنشاء ، على أنه على فرض الشك في كونه عقد أو غيره ، فالأصل عدم ترتب الأثر بالإيجاب خاصة ، ولا ينافيه إطلاق المسابقة بعد فرض الشك فيها ، وفي الرياء بعد الفراغ من عقديته قال : « وحينئذ الأجود الاستدلال على اعتبار القبول أن يقال إن الوجه فيه ظاهر على القول باللزوم ، وكذا على القول بالجواز ، بناء على أن لزوم العوض المبذول بعد العمل للسابق على المسبوق لا يتأتى إلا على اعتبار قبوله ، إذ لولاه لأمكنه الامتناع من بذله بعد العمل ، مدعيا عدم رضاه بالإيجاب ، ولعله خلاف الإجماع ، بل العوض لازم عليه بهذا العمل كالجعالة بلا خلاف ، ولا يتم ذلك إلا بالإجماع لكن هذا إنما يجري لو كان السابق هو الموجب ، ولو انعكس أمكن عدم الاحتياج إلى القبول كالجعالة ، وإلا أنه يمكن التعميم بعدم القول بالفصل فتأمل ».

وفيه ، أولا : أنه لا حاجة إلى هذا الاستدلال ، بعد فرض معلومية كونه عقدا ، لما هو معلوم من أنه المركب من الإيجاب والقبول ، سواء كان جائز أو لازما.

وثانيا : أن المراد اعتبار القبول العقدي ، واللزوم بعد العمل يمكن أن يكون لحصول الرضا ، وإن لم يكن على جهة القبول العقدي كالجعالة :

__________________

(١) سورة المائدة الآية ـ ١.

٢٢٤

كما أن ما فيه أيضا ـ بعد تسليم اللزوم في هذا العقد ، بمعنى عدم جواز الامتناع من بذل العوض بعد تمام العمل لما في ذلك من الضرر على السابق بتضييع عمله المحترم الذي لم يقع إلا برضاه ، بدفع العوض عنه « من منع اللزوم بمعنى وجوب العمل عليه ابتداء ، وعدم جواز الفسخ قبله أو بعده قبل التمام ، للأصل ، ولأنه إنما التزم فيه ببذل العوض بعد حصول السبق ، إذ لا معنى لقوله من سبق فله كذا غير ذلك وهو غير الالتزام بنفس العمل في العوض في بدو الأمر بل حالها حينئذ كالجعالة ، فلكل منهما فسخها ابتداء ، أو في الأثناء ، ولكن يجب على المسبوق منهما للسابق بذل العوض الذي عيناه ـ ».

لا يخلو من نظر أيضا ، ضرورة عدم الدليل على أن كيفية العقد ما ذكره ، بل لعل الظاهر خلافه ، وأن ذلك يذكر بعد إنشائهما الالتزام بالمسابقة والمراماة الذي مقتضاه وجوب فعل ذلك منهما كما هو مقتضى العقود اللازمة ، وكأنه لا خلاف فيه ، قال الفاضل في القواعد وعلى اللزوم يجب البدء بالعمل ، لا بتسليم السبق ، وفي جامع المقاصد في شرح ذلك : « الظاهر أنه لا خلاف فيه ».

بل لا يخفى على من تأمل غير ذلك من كلماتهم خصوصا القواعد والتذكرة وجامع المقاصد أنه لا إشكال على اللزوم في وجوب العمل ، وعدم جواز الفسخ ، بل يظهر من القواعد وغيرها التوقف في الفسخ على الجواز في بعض الصور ، قال فيها بعد أن استقرب الجواز ـ فلكل منهما فسخه قبل الشروع ، ويبطل بموت الرامي والفرس ولو مات الفارس فللوارث الإتمام على أشكال ، إلى أن قال : وإن كان بعد الشروع وظهور الفضل ، مثل أن يسبق بفرسه في بعض المسافة أو يصيب بسهام أكثر ، فللفاضل الفسخ لا المفضول على أشكال ، بل في جامع المقاصد « إن الأصح عدم الجواز » وهو مقرب التذكرة ، لأن ذلك يؤدي إلى سد باب المسابقة ، إذ متى ظهرت أمارات الغلبة لأحدهما فسخ الآخر ، وإن كان هو كما ترى بعد استصحاب بقاء الجواز.

نعم ربما كان ذلك مؤيدا للقول باللزوم من الأصل ، ثم لا يخفى عليك ما في قوله للوارث الإتمام ، إذ لا ريب في الانفساخ على اللزوم ، فضلا عن الجواز ، ضرورة كون المغالبة وقعت بين الشخصين ، لا ورثتهما فهو كالمستأجر المشترط عليه المباشرة.

٢٢٥

ودعوى ـ أن المراد بالمسابقة امتحان الفرس ، لا الفارس وبذلك افترق عن المراماة وانفسخت بموت الفرس ـ واضحة المنع كوضوح فساد أصل الحكم ، خصوصا بعد ملاحظة قصور الوارث عن ذلك ، لكونه طفلا أو أنثى أو نحو ذلك ، ودعوى استنابة غيرهم في ذلك كما ترى ، وبذلك كله بأن لك بحمد الله تعالى الحال في جميع أطراف المسألة.

وكيف كان فلا خلاف ولا إشكال في أنه يصح أن يكون العوض عينا أو دينا على حسب غيره من المعاملات لإطلاق الأدلة وعمومها ، وخصوص‌ « ما وقع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) من بذل النخلات والأواقي من الفضة. » نعم ستعرف فيما يأتي أنه يعتبر في ملكه ـ العمل على وجه يكون جزء السبب ، فلا يصح ضمانه لو كان دينا قبله ولا الرهن عليه ـ أولا يعتبر ذلك ، وإنما هو شرط كاشف والسبب العقد ، وإن أطلق في المسالك هنا ضمانة والرهن عليه والأمر سهل.

