جواهر الكلام - ج ٢٨

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وخصوصها التي تقدمت الإشارة إليها ومقتضاها أن السكنى ترجع إلى المسكن بعد موت الساكن لأن ، ذلك هو مقتضى شرطه الذي شرطه.

لكن قال المصنف على الأشبه مشعرا بوجود الخلاف فيه بيننا ، ولم نجده كما اعترف به غيرنا أيضا ، بل في محكي المبسوط أنه الصحيح على مذهبنا ، بعد أن حكى في المسألة قولين الصحة والبطلان ، وأن القائلين بالصحة منهم من قال : إنها تكون للعمر مدة بقائه ولورثته بعده ، ومنهم من قال : إنه إذا مات رجعت إلى المعمر أو ورثته إن كان هو مات ، وظاهره ان هذه الأقوال للعامة خصوصا بعد أن كان المحكي عن أكثر أصحاب الشافعي استظهار البطلان من قوله في القديم ، إلا أبا إسحاق منهم ، وفإنه استظهر منه الصحة ، والرجوع بموته إلى المالك أو ورثته ، وأما القول بالصحة وأنها ترجع إلى ورثته الساكن ، كالهبة فهو قوله في الجديد ، فكان الذي ينبغي ترك قول المصنف « والأشبه » هذا كله مع الإطلاق.

وأما لو قال فإذا مت رجعت إلى فإنها ترجع قطعا بلا خلاف ولا إشكال بل عن المبسوط والخلاف إجماع الفرقة عليه ، مع زيادة وأخبارهم في الثاني ، وإن كان لا فرق بين ذلك والأول سوى التصريح وعدمه ، وهو ليس فارقا كما هو واضح ، والله العالم.

ولو قال : أعمرتك هذه الدار لك ولعقبك ، كان عمري فيجري عليها حكمها من لزومها ما دام العقب ، فإذا انقرضوا رجعت المنفعة إلى المالك.

وأما العين فهي على ملك المال ولم تنقل منه إلى المعمر بالفتح وكان كما لو لم يذكر العقب ، على الأشبه بأصول المذهب وقواعده والنصوص المتقدمة سابقا بل في ظاهر المحكي من التذكرة في مواضع وجامع المقاصد الإجماع عليه.

لكن عن المبسوط إذا قال : لك عمرك ولعقبك من بعدك ، فإنه جائز ، لما رواه جابر (١) « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أيما رجل أعمر عمري له ولعقبه ، فإنما هي للذي يعطاها لا ترجع للذي أعطاها ، فإنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث ».

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥١٥.

١٤١

قيل وظاهر احتجاجه بالحديث لفتواه عمله بمضمونه إذ لو لا ذلك لكان احتجاجه بالأخبار التي ذكرها هو في التهذيب كرواية أبي الصباح وغيرها أولى ، وفيه أنه يمكن إرادة إثبات أصل المشروعية الذي أفتى به بالخبر المزبور ، ومن ثم لم يذكروا خلافه ، بل عن بعض نسخ الكتاب أنها خالية عن لفظ الأشبه.

نعم يحكى عن فقه القرآن للراوندى الفتوى بمتن الخبر المذكور ، من دون نسبة إلى رواية ، ولا ريب في ضعفه ، ضرورة كون الخبر عاميا معرضا عنه منافيا لظاهر النصوص المزبورة ، بل ولأصول المذهب وقواعده ، إذا أريد النقل إليه وإن لم يقصده الناقل. والله العالم.

وإذا عين للسكنى مدة ، لزمت بالقبض لما عرفته سابقا ولا يجوز الرجوع فيها إلا بعد انقضائها ، وكذا لو جعلها عمر المالك لم ترجع السكنى وإن مات المعر بالفتح لجميع ما تقدم من أدلة اللزوم ، وحينئذ فـ ( ينتقل ما كان له إلى ورثته ) كغيرها من الحقوق والأملاك ، حتى يموت المالك بل عن الشيخ في الخلاف أن عليه إجماع الفرقة وأخبارهم ، معتضدا بما في المسالك وعن غيرها من نفي الخلاف فيه.

وإن كان قد يناقش بما عن المصنف في المحكي من نكت النهاية قال : « إن الذي يرجح في ذهني أنه لا تكون لعقبه السكنى إلا إذا جعلها له ولعقبه بعد ، ولو جعل السكنى له مدة حياة المالك ولم يتلفظ بجعلها العقبة ، ومات المجعول له بطلت السكنى ، لأنه ليس بتمليك ، بل هو أشبه شي‌ء بالإباحة ، فلا يتعدى المجعول له وما ذكره في النهاية مطالب بدليله ».

وفيه : إن الدليل ما عرفت من الإجماع المزبور وغيره ، وبل خبر محمد بن قيس (١) ، في أحد احتماليه قضى في العمرى أنها جائزة لمن أعمرها ، فمن أعمر شيئا ما دام حيا فإنه لورثته إذا توفي.

لكن الإنصاف عدم خلو كلامه من قوة بناء على ما تسمعه من ظهور إطلاق السكنى في سكناه خاصة ، ومن يتبعه في العادة ، وأنه ليس له إسكان غيره ، ولا إجارته ، اللهم إلا أن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب أحكام السكنى الحديث ـ ٢.

١٤٢

يقال : إن ذلك لا ينافي كون السكنى حقا له على وجه الصلح عنه للمالك ، وحينئذ يتجه انتقاله إلى الوارث ، وإن لم نجوز له سكناه ، ولكن يكون الحق له على وجه له الصلح عنه من المالك. فيكون إسقاطا ، إذ لا تلازم بين تعذر السكنى بموت أو حبس مثلا وبقاء الحق المزبور ، وبهذا يجمع بين كلامهم هنا وكلامهم الآتي ، أو يحمل هذا على ما إذا كانت العمرى على وجه تنتقل إلى الوارث باعتبار التصريح فيها على أنها له يفعل فيها ما شاء ، وكلامهم الآتي إنما هو في الإطلاق المنزل على إرادة الخصوصية الذي يقوى فيه ما سمعته من المصنف فلا حظ وتأمل جيدا.

