جواهر الكلام - ج ٢٨

الشيخ محمّد حسن النّجفي

من عبارة الفاضل ، لأنه على هذا التقدير لا تختص القيمة بمن يليه من البطون قطعا ، فلا يتجه الإشكال المذكور ، لأن احتمال اختصاص البطن الذي يليه بها إنما يتجه إذا كان الإتلاف واقعا حين اختصاصهم بالوقف ، ولا يتحقق إلا إذا كان الحكم بنفوذ الاستيلاد بعد الموت.

أما إذا حكمنا بنفوذه قبله فإن الاختصاص بالوقف ثابت للواطي حينئذ فإيجاب القيمة عليه حينئذ على هذا التقدير إنما هو لتعلق حقوق الموقوف عليهم جميعا فكيف يحتمل اختصاص البطن الذي يليه بالقيمة ليكون فيه اشكال ، واحتمال أن المراد بقولهم إن القيمة لمن يليه شراء جارية تكون وقفا لهم لاختصاصهم بذلك طلقا ، يأباه صريح المحكي عن المبسوط والتذكرة وظاهر غيرهما.

هذا مع أن الاستيلاد إنما يترتب عليه العتق الموجب للإتلاف بعد الموت ، ضرورة أن الولد إذا مات قبل أبيه لم يتحقق سبب العتق ، المقتضي لبطلان الوقف بعد تمامه ولزومه ، ودعوى أن ذلك كاشف عن نفوذ الاستيلاد من حينه ، ليس بأولى من دعوى عدم تمامية السبب قبله ، وليس في النصوص (١) إلا الانعتاق من نصيب الولد ، ومسئلة وطئ أحد الشريكين قد عرفت أنها مورد نص (٢) وفتوى ، ووجه الفرق بينها وبين ما نحن فيه واضح ، وقد أفرغنا الكلام فيها في محله فلا حظ وتأمل ، على أنه لو سلم اقتضاء الاستيلاد ذلك كان المتجه شراء عين بدلها حينها ، لا تأخيرها إلى البطن اللاحق ملاحظة إلى إرادة استمرار الوقف واستدامته المقصود للواقف ، بل هو مع كونه صدقة جارية كما هو واضح.

وأضعف مما ذكره ما حكاه ما هو عن شيخه السيد عميد الدين في شرح مشكلات القواعد وفي حلقة درسه من أن هذين الإشكالين إنما يتأتيان على تقدير دخول ولدها في الوقف لينتقل إليه بموت أبيه شي‌ء منها أو المجموع ، أما على تقدير عدم دخوله في الوقف فيموت الواطئ انتقلت إلى بطون أخر غيره فلم يجر للولد عليها ملك ، فلا يفرض فيها عتق.

وفيه أولاد : أنه مناف لإطلاق صيرورتها أم ولد.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الاستيلاد.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الشركة.

١٢١

وثانيا : أنه مناف لما ذكره الفاضل في القواعد من جواز وقف من ينعتق على الموقوف عليه ، وأنه يبقى وقفا وحينئذ ملك ولدها لها على جهة الوقف لا يقتضي انعتاقها عليه إنما المقتضي له ملكها بطريق الإرث.

ومن ذلك يظهر لك زيادة ضعف القول بصيرورتها أم ولد ، ضرورة توقف ذلك على القول بخروجها عن الملك الوقفى إلى غيره من الملك بالاستيلاد من حينه أو قبل الموت بآن ما ، ليتوجه وارثية ولدها حينئذ نصيبها منها ينعتق عليه ، ويسري في غيره فيؤخذ القيمة منه ، وهو كما ترى ، ضرورة أن الاستيلاد لا يغير كيفية الملك ، وإنما هو يبطل سلطنة بعض التصرفات فيه.

وكذا يظهر لك منه أيضا ما في جملة من الكتب في هذه المسألة التي قال فخر المحققين : « تسمى بمتشعبة المبادي ».

ثم لا يخفى عليك أن جميع ما ذكرناه على فرض اختصاص البطن الأول بالواطي أما مع فرض شريك له فهل يحكم بالقيمة من حين الاستيلاد ، أم بعد الموت؟ الظاهر الثاني كما في جامع المقاصد لمثل ما قلناه ، وإن خالف في ذلك الشهيد في نكت الإرشاد ، إذ هي الآن باقية على حكم الوقف ، فلا ضرر على الشريك إلا بالموت المقتضى لانعتاقها ، كما عرفت.