وإذا بذل السبق غير المتسابقين صح إجماعا من المسلمين ـ إذا كان الإمام ومطلقا ـ من المؤمنين ، خلافا لبعض العامة فخص جوازه بالإمام ، لأنه له النظر في الجهاد ، وضعفه واضح ، إذ هو ومقدماته مرغب فيه مطلقا.

وإذا بذله أحدهما أو هما صح عندنا ، ولو لم يدخل بينهما محلل خلافا لبعض العامة ـ أيضا ، فلم يجوزه من أحدهما خاصة ، معللا له بأنه قمار ، وهو كالاجتهاد في مقابلة النص الذي منه الإطلاق والعموم ولابن الجنيد فلم يجوزه منهما من دون دخول محلل ، لخبر عامي لا يصلح لمعارضة إطلاق الأدلة وعمومها.

ولو بذله الإمام من بيت المال جاز بلا خلاف ولا إشكال لأن فيه مصلحة للإسلام والمسلمين ، وهي مصرفه ولو جعلا السبق للمحمل بانفراده إذا سبق جاز أيضا لإطلاق الأدلة وعمومها ، فلا يستحق أحدهم شيئا إذا سبق بل يكون السبق لباذله ، لعدم حصول السبق ممن بذل له ، وكذا لو سبق أحدهما والمحلل إذا كان الشرط سبق المحلل لهما نعم لو كان الشرط سبقه ولو لأحدهما استحق حينئذ.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام السبق والرماية.

٢٢٦

وكذا يجوز لو قيل : من سبق منا أي الثلاثة فله السبق ، عملا بإطلاق الإذن في الرهان المقتضية جواز ذلك وغيره ، ويرجع في معناه إلى العرف كما تسمع في نظائره.

وكيف كان فـ ( تفتقر المسابقة إلى شروط خمسة : الأول تقدير المسافة ابتداء وانتهاء ) للغرر ، ولأنه مع عدم تعيين الغاية قد يديمان السير فتهلك الدابة ولأن من الخيل ما يقوي سيره في ابتداء المسافة ، ثم يأخذ بالضعف ، وهو عتاق الخيل ومنها بالعكس ، وهو هجانها ، وصاحب الأول يريد قصر المسافة والآخر يريد طولها ، فيؤدي عدم التعيين حينئذ إلى النزاع المعلوم من الشارع إرادة حسمه ، فعلى هذا لا يجوز استباقهما ، بل وبدون غاية المعرفة أيهما يقف.

والثاني : تقدير الخطر بعد معرفة جنسه ، للغرر في المجهول وإثارة النزاع. نعم قد يجي‌ء على القول بأنها جعالة جواز جهالته في بعض الوجوه ، كما أنه لا إشكال في اعتبار معلوميته بناء على أنها إجارة ، وإن كان التحقيق خلافهما ، وأنها عقد مستقل يشارك كلا منهما في بعض الأمور ، وينفرد عنهما بأمور أخر.

والثالث : تعيين ما يسابق عليه بالمشاهدة ، لأن المقصود امتحان الفرس وذلك يقتضي تعيينه ، بل لا يكفي الوصف حينئذ ، وإن كفى في السلم الذي يراد به الكلي لا الشخصي.

والرابع : تساوي ما به السباق في أصل احتمال السبق وإن رجح في أحدهما فلو كان أحدهما ضعيفا تيقن قصوره عن الآخر لم يجز لعدم الاستعلال فيه حينئذ.

لكن لا يخفى عليك المناقشة في دليل كثير منها ، أو جميعها كما تسمعه في الشرائط الآتية ، اللهم إلا أن يكون إجماعا كما عساه يظهر من نفي الخلاف من بعضهم ، وإن كان هو كما ترى.

٢٢٧

الخامس : أن يجعل السبق لأحدهما أو للمحلل فلو جعل لغيرهما لم يجز بلا خلاف للأصل بعد الشك في تناول إطلاق الأدلة له ولما قيل : من أنه مفوت للغرض من عقد المسابقة وهو التحريص في طلب الغلبة وبذلك الجهد في الفروسية ونحوها ، وإن كان لا يخلو من مناقشة.

نعم لو جعل للمسبوق فات الغرض ، بسبب اقتضاء ذلك حرص كل واحد منهما على كونه مسبوقا ، فيفوت الغرض.

بل في المسالك « وكذا لا يجوز جعل القسط الأوفر للمسبوق ، ويجوز العكس لحصول الغرض في الجملة بالنسبة إلى الزيادة ، كما يجوز جعلها خاصة عوضا ».

ولكن قد يناقش بالشك في تناول إطلاق الأدلة له إن لم يكن ظاهرها خلافه ، والأصل الفساد.

وزاد في محكي التذكرة سادسا : وهو تساوي الدابتين جنسا ، فلا يجوز المسابقة بين الخيل والبغال مثلا لأنه مناف للغرض من استعلام قوة الفرس بالسباق مع جنسها ومرجعه إلى الأصل السابق بعد فرض الشك في تناول الإطلاق له ، بل يمكن استفادته أيضا من المتن.

نعم يمكن منع الشك المزبور مع حصول احتمال سبق كل منهما ، أما لو تساويا جنسا لا صنفا كالعربي والبرذون والبختي والعربي ، فالأقوى الجواز مع فرض تحقق الاحتمال المزبور ، لتناول الإطلاق.