ولو قرنها بموت المعر بالفتح ثم مات المالك قبله ، لم يكن لورثته إزعاجه ، لقاعدة اللزوم وغيرها مما عرفته سابقا ، بلا خلاف معتد به أجده فيه ، سوى ما يحكى عن أبي علي من التفصيل بأنه إن كانت قيمة الدار يحيط بها ثلث الميت لم يكن لهم إخراجه ، وإن كان ينقص عنها كان ذلك لهم ، وهو مع شذوذه مخالف للقواعد والضوابط ، فضلا عن الأدلة السابقة.

ولم نعثر له على شاهد سوى‌ خبر خالد بن نافع البجلي (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألته عن رجل جعل لرجل سكنى دار له مدة حياته ، يعنى صاحب الدار ، فمات الذي جعل السكنى ، وبقي الذي جعل له السكنى ، أرأيت إن أراد الورثة أن يخرجوه ألهم ذلك؟ فقال : أرى أن يقوم الدار بقيمة عادلة ، وينظر إلى ثلث الميت ، فإن كان في ثلثه ما يحيط بثمن الدار ، فليس للورثة أن يخرجوه ، وإن كان الثلث لا يفي بثمن الدار فلهم أن يخرجوه ، قيل له : أرأيت إن مات الرجل الذي جعل له السكنى بعد موت صاحب الدار تكون السكنى لورثة الذي جعلت له السكنى؟ قال : لا ».

وهو مع ضعف سنده واضطراب متنه حتى قال الشيخ : ما تضمنه الخبر المزبور من قوله « يعنى صاحب الدار » غلط من الراوي ووهم منه في التأويل ، لأن الاحكام التي ذكرها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب أحكام السكنى الحديث ـ ١ ـ ٢.

١٤٣

بعد ذلك إنما تصح إذا كان قد جعل السكنى حياة من جعلت له السكنى فحينئذ يقوم وينظر باعتبار الثلث وزيادته ونقصانه ، ولو كان جعل له مده حياته يعنى صاحب الدار لكان حين مات بطلت السكنى ، ولم يحتج معه إلى تقويمه ، واعتباره بالثلث وربما استظهر من هذا الكلام موافقة الشيخ لابن الجنيد.

وفيه : أنه يمكن إرادته بيان بطلان هذا التأويل بعدم جريان الأحكام المزبورة عليه ، أما إذا جعل عمر الساكن والفرض حياته ، وموت المالك فيمكن جريان الحكم المزبور ، بعد إرادة منفعة الدار من الدار فيه ، وإرادة تسلطهم على الإخراج بالنقصان لثبوت حق لهم في الجملة ، لا البطلان أصلا ، ولو بحمله على الوصية أو على التنجيز في مرض الموت ، أو على ما يوافق كلام الإسكافي أو غير ذلك.

ومن هنا قال غير واحد : إن في متن الخبر المزبور اضطرابا وخللا ، فكيف يخرج بمثله عن مقتضى الأدلة السابقة. فمن الغريب بعد ذلك كله وسوسة الخراساني في الكفاية في المسألة بعد أن لم نجد موافقا للإسكافي من زمنه إلى زمنه إلا ما سمعته من الشيخ.

هذا كله إذا مات المالك والمعمر حي أما إذا مات هو والفرض أن الغاية عمره لم يكن لوارثه شي‌ء ورجعت إلى المالك بلا خلاف ولا إشكال والله العالم.

ثم لا يخفى عليك أن مورد النصوص في العمرى عمر أحدهما وعمر عقب المعر بالفتح لكن يقوى في النظر التعدي إلى غير ذلك من عمر الأجنبي كما عن الشهيد الفتوى به في بعض فوائده ، ونفي عنه البأس في المسالك وبعض من تأخر عنها ، لعموم « الأمر بالوفاء ، بالعقود (١) » ، « والمؤمنون » (٢) وخصوص مضمر حمران (٣) وغيره مما تقدم سابقا ، ولصدق اسم العمرى في الجملة ، المدلول على شرعيتها في بعض الاخبار من غير تقييد بعمر أحدهما ، كما في المسالك ، بل مقتضى ذلك التعدي إلى غير ذلك من عمر حيوان بل جماد ، ولو نفس العين‌

__________________

(١) سورة المائدة الآية ـ ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ـ ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب السكنى الحديث ـ ١.

١٤٤

التي هي مورد العمرى ، وإن كان الأحوط عدمه ، وأحوط منه الاقتصار على ما في خصوص النصوص.

وعلى كل حال فيفرع على التعدي المزبور حكم ما لو مات أحدهما في حياة من علقت بعمرة ، فإن كان المالك فالحكم كما لو مات في حياة المعر الذي علقت العمرى بموته وقد عرفت سابقا أنه يبقى على استحقاقه ، وإن كان هو المعر ففي المسالك ، وغيرها رجعت العمرى إلى المالك ، كما لو مات من علقت على عمره.

وفيه : أن المتجه بناء على ما ذكرناه عوده إلى ورثة المعر في الأول نحو ما سمعته فيما لو مات بحياته المالك الذي كان عمره غاية العمرى ، إلا على ما سمعته من المحقق في النكت كما تقدم الكلام فيه هنا ، وفيها أيضا أنه أولى ما في النصوص جواز جعل العمرى لبعض معين من العقب ، ومثله ما لو جعله له مدة عمره ولعقبه مدة مخصوصة ، والعقد حينئذ مركب من العمرى والرقبى ، وفيه ما لا يخفى مع فرض اتحاد إيجاب العقد ، وإلا لجاز اجتماع السكنى المطلقة والعمرى والرقبى في عقد واحد ، وإن كان متعلق كل منهما مختلفا ، وحينئذ يكون العقد جائزا لازما ، وهو كما ترى.

نعم قد يقال : إن مقتضى العمومات خصوصا خبر حمران جريان كثير من أحكام الوقف فيما ، من التشريك والترتيب وتبعية المعدوم للموجود ، من غير فرق بين عقبه وغيره ، والدوام والانقطاع وغير ذلك ، بل يجوز فيها كل شرط سائغ في نفسه ، نحو ما سمعته في الوقف أيضا ، ولعل ترك الأصحاب التعرض لأكثر من ذلك اتكالا على ذكرهم له فيه ، نحو اتكالهم في ذكر جملة من الأحكام على العمرى مثلا ، أو السكنى أو الرقبى مثلا على اتحاد الجميع في ذلك ، خصوصا بعد ما سمعت من‌ المرسل عن علي عليه‌السلام « العمرى والرقبى سواء » وفي محكي المبسوط لا فرق بينهما عندنا ، والمهذب وما يفرق به بعض الناس ليس مذهبا لنا ، إلى غير ذلك مما تقدم مما هو محمول على إرادة التساوي في الأحكام ، حتى إذا كان مورد العمرى والرقبى غير المسكن ، فضلا عنه.