كما لا يخفى عليك أيضا أن المتجه على ما سمعته من الشهيد أخذ قيمة عوض الأمة من أصل التركة يشترى بها ما يكون وقفا للموقوف عليهم ، ثم يغرم الولد ما زاد على نصيبه من أصل التركة ، للورثة بسبب الانعتاق الحاصل من سراية انعتاق نصيبه عليه بل لعل ذلك كذلك بناء على ظاهر كلمات الأصحاب أيضا بل ربما كان هو المنساق من نحو عبارة المتن ، اللهم إلا أن يقال انها تنتقل من الواقف إلى خصوص ولده دون باقي الورثة فيختص حينئذ بغرم قيمتها للموقوف عليهم من نصيبه ، لكنه كما ترى ، ولو كانت الأمة موقوفة على الواطى وقف انقطاع ، وقلنا بانتقال الملك إليه فأولدها ففي غرامته القيمة فعلا ، أو إلى أن يموت ، البحث السابق ، وكذا لو أولدها الواقف وقلنا هو المالك ، لا الموقوف عليه.

وكيف كان فلا خلاف بيننا كما اعترف به بعضهم صريحا وظاهرا في أنه يجوز‌

١٢٢

تزويج الأمة الموقوفة وما عن جامع الشرائع من نسبة عدم الجواز إلى القيل لا يقتضي كون القائل منا ، كما أن التعبير في محكي المبسوط والتحرير عن الحكم بالأقوى والأقرب لا يقتضي ذلك أيضا بل لا ينبغي الإشكال فيه أيضا ضرورة أنه عقد على بعض منافعها كالإجارة ، واقتضاء ذلك التعريض لها للحبل المعطل لها والذي يتحقق معه التلف بالطلق لا يمنع جواز الانتفاع بها المملوك لهم بعقد الوقف ومن ذلك يعلم قوة جواز وطئ الواقف لها إن لم يكن إجماعا.

وعلى كل حال فالمتولي لتزويجها هو الموقوف عليه ، بناء على الانتقال إليه ، والوقف بناء على البقاء على ملكه ، والحاكم بناء على الانتقال إلى الله تعالى شأنه ، كما لو كانت أيضا موقوفة على جهة العموم ، وما عن الشيخ من تزويجها لنفسها على الأخير في غير محله ، وكذا احتمال أنه الموقوف عليه مطلقا ، لأنه من المنافع التي هي له ، وإن كان المالك للعين غيره.

وكذا لا خلاف ولا إشكال في أن مهرها للموجودين من أرباب الوقف ، لأنه فائدة كأجرة الدار فلا مدخلية لمالك العين حينئذ ، إذ لا يخفى عليك الفرق بين النكاح وغيره ، في توقف الأول على الاذن من السيد وهو المالك للعين ، ولا يكفي فيه ملك المنفعة ، بخلاف غيره ، ولعل هذا هو السبب في اتفاقهم ظاهرا على كون المتولي للنكاح على التفصيل الذي ذكرناه ، وإن كان هو أيضا إن لم يكن إجماعا محلا للنظر ، بعد اقتضاء عقد الوقف تمليك سائر المنافع للموقوف عليه التي منها النكاح كما هو المفروض.

وكذا ولدها من نمائها ، إذا كان من مملوك أو من زنا إذ هو كثمرة البستان وحينئذ يختص به البطن الذي تولد معهم وإن كانوا غير من حصل العقد في زمانهم ، بل الظاهر اختصاص من كان علوقه في زمانهم وإن لم يولد ، خلافا للمحكي عن الإسكافي والشيخ من تبعية الولد للأم في الوقف كالمدبرة والمرهونة إذ هو بعد تسليم الحكم في المقيس عليه لا يصح عندنا ، بناء على حرمة القياس كما هو واضح.

١٢٣

فإن كان من حر بوطئ صحيح كان حرا بلا خلاف ولا اشكال تغليبا لجانب الحرية بالتبعية لأشرف الأبوين الا أن يشترطوا عليه رقيته في العقد فإنه يكون رقا حينئذ ، خلافا لبعض كما تسمعه في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.

ولو وطأها الحر بشبهة ، كان الولد حرا لأنها كان كالصحيح بالنسبة إلى ذلك ، ولكن عليه قيمته طلقا للموقوف عليهم بناء على ما عرفت كما لو وطأ غير الموقوفة شبهة ، لأنه السبب في إتلاف النماء على أهله كما هو واضح ، ومحرر في محله.

ولو وطأها الواقف كان كالأجنبي بناء على خروجها عنه عينا ومنفعة بالوقف هذا كله في الوقف.

وأما الصدقة غير الوقف التي قد تواتر ندبها والحث على فعلها حتى صار ذلك من ضروري المذهب ، بل الدين ، خصوصا في شهر رمضان وخصوصا على الجيران وخصوصا على الأرحام ، فإن‌ « الصدقة بعشر (١) ، وصلة الإخوان بعشرين وصلة الأرحام بأربع وعشرين » وهي دواء المريض (٢) ، و « دافعة البلاء وقد أبرم إبراما » (٣) ، و « بها يستنزل الرزق » (٤) و « تقع في يد الرب قبل يد العبد » (٥) ، و « تقضي الدين وتخلف البركة وتزيد في المال ، » ويستحب التكبير بها لدفع شر ذلك اليوم (٦) ، وفي أول الليل كذلك ] (٧) و « أنها تدفع ميتة السوء والداء ، والدبيلة ، والحرق ، والغرق ، والهدم ، والجنون إلى أن عد سبعين بابا من السوء » (٨) إلى غير ذلك مما ورد فيها ، هذا.