وسابعا : وهو إرسال الدابتين دفعة ، لمنافاة الغرض مع عدمه إذا ربما كان السبق مستندا إلى إرسال أحدهما أولا.

وفيه : أنه يتبع الشرط ولذا لا يشترط التساوي في الموقف ، كما ستعرف ، نعم يعتبر معرفة مقدار ذلك مع فرض الاشتراط تخلصا عن الجهالة المفضية إلى التنازع مع احتمال الاكتفاء في تحقق السبق من أحدهما.

وثامنا : وهو أن يستبقا على الدابتين في الركوب ، فلو عقدا على إرسال الدواب بنفسها كان باطلا.

٢٢٨

وفيه : أنه خروج عن موضوع السبق لا أنه من شروطه.

وتاسعا : وهو أن يجعلا المسافة بحيث يحتمل الفرسان قطعها ولا ينقطعان دونها ، فلو كانت بحيث لا ينتهيان إلى غايتها إلا بانقطاع أو تعب شديد بطل العقد.

وعاشرا : وهو أن يكون مورد العقد ممن يستعد للقتال فلا يجوز السبق والرمي للنساء لأنهن لسن من أهل الحرب.

وفيه : منع ، خصوصا في مثل الصبيان بعد العقد من أوليائهم.

والحادي عشر : العقد المشتمل على أركانه المعتبرة فيه ، وفيه أن نحو ذلك ليس من الشرائط ، على أن الظاهر الإكتفاء فيه بالمعاطاة ، وقد تقدم في كلام المصنف ما يدل عليه.

والثاني عشر : عدم تضمن العقد شرطا فاسدا ، فلو قال : إن سبقتني فلك هذه العشرة ، ولا أرمي بعد هذا أبدا ، أو لا أنا ضلك إلى شهر بطل ، لأنه شرط ترك قربة مرغب فيها ، ففسد وأفسد.

وفيه أولا : أنه ليس من الشرائط.

وثانيا : منع عدم صحته وبذلك كله ظهر لك الحال في أكثر هذه الشرائط ، وأنه لا دليل عليها بالخصوص ، وكأن كثيرا منها موافق لمذاق العامة ، والتحقيق ما عرفت من صحة ما يفهم من الأدلة منها ، وما يشك في شرعية العقد الفاقد لها منها ، لأنه الأصل الفساد ، وإلا فإطلاق الأدلة ينفيه ، هذا.

وفي القواعد وليس لأحدهما أن يجنب إلى فرسه فرسا آخر يحرصه على العدو ، ولا يصيح به في وقت سباقه ولعله‌ للنبوي المرسل (١) « لا جلب ولا جنب » لكن عن نهاية ابن الأثير الجلب هو أن يتبع الرجل فرسه فيزجره ، ويجلب عليه ويصيح حثا له على الجري ، والجنب بالتحريك أن يجنب فرسا إلى فرسه الذي يسابق عليه ، فإذا افتر المركوب تحول إلى المجنوب فنهوا عنهما ، وهو غير ما في القواعد ، بل قد يتوقف في أصل الحكم ، لعدم ثبوت دليله ، بل لعل إطلاق الدليل يقتضي خلافه ، خصوصا مع التصريح باشتراط نحو ذلك منهما والله العالم.

__________________

(١) جامع الصغير للسيوطي ج ٢ ص ٢٠٢.

٢٢٩

وعلى كل حال فـ ( هل يشترط التساوي في الموقف؟ قيل : نعم ) لفوات الغرض الذي هو معرفته الفرس والفارس والأظهر أنه لا يشترط بعد فرض احتمال السبق ، لأنه مبني على التراضي فيشمله إطلاق الأدلة (١) و « المؤمنون عند شروطهم » وإلى هذا يرجع الشرط السابع كما أومأنا إليه سابقا ، هذا كله في السبق.

وأما الرمي فيفتقر إلى العلم بأمور ستة والبحث فيها نحو ما عرفته في السبق الأول الرشق بكسر الراء الذي قد عرفت أنه عدد الرمي ، إذا لو لم يعين أمكن أن يطلب المبسوط تعدد الرمي حتى تحصل الإصابة ، ويمتنع الآخر ، فيفضي إلى التنازع المعلوم من حكمة الشارع خلافه.

ولكن قد تقدم لنا في المبادرة ما يستفاد منه عدم اشتراط ذلك ، مع فرض كون الشرط الإصابة مع التساوي في الرمي ، فمع فرض حصولها من أحدهما في المرتين أو الثلاث فهو ناضل للآخر.

والثاني عدد الإصابة كخمس من عشرين رمية ، لأن الاستحقاق ، وبيان حذق الرامي بها ، فلو عقدا على أن يكون الناضل منهما أكثرهما أصابه من غير بيان العدد لم يصح ، كما لو جعل السبق على الخيل ، لا إلى غاية ، وظاهر المسالك الإجماع عليه ، فإن تم كان هو الحجة ، وإلا فإطلاق الأدلة يقتضي الجواز مع فرض ضبط عدد الرمي ، بل لعل ذلك قسم من المحاطة ، قيل : وأكثر ما يجوز اشتراطه من الإصابة ما نقص عن عدد الرمي المشروط بشي‌ء وإن قل ، ليكون تلافيا للخطإ الذي يتعذر أن يسلم منه المتناضلون ، وأحذق رماة من أصاب تسعة من عشرة ، فلو شرطاها كذلك جاز ، لبقاء سهم الخطأ ، وربما قيل : بعدمه لندوره ، وأقل ما يشترط من الإصابة ما يحصل به التفاضل ، وهو ما زاد على الواحد.