١٤٥

ولو أطلق المدة ولم يعينها كان صحيحا بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، لإطلاق الأدلة وعمومها ، ولكن له الرجوع متى شاء لحسن الحلبي أو صحيحه (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وخبر أحمد بن عمر الحلبي (٢) عن أبيه عنه أيضا المتقدمين سابقا ، لكن ظاهر الإخراج فيهما كما هو المحكي من تعبير الأكثر لا ينافي لزوم العقد الذي هو مقتضى ما عرفته سابقا من أدلته الشاملة لجميع الأفراد فيما يتحقق به مسمى السكنى ، كما عن العلامة في التذكرة التصريح به ، ووافقه عليه أول الشهيدين وثاني المحققين فيما حكى عنهما ، وما في المسالك من المناقشة في ذلك ـ بأن الرواية مخصصة للآية ، لدلالتها على جوازه مطلقا ، كما خصصت الآية بسائر العقود الجائزة بدليل من خارج » ـ يدفعها ما سمعت من عدم اقتضاء الرواية أزيد مما عرفت ، والأمر سهل هذا كله في السكنى المطلقة.

أما العمرى والرقبى فالظاهر بطلانهما مع الإطلاق ، كما قطع به في الدروس في الأول. ولم يتعرض للرقبى ، ولعله لاتحادها معها في الحكم ، واحتمل في المسالك « الصحة ، إقامة إلها مقام السكنى ، لاشتراكهما في كثير من الأحكام والمعاني ، وتناسبهما على الوجه الذي قررناه سابقا ، فيكون كاستعمال لفظ السلم في مطلق البيع ، وكذا القول : في الرقبى ، وأولى بالصحة هنا ، لأن إطلاقها باعتبار رقبة الملك ، أو ارتقاب المدة التي يرتضيها المالك ممكنة هنا بطريق الحقيقة ، فاستعمالها في السكنى يكون كاستعمال أحد المرادفين مكان الآخر ، وإن اختلفا من جهة أخرى وهذا قوي ».

وفيه : أن الكلام ليس في استعمال لفظ العمرى والرقبى والسكنى ، بل هو في مشروعية إطلاق عقديهما على نحو عقد السكنى ، ولو في غير الدار ، ثم حكى عن التحرير القطع بأنه مع إطلاق العمرى والرقبى يصح ، ويكون للمالك إخراجه متى شاء كالسكنى قال : وهو في الرقبى حسن ، وفتوى الدروس في العمرى أحسن.

وفيه ما لا يخفى ، إذ يمكن أن يكون بناء ما في السرائر على مساواة العمرى والرقبى في الحكم المزبور للسكنى ، ولو لا مكان دعوى تحققهما بعمر من الأعمار ، وبمضي زمان من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ و ٢ ـ من أبواب السكنى الحديث ـ ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ و ٢ ـ من أبواب السكنى الحديث ـ ٢.

١٤٦

الأزمنة لا لاستعمال لفظيهما فيها ، حتى يفرق بينهما بالحقيقة والمجاز.

وأغرب من ذلك قوله ويتفرع على ذلك ما لو أعمره مدة معينة ، فعلى جواز إطلاق العمرى لا شبهة في الجواز هنا ، لانضباطها بالمدة ، فهي أولى من الإطلاق ، وعلى المنع يحتمله هنا ، لاختصاصها بالعمر ، ولم يحصل هنا ، والجواز هنا ، وإن منع على الإطلاق ، والفرق أنها مع الإطلاق محمولة على أحدهما ، أو عمر مطلق ولم يعين ، فبطلت للجهالة ، بخلاف ما لو عين المدة ، فإنه صريح في إقامتها مقام السكنى أو الرقبى فيصح كما صح اقامة السلم مقام غيره من أفراد البيع الحال ، مع التصريح بإرادة الحلول إقامة للنوع مقام الجنس ، وأقل مراتبه أنه مجاز مشهور ، وليس بجيد ، لأن المعتبر في العقود اللازمة الألفاظ الحقيقة الصريحة ، وهو منفي هنا ، إذ هو كما ترى.

والتحقيقي عدم مشروعية الجميع ، للأصل السالم عن معارضة الأدلة الظاهرة في غير الفرض ، فلا يصحان مع الإطلاق ، ولا استعمال العمرى في الرقبى ولا العكس لما عرفت من أنها عقود متمايزة ، وأما استعمال لفظ كل منهما في عقد الآخر فهو مبنى على ما حررنا في محله من جواز العقد اللازم بكل لفظ صالح للدلالة ، ولو على جهة المجازية كما هو الأقوى ، أو يعتبر لفظ مخصوص ، وهذا غير ما نحن فيه كما هو واضح ، والله العالم.

وكيف كان فلا يتوهم اختصاص مورد العمرى والرقبى بمورد السكنى ، بل هو أعم إذ كل ما صح وقفه ، صح إعماره من العقار والحيوان والأثاث وغير ذلك كما صرح به كثير من الأصحاب ، بل لا أجد فيه خلافا بل عن ظاهر التذكرة الإجماع عليه ، للعمومات وخصوصا خبر محمد بن قيس (١) المتقدم سابقا ، بل‌ في الصحيح محمد بن مسلم (٢) « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل جعل لذات محرم جاريته حياتها ، قال : هي لها على النحو الذي قال ».

وخبر يعقوب بن شعيب (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألته عن الرجل يكون له الخادمة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب أحكام السكنى الحديث ـ ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب أحكام السكنى الحديث ـ ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب أحكام السكنى الحديث ـ ٢.

١٤٧

تخدمه فيقول هي لفلان تخدمه ما عاش ، فإذا مات فهي حرة فتأبق الأمة قبل أن يموت الرجل بخمس سنين أو ستة ثم يجدها ورثته ، ألهم أن يستخدموها بمقدار ما أبقت؟ قال : إذا مات الرجل فقد أعتقت » وهما في الرقبى ، فكان على المصنف أن يذكرها مع العمرى ، إلا أنك قد عرفت أن ذلك ونحوه لمعلومية تساويهما في الحكم.

