جواهر الكلام - ج ٢٨

الشيخ محمّد حسن النّجفي

لم يدعه فلا يتوجه له عليه يمين ، لعدم كونه منكرا حينئذ كما هو واضح لكن في المسالك أنه منكر أيضا ولكن لا يمين عليه ، إذ ليس كل منكر يتوجه على اليمين بمجرد الإنكار ، بل لا بد من انضمام دعوى ما أنكره المنكر ، وفيه ما لا يخفى ، هذا وليعلم أن المحكي عن المبسوط والمهذب والتذكرة والتحرير تقييد أصل الحكم المزبور بما إذا لم يكن الموهوب في يد المتهب أو بما إذا كان في يد الواهب على اختلافهم في التعبير ومقتضاه أنه متى كان كذلك فالقول قوله ، لأن كونه في يده كناية عن إقباضه ، ولعله لأنهم فرضوا المسألة فيما لو ضم إلى قوله وهبته خرجت منه إليه ، الذي هو بمعنى الاذن بقبضه وإلا فمجرد كونه في يده لا يدل على القبض بإذن ، ومن هنا حكى عن المبسوط في باب الإقرار أن القول قول الواهب ، وأنه لا فرق بين أن يكون الموهوب في يد الواهب أو المتهب ، لأنه قد يقبضه بغصب وغيره ، بل قد يقال : أن الحكم كذلك حتى مع الضميمة المزبورة فإن الإقرار بالإذن لا يقتضي كون يده عليه حال الدعوى بالإذن السابقة ضرورة كونها أعم من ذلك فتأمل جيدا.

وكذا لو قال : وهبته وملكته ثم أنكر القبض في أن القول قوله إذا كان ممن يرى أن الملك بالعقد ولو تقليدا ، بل وإن لم يعلم حاله ، لأنه يمكن أن يخبر عن وهمه ومتى احتمل فيه ذلك لم يحكم عليه بالإقرار بالقبض الذي تقتضي الأصول نفيه.

نعم لو علم أن مذهب المقر توقف الملك على الإقباض ولو تقليدا حكم عليه بالإقباض كما صرح به غير واحد لكن قد يناقش بإمكان إرادته التأكيد أو الهبة بصيغة التمليك الذي قد عرفت أنها تنعقد به ، ومع ذلك يحتاج إلى القبض صحة أو لزوما ، ودفعها ـ باقتضاء ذلك التأكيد الذي هو مرجوح بالنسبة إلى التأسيس ـ رده في المسالك « بأن ألفاظ الأقارير لا تنزل على مثل هذه القواعد ، مع احتمال الأمرين بل يعتبر فيها المعاني الظاهرة ، وهذه اللفظة مشتركة بين الصيغة وأثرها ، فحملها على الثاني دون الأول ترجيح من غير مرجح ، كما في الإقرار بلفظ مشترك ، فإنه لا ينزل على أحد معنييه بدون القرينة وحمل العطف على المغايرة مطلقا ممنوع فإنه كما يجوز عطف الشي‌ء على مباينة يجوز عطفه على مرادفه ، كما هو محقق في بابه ».

وفيه : أنه لا إشكال في جوازه ، إنما الكلام في مساواة احتماله للآخر مع عدم القرينة ، ولا‌

٢٠١

ريب في منعها ، ومرجع هذه القواعد إلى ظاهر الخطاب الذي لا إشكال في حجيته في الإقرار ، وغيره.

وأغرب من ذلك قوله متصلا بما سمعته منه وعلى تقدير تسليم ظهور المعنى الثاني أو أغلبيته على الأول ينبغي أن يرجع إليه في القصد ، لا أن يتعين حمله على الغالب كما نبهوا عليه في نظائره من الإقرار بلفظ يحتمل معنيين فإنه يقبل من المقر إرادة أحدهما وأن حمل إطلاقه على الغالب منهما ، كما لو قال له على درهم ، ودرهم ، ودرهم ، فإنه يقبل منه دعوى إرادة تأكيد الأول بالثاني ، والثاني بالثالث ، وإن كان العطف يقتضي المغايرة ، وكان الغالب عدم التأكيد ، إذ لا معنى للرجوع إليه بعد فرض ظهور لفظه ، ولو بسبب الغلبة في ذلك ، لما عرفت من حجية ظاهر اللفظ.

نعم لو ضم إليه مع ذلك ما يصلح لصرف ذلك الظاهر أتجه حينئذ عدم الأخذ به ، كما في سائر الخطابات ، والقبول في المثال ـ مع فرض ظهور الإطلاق في خلافه وتأخر دعوى إرادة التأكيد عن زمان الإقرار ممنوع فالمتجه حينئذ التفصيل في المفروض بين اتصال ما يقتضي صرف ذلك الظاهر على قياس المخاطبات التي هي كذلك عرفا ولا يعد فيه من التناقض ، فلا يؤخذ به ، وبين غيره الذي هو ليس كذلك فيؤخذ به ويحكم عليه ، ولم يسمع إنكاره بعد ذلك ولا تأويله ، ولو متصلا به ، اللهم إلا أن يكون بحيث يقبل التأويل المتأخر على وجه يكون الأخذ بإطلاقه مبنيا على عدم ذكر تأويله ، فتأمل جيدا ، هذا كله فيما جاء باللفظين.

أما لو اقتصر على ملكيته فعن بعضهم كذلك يأتي فيه البحث السابق ولم يستجوده في المسالك لعدم ما يقتضي المغايرة فيه ، بخلاف الأول وحينئذ فاحتمال إرادة الهبة المقبوضة منه ، كاحتمال إرادة إيقاع صيغة الهبة خاصة بلفظ التمليك من غير أغلبية أحدهما على الآخر.

وفيه أنه وإن لم يكن فيه ما يقتضي المغايرة من عطف ونحوه ، ولكن قد يدعى ظهوره مع الإطلاق في الاخبار بحصول أثر الملك نعم لو قرنه بما ينافي ذلك من عدم القبض ونحوه اتجه حينئذ الحكم بعدم اقتضائه الإقرار بالقبض فتأمل جيدا والله العالم.

٢٠٢

المسألة الرابعة : إذا رجع في الهبة المجانية حيث يكون له ذلك وقد عابت بزيادة أو نقصان لم يرجع بالإرث بلا خلاف أجده فيه ، للأصل ، ولأنه حدث في عين مملوكة للمتهب ، وقد سلطه مالكها على إتلافها مجانا فلم تكن مضمونة عليه سواء كان التعيب بفعله أم لا.

وإن زادت زيادة متصلة لعلف ونحوه كالسمن ولو بفعله على وجه يكون جزءا من العين فللواهب بلا خلاف أيضا ولا إشكال ، لأنها من العين المفروض جواز الرجوع بها.