ولكن‌ قال الصادق عليه‌السلام : في خبر زرارة (٩) « إنما كان الناس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينحلون ويهبون ، ولا ينبغي لمن أعطى لله شيئا أن يرجع فيه ، قال : وما لم يعط لله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الصدقة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ إلى ٢٠ ـ من أبواب الصدقة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ إلى ٢٠ ـ من أبواب الصدقة.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ إلى ٢٠ ـ من أبواب الصدقة.

(٥ـ ٧) الوسائل ـ الباب ـ ١ إلى ٢٠ ـ من أبواب الصدقة.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الصدقة الحديث ـ ١.

(٩) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الهبات الحديث ـ ١.

١٢٤

تعالى أو في الله تعالى ، فإنه يرجع فيه نحلة كانت أو هبة حيزت أو لم تحز ، ولا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته ».

ولعل المراد على ما قيل : أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يتصدق بعضهم على بعض ، إذا أرادوا معروفا فيما بينهم ، سوى الزكاة وما يعطى لأهل المسكنة ، بل كانوا يهبون وينحلون ، إما لإرادة تحصيل ملكة الجود ، أو لإرادة سرور الموهوب له ، والإثابة منه ، وغير ذلك ، وإنما صدقة بعضهم على بعض في غير الزكاة والترحم للمساكين أمر محدث ، أعنى القصد بالهبة والنحلة لله تعالى شأنه المسمى ذلك بالصدقة محدث ، كما يشهد لذلك في الجملة ما‌ في خبر ولده (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتصدق بالصدقة إله أن يرجع في صدقته؟ فقال : إن الصدقة محدثة ، إنما كان النحل والهبة ولمن وهب أو نحل أن يرجع في هبته حيز أو لم يحز ولا ينبغي لمن اعطى شيئا لله عز وجل أن يرجع فيه ».

وربما احتمل كون المراد حدوث الصدقة بمعنى الوقف ، إلا أنه كما ترى ، ومن هنا قال في محكي المبسوط : إذا قصد الثواب والتقرب بالهبة إلى الله تعالى سميت صدقة ، وفرق بذلك بينها وبين الهبة والهدية.

وفي الحدائق الظاهر أن إطلاق الصدقة على هذا المعنى المشهور المشروط بالشروط المعلومة أمر محدث ، لم يكن في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانما كان الذي في زمنه النحل والهبات ، والصدقة يومئذ إنما تستعمل بمعنى الوقف ، كما في صدقات علي وفاطمة عليهم‌السلام والكاظم عليه‌السلام (٢) ، ثم استدل على ذلك بخبر عبيد المزبور ، مدعيا ظهوره في السؤال عن الصدقة المعهودة ، فأجاب بأنها بهذا المعنى محدث ، وإنما المستعمل يومئذ النحل والهبة ، ثم أجاب بان من أعطى لله أي قرن عطيته بالقربة صدقة أو هبة أو نحلة لا ينبغي الرجوع فيه ، وأما قوله ولمن وهب فالمراد به عدم القربة ، وفيه أن ما ورد من الكتاب والسنة بهذا اللفظ مرادا به هذا المعنى لا يكاد يحصى ، فليس المراد إلا حصول الحدوث بالمعنى الذي ذكرناه ، ولعله هو الذي ينطبق عليه ما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام الهبات الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب أحكام الوقوف.

١٢٥

عن التذكرة والمسالك من أن الهبة أعم من الصدقة ، لاشتراطها بالقربة دونها ، وأن الهدية أخص من الهبة أيضا لأنها تفتقر إلى حمل الهدى من مكان إلى مكان ، فلا يقال : أهدي إليه دار أو عقارا ، بل يقال : وهبة ذلك ، فلو نذر الهبة بري‌ء بالصدقة والهدية ، ولو حلف أن لا يهب حنث إذا تصدق أو أهدى ، دون العكس ، وهل يعتبر في حد الهدية أن يكون بين المهدي والمهدي إليه واسطة أو رسول وجهان : أظهرها العدم وهو جيد ، إلا أنك ستعرف أنه أعم منه من وجه.

وعلى كل حال فـ ( هي عقد يفتقر إلى إيجاب وقبول ) بلا خلاف محقق أجده فيه ، بل عن ظاهر المبسوط وفقه الراوندي والغنية والكفاية والمفاتيح الإجماع عليه ، بل صريح بعض وظاهر آخر اعتبار ما يعتبر في العقد اللازم فيها.