وعلى كل حال فلا يبطل عقد العمري بالبيع وغيره من نواقل العين الذي مورده غير موردها كما لا تبطل بالإجارة بلا خلاف أجده فيه ، بل يمكن دعوى تحصيل الإجماع عليه ، كما عن ظاهر التنقيح أو صريحه ، مضافا إلى الأصل وغيره من أدلة اللزوم المتقدمة ، وخصوص صحيح الحسين بن نعيم المتقدم سابقا والظاهر أن الرقبى أيضا كذلك ، لاتحاد الدليل في الجميع ، بل قيل أنها أولى ، بل وكذا السكنى اللازمة ، أما السكنى المطلقة والعمرى والرقبى بناء على مشروعية الإطلاق فيهما فالذي صرح غير واحد بل لا أجد خلافا بينهم فيه انفساخها ، كما هو شأن العقد الجائز إذا طرأ عليه لازم ينافيه.

وربما يحمل على ذلك ما في الدروس « لو باع المالك العين كان فسخا للسكنى ، لا للعمري والرقبى » بناء منه على عدم جريان الإطلاق فيهما ، وقد يناقش بعدم منافاة نقل العين لنقل المنفعة ، وإن كان على وجه الجواز حتى يكون ذلك فسخا شرعا وإن لم يقصده به.

نعم لو قصد به الفسخ ولو بقصد التسليط على العين ومنافعها في وجه التجه حينئذ ذلك.

وكيف كان فالمراد أن نقل العين من حيث كونه كذلك لا يقتضي فسخ العقد اللازم الذي مورده المنفعة ، بل يجب أن يوفى المعمر مثلا ما شرط له.

نعم في صحة أصل البيع من بين النواقل وبطلانه خلاف ، فالأكثر على الصحة ، للعموم وخصوص الصحيح المزبور ، والجهالة بوقت الانتفاع لا ينافيه ، لأنها ليس موردا له ، خصوصا مع عدم انحصار المنفعة في ذلك ، لجواز التصرفات التي لا تنافيها ، واستقرب الفاضل في محكي التحرير البطلان ، بل عن إيضاح النافع القطع به واستشكل فيه في القواعد‌

١٤٨

ومحكي المختلف وموضع من التذكرة والإيضاح والتنقيح ، وجزم بالصحة في محكي الإرشاد ، فاختلف كلامه في كتبه ، ولعله ذلك مما عرفت ، ومن أن الغرض المقصود من البيع هو المنفعة ، ولهذا لا يجوز بيع ما لا منفعة فيه ، والفرض أن زمان استحقاق المنفعة مجهول ، فيتجهل المبيع ، ولذا منع الأصحاب من بيع المسكن الذي تعتد فيه المطلقة بالإقراء لجهالة وقت الانتفاع به ، ومن المعلوم أن المقام أولى منه ، لإمكان استثناء الزوج مدة يقطع بعدم زيادة العدة عليها ، بخلاف المتنازع.

إلا أن ذلك جميعه كما ترى ، ضرورة تحقق الانتفاع بالمبيع ، وإنما تخلف منه نوع خاص ، وذلك لا يقدح ، كما أن الجهل بوقت الانتفاع ليس جهلا بعين المبيع ، إذ هو ليس من أوصافه فما دل على اعتبار المعلومية في المبيع لا ينافيه ، مثل هذا الجهل الذي لم يثبت مانعيته من الصحة ، ومنع الأصحاب من بيع مسكن المعتدة مبنى على ما منعوه هنا لاشتراكهما في المعنى ، ويلزم القائل بالصحة هنا القول به.

ثم إن لم يكن دليل يخصه ، مضافا إلى النص المعتبر هنا بالجواز صريحا ، الذي يكون القول بالبطلان معه كالاجتهاد في مقابلته ، وهو صريح في الجواز ، بل لعله ظاهر فيه حتى لو كانت العمرى في العقب الذي لا عادة بانتهائه ، ومن هنا أمكن الفرق بينهما بذلك ، إن لم ندع اتحاد الطريق ، أو يقال بخروج ذلك بدليله إن كان والأولوية التي ادعوها في مسكن المعتدة باعتبار إمكان استثناء قدر يقطع بانقضاء العدة قبله.

ففي المسالك « إن مثله آت في العمرى ، نظرا إلى العمر الطبيعي الذي لا يعيش المعمر بعده قطعا أو عادة ، ومن ثم يحكم بموت المفقود ، وحينئذ يقسم ماله وتعتد زوجته عدة الوفاة ، اتفاقا ».

وإن كان قد يناقش في أصل ذكر الأولوية المزبورة ، بأن المنع إنما هو مع فرض استثناء قدر العدة المجهول الدائر بين كونه ستة وعشرين يوما ولحظتين ، أو خمسة عشرا شهرا أو سنة ، أو تسعة أشهر ، لا ما إذا فرض استثناء الزائد ، ضرورة القطع بجواز بيع العين المستأجرة مدة معلومة.

١٤٩

أنه قد يناقش في النقض بذلك ، وبأن العمرى قد لا يمكن فيها ذلك ، كما إذا كانت مقرونة بعمر العقب أيضا ، فلا ريب في أن ذلك كله خروج عن وجه المسألة الذي هو بيع العين المستحق منفعتها زمانا مجهولا ، باعتبار عود مثل هذه الجهالة للبيع وعدمه ، ولا ريب في أن المتجه الصحة ، إلا أن تكون المعاملة سفهية.

نعم يكون له الخيار مع الجهل بين الصبر مجانا إلى انقضاء المدة وبين الفسخ لقاعدة الضرر ، من غير فرق في ذلك بين بيعه على المعمر وغيره ، وإن قال في المسالك « إنه ربما فرق بينهما ، فيصح في الأول ، دون الثاني ، نظرا إلى استحقاق المعمر المنفعة ابتداء واستمرار استحقاقه فتقل الجهالة ، بخلافه غيره ».

وفيه أن المعتبر من العلم بالمنفعة المطلوبة في البيع إن كان مما ينافيه هذا الفائت منها بطل مطلقا ، وإلا صح مطلقا ، لاختلافه الاستحقاقين ، فلا يبني أحدهما على الآخر ، كما هو واضح.