وإن كانت منفصلة كالثمرة والولد ، فإن كانت متجددة كانت للموهوب له لأنها نماء ملكه ، وخارجة عن العين ، وإن كانت حاصلة وقت العقد كانت للواهب لأنها حينئذ من الهبة التي فرضنا جواز رجوعه بها بلا خلاف معتد به أجده في شي‌ء منه بل هو صريح بعض ، وظاهر آخر عدم الفرق في الأول بين كون الرجوع بعد الانفصال بالولادة أو بالحلب أو بالقطف أو قبله كالحمل قبل انفصاله ، واللبن ، قبل أن يحلب ، والثمرة قبل قطافها والصوف المستجز قبل جزه ، لأن الجميع منفصل شرعا وعرفا عن العين الموهوبة لأنه شي‌ء جديد.

نعم في الوسيلة الرجوع بالحيوان الحامل مع حمله بناء منه على أنه الجزء من الأم ، وهو كما ترى.

وأما الصوف والشعر إذا لم يبلغ أو ان جزه ففي المسالك « أن الأجود تبعيته للعين » وهو حسن مع فرض كونه كذلك عرفا ، هذا.

ولكن بقي الكلام في أمرين أحدهما أنه قد تقدم لزومها بتلف البعض كالكل ، فإطلاقهم الرجوع هنا بالعيب الذي قد يكون بتلف البعض لا يخلو من تسامح ، الثاني : أنهم أطلقوا هنا كون الزيادة للواهب إذا كانت متصلة ، بل صرح بعضهم بأنها كذلك وإن كانت من فعله ، وقد صرحوا في خيار الغبن بمشاركة المشتري للبائع المغبون إذا فسخ بزيادة الصفة في العين ، بل وبغير ذلك مما يأتي مثله في المقام ، ولم يشر أحد منهم إلى شي‌ء من ذلك.

٢٠٣

نعم في المسالك قد ذكر الاقسام هنا وهي كون العين بحالها أو نقصانها بما يوجب الأرش ، أو بما لا يوجبه ، وزيادتها بما يوجبه أيضا أو بما لا يوجبه ، أو يوجب زيادة في القيامة أو جامعة بين الأمرين متصلة تلك الزيادة ، أو منفصلة مطلقا أو من وجه ، وتغييرها بالامتزاج بالأجود والمساوي والأدنى ، أو بغيره من الأعمال كالنجارة والقصارة والطحن أو غير ذلك من التغييرات ، ولم يتعرض لحكمها ، بل ظاهره موافقة المصنف على إطلاقه كما أنه لم يتعرض لضمان الواهب لما يتضرر به الموهوب برجوعه من نقض بناء أو غرس أو نحوهما ، ولعل ذلك كله للإحالة على ما تقدم مما لا يصعب جريان ما يقتضي القواعد جريانه هنا على من أحاط خبرا بما مضى من المسائل السابقة في العارية وفي خيار الغبن وغيرهما ، فلا حظ وتأمل أو على ما تسمعه منه إن شاء الله في المسئلة السادسة مع احتمال عدم اختيار الشركة في الصفات المحضة من المصنف وغيره ممن أطلق ، بل يختص الواهب بالعين ، وإن زادت بذلك ، لإطلاق ما دل على الرجوع بها كما ذكرنا ذلك في خيار الغبن فلاحظ كما أنه لا يخفى عليك حكم الرجوع بالتغيير ولو بغير فعله بعد الإحاطة بما ذكرناه من كون المدار على صدق بقاء الموهوب بعينه ، والله العالم.

المسألة الخامسة : إذا وهب وأطلق فضلا عن أن يكون قد اشترط العدم لم تكن الهبة مشروطة بالثواب سواء كانت من المساوي أو من الأدنى ، أو من الأعلى بلا خلاف محقق أجده فيه ، وإن حكى عن المبسوط والخلاف إلا أن الظاهر من المحكي عنهما خصوصا الأول إرادة اشتراط لزومها به ، فلو كانت حينئذ لرحم مثلا لزمت حينئذ بدونه نعم عن كافي أبي الصلاح أن هدية الأدنى إلى الأعلى تقتضي الثواب بمثلها ، ولا يجوز له التصرف فيها قبل الإثابة أو العزم عليها ، ولعله يريد ما هو المتعارف من إرادة الثواب بمثل الفرض ، وهو خارج عما نحن فيه ، وحينئذ يتم ما حكيناه من نفى الخلاف في ذلك بيننا وكذا ما في السرائر من أن عليه إجماع أصحابنا وأن أحدا لم يذكر ذلك في مسطور ، وهو الحجة بعد إطلاق الأدلة.

نعم هي وإن لم تكن مشروطة به ، ولكن له الإثابة وعدمها فإن أثاب لم يكن للواهب الرجوع مع قبوله لما عرفته سابقا من أدلة لزومها بذلك نعم لا يجب عليه القبول‌

٢٠٤

للأصل لأنه بمنزلة هبة جديدة لا يجب عليه قبولها ، خصوصا بعد اقتضائه سقوط حقه من الرجوع كما تقدم الكلام في ذلك بل الظاهر أيضا عدم جواز الرجوع للموهوب بثوابه ، لأنه أيضا من الهبة التي اثيبت وإن شرط الثواب في هبته صح بلا خلاف فيه عندنا بل عن التذكرة الإجماع عليه ، للإطلاق خلافا لما عن أحد قولي الشافعي من عدم الجواز لمنافاته مقتضاها الذي هو المجانية وفيه منع واضح ، بل لا فرق في صحته أطلق أو عين بلا خلاف أجده في الثاني منهما ، بل عن ظاهر التذكرة الإجماع عليه بل والأول على ما في المفاتيح وظاهر قوله في المسالك عندنا لكن عن يحيى بن سعيد في الجامع وإن شرط مجهولا لم يصح.

وفيه : أنه مناف لإطلاق الأدلة ولبنائها على المغابنة ، ولأنها مضبوط بالقيمة مع التعاسر.

ول‌ خبر القاسم بن سليمان (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يهب الجارية على أن يثاب فلا يثاب إله أن يرجع فيها؟ قال : نعم إذا كان شرط له عليه ، قلت : أرأيت إن وهبها له ولم يثبه أيطأها أم لا؟ قال : نعم إذا كان لم يشترط عليه ».

وخبر إسحاق بن عمار (٢) « قال : قلت الرجل يهدي الهدية يتعرض لما عندي فأخذها ولا أعطيه شيئا أيحل؟ قال : نعم هي لك حلال ، ولكن لا تدع أن تعطيه ».

الخبر.

اللهم إلا أن يقال : أن الثاني منهما لا شرطية فيه ، وإن كان الداعي هو الأول والمراد منه إطلاق الثواب المنزل عند التعاسر على المثل أو القيمة ، وهو غير الثواب المجهول.