لكن في الرياض يعتبر فيها ما يدل على الإيجاب والقبول ولو فعلا ، وفاقا لبعض أصحابنا خلاف لجماعة فاشترطوا فيها ما يشترط في العقود اللازمة ، وإطلاق النصوص بلزوم الصدقة بعد القبض وقصد القربة يدفعه ، وهي وإن اشتملت ما ليس فيه إيجاب وقبول بالمرة ، إلا أن اعتبارهما ولو فعلا لازم البتة ، فإن مع عدمها لا يعلم كونها صدقة مضافا إلى عدم انصراف الإطلاق بحكم التبادر إلى خلافهما ، هذا مضافا إلى الاتفاق في الظاهر على اعتبارهما الجملة ، وسيأتي عن المبسوط أن عليه إجماع الإمامية ، وفيه أن ما ذكرها أيضا مناف للمتفق عليه في الظاهر من كونها عقدا بالمعنى المتعارف الذي قد عبروا به في غيرها من العقود ، ومن المعلوم عدم تحققه اصطلاحا بالإيجاب الفعلي كما أن من المعلوم تحقق الصدقة بالأفعال ، ولو من الطرفين ، فلا محيص عن التزام أن لها عقدا أو معاطاة على نحو ما سمعته في البيع ، بل كان ينبغي التزام الجواز في الثاني وإن اندرج تحت اسم الصدقة على نحو اندراجها في اسم البيع ، إلا أن ظاهر قوله في‌ نصوص المقام « أن ما كان لله تعالى لا رجوع فيه » يقتضي لزومها ، ضرورة استبعاد حمله على خصوص العقد منها ، كاستبعاد القول بجوازها وإن قصد الله تعالى شأنه فيها ، باعتبار عدم العقد فيها ، فيتعين القول بلزومها وإن كانت معاطاة ، إذ هو جهة غير جهة العقدية والمعاطاتية ، والمتفق عليه في باب المعاطاة من الفرق بين العقد اللازم ومعاطاته بالجواز‌

١٢٦

وعدمه ، انما هو إذا كان اللزوم من جهة العقدية ، لا ما إذا كان من جهة هي متحققة في العقد ومعاطاته ، بل لو لا الجهة المخصوصة لكان عقدها جائزا ضرورة كونه حينئذ هبة ، وهي من العقود الجائزة.

ومن ذلك يعلم أنه لا وجه لاعتبار ما يعتبر في العقود اللازمة من اللفظ المخصوص ونحوه ، ضرورة كون لزومها من جهة القربة لا من جهة العقدية ، فيه حينئذ كالهبة المعوضة.

نعم يبقى شي‌ء وهو احتمال دعوى أعمية الصدقة من العقد ، ضرورة صدقها على الإبراء المتقرب به ، والوقف كذلك ، بل وعلى بذل الطعام والماء ونحوهما للفقراء والمساكين مثلا ، وإن لم يكن على جهة معنى العقدية الذي هو قصد الارتباط بالإيجاب والقبول ، ولقد‌ كان علي ابن الحسين عليه‌السلام (١) « يتصدق على الفقير في السر على وجه لا يحصل فيه معنى العقدية ، » بل لا يبعد كونها دفع المال مجانا قربة إلى الله تعالى شأنه ، فإن كان مورده الإبراء ، كان صدقة وإبراء ، وإن كان مورده الهبة ، كان هبة وصدقة ، وإن كان مورده الوقف ، كان وقفا وصدقة ، وإن كان غير ذلك كان صدقة ، ومنه الزكاة والكفارة ونحوهما.

فالإبراء حينئذ منه ما هو صدقة ، ومنه ما هو ليس كذلك ، وكذلك الهبة والوقف ، وحينئذ فيجري على كل منها أحكام ذلك إلا الرجوع بها حيث تقوم مقام الهبة للعلة التي سمعتها ، وليست هي عقدا مستقلا تقوم مقام المذكورات على نحو الصلح ، كما عساه يظهر من أفرادها بكتاب عن الهبة وإطلاقهم كونها عقدا ، لكنه ليس في محله عند التأمل ، وإلا لاحتاجت إلى القبول في قيامها مقام الإبراء ، ومن المعلوم خلافه بل لم يجرحكم الإبراء حينئذ على ما كان صدقة منه وكذا الوقف والهبة ، وبذلك يظهر أن ذلك ليس ممنوعا لها عنها ، كما أومئ إليه الفاضل وغيره فيما سمعته من الحنث بالصدقة لو حلف أن لا يهب ولا يهدى.

وبذلك يظهر لك النظر فيما ذكرها في جامع المقاصد حيث قال : « إن ما ذكروه في الاحتجاج على أن الإبراء لا يحتاج إلى القبول ، وهو قوله تعالى (٢) ( وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ )

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الصدقة الحديث ـ ٨.

(٢) سورة البقرة الآية ـ ٢٨٠.

١٢٧

حيث فسروا الصدقة هنا بالإبراء ، يقتضي عدم اشتراط القبول ، ولا نية القربة ».