وفيه : أن الإطلاق يقتضي جواز اشتراطها في جميع العدد المشروط أيضا.

والثالث صفتها من خزق أو خرق وغيرهما من الصفات للغرر مع عدمه.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ـ ٣.

٢٣٠

وفيه : أن الإطلاق يقتضي جواز اشتراط مطلق الإصابة التي هي قدر مشترك بين الجميع.

والرابع معرفة قدر المسافة التي يرميان منها بالمشاهدة ، أو ذكر المساحة ، إلا أن يكون عادة ينصرف إليها الإطلاق فتكفي حينئذ عن ذلك.

نعم يعتبر فيها احتمال الإصابة ولو نادرا على الأقوى ، فلو عينا مسافة يعلم عدم اصابتهما أو أحدهما فيها لم يصح.

والخامس الغرض الذي هو المقصود بالإصابة ، فلا بد من العلم بموضعه من الهدف ارتفاعا ، وانخفاضا ، وقدره بالنسبة إلى الضيق والسعة ، ولعل مشاهدته تكفى عن ذلك.

والسادس السبق حذرا من الغرر والجهالة المفضية إلى النزاع المعلوم من الشارع إرادة رفعه ، لا ثبوته ، لكن الظاهر عدم اعتباره في الصحة.

نعم حيث يشترط يجب معرفته بما يرتفع معه النزاع ولا دليل على اعتبار أزيد من ذلك.

وكذا يفتقر الرمي إلى العلم بـ ( تماثل جنس الآلة ) من كون القوس مثلا عربيا أو فارسيا ، لاختلاف الرمي باختلاف ذلك ، فهو حينئذ بمنزلة تماثل حيوان السبق ، وإنما فصله عن الشرائط السابقة ، لأنه إنما يفتقر إليه في العقد لا مما يجب أن يعلم بخلافها ، لكن قد عرفت فيما مضى عدم الدليل على اشتراط نحو ذلك ، مع احتمال الإصابة ، بل إطلاق الأدلة يقتضي خلافه ، ولذلك قيل هنا لا يشترط التعيين ، ولا يضر اختلاف النوع ، ويجوز إطلاق العقد ، مجردا عنه ، وإنما يتم مع اشتراطه.

ثم إن كان هناك عرفت تعين حمل الإطلاق عليه ، وإلا كان لهما الخيار فيما يتفقان عليه ، وفي المسالك « هذا هو الأقوى » وحيث يشترط التعيين أو يشترطانه لا يجوز لأحدهما العدول عن المشترط ، لعموم « المؤمنون » إلا برضا صاحبه فيجوز حينئذ ، لأن له إسقاط حقه.

وفي اشتراط تعيين أحد القسمين أي المبادرة والمحاطة في عقد الرماية تردد بل وخلاف ولكن الظاهر أنه لا يشترط لانصراف إطلاق‌

٢٣١

العقد إلى المحالطة على الأشهر ، كما قيل : إذا اشتراط السبق إنما يكون لإصابة معينة من أصل العدد المشترط في العقد ، وذلك يقتضي إكمال العدد كله ، ليكون الإصابة المعينة منه ، فإنهما إذا عقدا على أن من أصاب خمسة من عشرين كان له كذا ، فمقتضاه رمى كل منهما العشرين ، وإلا لم يتحقق كون الخمسة التي حصلت الإصابة بها من العشرين ، وذلك هو معنى المحاطة إذ المراد بها خلو إصابة الخمسة من رمى العشرين لواحد ، ولأنها أجود فائدة في الرمي باعتبار إكمال العدد غالبا.

وقيل : يحمل على المبادرة لأنها الغالب في المناضلة ولأن المتبادر من اشتراط السبق لمن أصاب عددا معينا استحقاقه إياه متى ثبت له ذلك الوصف.

وعلى كل حال لا وجه للاشتراط بعد فرض الانصراف المزبور ، نعم لو فرض عدم انصراف الإطلاق اتجه الاشتراط حينئذ للغرر ، وتفاوت الأغراض والرماة فإن منهم من يكثر الابتداء ويقول في الانتهاء ، وبالعكس وعن الفاضل في التذكرة اختياره واستجوده في المسالك ، والأقوى الأول.

وكذا لا يشترط تعيين شخص القوس والسهم لإطلاق الأدلة بل قيل : لو عينه لم يتعين ، وعن التذكرة بل يفسد العقد بذلك ، كما في كل شرط فاسد ، وإن كان هو كما ترى ، ضرورة عدم كونه من الشرط المخالف ، فالأقوى لزومه مع الاشتراط ، وإن كان اشتراطه غير معتبر في صحة العقد ، لعموم « المؤمنون » ولا مكان تعلق الغرض بذلك ، وعدم اعتباره في الصحة لا يقتضي فساده كما هو واضح.

الفصل ( الخامس : في أحكام النضال )

الشامل للسبق على ما عرفته سابقا وفيه مسائل : الأولى : إذا قال أجنبي لخمسة مثلا من سبق فله خمسة فتساووا في بلوغ الغاية ، فلا شي‌ء لأحدهم بلا خلاف ولا إشكال لأنه لا سبق لأحدهم كما لا خلاف ولا إشكال في أنه لو سبق أحدهم كانت الخمسة له لتحقق الوصف فيه دون غيره ، و‌

٢٣٢

أما إن سبق اثنان منهم ففي المتن وعن جماعة كانت الخمسة لهما بالنصف دون الباقين وكذا لو سبق ثلاثة أو أربعة بالثلث أو الربع موزعة على الرءوس ، لظهور كون المراد بذل الخمسة لا غير لمن حصل له الوصف المزبور متحدا أو متعددا ، خصوصا مع تشخصها ، بل مع فرض منع الظهور بلا إشكال في الاحتمال والأصل براءة الذمة من وجوب دفع الزائد ، فيقتسمها السابقون.