ولكن فيه بعد التسليم أن الإطلاق كاف ولكن له الرجوع ما لم يدفع إليه ما شرط مطلقا أو معينا بلا خلاف أجده فيه لإطلاق الأدلة السابقة ، وخصوصا خبر القاسم ، وأولويته من العقد اللازم الذي ثبت الخيار فيه ، بعدم بذلك الشرط ، ولغير ذلك ومع الاشتراط من غير تقدير ، يدفع ما شاء وإن كان يسيرا مع رضا الواهب به ، لعدم ما يقتضي التعيين ، بل الإطلاق قاض بعدمه.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الهبات الحديث ـ ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩١ ـ من أبواب ما يكتسب به الحديث ـ ٢.

٢٠٥

ولو امتنع من قبوله فعن أبي على أنه يثيبه حتى يرضى ، كما عن بعض العامة لخبر أبي هريرة (١) « أن أعرابيا وهب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناقته فأعطاه : ثلاثا فأبى فزاده ثلاثا ، فأبى فزاده ثلاثا فلما استكمل تسعا قال : رضيت » الذي هو في غاية الضعف سندا ودلالة.

وعن التقى في الكافي في الهداية أنه يثيبه قدر قيمة الهبة أو مثلها ، كما عن بعض العامة أيضا أو يثيبه مقدار ما يعتاد في جزاء مثله ، كما عن المبسوط والخلاف وغيرهما ، لانصراف الإطلاق إليه ، وفي محكي الخلاف أيضا لو قلنا : أن لا مقدار للثواب وإنما هو ما يثاب عنها قليلا كان أو كثيرا لكان قويا ، وعن التحرير إذا شرط ثوابا مجهولا صح ولزمه دفع ما يصدق عليه إطلاق الاسم ، وكأنه يرجع إلى ما عن بعض العامة من الإكتفاء بأقل ما يتمول ، عكس ما عن آخر منهم أيضا من أنه لا بد من دفع ما يزيد على القيمة ، والا لباعها بالسوق ، الى غير ذلك مما لا يخفى عليك وجهه ولا ما فيه عدا القول بدفع المثل أو القيمة الذي يرجع إليه القول بدفع المعتاد ثوابا ضرورة كونه المعتاد فصاعدا لا أنقص من ذلك كما أنه لا يخفى عليك أنه لم يكن للواهب مع قبضه الرجوع لما عرفته من صيرورة العقد حينئذ لازما وإنما الكلام فيما ذكره المصنف بقوله ولا يجبر الموهوب له على دفع المشترط ، بل يكون بالخيار بين رد العين وبين دفع المشترط ، ونحوه ما في القواعد من أنه إن لم يرض ، أن الواهب بما دفع إليه ، تخير المتهب بين دفع الموهوب ، وعوض المثل قيل ومقتضاه عدم وجوب الوفاء عليه به ، وبناه في المسالك على كونه كذلك في العقد اللازم أيضا وإنما فائدته جعل العقد اللازم جائزا ، أو على أن هذا العقد من العقود الجائزة خصوصا من جهة الواهب ، فلم يجب الوفاء به ، كما لا يجب الوفاء بأصله وأشكله فيها أيضا بأنه من طرف المتهب لازم ، فلا يجوز له الفسخ بنفسه ، وإن لم يبذل المشروط وتخيره بين بذل العين والثواب المشروط لا ينافيه ، وإنما يظهر جوازه من قبل الواهب خاصة كما أن الأول قد بينا‌

__________________

(١) راجع ص ٢٠٣.

٢٠٦

ضعفه في محله وقلنا : إنه مناف لعموم « ( أَوْفُوا ) (١) » و « المؤمنون عند شروطهم (٢) » فيلزم حينئذ بالوفاء ، وإن تسلط البائع مع ذلك على الخيار مع فرض عدم وصول شرطه إليه.

ويمكن أن يقال : بل لعله الظاهر أن الخيار المزبور في المتن وغيره لا ينافي لزوم العقد ورد العين ـ باعتبار كونها ثوابا ، أو أولى منه ـ ليس فسخا للعقد ، بل هو نحو رد العين في القرض ، وإن أوجب عقده المثل أو القيمة ، لكن رده نفسه أولى بالقبول ، فكذا ما نحن فيه.

نعم يتسلط الواهب على الفسخ مع الامتناع عن أصل البذل على نحو ما سمعته في غيره من العقود اللازمة ولعله لذا جزم بعض بتنزيل إطلاق المحكي عن جماعة لزوم العوض على إرادة الخيار المزبور.

نعم بقي الكلام في شي‌ء آخر وهو أنه ما ذكره في المسالك أيضا من أنه يفهم من قول المصنف « ولم يكن للواهب الرجوع مع قبضه » جواز رجوعه متى لم يقبضه وأن بذلك المتهب والأمر فيه كذلك وقد تقدم ، ولا ينافيه عموم (٣) ( أَوْفُوا ) ولا‌ قول أبي عبد الله عليه‌السلام في الصحيح « تجوز الهبة لذي القربى والذي يثاب عن هبته ، ويرجع في غير ذلك » كما زعمه بعضهم ، لأن عموم الوفاء بالعقود مقيد بغير الجائز ، وقد عرفت دلالة النصوص الصحيحة على جواز هذا العقد على هذا الوجه ، إذا سلم دلالة الوفاء على المضي فيها مطلقا ، والإثابة في الخبر لا يتحقق إلا بالاتفاق عليها ، لا بمجرد بذلها ، ولم يحصل هنا ».

قلت : الذي قدمه في صدر المسألة بعد أن ذكر الصور الأنثى عشر ، قوله : « وتفصيل حكمها أنه مع اشتراط عدم الثواب لا يلزم قطعا ، ومع اشتراطه يلزم ما شرطه مطلقا ثم إن عينه لزوم ما عين بمعنى أن المتهب ان دفع المشروط ، وإلا تسلط الواهب على الفسخ ، وإن أطلق اشتراط الثواب لزوم أيضا الوفاء به ، لكن إن اتفقا على قدر فذلك ، وإلا وجب‌

__________________

(١) سورة المائدة الآية ـ ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ـ ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الهبات الحديث ـ ٣.

٢٠٧

أثابه مقدار الموهوب عينا أو قيمة ، ولا يلزم الأزيد ، وإن طلبه الواهب ، كما لا يجبر الواهب على قبول الأول ، والمعتبر قيمة الموهوب عند القبض إذا وقع بعد العقد ، ويحتمل عند دفع الثواب ».