« بقي شي‌ء » وهو أن المعمر لو كان هو المشتري ففي المسالك جاز له بيع العين بجميع منافعها ، لأنها بأجمعها مملوكة له ، ولا مانع من نقلها إلى غيره بوجه ، وإن كان قبل الشراء ما كان يمكنه بيع هذه المنفعة ، فإن المانع لم يكن الجهالة ، بل عدم جواز أفراد المنفعة بالبيع ، وليس ببعيد جواز الصلح عليها ، لاحتماله من الجهالة ما لا يحتمله البيع ، وصحته على العين والمنفعة ، فعلى هذا لو كان مشترى العين غيره وجوزناه جاز له أن يصلح المشتري على تلك المنفعة المستحقة له مدة عمره ، بمال معلوم ، ويصير المشتري حينئذ مالكا للجميع ، كما لو كان هو المعمر ».

وفيه أولا : أن البيع لا يقع إلا على العين والمنفعة تكون تابعة للعين باعتبار تبعية النماء للأعيان في الملك ، فمع فرض كون المنفعة مستحقة للمعمر بعقد العمرى لا يصح تناول عقد البيع لها ، ضرورة عدم تبعيتها للعين المملوكة بسبب الملك كما هو واضح ، وكذا في العين المستأجرة ونحوها ، وثانيا أنه لا يوافق ما سيأتي من عدم جواز إسكان الساكن غيره ، ولا إجارته للمسكن ، اللهم إلا أن يحمل على عمري مصرح فيها بجواز النقل للغير ، والأمر سهل.

١٥٠

وكيف كان فـ ( إطلاق السكنى يقتضي أن يسكن بنفسه ) هو وأهله وأولاده ، ولا يجوز أن يسكن غيرهم إلا أن يشترط ذلك كما صرح به جماعة ، بل في جامع المقاصد نسبته إلى الأكثر ، بل في المسالك وغيرها نسبته إلى المشهور والظاهر إرادة ما في النافع وغيره من أن إطلاقها يقتضي أن يسكن بنفسه ، ومن جرت عادته بإسكانه معه ، ولذا نسبه في التنقيح ، إلى الشيخ ، والقاضي والمشهور ، قال : وعليه الفتوى.

لكن قد يظهر من بعض المتأخرين الخلاف بينهم ، في ذلك ، حتى أنه في الكفاية قال : يلحق بأهله وولده من جرت العادة بإسكانهم كالعبيد ، والإماء والخدم والمرضعة والضيف وغيرهم ، وفي غيرها عن جماعة أيضا إلحاق الدابة إذا كان الموضوع معدا لمثلها ، وجواز وضع ما جرت العادة بوضعه من الأمتعة والغلة.

وفي التنقيح يجوز من الغلة قدر الحاجة ، والظاهر عدم الخلاف بينهم في ذلك ومراد الجميع أن المدار على ما يفهم عرفا من مثل الإطلاق المزبور الذي هو كغيره من الخطابات العرفية ، وليس هو إلا سكناه نفسه وتوابعها.

وحينئذ فـ ( لا يجوز له أن يؤجر السكنى لغيره كما لا يجوز أن يسكن غيره بعارية ونحوها ، ضرورة اقتضاء الإجارة ثبوت السلطنة على موردها ، والفرض أن التمليك له قد وقع على وجه خاص.

لكن في السرائر : « الذي يقتضيه أصول المذهب أن له جميع ذلك له إجارته وانتقاله وإسكان غيره معه سوى ولده وامرأته ، سواء اذن له في ذلك أم لا ، لأن منفعة هذه الدار استحقها ، وصارت مالا من أمواله وحقا من حقوقه فله استيفاؤها كيف شاء ، بنفسه وغيره ، وما أورده شيخنا في نهايته فلا شك أنه خبر واحد قليلا ما يورده أصحابنا في كتبهم ، فشيخنا المفيد لم يورده في مقنعته ، ولا السيد المرتضى ولا المحصلون من أصحابنا ».

قلت : لم نقف فيما وصل إلينا من النصوص على الخبر الذي ذكره كما اعترف به في‌

١٥١

الحدائق ، اللهم إلا أن يقال : أنه‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبري أبي الصباح والحلبي (١) المتقدمين « ليس لهم أن يبيعوا ولا أن يورثوا » وزاد في أولهما‌ « ثم ترجع الدار على صاحبها » على معنى إرادة عدم نقل المنفعة لهم وعدم إرثها لا العين المعلوم فيها ذلك ، بل ربما في جعل ذلك جوابا للشرط في أحدهما إشعار بذلك ، ولا ينافيه نفي الإرث ، إذ هو كذلك في مفروض البحث الذي هو سكناه وسكنى عقبه مدة عمر كل واحد منهم ، ومع فرض موت أحدهما تنتهي السكنى ، فلا إرث.

ولو لا ذلك لاتجه كلام ابن إدريس ، ضرورة اقتضاء عقد السكنى وأختيها ملك المنفعة ، التي هي السكنى ، والناس مسلطون على أموالهم وكون مورد العقد سكناه لا يقتضي اختصاص تمليكه بمباشرته ، وإلا لاقتضى ذلك في الإجارة للسكنى ، أو للركوب أو نحو ذلك مما كان المستأجر فيه موردا لا شرطا ، ودعوى ظهور عقد السكنى في ذلك ممنوعة كل المنع ، وأولى بذلك عقد العمرى والرقبى ، بل قد يقال : إن منافع الأعيان لا تتشخص بفعل المستوفي لها ، ضرورة عدم كون فعله حينئذ من منافعها المملوكة له ، وإنما الفعل مملوك الفاعلة.

نعم قد يكون ذلك بطريق الاشتراط ، كما في الإجارة ، بل لو قلنا بالتشخيص المزبور لم يتجه الإرث في مورده ، بل لم يتجه ذلك ملك الساكن الأجرة بإذن المسكن لان سكنى الغير حينئذ ليس مما انتقل إليه فلا يملك أجرته ، فليس حينئذ إلا دعوى أن الإيجاب هنا قد تحمل تمليك السكنى ، واشتراط كون الساكن هو المستوفي ، وهي كما ترى لا يساعده عليها عرف ، ولا شرع ، إذا ليس الإيجاب هنا إلا كغيره مما يراد منه نقل مورده إلى المخاطب ، وليس هو هنا إلا منفعة الدار لا عمل الساكن ، أى سكونه الذي هو ليس من منافع الدار.

وبذلك يظهر لك وجه النظر الذي ذكره في المسالك ، فإنه بعد أن حكى عن ابن إدريس ما سمعته ، والجواب عنه بمنع ملكه لها مطلقا بل على الوجه المخصوص فلا يتناوله غيره قال :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ كم أبواب أحكام السكنى الحديث ـ ١ ـ ٢.