وقيل : يستحق كل واحد منهم خمسة ، واختاره في جامع المقاصد ، وتبعه في المسالك ، لأن ( من ) للعموم الذي هو بمعنى كل فرد ، بل الحكم في جميع القضايا الكلية كذلك ، على أن لفظ ( من ) مفرد ، بدليل عود الضمير إليها كذلك فهي بمعنى أي فرد ، ولأن العوض في مقابل السبق وقد وقع من كل واحد ، فيستحق كل منهم كمال العوض وقد صرح المصنف والفاضل في كتاب الجعالة باستحقاق كل واحد الدراهم في نحو قوله من دخل داري فله درهم فدخلها جماعة لأن كل واحد منهم قد دخل دخولا كاملا ، ولا يقدح في ذلك عدم معرفة العوض حينئذ لعدم معرفة السابقين ، لأن المعتبر العلم بأصل القدر في الجملة ولذا جاز من سبق فله كذا ، ومن صلى فله كذا.

وقد يناقش بأن مقتضى عموم الإفراد الذي هو بمعنى ، لكل واحد سابق ، عدم استحقاق واحد منهم شيئا مع التعدد ، ضرورة عدم صدق الواحد السابق على الجميع عليه ، وقد اتفق القولان على عدمه ، فليس المراد حينئذ إلا العموم في ( من ) باعتبار الصلة الذي هو بمعنى كل سابق ، الشامل للمتحد والمتعدد ، إما لدعوى ظهوره في ذلك ، أو لأنه كذلك بعد انتفاء الأول ، وهذا لا يتم إلا بملاحظة كون السابق المجموع ضرورة كونه هو الذي تحقق فيه السبق المطلق بخلاف كل فرد ، فإنما المتحقق فيه مطلق السبق الشامل للإضافى الذي تحقق صدق السبق معه ليس بأولى من صدق عدمه ، بخلاف المجموع ، فإنه يصدق اسم السبق المطلق عليه ، ولا يصح عدم صدق السبق عليه ، وبذلك افترق ما نحن فيه عن نحو من دخل داري ، وكان نحو من رد عبد وقد اشترك في رده جماعة ، وصح كلام الشيخ والمصنف والفاضل فتأمل جيدا فإنه دقيق نافع.

٢٣٣

ومنه يظهر لك الوجه فيما ذكره المصنف فيما لو قال : من سبق فله درهمان ومن صلى فله درهم حيث قال فلو سبق واحد أو اثنان ، أو أربعة فلهم الدرهمان ولو سبق واحد ، وصلى ثلاثة وتأخر واحد كان للسابق درهمان ، وللثلاثة درهم ، ولا شي‌ء للمتأخر ولو سبق ثلاثة مثلا وصلى واحد وتأخر واحد كان الدرهمان للثلاثة وللمصلي درهم ، ولا شي‌ء للمتأخر ، إذ ذاك كله مبني على ما عرفت ، وحينئذ يكون للمصلي أكثر من السابق في الفرض الأخير.

ومن هنا قال في المسالك تبعا لجامع المقاصد : « هو خلاف الأمر المعتبر في العقد ، فإنه يشترط فيه أن يجعل للسابق أزيد مما يجعل للمصلي ، فلو ساوى بينهما لم يصح ، فما زاد أولى » ومن ثم احتمل البطلان هنا لفوات الغرض ثم قال : ورد بأن استحقاق الزيادة باعتبار التفرد بالوصف ، لا باعتبار جعل الفاضل للمتأخر ، وفيه نظر لمنافاة الغرض المقصود على التقديرين وعلى ما اخترناه من استحقاق كل واحد من السابقين القدر المعين حينئذ يرتفع الإشكال ، لأنه لا يتحقق معه مساواة المصلي للسابق فضلا عن رجحانه عليه ».

قلت : قد عرفت سابقا ما في أصل اشتراط زيادة السابق ، على أنه بناء على ما ذكرناه لا إشكال أيضا ، إذ هو المجموع لا كل واحد فهو أكثر من المصلي.

المسألة الثانية : لو كان المتراهنان اثنين مثلا وأخرج كل واحد منهما سبقا وأدخلا محللا ، وقالا : أي الثلاثة سبق فله السبقان ، فإن سبق أحد المستبقين كان السبقان له بلا خلاف ولا إشكال على ما اخترناه من جواز جميع صور بذلك السبق.

وكذا لو سبق المحلل لحصول الوصف فيه ولو سبق المستبقان كان لكل واحد منهما مال نفسه ، ولا شي‌ء للمحلل لكن قد يشكل بأنه بناء على ما ذكرناه سابقا يشتركان في المالين ، لا أنه يكون لكل واحد منهما مال نفسه ، وقد يدفع بأن المعهود من عوض السبق إذا كان من المتسابقين أن يبذله المسبوق إذا سبق ولم يسبق في الفرض أحدهما ، فلا وجه لأخذ العوض منه مع كونه سابقا.