وهو كالصريح في وجوب القبول عليه ، مع بذل المثل أو القيمة بل لعله ظاهر تقييد عدم وجوب القبول بما إذا لم يذكر العوض في الهبة في القواعد ، بل لعله ظاهر قول المصنف ما لم يدفع إليه ، إلى آخره كالقواعد أيضا ، بل قيل إن مثل ذلك عبارة المبسوط ، والتحرير والدروس ، بل لعله ظاهر ما سمعته أيضا من الفاضل من الخيار المزبور إذا لم يرض الواهب باليسر ، بل عن جامع المقاصد ففي البعد عنه.

نعم عن الإيضاح أن الأقرب جواز الرجوع فيه ، وفيه أنه مناف لآية « ( أَوْفُوا ) (١) » و‌ « المؤمنون (٢) » وغيرهما ، وثبوت الجواز في غير الفرض لا يقتضي ثبوته فيه ، وليس هو من الشرط في العقد الظاهر في صدق‌ يثاب عن هبته » على بذله من المتهب ، بل مقتضاه ذلك وإن كان يسيرا ، إلا أن انصراف إطلاق العوض المشترط إلى المساوي ـ فصاعدا مضافا إلى قاعدة لا ضرر وإلى العادة ـ صار سببا للخروج عنه ، أما إذا كان معينا فالظاهر لزومها ببذله ، وإن كان يسيرا ، وبذلك ظهر لك أن ما في المسالك مشوش ، خصوصا بعد ملاحظة كلامه في تفسير قوله في المتن « ومع الاشتراط من غير تقدير » إلى آخره فلا حظ وتأمل.

ولو خرج العوض أو بعضه مستحقا أخذه مالكه ، ثم إن كانت الهبة مطلقة لم يجب دفع بذله ، ولكن للواهب الرجوع ، لإطلاق دليله ، بعد ظهور فساد ما دفع من العوض فيكون كما إذا لم يعوض عنها ، وإن شرطت بالعوض : ففي القواعد « دفع المتهب مثله أو قيمته مع التعيين أو العين ، أو ما شاء إن رضى الواهب مع الإطلاق » وهو ظاهر أيضا في وجوب دفع العوض ، وفي وجوب قبول الواهب له مع‌

__________________

(١) سورة المائدة الآية ـ ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ـ ٤.

٢٠٨

بذله ، اللهم إلا أن يحصل على إرادة بيان كفايته في عدم رجوع الواهب في العين ولو بقرينة ما تقدم له سابقا.

ولكن يشكل أيضا بأن الواجب على الواهب قبوله نفس العوض المذكور في العقد دون غيره ، لعموم‌ قوله « المؤمنون » وغيره.

نعم لو رضى به وقبضه فلا يجب ، لكن لا يختص بالمثل أو القيمة حينئذ اللهم إلا أن يقال : إن فساد العوض فيها لا يقتضي فسادها ضرورة كونه فيها كالمهر في النكاح ، لأنها تصح بدونه وحينئذ تبقى صحيحة ، ولكن لا وجه للمجانية بعد فرض قصد المعاوضة بها فليس حينئذ إلا مثل العوض المذكور أو قيمته نحو ما ذكروه في المهر الفاسد.

لكن لا يخفى عليك النظر في المقيس عليه ، كما ذكرناه في محله فضلا عن حرمة القياس.

نعم حكم بصحة النكاح للإجماع ـ والرجوع إلى مهر المثل ، بخلاف المقام ، فإنه لا شي‌ء مقرر هنا على تقدير الفساد ـ فالمتجه حينئذ البطلان مع فرض ذكر المعوض فيها على طريق ذكره في عقود المعاوضة ، بناء على صلاحية عقدها للتمليك كالنكاح فلا يحتاج إلى سبب آخر.

نعم لو ذكر العوض فيها على معنى اشتراط هبة عوض هبة أمكن القول لعدم اقتضاء ظهور استحقاقه فساد الهبة ، ولكن يكون للواهب حينئذ الرجوع ، وإن بذل المتهب المثل أو القيمة ، هذا كله في العوض المعين المشخص ، أما المطلق فيدفع بدله سواء كان مقدارا كمائة درهم ، أو لم يكن ، ومن ذلك يعلم ما في عبارة القواعد من التشويش ، والأمر سهل بعد وضوح الحال وفيها أيضا « ولو كان معيبا ألزم بالأرش أو دفع العين في المعينة لا المطلقة » وهو ظاهر في وجوب قبول الواهب مع دفع الأرش.

وفيه : أن المتجه عدمه ، لأن الفرض اشتراط العوض المعين المنصرف إلى الصحيح فلا يجب عليه القبول ، فالأولى الإلزام بالعين ، أو بما يرضى به الواهب ، ولو الأرش ، وأما المطلقة ، فإن كانت من دون تقدير عوض أصلا ، ودفع عوضا معينا وهو مع العيب بقدر. القيمة ، فإنه على ما يسبق ليس له رده ، ولا الرجوع ، وإن كان أقل طالب بالزائد وإن كانت‌

٢٠٩

بتقدير عوض غير مشخص ، فدفع ذلك القدر فظهر معيبا ، فإنه يتجه ـ بناء على أنه كالسلم ـ أن يقال له المطالبة بالأرش أو البدل أو العين ، ومتى دفع المتهب أحدها لم يكن له الامتناع ، وإن قلنا ليس المقام كالسلم ، فله المطالبة بالبدل ، والله العالم.

ولو ظهر استحقاق نصف العين الموهوبة ، رجع بنصف العوض ، بل قيل : له أن يرد الباقي ويرجع بجميع الثواب خلافا للمحكي عن أحد قولي الشافعي ، وحيث قال : ببطلان هبة الكل ، ولو ظهر استحقاقها بعد تلفها في يد المتهب ، ففي القواعد الأقرب رجوعه على الواهب بما غرمه من القيمة ، وإن زادت عن العوض أو قلت عنه ، وعن الإيضاح وجامع المقاصد أنه الأصح ، وقد تقدم في باب البيع ويأتي في الغضب ما يستفاد منه تحقيق ذلك والله العالم.

وكيف كان فـ ( لو تلفت ) العين الموهوبة في يد المتهب والحال هذه أى كان مشروطا فيها الثواب أو عابت لم يضمن الموهوب له عند المصنف والفاضل وولده في محكي التذكرة والشرح ، وإن كان ذلك بفعل المتهب لأن ذلك حدث في ملكه ولأن المتهب لا يجب عليه دفع العوض ، وللواهب الرجوع في العين ، فالتفريط منه بتركها في يد من يجوز له ذلك فيها بتسليطه.