إذ هو كما ترى لا يقتضي إلا عدم اعتبار القبول في هذا القسم خاصة وأما اعتبار القربة فهو من مقوماتها دونه ، فليس كل إبراء صدقة ، ولا كل صدقة إبراء ، وكذلك الهبة والوقف ، بل بينها وبين هذه العموم من وجه ، لما عرفت من صدق الصدقة على ما لا يندرج في شي‌ء منه ، فليست هي إلا لمعنى متحد شامل للجميع ، وهذه افراده ، وكل فرد منها داخل تحت اسم آخر يلحقه حكمه ، وإن سمى باعتبار قصد القربة فيه أنه صدقة ، إلا أن ذلك كله مناف لظاهر جعلها عقدا مستقلا عن الهبة ، الظاهر في مباينتها لها ، وأن التميز بينها وبين الهبة بالقصد وإن اتحد موردها ، وحينئذ لا تجتمع الصدقة العقدية مع غيرها من العقود أصلا ، والهبة قربة إلى الله تعالى مع عدم القصد بأنها صدقة تكون هبة لا صدقة ، وبالعكس صدقة لا هبة.

وبذلك يظهر النظر في جملة من الكلمات السابقة ، ولعله الى ذلك يرجع ما في المسالك وإن كان هو لا يخلو من نظر من وجه آخر ، قال : قد يلوح من بعض كلامهم عدم الاتفاق على اشتراط القربة ، حيث استدلوا على أن الإبراء لا يحتاج إلى القبول بقوله تعالى (١) ( وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) وفسروا الصدقة هنا بالإبراء ، مع أنه غير مفتقر إلى القربة ، ويلزم منه عدم افتقارها إلى القبول أيضا كذلك ، إلا أن يقال : إنها تطلق على معنيين : خاص وعام ، وأن الإبراء صدقة بالمعنى العام ، وكلامهم هنا في المعنى الخاص وقد تقدم في الوقف أنه صدقة ، والاخبار مشحونة به ، مع أن الأصح عدم اعتبار نية القربة فيه ، وهذه فوائد اعتبار معنى العام ».

وكيف كان فتفتقر صحتها مع الإيجاب والقبول إلى اقباض أي القبض بإذن ، بلا خلاف أجده فيه ، كما اعترف به واحد ، بل قيل : إنه قد يلوح الإجماع على ذلك ، أو يظهر مع المبسوط الراوندي بل عن التذكرة ، الإجماع عليه في موضعين وهو الحجة بعد النصوص المذكورة في الوقف ، كحسنة عبيد بن زرارة (٢) عن الصادق عليه‌السلام « في رجل يتصدق على ولد قد أدركوا فقال : إذا لم يقبضوا حتى يموت‌

__________________

(١) سورة البقرة الآية ـ ٢٨٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الوقوف الحديث ـ ٥.

١٢٨

فهو ميراث » وغيره مما تقدم سابقا لما عرفت من أعمية الصدقة من الوقف ، فترك الاستفصال حينئذ يقتضي العموم ، بل قد يدعى أنه المتبادر من نصوص الصدقة المشتملة على ذلك فإنها بمعنى الإعطاء صدقة ، بل ربما يستدل بأصالة عدم الصحة أيضا ، إلا أنه في غير محله ، لانقطاعه بالعمومات.

نعم يتجه الاستدلال عليه بما دل على اعتباره في الهبة بناء على أنها هي مع زيادة نية القربة التي اقتضت عدم جواز الرجوع بها بعد اجتماع شرائط صحتها التي منها الإقباض المزبور.

وحينئذ فـ ( لو قبضها المعطى له ، من غير رضا المالك لم ينتقل إليه ) لعدم حصول الإقباض الذي هو بمعنى القبض بالإذن ، كما في كل مقام كان القبض فيه من شروط الصحة ، لا لكونه منهيا عنه حينئذ بدون الإذن ، إذ هو معاملة لا ينافي ترتب أثره عليه كونه محرما ، ولكن الشرط الإقباض ولو للإجماع على ذلك ، لم يحصل الشرط حينئذ ، فلم يترتب عليه الأثر ، فضلا عن عدم القبض أصلا ، وارتفاع الضمان عن المبيع ـ بقبض المشتري من دون إذن البائع ـ إنما هو لعدم كون القبض فيه شرطا للصحة ، كما في الفرض ، لتمامية الملك بعقد البيع ، وإنما وجب الإذن للتقابض الذي هو مقتضى المعاوضة ، وهو أمر خارج عما نحن فيه ، والضمان بالتلف قبل قبضه إنما كان لفوات المعاوضة ، فمع فرض تحققه تمت المعاوضة ، فلا ضمان بعد على البائع حينئذ من هذه الجهة ، وإن كان القبض بغير إذنه.

نعم لا يرتفع الخيار مثلا بهذا القبض ولا غيره من الأحكام التي تترتب على القبض والله العالم.