٢٣٤

وكذا الحال فيما لو سبق أحدهما والمحلل ، كان للسابق مال نفسه لأنه لم يسبقه أحد ، ونصف مال المسبوق ، ونصفه الآخر للمحلل لاشتراكهما في. صفة السبق له ، لكن قد يشكل بعدم تناول مفروض العبارة لسبق ما زاد على الواحد ، وفيتجه حينئذ عدم استحقاق شي‌ء للمركب ، اللهم إلا أن يقال : بصدق سبق الواحد منهم ولو شاركه غيره ، أو يقال : إن المراد أي الثلاثة ولو المركب فتأمل.

ولو سبق أحدهما وصلى المحلل كان الكل للسابق عملا بالشرط خلافا لما عن بعض العامة من كون مال المسبوق الآخر للمحلل الذي هو سابق عليه وإنما يحرز السابق مال نفسه ، وهو غلط واضح.

وكذا لو سبق أحد المستبقين ، وتأخر الآخر والمحلل ، وكذا لو سبق أحدهما وصلى الآخر وتأخر المحلل خلافا لما عن ذلك البعض من العاملة فللسابق سبق نفسه ، وللمسبوق الثاني سبق نفسه أيضا ، لأنه سابقا المحلل ولا شي‌ء للمحلل ، ولو تساووا جميعا في الوصول إلى الغاية أحرز كل منهما مال نفسه ولا شي‌ء للمحلل ، وذلك كله واضح.

المسألة الثالثة : إذا شرطا المبادرة ، والرشق عشرين ، والإصابة خمسة مثلا فرمى كل واحد منهما عشرة ، فأصاب كل واحد خمسة ، فقد تساويا في الإصابة والرمي فلا يجب إكمال الرشق ، لأنه يخرج عن المبادرة التي قد عرفت أنها اشتراط العوض ، لمن بدر إلى إصابة عدد معين ، من مقدار رشق معين ، مع تساويهما فيه ، أو أعم من ذلك ، وحينئذ فإذا رميا رشقا وتساويا في إصابته لم يتحقق السبق ، ولو وجب الإكمال لرجاء السبق في الباقي ، خرج عن موضوع المبادرة إلى المحاطة ، وهو خلاف المفروض.

وكذا لا يجب الإكمال فيما لو رمى كل واحد منهما عشرة ، فأصاب أحدهما خمسة ، والآخر أربعة ، فقد نضله صاحب الخمسة وحينئذ فـ ( لو سأل ) صاحب الأربعة إكمال الرشق لم يجب لحصول المبادرة ، وإلا خرج عن موضوعها.

٢٣٥

أما لو شرطا المحاطة ، فرمى كل واحد منهما عشرة ، وأصاب خمسة ، تحاطا خمسة بخمسة ، وأكملا الرشق رجاء لحصول السبق ، لأن مقتضى المحاطة ذلك على ما عرفت من تعريفها.

وكذا لو أصاب أحدهما من العشرة تسعة وأصاب الآخر خمسة تحاطا خمسة بخمسة ، وأكملا الرشق رجاء لحصول السبق فيما بقي ولو تحاطا ، فبادر أحدهما إلى إكمال العدد الذي اشترط الإصابة فيه فإن كان مع انتهاء الرشق منهما فقد نضل صاحبه لحصول الفراغ من العقد وإن كان قبل انتهائه ، فأراد صاحب الأقل إكمال الرشق نظر ، فإن كان له في ذلك فائدة ، مثل أن يرجو أن يرجح عليه كما لو رمى كل منهما عشرة ، فأصابها أحدهما وأصاب الآخر منها خمسة فإن صاحب الأقل يرجو إصابة العشرة أجمع ، وخطأ صاحبه له ، فينضله حينئذ ويكون الخطر له ، لأنه بعد التحاط يحصل له إصابة الخمسة المفروض اشتراطها في عدد العشرين أو يساويه كما لو فرض في المثال خطأ أحدهما للعشرة ، فإنه يرجو بالإكمال إصابة العشرة الباقية ، وخطأ الآخر له ، فيساويه ويتحاطان ولا يستحق أحدهما على الآخر شيئا أو يمنعه أن ينفرد بالإصابة ، بأن يقصر بعد المحاطة عن عدد الإصابة كما لو فرض إصابة الاثنين من العشرة التي أصابها أجمع صاحبه ، فيرجوا بالإكمال إصابة العشرة الباقية له ، وخطأ الآخر فيتحاطان عشرة بعشرة ويبقى اثنان له ولا يستحق أحدهما على الآخر شيئا فمتى كان كذلك أجبر صاحب الأكثر على الإكمال وإن لم يكن له فائدة لأنه مغلوب على كل حال لم يجبر صاحب الأكثر على الإكمال كما إذا رمى أحدهما خمسة عشر فأصابها ورمى الآخر فأصاب منها خمسة ، فيتحاطان خمسة بخمسة ويبقى لأحدهما عشرة فإذا أكملا فأبلغ ما يفرض أنه يصيب ها صاحب الخمسة ما تخلف وهي خمسة ويخطئها صاحب الأكثر ، فيجتمع لصاحبه الخمسة حينئذ عشرة فيتحاطان عشرة بعشرة ، ويفضل لصاحب الأكثر خمسة فلا تظهر للإكمال فائدة وهو واضح كوضوح مما يتصور هنا من نحو ذلك.