ولكن فيه تردد بل منع كما عن ابن الجنيد وجمع من المتأخرين لعموم ( أَوْفُوا ) ونحوه ، ولأن قبضها على أن يؤدى عوضها ولأن الواجب أحد الأمرين ردها أو دفع العوض ، فإذا تعذر الأول وجب الثاني ، وبذلك يظهر لك ما في دليل القول الأول ـ ضرورة دخولها في ملكه ، ولا هو سلطه عليها كذلك ، وعدم وجوب دفع العوض إن أريد به عدم وجوبه عينا لم يلزم منه نفى الوجوب على البدل الذي هو المدعى ، وحينئذ فإذا تعذر أحد الأمرين المخير فيهما وجب الآخر عينا وإن أريد عدم الوجوب أصلا فهو ممنوع ـ لكن المراد بالضمان هنا وجوب دفع العوض إذا كان معينا ، والمثل أو القيمة إذا كان مطلقا لأنه هو مقتضى الأمر بالوفاء ، وقوله « المؤمنون » وغير ذلك مما تقدم سابقا لا القيمة على كل حال ، لأن العين مضمونة على القابض والشرط لا يجب عليه قبوله ، إذ فيه أنها مضمونة بالعوض لا غير ، ودعوى عدم وجوب قبول العوض ممنوعة ، كما عرفت ، وما في المسالك من أقل الأمرين من‌

٢١٠

ذلك ، ومن العوض قال : لما عرفت من أن المتهب مخيرين الأمرين والمحقق لزومه هو الأقل ، لأنه إن كان العوض هو الأقل فقد رضى به الواهب في مقابلة العين ، وإن كان الموهوب هو الأقل فالمتهب لا يتعين عليه العوض ، بل يتخير بينه وبين بذل العين ، فلا يجب مع تلفها أكثر من قيمتها ، وهذا هو الأقوى ».

ولا يخفى عليك ما فيه بعد فرض عدم انفساخ العقد بذلك ، والإكتفاء برد العين مع وجودها لا يقتضي الإكتفاء بقيمتها بعد تلفها ، بل اللازم من اقتضاء قاعدة تعذر أحد فردي المخير التي اعترف بها تعين الفرد الثاني فتأمل جيدا ، فإن بعض الوهم هنا قد نشأ من الخلل في المسائل السابقة ، ومن تفسير الضمان بالمعنى المزبور الذي لا يتم إلا مع انفساخ العقد ، وكون العوض على طريق المعاوضات ، أما إذا كان بمعنى الثواب والجزاء بهبة جديدة فقد يتردد في الضمان من كونه كالعوض بالمعنى الأخص ومن منع ذلك ، وأنه لا يقتضي الضمان حينئذ ، وكذلك الكلام لو وجدها معيبة ، والله العالم.

المسألة السادسة : إذا صبغ الموهوب له الثوب مثلا فإن قلنا مثل هذا التصرف يمنع من الرجوع ، فلا رجوع للواهب ، وإن قلنا لا يمنع إذا كان الموهوب له أجنبيا رجع به وكان الموهوب له شريكا معه في الثوب ( بـ ) مقدار نسبة قيمه الصبغ إلى الثوب.

بل في المسالك لا فرق بين الصبغ ، وبين القصارة والطحن عندنا في ذلك ، وقد تقدم في الغبن وفي الفلس والعارية وغيرها النظر في أمثال هذه المسائل فلا حظ وتأمل كي تعرف أيضا الحكم فيما لو كان للموهوب غرس ونحوه ورجع الواهب ، فإن لكل ما له ، وأنه هل لصاحب الأرض إجبار الغارس على ازالته مجانا ، أو ليس له ذلك بل يتخير بين الإبقاء بأجرة ، والقلع مع الأرش ، والله العالم والمؤيد.

المسألة السابعة : إذا وهب في مرضه المخوف ، وبرء صحت الهبة بلا خلاف ولا إشكال فيها ، ولا في شي‌ء من تصرفاته المجانية وإن مات في مرضه ، ولم تجز الورثة اعتبرت من الثلث على الأظهر كما عرفت البحث فيه مفصلا في كتاب الحجر ، والله هو العالم ، والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا وظاهرا وباطنا والشكر لله.

٢١١

( كتاب السبق والرماية )

بسكون الباء وهو في الأصل مصدر سبق كضرب ، أو سابق ، بل قيل : إنه أوفق في معاملته الكائنة بين اثنين فصاعدا على ما ستعرف ، ولعل مادته كافية في ذلك عن الهيئة ، وعرفا معاملة على إجراء الخيل وما شابهها في حلبة السباق ، لمعرفة الأجود منها والأفرس من المتسابقين ، وكذا الرمي والرماية في الأصل لمطلق ذلك ، وعرفا معاملة على المناضلة بالسهام مثلا ليعلم حذق الرامي ومعرفته بمواقع الرمي.

وفائدتهما بعث العزم وتهيّؤه على الاستعداد للقتال والهداية لممارسة النضال في حرب الكافرين.

وهي معاملة صحيحة ومستندها بعد إجماع المسلمين بقسميه بل المحكي منهما مستفيض أو متواتر ، بل قيل : والكتاب المبين ، للمرفوع المروي عن عبد الله بن مغيرة (١) في تفسير قوله تعالى ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) الآية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إنه الرمي » وقوله تعالى (٢) ( إِنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ ) بناء على أصالة بقاء مشروعية ما كان في ملة غيرنا حتى يعلم النسخ ـ السنة المستفيضة أو المتواترة منها قوله عليه‌السلام المروي في طرق الخاصة والعامة (٣) لا سبق إلا في نضل أو خف أو حافر منها‌ قول الصادق عليه‌السلام (٤) « إن الملائكة لتنفر عند الرهان وتلعن صاحبه ، ما خلا الحافر والخف والريش والنصل‌ وقد‌ سابق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسامة بن زيد وأجرى الخيل‌ ، كقوله أيضا (٥) « ليس‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام السبق والرماية الحديث ـ ٣.

(٢) سورة يوسف الآية ـ ١٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام السبق والرماية الحديث ـ ١ ـ ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام السبق والرماية الحديث ـ ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام السبق والرماية الحديث ـ ٤.

٢١٢

شي‌ء تحضره الملائكة إلا الرهان وملاعبة الرجل أهله » ومنها‌ خبر طلحة عن الصادق ـ عليه‌السلام (١) « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجرى الخيل التي أضمرت من الحصى (٢) إلى مسجد بني زريق وجعل سبقها ثلاث نخلات فأعطى السابق عذقا أى نخلة وأعطى المصلي عذقا وأعطى الثالث عذقا » ومنه‌ خبر غياث بن إبراهيم عنه أيضا (٣) عن أبيه عن علي بن الحسين عليه‌السلام « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجرى الخيل وجعل سبقها أواقي من فضة » إلى غير ذلك من النصوص.