١٥٢

« وفيه نظر » بل ويظهر النظر في أصل استدلال المشهور ، بأن الأصل عصمة مال الغير من التصرف بغير إذنه ، خرج ذلك ما أذن فيه ، وهو سكناه بنفسه ، ومن في معناه ، فيبقى الباقي على أصل المنع ، ضرورة ابتناء ذلك على أن المفهوم من العاقد ذلك ، وحينئذ يكون النزاع مع ابن إدريس فيما يفهم منه عرفا ، فإن كان كما ذكره الشيخ وافقه ابن إدريس عليه ، وإن كان العكس انعكس الحال ، وقد سمعت من ابن إدريس أن مبنى منع الشيخ الخبر الذي أورده لا الفهم من عبارة العاقد ، وبالجملة إن كلمات هؤلاء المتأخرين في غاية التشويش ، لا يمكن الجمع بين تعليلهم المزبور وقولهم أن الأجرة للساكن إذا أذن المالك وقولهم بإرث حق السكنى فيما إذا كان الغاية عمر المالك ، وبين قولهم أنه ملك على وجه خاص.

نعم يتم ذلك بناء على أن هذه الخصوصية شرعية على نحو خصوصية الموقوف عليه ملك العين الموقوفة ، وخصوصية ملك أم الولد ، وغير ذلك مما ثبت من الشرع ، ويبقى المطالبة في دليل هذه الخصوصية ، وليس فيما نجد إلا الخبران المزبوران.

ولكن يشكل الخروج بهما عن مقتضى القواعد ، مع عدم استدلال أحد من الأصحاب بهما على ذلك ، اللهم إلا أن يقال ، بكفاية عمل المشهور على ما يوافقهما ولا ريب في أنه أحوط.

وإذا حبس فرسه مثلا في سبيل الله تعالى شأنه أو غلامه في خدمة البيت أو المسجد لزم ذلك. ولم يجز تغييره ما دامت العين باقية بلا خلاف أجده فيه ، كما اعترف به الحلي وغيره ، قال في المحكي من نوادر قضاء سرائره : « إذا كان الحبس على مواضع قرب العبادات مثل الكعبة والمشاهد والمساجد ، فلا يعاد إلى الأملاك ، ولا تنفذ فيه المواريث ، لأنه بحبسه على هذه المواضع ، خرج عن ملكه عند أصحابنا بلا خلاف ، مضافا إلى ما تقدم من النصوص في الصدقة (١) المتضمنة لعدم جواز الرجوع في كل ما يعطى لله تعالى شأنه ، بل صريح ما سمعته من الحلي نفي الخلاف في الخروج عن الملك ، فضلا عن اللزوم ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام الوقوف.

١٥٣

لكن في المسالك ظاهر العبارة أنه لا يخرج عن ملك المالك ، حيث حكم بلزومه ، وعدم جواز تغييره ما دامت العين باقية ».

وفيه منع الظهور المزبور ، ولعل السيرة قديما وحديثنا في فرش المساجد والمشاهد المشرفة بناء على أنه على ذلك ، بل لعل قصد الحابس ذلك أيضا ، بل ربما كان ثوب الكعبة الذي قد تضمنت النصوص بجواز أخذ القطع منه انتهاء عمره للتبرك من أيدي الخدمة منه أيضا.

بل قد يقال : ان مقتضى السيرة الاكتفاء فيه بالفعل بهذا العنوان فلا يحتاج صحته بل ولا لزومه إلى لفظ ، فضلا عن أن يكون عقدا محتاجا إلى القبول من الناظر ، أو الحاكم ، لكن عن التحرير واللمعة وصيغ العقود والمسالك والروضة والتنقيح والتذكرة التصريح بكون الحبس عقدا بل قيل : أنه ظاهر الباقين ، ويمكن إرادتهم غير المفروض ، إذ قد عرفت فتوى المشهور في الوقف ، بعدم الاحتياج إلى القبول ، فضلا عن الحبس ، وإن كان قد سمعت المناقشة فيه منا ، وأما القبض فعن التذكرة ، واللمعة والمسالك والروضة اعتباره في الحبس.

لكن قد سمعت سابقا في الوقف وفي الصدقة أن أقصى ما تقتضيه الأدلة اعتباره في اللزوم ، دون الصحة ، فضلا عنه ، فإنه لا دليل على اعتباره فيه ، اللهم الا أن يستفاد من فحوى ما دل عليه في الوقف المنقطع ، ومما دل عليه في الصدقة فيما كان منهما متمما بعدم القول بالفصل.

نعم الظاهر عدم اعتبار نية القربة في صحته ، لما عرفته سابقا في الوقف ، وفي السكنى من أصالة عدم الاشتراط وغيرها ، خلافا للمحكي عن المقنعة ، والنهاية والوسيلة والتحرير وجامع المقاصد والتذكرة ، ثم إن الظاهر أنه كالوقف بالنسبة إلى الموقوف والموقوف عليه كما عن المقنعة والنهاية والمهذب والوسيلة وجامع الشرائع والتحرير وغيره من كتب المتأخرين ، بل لعل حكمهم في الوقف المنقطع الآخر بأنه حبس ظاهر أو صريح في ذلك ، وربما كان هذا هو السبب في عدم استقصائهم الكلام في عقده ، وشرطه ومورده ، والمحبوس عليه ، ونحو ذلك.

١٥٤

بل لعل النصوص أيضا كذلك ، فإنا لم نعثر فيه إلا على‌ صحيح ابن أذينة (١) قال :

« كنت شاهدا لابن أبي ليلى فقضى لرجل جعل لبعض قرابته غلة داره ولم يوقت وقتا فمات الرجل فحضر ورثته عند ابن أبي ليلى ، وحضر قرابته التي جعل لها غلة الدار فقال ابن أبي ليلى أرى أن أدعها على ما تركها صاحبها ، فقال له : محمد بن مسلم الثقفي أما إن علي بن أبي طالب عليه‌السلام قد قضى في هذا المسجد بخلاف ما قضيت ، فقال : وعلمك؟ فقال سمعت أبا جعفر محمد بن على عليه‌السلام يقول قضى : علي بن أبي طالب عليه‌السلام برد الحبس وإنفاذ المواريث ، فقال ابن أبي ليلى : هذا عندك في كتاب؟ قال : نعم قال : فأرسل إليه وائتني به ، فقال محمد بن مسلم : على أن لا تنظر في الكتاب إلا في ذلك الحديث ، فقال : لك ذلك ، فأحضر الكتاب فأراه الحديث عن أبي جعفر عليه‌السلام ، فرد قضيته ».