ومن شرطها إن لم يكن من مقوماتها نية القربة بلا خلاف أجده فيه بلا الإجماع بقسميه عليه ، والمناقشة في ذلك ـ وفي اعتبار القبول بقوله تعالى (١) ( وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) المستدل به على الإبراء ـ قد عرفت جوابها مما تقدم ، كل ذلك مضافا إلى‌ حسني حماد وصحيحه عن أبي عبد الله عليه‌السلام « لا صدقة ولا عتق إلا ما أريد به وجه الله عز‌

__________________

(١) سورة البقرة الآية ـ ٢٨٠.

١٢٩

وجل » وصحيح محمد بن مسلم (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام « ولا يرجع في الصدقة إذا ابتغى وجه الله عز وجل » وخبر الحكم (٢) « إنما الصدقة لله فما جعل لله فلا رجعة له فيه » وغير ذلك من النصوص الدالة عليه حتى‌ النبوي (٣) المروي في الطرفين « أن مثل الراجع في صدقته مثل الراجع في قيئه (٤)».

وحينئذ فـ ( لا يجوز الرجوع فيها بعد القبض على الأصح ) بل عن السرائر والتذكرة وظاهر المفاتيح وكذا الغنية الإجماع عليه ، للعموم المقتضى ذلك والخصوص الذي عرفته ، ولأن المقصود بها الأجر وقد حصل ، فهي كالهبة المعوض عنها وكالعبادة التي لا خيار فيها ، مضافا إلى أولوية اللزوم في المقام منه في الهبة المنوي فيها القربة المحكي عليه الإجماع عن الانتصار والغنية والتذكرة إن لم تكن هي ، كما عرفته سابقا.

لكن مع ذلك كله عن المبسوط ، والمهذب وفقه الراوندي ان صدقة التطوع بمنزلة الهبة في جميع الأحكام ، ومن شرطها الإيجاب والقبول ، ولا تلزم إلا بالقبض أو ما يجرى مجراه ، وكل من له الرجوع في الهبة ، له الرجوع في الصدقة ، ولا ريب في ضعفه وإن احتمل بناءه على عدم اعتبار القربة في الصدقة ، وإذ هو لا يخفى عليك ما فيه ، بل المحكي عن صريحة التصريح باعتبار القربة في مفهومها ، فضلا عن كونه شرطا فيها ، وما أبعد ما بينه ، وبين المحكي عنه في النهاية ، والمفيد في المقنعة ، من أن ما تصدق به لوجه الله فلا يجوز أن يعود إليه بالبيع أو الهبة أو الصدقة ، وإن رجع بالميراث كان جائزا ، ولعله لقول الصادق عليه‌السلام في صحيح منصور بن حازم (٤) المحمول على الكراهة لمعارضته للعمومات التي هي أصول المذهب وقواعده ، بل عن المحقق حمل عبارة النهاية على ذلك ، بل عن ابن إدريس نفى الخلاف عن جواز الرجوع بذلك ، ولعله تحمل عبارة المقنعة على ذلك أيضا.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام الوقوف الحديث ـ ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام الوقوف الحديث ـ ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام الوقوف الحديث ـ ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب أحكام الوقوف الحديث ـ ١.

١٣٠

وكيف كان فـ ( الصدقة المفروضة ) أو الزكاة منها خاصة محرمة على بني هاشم إلا صدقة الهاشمي أو صدقة غيره عند الاضطرار ، ولا بأس بالصدقة المندوبة عليهم مطلقا أو ما عدا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام منهم ، كما تقدم الكلام في ذلك مفصلا.

ومن الغريب أنه بناء على أن الصدقة هي الهبة المتقرب بها وكذا الهدية وأن المندوبة محرمة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام يتوجه تحريمها حينئذ عليهم إلا مع عدم ملاحظة القربة ويمكن القطع بعدمه ، ومنه يعلم كون كل منها مفهوما مستقلا عن الآخر.

( مسائل ثلاث‌ )

الأولى : قد عرفت أنه لا يجوز الرجوع في الصدقة بعد القبض ، سواء عوض عنها أو لم يعوض ، لرحم كانت أو لأجنبي على الأصح خلافا لمن سمعت ، فجعل حكمها حكم الهبة ، لأنها قسم منها ، وقد عرفت ضعفه.

ولكن لا يخفى أن مرجع ذلك ومرجع ما سمعته عن التذكرة وغيرها أن الصدقة حينئذ من الأوصاف اللاحقة للهبة ، وليست عقدا مستقلا مقابلا لها ، وحينئذ فإذا أفسدت النية فيها بمنافاة الإخلاص ونحوه يتجه ثبوت حكم الهبة لها حينئذ فله الرجوع بها حينئذ مع عدم العوض ، وعدم كونها لرحم ، وإلا فلا يجوز ، أما على ما قلناه من كونها عقدا مستقلا فالمتجه بطلان العقد حينئذ بفساد شرطه ، فتأمل جيدا والله العالم.