وكيف كان فـ ( تحقيق هذا الباب يستدعي فصولا‌ )

الأول : في الألفاظ المستعملة فيه فالسابق : أى المجلى من خيل الحلبة المجتمعة للسباق وهو الذي يتقدم ولو بالعنق والكتد بفتح التاء وكسرها وهو العالي بين الظهور وأصل العنق ويعبر عنه بالكاهل.

وقيل والقائل الإسكافي يكفي التقدم بأذنه ، والأول أكثر لقوله عليه‌السلام « بعثت والساعة كفرسي رهان كاد أحدهما أن يسبق الآخر بأذنه ».

وفيه ـ مع إمكان حمله على المبالغة نحو‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) « من بنى مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة » مع امتناع بناء مسجد كذلك ـ أنه لا دلالة فيه على كون السابق على الإطلاق كذلك ، إذا النزاع فيه لا المقيد بنحو ذلك.

كما أن في الأول منعا واضحا إن أريد الحمل عليه ، وإن كان العرف على خلافه ، ضرورة عدم الوضع الشرعي فيه ، وعلى تقديره فلا مدخلية له في ألفاظ المتراهنين ، فالتحقيق حينئذ إيكاله إلى العرف ، ولعله في زماننا لا يصدق إلا أن يسبق بالكل ، وبالجملة فالمدار على العرف إن كان ، وإلا فلا بد من التقييد لرفع الغرور والنزاع ، بناء على اعتبار المعلومية في ذلك ، وإن كان القائل بالأول أكثر والله العالم.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام السبق والرماية الحديث ـ ١.

(٢) الحفي ( خ ل ).

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام السبق والرماية الحديث ـ ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ـ ٢.

٢١٣

والمصلى منها أيضا هو الذي يحاذي بـ ( رأسه صلوى السابق ) فصاعدا والصلوان ه‍ ( ما ) العظمان النابتان عن يمين الذنب وشماله والتالي للمصلي هو الثالث ، ويليه البارع الرابع لأنه يرع المتأخر عنه وفاقه ، ثم المرتاح وهو الخامس ، من الارتياح بمعنى النشاط ، فكأنه نشط فلحق بالسوابق ، والسادس الحظي لأنه حظي عند صاحبه حين لحق بالسوابق ، أي صار ذا حظوة ونصيب عنده ، أوفى مال الرهان.

والسابع : العاطف ، لأنه عطف إلى السوابق أي مال إليها ، أو كر عليها فلحقها

والثامن : المؤمل لأنه اللحوق بالسوابق ، والتاسع : اللطيم وزان فعيل بمعنى مفعول ، لأنه يلتطم إذا أراد الدخول إلى الحجرة الجامعة للسوابق.

والعاشر : السكيت بالتصغير مخففا ، ويجوز تشديده ، سمى به لسكوت ربه إذا قيل لمن هذا ، أو لانقطاع العدد عنده ، وليس لما بعد العاشر من خيل الحلبة اسم إلا الذي هو آخر الخيل كلها ، فيقال له : الفسكل بكسر الفاء والكاف أو بضمهما الذي هو آخر فرس يجي‌ء في الرهان ، وقيل : إنه السكيت.

ولا يخفي عليك أنه لا مدخلية لهذه الأسماء في شي‌ء من أحكام الباب ، ضرورة بناء أحكامها على مسمياتها ، لا على أسمائها ، وهو يتبع عرف المتراهنين ، أو ما يتفقون عليه في بيان ذلك ، فقد يعبرون عن المجلى والمصلى وغيرهما بغير أسمائها كما هو واضح.

وعلى كل حال فقد عرفت أن السبق بسكون الباء في الأصل المصدر ثم نقل إلى المعاملة الخاصة وبالتحريك : العوض في هذه المعاملة ، وهو المسمى بـ ( الخطر ) بالخاء المعجمة والطاء المهملة المفتوحتين والندب والرهن ومنه أخذ الرهان بهذه المعاملة والمحلل هو الذي يدخل بين المتراهنين ولا يبذل معهما عوضا بل يجري فرسه بينهما أو في أحد الجانبين على وجه يتناوله العقد ، على أنه إن سبق بنفسه أو مع غيره أخذ العوض أو بعضه على حسب الشرط ، وإن لم يسبق لم يغرم شيئا والغاية مدى السباق ومنتهاه.

٢١٤

والمناضلة : المسابقة والمراماة قال في الصحاح : ناضله : أي راماه يقال : ناضلت فلانا فنضلته ، إذا غلبته ، وانتضل القوم وتناضلوا : أي رموا للسبق ، وعن التذكرة السباق اسم يشتمل على المسابقة بالخيل حقيقة ، وعلى المسابقة بالرمي مجازا ولكل واحد منهما اسم خاص ، فيختص الخيل بالبرهان ، ويختص الرمي بالنضال.

وفي المسالك « إطلاق المناضلة على ما يشتمل المسابقة ليس بمعروف لغة ، ولا عرفا ، ولعل المصنف ومن تبعه في ذلك تجوزوا في الإطلاق ، وبعض الفقهاء عنون الكتاب بالمسابقة والمناضلة ، وهو الموافق لما سمعته من أهل اللغة ».

قلت : يمكن أن يريد المصنف أن المناضلة المسابقة في الرمي ، ويكون قوله والمراماة تفسيرا ، وإطلاق السبق على الرمي هو المنافق لقوله عليه‌السلام لا سبق إلى آخره على أن يكون المراد منه الغلبة في السبق المعنوي : والأمر سهل.

ويقال : سبق ـ بتشديد الباء ـ إذا أخرج السبق بالتحريك أي العوض منه لغيره وإذا أحرز أيضا باستحقاقه له قبضه أم لم يقبضه.

والرشق ـ بكسر الراء ـ عدد الرمي أي عدد ما يرمى به من السهام يقال : رمى رشقا : أي رمى بسهامه التي يريد رميها كلها ، وإذا حصل الاتفاق على خمسة خمسة ، فكل خمسة يقال له رشق ، وعن بعض أهل اللغة تخصيصه بما بين العشرين والثلاثين.

وأما بالفتح فهو الرمي الذي هو المصدر ، يقال : رشقه يرشقه رشقا : إذا رماه بالسهم ، ويقال : أيضا رشق وجه ويد بكسر الراء ويراد ، به الرمي على ولاء حتى يفرغ الرشق فيكون مشتركا إذا كان الإطلاقان على جهة الحقيقة ، وفي الصحاح « الرشق بالكسر الاسم ، وهو الوجه من الرمي ، فإذا رمى القوم بأجمعهم في جهة واحدة قالوا : رمينا رشقا ».

وفي المسالك « والمراد برشق اليد هذا المعنى ، وإضافة الرشق إلى اليد كإضافته إلى الوجه ، فيقال : ورشق يد ، إذا كانت جهة الرمي واحدة ، ويمكن مع ذلك إضافته إليهما معا كما يظهر من العبارة ».