وخبر عبد الرحمن الجعفي (٢) قال : « كنت اختلف إلى ابن أبي ليلى في مواريث لنا ليقسمها وكان فيها حبيس ، فكان يدافعني فلما طال شكوته إلى أبي عبد الله عليه‌السلام فقال : أو ما علم أن رسول الله أمر برد الحبيس وإنفاذ المواريث ، قال : فأتيته ففعل مثل ما كان يفعل ، فقلت إني شكوتك إلى جعفر بن محمد عليه‌السلام فقال لي كيت وكيت قال : فحلفني ابن أبي ليلى أنه قد قال ذلك؟ فحلفت له ، فقضى لي بذلك. »

والمكاتبة عن ابن معبد « قال : كتب إليه محمد بن أحمد بن إبراهيم سنة ثلاث وثلاثين ومائتين يسأله عن رجل مات وخلف امرأة وبنين وبنات وخلف لهم غلاما أوقفه عليهم عشر سنين ثم هو حر من بعد عشر سنين فهل يجوز لهؤلاء الورثة بيع هذا الغلام ، وهم مضطرون إذا كان على ما وصفته لك جعلني الله فداك؟ فكتب عليه‌السلام لا يبيعوه إلى ميقات شرطه إلا أن يكونوا مضطرين إلى ذلك فهو جائز لهم » بناء على إرادة الحبس من الوقف فيه.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام السكنى الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام السكنى الحديث ـ ٢.

١٥٥

وكذا‌ خبر محمد بن مسلم (١) « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل جعل لذات محرم جاريته حياتها؟ قال : هي لها على النحو الذي قال » وخبر يعقوب بن شعيب (٢) عن أبي عبد الله « قال : سألته عن الرجل له الخادم تخدمه فيقول : هي لفلان تخدمه ما عاش ، فإذا مات فهي حرة فتأبق الأمة قبل أن يموت الرجل بخمس سنين أو ستة ثم يجدها ورثته ، ألهم أن يستخدموها قدر ما أبقت؟ قال : إذا مات الرجل فقد عتقت ».

وعلى كل حال فمما سمعت يظهر الوجه فيما ذكره المصنف وغيره بقوله أما لو حبس شيئا على رجل مثلا ولم يعين وقتا ، ثم مات الحابس كان ميراثا كما دل عليه الخبران الأولان بل لا أجد فيه خلافا ، بل الإجماع بقسميه عليه ، وكذا لو عين مدة ولو عمر أحد هما وانقضت كان ميراثا لورثة الحابس بلا خلاف ، ولا إشكال في ذلك ، ولا في لزومه إليها ، لعموم « ( أَوْفُوا ) (٣) » و‌ « المؤمنون » وخبر محمد بن مسلم (٤) وسابقه ، بناء على أنهما من الحبس ولا ينافيه إطلاق الخبرين المزبورين المحمولين على الحبس المطلق ، خصوصا وفي سؤال أحدهما ذلك ، على أن التعارض بينهما وبين ما ذكرنا من وجه ، ولا ريب في أن الترجيح لذلك ، ولو لفتوى الأصحاب.

إنما الكلام في لزوم الأول إلى موت الحابس ، وجوازه ففي القواعد إن لم يعين كان له الرجوع متى شاء ، ومال إليه بعض من تأخر عنه ، ولعله لكونه حينئذ كالسكنى المطلقة ، بناء على أن جوازها للقاعدة باعتبار عدم اقتضاء عقدها إلا الطبيعة التي تتحقق بالمسمى.

وفيه أن ذلك لما سمعته من النص ، وإلا فمقتضى العقد اللزوم ، وصيرورة السكنى مطلقا ملكا له ، إذ ليست هي إلا شيئا متحدا ، والتعدد إنما يكون في استيفائها ، وقد ملكت بالعقد ، إلا أن النص المزبور كشف عن أن الحكم فيها شرعا ذلك ، فلا يقاس عليها الحبس خصوصا بعد ظهور الفرق بينهما ، بعدم انسياق احتمال إرادة ذلك فيه ، بل مقتضى عقده حث صول الحبس في المحبوس الذي يحتاج إلى دليل شرعي في فكه ، والوقف ليس من مقوماته.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب السكنى الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب السكنى الحديث ٢.

(٣) سورة المائدة الآية ـ ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب السكنى الحديث ١ ـ ٢.

١٥٦

ومن هنا ذهب وهم ابن أبي ليلى إلى لزومه ، وعدم تغييره بموت الحابس ، ولو لا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقضاء علي عليه‌السلام « برد الحبيس وإنفاذ المواريث » لكان متجها ، بل قد يدعى ظهور الخبرين المزبورين في لزومه إلى موت الحابس ، بل لعله مقتضى التدبر في عبارة اللمعة أيضا.

وربما يشهد لما ذكرنا حكمهم بلزوم الوقف المنقطع الآخر إلى موت الموقوف عليهم ، فيرجع إلى ورثة الواقف حينئذ ، وما هو إلا لاقتضاء عقد الوقف ملك الموقوف عليه المنفعة المقتضى دوامه ، ولو بالاستصحاب بل مقتضاه صيرورة المنفعة إرثا ، إلا أن النصوص السابقة صرحت برجوعه إلى الورثة.

ومنه يعلم قوة ما تقدم منا من كون الوقف المنقطع قسما من الوقف مشروع في نفسه ، لا أنه حبس كما ذكروه ، وإلا لاقتضى بطلانه بموت الحابس ، نحو ما سمعته هنا في الحبس المطلق ، لا موت المحبوس عليه ، بل وكان جائزا على ما ذهب إليه الفاضل ، ومن تبعه مع أنه لا خلاف عندهم في لزوم الوقف المنقطع إلى موت الموقوف عليه ، اللهم إلا أن يحمل كلامهم هناك على ما إذا علم إرادة الوقف ما دام الموقوف عليه حيا فلا ينافيه حينئذ ما ذكروه في الحبس المطلق ، إذ هو بناء على كلامهم من الحبس المعلق على مدة.