٢٣٦

المسألة الرابعة : إذا تم النضال ملك الناضل العوض بلا خلاف ولا إشكال لأنه مقتضى العقد المحكوم بصحته شرعا ، بل لا يبعد دعوى الكشف هنا ، لما عرفته غير مرة في نظائره ، وإن كان هو خلاف ظاهر المتن وغيره ، إلا أن سببية العقد المعلومية من النص والفتوى تقتضي بما ذكرناه ، بل لعل التدبر في عبارة المسالك يقتضي بذلك قال « وكأن السر في تعليق الملك على تمامية النضال أن العقد وإن كان لازما ، إلا أن الملك لا يعلم لمن هو قبل تمامه ، لاحتمال السبق من كل منهما وعدمه ، فإذا تحقق السبق على وجه من الوجوه فقد تم النضال ، سواء أكمل الرشق أم لا ، وتحقق الملك للسابق وقبل ذلك لا يحصل بخلاف الإجارة ».

وهو ظاهر فيما قلناه ، يتوجه صحة ضمانه ، وصحة الرهن عليه كما صرح به في القواعد ، وإن قلنا بجواز العقد ، وإلا أشكل ذلك ، ضرورة أنه بناء على اعتبار العمل في ثبوته ، يكون ضمانه من ضمان ما لم يجب ، وإن قلنا بلزومه ، إذ هو لا يجدي محله ، لما عرفت في محله أن التحقيق كون المدار الثبوت في الذمة سواء كان بعقد جائز أو لازم.

إنما الكلام في توقف ثبوته في الذمة على العمل ، ولا ريب في أنه عليه يتوجه ما عن التذكرة من حكايته الإشكال فيه عن بعض الفقهاء.

بل في جامع المقاصد أن هذا الإشكال واضح بين ، ولا مدفع له إلا ما ذكرناه ، ولا يقدح فيه عدم حصول وصف السبق حال العقد ، إذ لا مانع من اقتضائه الملك حاله لمن يتصف بالسبق بعده ، بناء على أن السبق شرط كاشف.

وعلى كل حال فـ ( له التصرف فيه ) بعد تمامية النضال كيف شاء وله أن يختص به وله أن يطعمه أصحابه لعموم‌ « الناس مسلطون على أموالهم (١) » وغيره ولو شرط في العقد إطعامه لحزبه لم أستبعد صحته لعموم (٢) ( أَوْفُوا )‌ و « المؤمنون » (٣) خلافا للمحكي عن الشيخ في أحد قوليه من البطلان للشرط والعقد ، لأن عوض العمل يجب أن يكون للعامل ، كالإجارة ، فاشتراط خلافه مناف لمقتضاه.

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢.

(٢) سورة المائدة الآية ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ـ ٢.

٢٣٧

وردده في المسالك بأن إلحاقه بالإجارة قياس مع الفارق ، لما عرفت أنه ليس على نهجها مطلقا ، بل ولا على نهج المعارضات لصحة البذل فيه من الأجنبي الذي لم يصل إليه شي‌ء من العوض الآخر ، فإذا دل على صحته دليل عام كما ذكرنا لم يقدح فيه مخالفته لما أشبهه من العقود مع مغايرته له من وجوه ، ونحوه في جامع المقاصد.

قلت : إن كان المراد بالشرط التزام صرف ما هو ملكه بالعقد في مصرف خاص فلا يقدح في الإجارة فضلا عن غيرها ، وإن كان المراد اشتراط ذلك على وجه يكون المستحق بالعقد غير المتسابقين ، فقد تقدم سابقا اعترافه بأن من شرائط صحة العقد كون العوض ولو من أجنبي لأحد المتسابقين ، وأنه لا يجوز لأجنبي ، ويمكن أن يكون المراد اشتراط إطعامه لحزب المسبوق منهما فيما إذا كان عقد المراماة بين حزبين ، كما تسمعه في المسألة السابعة ، ووجه البطلان حينئذ أنه رجوع إلى اشتراطه للمسبوق وقد عرفت جوازه ، والصحة للعمومات ، وكون الحزب غير المسبوق.

المسألة الخامسة : إذا فسد عقد السبق بسبب كون العوض خمرا مثلا أو مجهولا أو بنحو ذلك مما هو من شرائط صحة العقد لم يجب بالعمل أجرة المثل وفاقا للمحكي عن الشيخ ويسقط المسمى لا إلى بدل لظهور فساد العقد الذي تضمنه ، لأنه لم يعمل له شيئا ، ولا استوفى منفعة عمله ، إذ نفع سبقه راجع إليه بخلاف الإجارة والجعالة الفاسدتين ، الراجع نفع العمل فيهما إلى المستأجرة والجاعل.

ولكن في القواعد وجامع المقاصد ومحكي التذكرة أن له أجرة المثل ، بل يجب أجرة مثل عمله ، وهو مجموع ركضة لا قدر ما سبق به ، لأنه سبق بمجموع عمله ، لا بذلك القدر لقاعدة « ما يضمن بصحيحه » ولا ينافيه عدم حصول النفع له ، فإن القراض الفاسد يجب فيه أجرة المثل ، وإن لم يحصل نفع بالعمل للمالك.