٢١٥

قلت : قد يقال : ظاهر الولاء الذي في العبارة غير الاتحاد في الجهة ، المذكور في الصحاح.

وعلى كل حال فـ ( يوصف السهم ) المرامى به ، بأوصاف كثيرة ذكر في محكي التحرير منها ستة عشر ، ومحكي كتاب فقه اللغة تسعة عشر اسما ، واقتصر المصنف على ستة منها ، لما عرفت سابقا من عدم فائدة معتد بـ ( ـها ) في ذلك.

وهي الحابي ، والخاصر ، الخازق ، الخاسق ، والمارق ، والخارم فالحابي : ما زلج أي زلق على الأرض ثم أصاب الغرض بمعنى أنه يقع دون الهدف ثم يحبو إلى الغرض فيصيبه ، مأخوذ من حبو الصبي ، وجمعه حوابي ، وفي محكي الصحاح سهم زلج : يتزلج عن القوس.

والخاصر بالخاء المعجمة والصاد المهملة من الخاصرة هو ما أصاب أحد جانبيه أي الغرض ، وفي المسالك يسمى جائزا وقيل : الجائز ما سقط من وراء الهدف ، وقيل : ما وقع في الهدف عن أحد جانبي الغرض فهو مخطئ إن كان شرط الإصابة في الغرض ، ومصيب إن كان في الهدف.

والخازق بالخاء والزاء المعجمتين ما خدشه أي الغرض.

والخاسق : ما فتحه وثبت فيه لكن عن نهاية ابن الأثير خرق السهم وخسق إذا أصاب الرمية ونفذ فيها ، وسهم خازق وخاسق ، وفي الصحاح : الخازق من السهام المقرطس ، والخاسق لغة في الخازق ، وقال في باب السين سمى الغرض قرطاسا يقال : رمى بمقرطس إذا أصابه ونحوه عن القاموس ، وظاهر الجميع أنهما بمعنى واحد ، وهو النفوذ كما في النهاية ، والإصابة كما في الصحاح والقاموس ، وعن الثعالبي في سر العربية إذا أصاب الهدف فهو مقرطس ، وخارق وخاسق وصائب.

والخارق بالخاء المعجمة والراء المهملة هو الذي يخرج من الغرض نافذا من الخرق بمعنى الشق ، لكن في المسالك « لم يذكره أحد من أهل اللغة ممن وقفت‌

٢١٦

على كلامه في أسمائه ، وفي بعض نسخ الكتاب المارق بالميم يدل الخارق وهو الصواب الموافق لكلام أهل اللغة ».

والخارم هو الذي يخرم حاشيته أي الغرض ، وفي المسالك أيضا « لم يذكره أهل اللغة » والأمر سهل.

ويقال : أيضا في اسم السهم المزدلف وهو الذي يضرب الأرض ثم يثب إلى الغرض وظاهر القواعد أنه رديف للحابي قد يفرق بينهما بما تشعر به عبارة المصنف من اعتبار القوة في الثاني ، بخلاف الحابي ، بل في المسالك « إن هذا هو الظاهر من التذكرة ».

والغرض ما يقصد اصابته ، وهو الرقعة ، والهدف ما يجعل فيه الغرض من تراب أو غيره كحائط ونحوه ، وقد يطلق على الغرض القرطاس ، وإن لم يكن قرطاس ، وقد يجعل في الغرض نقش كالهلال ، يقال : لها الدائرة ، وفي وسطها شي‌ء آخر يقال له الخاتم : والإصابة تتبع الشرط ، فقد يكفي فيها الهدف ، وقد لا يكفي إلا الخاتم كما هو واضح.

والمبادرة أحد قسمي المراماة وهي أن يبادر أحدهما مثلا إلى مطلق الإصابة أو إصابة عدد معين مع التساوي في الرشق من مقدار معين أو مطلق ، فلو أصاب أحدهما في أول الرشق وأخطأ الآخر فهو ناضل له ، ولو أصابا معالم يناضل أحدهما الآخر ، ولو اشترطا اصابة خمسة في ضمن العشرة ، فأصاب أحدهما فيها وأخطأ الآخر فهو ناضل له ، وإن أصاب أيضا لم يتناضلا ، وإلى ما ذكرناه يرجع تفسيرها في المسالك « بأنها اشتراط استحقاق العوض لمن بدر إلى إصابة عدد معين ، من مقدار رشق معين مع تساويهما فيه » ضرورة أنه أعم منه كما هو مقتضى إطلاق المصنف.

والقسم الثاني المحاطة وهي إسقاط ما تساويا فيه من الإصابة بعد تساويهما في الرشق ، فإن نضل أحدهما الآخر ، فهو ناضل له ، وإلا لم يتناضلا ، سواء اشترطا عددا معينا أولا ، لأن المدار على تساويهما في الرشق ، ونضل أحدهما الآخر وأما غير ذلك فهو على حسب الشرط ، وهذا مقتضى إطلاق المصنف ، وإليه وإلى بعضه يرجع تفسيرها في‌

٢١٧

المسالك « بأنها اشتراط العوض لمن خلص له من الإصابة عدد معلوم بعد مقابلة إصابات أحدهما بإصابة الآخر ، وطرح اشتركا فيه » ثم أكثر من الأمثلة ، ولكن إطلاق المصنف أجود ، ومنه يظهر أنه لا وجه لمناقشة المصنف بأن المقصود من معنا هما غير حاصل من لفظه ، وبدخول كل منهما في تعريف الآخر ، كما أن منه أيضا يعلم رجوع المناضلة إليهما ، لا أنها قسم ثالث كما في القواعد ، مع أن المحكي من التحرير صريح في مرادفتها له.

نعم ربما قيل إن الجواب من دون ياء قسم ثالث للمراماة ، وهي أن يحتسب بالإصابة للغرض والهدف ، ويسقط الأقرب للغرض ما هو الأبعد منه ولا بأس به.

الفصل الثاني : فيما يسابق به ولا ريب أن الأصل عدم ترتب آثار هذا العقد وحينئذ فـ ( يقتصر في الجواز على النصل والخف والحافر ، وقوفا ) فيما خالف الأصل على مورد الشرع والإجماع على شرعيته في الجملة لا يقتضي العموم ، كما أن كون الحكمة فيه الاستعداد للجهاد كذلك أيضا ، بل ولا ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) بعد أن ذكرنا غير مرة أن المراد منها العموم في أنواعها ، لا أفراد كل نوع منها الذي يرجع في مشروعيته إلى ما دل على مشروعية نوعه إن كان على جهة العموم ، أو الإطلاق الشامل للفرد المشكوك فيه ، وليس في المقام ذلك ، بل ظاهر خير الحصر ، ونفرة الملائكة عند الرهان ، ولعن صاحبه خلافه ، وبذلك يظهر لك النظر فيما في المسالك فلا حظ وتأمل.