المسألة الثانية : يجوز الصدقة على الذمي وغيره من الكافر غير الحربي وإن كان أجنبيا على الأصح لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « على كل كبد حرى أجر (١) » ولقوله تعالى ( لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ) (٢) » وغير ذلك مما سمعته في الوقف ، فإن المسألة من واد واحد دليلا ، وخلافا والله العالم.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الصدقة الحديث ـ ٢ والمستدرك ج ١ ص ٥٤٦.

(٢) سورة الممتحنة الآية ـ ٨.

١٣١

المسألة الثالثة : صدقة السر التي تطفئ غضب الرب (١) أفضل من صدقة الجهر بلا خلاف أجده فيه بل في المسالك هو موضع وفاق ، قال الله تعالى (٢) ( وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) وعن الصادق عليه‌السلام (٣) « والله الصدقة في السر أفضل منها في العلانية » إلى غير ذلك ، الا أن يتهم في ترك المواساة ، فيظهرها دفعا للتهمة التي تجنب عنها سيد المرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع بعده عنها فضلا عن غيره أو قصد الاقتداء به ، أو ترغيب الناس ، أو نحو ذلك مما يقترن به الجهر على وجه يرجح على مراعاة السرية التي هي أرجح من الجهرية من حيث نفسها.

نعم في الدروس وغيرها تخصيص ذلك للمندوبة ، أما الواجبة فالأفضل إظهارها ، كما عن تفسير علي بن إبراهيم روايته عن الصادق عليه‌السلام ، ولبعدها عن تطرق الرياء ، وللأمر بحملها إلى الإمام المنافي للكتمان ، بل‌ عن ابن عباس (٤) « أن صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا » لكن المصنف وغيره أطلقوا أفضلية السر ، وهو لا يخلو من وجه والأمر سهل بعد إيكال الأمر إلى عالم السر والجهر ، والله العالم.

ويكره الصدقة بجميع ماله على ما صرح به غير واحد ، ولعله لقوله تعالى (٥) ( يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ ، قُلِ الْعَفْوَ ) أي الوسط وقوله تعالى (٦) ( وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ) (٧) » و « ( إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا )‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٨) « أفضل الصدقة عن ظهر غنى » لكن لا يخفى عليك رجحان مقام الإيثار الذي أشار إليه رب العزة بقوله (٩) ( وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ) وفعله الأولياء ولعله لذا قال في الدروس : « ويكره أن يتصدق بجميع ماله إلا مع وثوقه بالصبر ولا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الصدقة الحديث ١.

(٢) سورة البقرة الآية ـ ٢٧١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الصدقة الحديث ـ ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة الحديث ـ ١.

(٥) المستدرك ج ١ ص ٥٣٤.

(٦) سورة البقرة الآية ـ ٢١٥.

(٧) سورة الإسراء الآية ـ ٢٩.

(٨) سورة الفرقان الآية ـ ٦٧.

(٩) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب الصدقة الحديث ـ ٤.

١٣٢

عيال له » وكأن الرجوع في ذلك كله إلى الموازين الشرعية ـ المختلفة باختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال ـ هو المتجه في ذلك وفي غيره ، كالصدقة وعنده عيال محتاجون أو عليه دين التي نفى استحبابها في الأول في القواعد ، وعن غيرها ، وحكم بكراهتها في الثاني.

لكن من المعلوم إرادة قلة الثواب من ذلك ، نحو الصدقة على الأجنبي مع حاجة القريب الذي ورد فيها‌ (١) « لا صدقة وذو رحم محتاج » المراد منها المرجوحية بالنسبة إلى تلك ، والتي‌ « سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) أي الصدقة أفضل؟ قال على الرحم الكاشح » هذا.

وقد تضمنت النصوص وظائف كثيرة للصدقة ، كما أنها تضمنت الحكم بالصدقة في جملة من الأمور كالتوسعة على العيال ، وبذل الجاه ، والكلمة اللينة ونحو ذلك مما مراد منها مشابهتها في الفصل ، لأنها منها حقيقة ، فلاحظ وتدبر ، والله العالم والموفق والمؤيد والمسدد.

__________________

(١) سورة الحشر الآية ـ ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الصدقة الحديث ـ ٤ ـ ١.

١٣٣

( كتاب السكنى ) وأختيها ( والحبس )

وهي عقد بالمعنى الأعم الشامل للمعاطاة بناء على مشروعيتها يفتقر في الصحة إلى معنى الإيجاب والقبول ولو فعلا بلا خلاف ولا إشكال ، ويفتقر في اللزوم إلى اللفظين منه على نحو غيرها من العقود اللازمة التي شرعت المعاطاة فيها ، على أنها من أفرادها ولا فرق في ذلك بين كونها مطلقة ، أو مقترنة بمدة أو عمر ، كما هو ظاهر الأصحاب ، وجواز الرجوع بها في الأول متى شاء لا ينافي افتقار مشروعيتها إلى معنى الإيجاب والقبول ، على حسب ما سمعته في العقود الجائزة على أن الظاهر لزومها في الفرض أيضا بالنسبة إلى مسمى الإسكان ، وجواز الرجوع لمكان تحقق مقتضاها لا لكون العقد جائزا ، وإلا لجاز عدم إسكانه أصلا والأمر في ذلك سهل.