وأشكله في المسالك بأن الالتزام لم يقع إلا على تقدير العقد الصحيح والأصل براءة الذمة من وجوب غير ما وقع عليه العقد ، والفرق بينه وبين ما تجب به أجرة المثل من العقود واضح ، لا من جهة ما ذكروه من رجوع نفع عمل العامل إلى من يخاطب بالإجارة حتى يرد عليه مثل العمل الذي لا يعود عليه نفع في القراض ، بل لأن تلك العقود اقتضت أمر العامل بعمل له‌

٢٣٨

أجرة في العادة ، فإذا فسد العقد المتضمن للعوض المخصوص ، بقي أصل الأمر بالعمل الموجب لأجرة المثل ، بخلاف هذا العقد ، فإنه لا يقتضي أمرا بالفعل ، فإن قوله سابقتك على معنى أن من سبق منا فله كذا ، ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على المراد ليس فيها أمر ، ولا ما يقتضيه بفعل له أجرة ، والأصل براءة الذمة من وجوب غير ما في العقد ، وقاعدة « ما يضمن » لا دليل عليها كلية ، بل النزاع واقع في مواردها ، فكل ما لا إجماع ولا دليل صالح يدل على ثبوت شي‌ء فيه ، فالأصل يخالف مقتضى القاعدة ، نعم لو اتفق وقوع العقد بصيغة تقتضي الأمر بالفعل وجوزناه اتجه وجوب أجرة المثل ، إلا أن هذا خارج عن وضع الصيغة المعهودة وإنما يتم حيث لا نخصه بعبارة ، بل كل لفظ يدل عليه كالجعالة.

وهو من غرائب الكلام ضرورة أنه لا مدخلية للفظ الأمر المقصود به إنشاء العقد في وجوب أجرة المثل ، بعد فرض فساد العقد ، وإنما المقتضي لها عدم كون العمل متبرعا به ، والأصل ضمانه ، لأن عمله كماله ، وهو في الجميع حاصل ، وإن فرض عدم اعتبار وصول النفع إليه ، على أنه لا فرق عند التأمل في أصل الضمان بين ذلك ، وبين ما ذكره المصنف وغيره ، بل ظاهرهم عدم الخلاف فيه ، من أنه لو كان السبق مستحقا وجب على الباذل مثله أو قيمته ضرورة اشتراك الجميع في فساد العقد من الأصل ، وكون الأخير صالحا للصحة لو أجاز المالك لا يقتضي فرقا في الحكم المزبور.

ومنه يظهر أن المتجه فيه أيضا وجوب أجرة المثل لما عرفت ، دون مثل المسمى أو قيمته ، لعدم وجوب المسمى حتى يتجه ضمانه بذلك ، لأن الفرض الفساد من الأصل ، والقرب من المسمى الثابت لا يقتضي ضمانه ، بعد فوات ما يقتضي لزوم المسمى ، كما أن ثبوت نظيره في الصداق على فرض تسليمه لا يقتضي الثبوت هنا بعد حرمة القياس ، وقد اعترف بجملة من ذلك كله في جامع المقاصد والمسالك.

المسألة ( السادسة : إذا فضل أحدهما الآخر في الإصابة ، فقال له : اطرح الفضل بكذا ، قيل : لا يجوز ، لأن المقصود بالنضال إبانة حذق الرامي وظهور اجتهاده بحصول الغلبة له ، فلو طرح الفضل بعوض أو بغير عوض كان تركا للمقصود بالنضال فتبطل المعاوضة ويرد ما‌

٢٣٩

أخذ ه‍ منه لذلك ، بل في المسالك بعد أن حكاه عن المشهور لم يذكر كثير منهم فيه خلافا ، إلا أنه قد يشعر من نسبة المصنف له إلى القيل بتمريضه ووجهه في المسالك بأنه جعل على عمل محلل ، ومنع كون المقصود بالنضال منحصرا فيما ذكر ، لجواز أن يقصد به كسب المال ، فإذا حصل بالسبق أمكن تحصيله بمقدماته ، مضافا إلى أصالة الصحة وعموم الأمر بالوفاء ، والكون مع الشرط ، ومنافاته للشرع غير متحققة.

وفي الرياض « أنه أوجه من الأول ، إن لم يكن الإجماع على خلافه انعقد » وفيه ما لا يخفى ، إن أريد إدراجه في الجعالة ، إذ لا عمل يستحق عليه ذلك ، بل وفي الصلح لعدم ثبوت حق له بذلك على وجه يصح بذل العوض عنه ، وكذا إن أريد أنها معاوضة برأسها كما هو ظاهر المتن ، بل لعل ذلك هو مفروض البحث ، لا جواز ذلك صلحا أو غيره.

وفيه : أنه لا دليل على مشروعيته ، وعموم ( أَوْفُوا ) إنما هو للعقود المتعارفة ، لا نحو ذلك ، خصوصا بعد ما عرفت من شهرة عدم مشروعيتها ، وأنه لم يذكر فيه خلاف من غير فرق بين كون المراد من ذلك إتمام النضال بعد رفع اليد من الفضل ، أو رفع اليد عنه رأسا ، بل الثاني أولى بالعدم لأنه من العقود اللازمة.

نعم يشرع فيه التقابل وهو غير المفروض هنا الذي هو طرح الفاضل بالعوض ، كما هو واضح.

المسألة السابعة : يجوز عقد النضال بين حزبين كما يجوز بين اثنين ، لإطلاق الأدلة والمرسل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه مر بحزبين من الأنصار يتناضلون ، فقال : أنا مع الحزب الذي فيه ابن الأردع ، والمراد من تناضل الحزبين إيقاع العقد بين الجماعتين ولو بوكالة كل جماعة واحدا منها ، ويكون كل حزب فيما يتفق لهم من الإصابة والخطأ كالشخص الواحد.

وفي اشتراط تساوي عددهم وجهان ، بل قولان : أقواهما العدم ، لإطلاق الأدلة ، فيرامي واحد مثلا ثلاثة ، بمعنى أنه يرمي ثلاثة ، وكل واحد منهم مرة ، وهل يعتبر تعيين كل واحد منهما في مقابلة من يرمي معه أو يكفي نصب رئيس لهما يكون الاختيار له في تعيين‌

٢٤٠