نعم أطنب في الحدائق في إضافة الطيور إلى الثلاثة مستدلا على ذلك بنصوص قاصرة السند ولا جابر ، على أن خبر الحمام منها محتمل لإرادة اللعب به ، بلا مسابقة ولا إرادة الخيل منه ، بل قيل : أنه المتعارف في لسان أهل المدينة ، بل لعله أيضا ظاهر أو محتمل الاستدلال عليه في خبره للنبوي المتضمن لإجراء الخيل ، بل ربما احتمل في النصوص الريش منها إرادة السهم ذي الريش ، وليس في عطفه على النصل في أحد الخبرين دلالة على التغاير بينهما ، بعد احتمال كونه من عطف المرادف ، أو الخاص على العام المؤيد بإسقاط العطف ، وإبدال النصل بالريش في الخبر الثاني المصرح فيه بحرمة الباقي ، كل ذلك مضافا إلى الإجماع المحكي مستفيضا على الحصر في الثلاثة.

٢١٨

وكيف كان فـ ( يدخل تحت النصل : السهم والنشاب والحراب ) والسكين والسيف والرمح ، قال في الصحاح : النصل نصل السهم والسيف والسكين والرمح ، وفيه أيضا : النشاب السهام ، فيكون عطفه عليه هنا من عطف التفسير وعن مبسوط الشيخ أنه باعتبار اللغات ، فيقال : سهم في لغة العرب ، ونشاب في لغة العجم ، وفي المسالك « إن حصر النصل فيما ذكر هو المعروف لغة ، وعرفا ، فلا يدخل فيه مطلق المحدد كالدنبوس وعصا المرافق إذا جعل في رأسها حديدة ونحو ذلك عملا بالأصل السابق » ولكن مع ذلك قال : « ويحتمل الجواز بالمحدد المذكور ، إما الادعاء دولها في الأصل ، أو لإفادتها فائدة النصل في الحرب ، حيلة على جواز الفعل نظرا إلى دخوله بذلك في النصل » وهو كما نرى ، ضرورة أنه لا وجه للاحتمال المزبور بعد الاعتراف بأن الحصر المزبور هو المعروف لغة وعرفا ، فإن ادعاء دخولها يكون غلطا حينئذ ، كدعوى لحوقها في الحكم وإن لم تدخل في الموضوع كما هو واضح.

ويتناول الخف : الإبل والفيلة اعتبارا باللفظ الشامل لذلك بلا خلاف ، أجده فيه بيننا ، بل ظاهر المسالك الإجماع عليه ، بل حكاه فيها عن أكثر العاملة أيضا نعم عن بعضهم المنع لأنه لا يحصل بها الكر والفر ، فلا معنى للمسابقة عليها ، وكأنه مال إليه بعض متأخري المتأخرين منا ، لكنه في غير محله ، إذ هو كالاجتهاد في مقابلة النص ، ودعوى انصرافه إلى الأول خاصة ممنوعة ، على أن كر كل حيوان وفراره بحسب حاله.

وكذا يدل الحافر على الفرس والحمار والبغل فيجوز المسابقة عليها كما في المسالك ، خلافا لبعض العامة فمنع منها في الأخيرين ، لأنهما لا يقاتل عليهما عملا غالبا ، ولا يصلحان للكر والفر ، ومال إليه بعض متأخري المتأخرين لذلك ، ولدعوى عدم انصراف الإطلاق إلى ما يشملهما ، لكنه في غير محله كما عرفت ، خصوصا بعد مقاتلة أمير المؤمنين عليه‌السلام على بغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وكيف كان فـ ( لا تجوز المسابقة ) المشتملة على عوض بالطيور ولا على القدم ولا بالسفن ولا بالمصارعة ولا بغير ذلك مما هو غير الثلاثة المزبورة بلا خلاف أجده‌

٢١٩

فيه بيننا ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى الحصر السابق ، ولعن الملائكة الراهن في غيرها وأنه قمار حرام.

نعم عن بعض العامة جواز المسابقة بالجميع ، لإمكان الاحتياج إلى الطيور في حمل الكتب ، واستعلام حال العدو ، وتعارف الحرب على الأقدام كتعارفه بالسفن في البحر ، والنبوي المروي (١) من طرقهم « أنه عليه‌السلام سابق عائشة بالقدم مرتين ، سبق في إحداهما ، وسبق في الآخر » ، و « أنه صارع ثلاث مرات (٢) كل مرة على شاة فصرح خصمه في الثلاث ، وأخذ منه ثلاث شياه ».

ولكن لم يثبت شي‌ء من ذلك عندنا ، بل الظاهر الثابت خلافه كما عرفت ، وأما جوازها بدون عوض فقد حكى فيه قولان : قيل : إن منشأهما فتح الباء في لفظ سبق المروي في خبر الحصر وسكونها ، فعلى الأول الذي هو المشهور لا يدل إلى على عدم مشروعية بذل العوض في غير الثلاثة ، ولا تعرض فيها لغير ذلك ، فيبقى على أصالة الجواز ، وعلى الثاني يدل على المنع مطلقا ، لكن يرجح الأول ـ مع شهرة روايتها كذلك أن احتمال الأمرين يرفع دلالتها على المنع مطلقا ، فيبقى أصالة الجواز خالية عن المعارض.

مضافا إلى إمكان ترتب غرض صحيح عليها ، يخرجها عن اللهو واللعب ، مع أنهما لم يثبت تحريمهما على وجه الإطلاق بحيث يشمل المجرد عن الآلات المعدة لمثل ذلك ، فيجوز حينئذ المسابقة بالأقدام ، ورمي الحجر ودفعه ، والمصارعة والآلات التي لا تشتمل على نصل والطيور ، ولعل من ذلك‌ مصارعة الحسنين عليهما‌السلام بمحضر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) ومكاتبتهما ، وغيرهما مما هو مروي عن الحسن عليه‌السلام أيضا ، ومن ذلك وغيره جزم به ثاني الشهيدين ومن تبعه ، لكن في الرياض « أن الأشهر خلافه ، بل ظاهر المهذب والمحقق الثاني وصريح المحكي عن التذكرة أن عليه إجماع الإمامية في جميع الأمور المذكورة ، ثم اختاره للإجماع المزبور المعتضد بالشهرة ، وبما دل على حرمة اللهو واللعب لكون المسابقة في المذكورات منها بلا تأمل.

__________________

(١) المغني لابن قدامه ج ١١ ص ١٢٧ ـ ١٢٩.

(٢) المغني لابن قدامه ج ١١ ص ١٢٧ ـ ١٢٩.

(٣) المستدرك ج ٢ ص ٥١٧.

٢٢٠