إلا أنه كما ترى ، ضرورة اكتفائهم في انقطاع الوقف بنحو قول الواقف « وقفته على زيد » من دون ذكر شي‌ء آخر هذا.

وربما كان ظاهر المحكي عن التنقيح وإيضاح المنافع كون الحبس المطلق كالوقف المنقطع في العود إلى المالك بموت المحبوس عليه ، لا الحابس ، إلا أنه خلاف المشهور وخلاف ما دل عليه الخبران المزبوران.

وعلى كل حال ربما يؤيد ما ذكرناه إطلاقهم اللزوم في المحبوس على القرب من غير تقييد ذلك بما إذا أقرنه بمدة عمر المحبوس ، بل ظاهرهم الإكتفاء بلزومه بمجرد الحبس على الأماكن المخصوصة ، اللهم إلا أن يدعى ظهور ذلك في إرادة الدوام ، وفيه منع.

١٥٧

ودعوى ـ خروج ذلك عن الفرض من حيث نية القربة فيه ـ يدفعها أنه لا تقتضي إلا اللزوم في مقتضى العقد ، إن دائما فدائما وإن مقيدا فمقيدا ، فلو حبسه مثلا في سبيل الله تعالى سنة لم يلزم في غيرها ، بل الظاهر عدم خروجها عن المالك بذلك وإن قلنا به في المطلق ، لعدم السيرة فيه ، فيبقى حينئذ على حكم غيره من أفراد الحبس إذ لا خلاف في بقائه على ملك مالكه ، وبذلك كله بان لك أكثر أحكام الحبس ، وإن أشكلت على بعض الناس ، لعدم استيفاء الأصحاب لها ، إلا أنك قد عرفت إيكالهم جملة منها إلى الوقف والسكنى وأختيها والله هو العالم.

١٥٨

( كتاب الهبات )

التي جمعها باعتبار اختلاف حكم أفرادها ، وإلا فهي حقيقة واحدة ، كالبيع ونحوه ، ولذا عبر الأكثر بها موحدة ، وكيف كان فـ ( النظر ) فيها في الحقيقة والحكم.

أما الأول فحقيقة الهبة : هي العقد المقتضى تمليك العين من غير عوض ، وتمليكا منجزا مجردا عن القربة أو الأثر الحاصل منه ، ولو بالمعطاة أو فعل الواهب ، كما تقدم نظير ذلك ، إذا الظاهر كون المسألة من واد واحد.

لكن في الرياض هنا أن ظاهر الأصحاب الاتفاق على دعوى اعتبار العقد القولي كما يظهر من الكفاية ، وصرح به في المسالك.

وفيه : أن ما ذكر سندا للمعاطاة في غيرها من دعوى السيرة القطعية متحقق في المقام ، كتحقق صدق الهبة عليها بدون العقد ، فلا محيص عن القول بمشروعيتها هنا بناء على مشروعيتها هناك لذلك ، وحمل كلام المصنف ونحوه على إرادة بيان أنها من قسم العقود ، لا الإيقاعات ، وإن تحققت بما يتضمن معنى الإيجاب والقبول من الأفعال ، أو على بيان القسم العقدي منها ، كما ستمع تتمة لذلك إن شاء الله.

وحينئذ فالعقد بمنزلة الجنس الشامل لسائر العقود الذي يخرج به الفعل الدال على ذلك ، والمقتضى له ، كنثار العرس وحيازة المباح ، والموت المقتضى للتمليك بالإرث ونحو ذلك ، كما أنه خرج بقوله « تمليك العين » نحو العارية والإجارة والسكنى والرقبى والعمرى ،

١٥٩

ونحوها ، مما تقتضي تمليك المنفعة ، أو إباحتها ، وبقوله « من غير عوض » البيع ونحوه ، وبقوله « منجزا » الوصية بالأعيان ، وبقوله « مجردا عن القربة » الصدقة بل والوقف ، بناء على اعتبارها فيه ، إلا أنك قد عرفت أن الأصح عدم شرطيتها فيه ، فينتقض التعريف ، اللهم إلا أن يقال إنه بناء على اقتضائه نقل العين ليس بملك تام ، وهو المنساق من لفظ التمليك.

نعم ينتقض بالهبة المعوضة ، ولو بالقربة ، وقد يدفع بأن المراد ـ من قوله « من غير عوض ومجردا عن القربة » ـ عدم لزوم ذلك فيها ، لا عدم اتفاق حصوله فيها ، كما أن المراد من اقتضائه التمليك ما لا ينافي توقفه على أمر آخر ، كالقبض كما هو واضح.

وعلى كل حال فـ ( قد يعبر عنها بالنحلة والعطية ) وإن كانا هما أعم منها ، ضرورة صدقهما على مطلق العطاء المتبرع به ، الشامل للوقف والصدقة وغيرهما ، كما أن الهبة أعم من الصدقة والهدية بناء على ما سمعته سابقا من التذكرة والمسالك مفرعين عليه البر بهما فيما لو نذر الهبة ، دون العكس مطلقا ، والحنث بهما فيما لو حلف أن لا يهب فتصدق أو أهدى ، دون العكس ، بتقدير فعله فردا منها خارجا ، وإن كان قد عرفت النظر فيه منا بالنسبة إلى الصدقة والهبة ، فلاحظ وتأمل.

وكيف كان فـ ( هي ) بمعنى العقد تفتقر إلى الإيجاب والقبول والقبض بالنسبة إلى صحتها وترتب الأثر عليها ، فالإيجاب كل لفظ أو ما قام مقامه نحو إشارة الأخرس قصد به التمليك المذكور وكان صالحا للدلالة عليه ، بحسب التجاور كقوله مثلا وهبتك وملكتك أو نحوهما ، من غير فرق بين صيغة الماضي وغيره ، فيكفي مثل قوله هذا لك قولا واحدا ، كما في الرياض وغيره ، وهو مؤيد لما قلناه سابقا من عدم اعتبار اللفظ المخصوص في العقود اللازمة ، فضلا عن الجائزة كما أوضحناه سابقا هذا.

ولكن في المسالك بعد أن حكى عن ظاهر الأصحاب الاتفاق على افتقار الهبة مطلقا إلى العقد القولي في الجملة ، قال : « فعلى هذا ما يقع بين الناس على وجه الهدية من غير لفظ يدل‌

١٦٠