وأما القبض فلا خلاف أجده في اعتبارها فيها أيضا ، بل في الرياض عن ظاهر جماعة وصريح آخر الإجماع عليه. نعم في جامع المقاصد ينبغي أن يكون اشتراطه على القول باللزوم ، أما على عدم اللزوم فإنه بمنزلة العارية ، والظاهر أن مراده ما في الروضة من أنه إنما يشترط على تقدير لزومها ، أما لو كانت جائزة فالإقباض شرط في جواز التسلط على الانتفاع ، ولما كانت الفائدة بدونه منتفية ، أطلق اشتراطه فيها ، وإلا فلا يخفى عليك عدم منافاة شرطيته لجوازه ، كما في القبض بالنسبة إلى الهبة ، على معنى عدم تحقق أثر العقد إلا به ، هذا.

وعن المبسوط والمهذب وفقه الراوندي والسرائر وغيرها أنه يفتقر في صحتها إلى الإيجاب والقبول ، ولزومها إلى القبض ، ولعله لا يخلو من قوة ، لأن العمدة في اشتراطه إجماع الخلاف ، وهو أنه إنما يقتضيه ، لا الصحة التي هي من مقتضى العمومات والإطلاقات قال في‌

١٣٤

المحكي عنه : « إذا أتى بواحدة منها أى العقود الثلاثة ، وأقبضه فقد لزمت العمرى ، ثم ادعى عليه إجماع الفرقة وأخبارهم.

لكن ظاهر الأكثر وصريح بعض أنه شرط في الصحة ، بل الظاهر أنه معقد ما سمعته من الرياض ، ولعله لكونها من لواحق الوقف أو الهبة ، بل في المحكي من كلام ابن حمزة اعتبار نية القربة في صحتها أيضا ، ولا دليل عليه ، بل لا دليل على اعتباره في لزومها أيضا كما هو المحكي عن المقنعة والكافي وجامع الشرائع والغنية ، بل ظاهر الأدلة كعموم « ( أَوْفُوا ) (١) » و « المؤمنون » (٢) وغيرهما لزومها بدون ذلك ، وغيرها.

ومن هنا كان ظاهرا الأكثر أو المشهور ما هو صريح جماعة من عدم اعتبارها في الصحة واللزوم ، وإن توقف عليها حصول الثواب. نعم في جواز السكنى المطلقة أو لزومها في المسمى خلاف تسمع تحريره إن شاء الله.

وعلى كل حال فـ ( فائدتها التسلط على استيفاء المنفعة ) تمام المدة المشروطة مع بقاء الملك على ملك مالكه بلا خلاف أجده فيه ، كما اعترف به غير واحد ، إلا ما يحكى عن الشيخ والراوندي وابن البراج من اقتضائها نقل العين في خصوص ما لو قال : هذه الدار لك عمرك ولعقبك من بعدك ، مع أنا لم نتحقق ذلك عن الشيخ وابن البراج ، بل المتحقق عن أولهما خلافه ، وإن حكى عنه ما يوهم ذلك ، وعلى تقديره فلا ريب في ضعفه ، ضرورة عدم اختلاف مقتضاها باختلاف كيفية تعلقها ، مع أن الأصل بقاء الملك على ملك مالكه ، كما ستسمع تحقيق الحال فيه.

وإنما غرض المصنف وغيره فيما ذكره التنبيه على خلاف بعض العامة حيث جعلها مفيدة فائدة الهبة على بعض الوجوه ، فينتقل مالك العين إلى الساكن وهو واضح الفساد. والله العالم.

وكيف كان فـ ( يختلف عليها ) أي السكنى الأسماء بحسب اختلاف الإضافة ، فإذا اقترنت بالعمر قيل : عمري وسكنى وبالإسكان‌

__________________

(١) سورة المائدة الآية ـ ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ـ ٢.

١٣٥

وحده قيل : سكنى خاصة وبالمدة المعينة قيل : سكنى ورقبى إما من الارتقاب ، أو من رقبة الملك ، فالسكنى حينئذ مع تعلقها بالمسكن ، وكون الصيغة بلفظها أعم منها ، وإن كانا هما أعم منها من وجه آخر وهو فيما إذا كانت الصيغة بلفظ أعمرتك وأرقبتك فإنهما حينئذ عمري ورقبى ، ولا يقال : سكنى ، أو كان موردهما غير المسكن بل دابة ونحوها ، كذا في المسالك حاكيا له عن الأكثر ، بل ستسمع فيما يأتي التصريح منه بأن العمرى والرقبى المتعلقة بالمسكن هما كالسلم والصرف بالنسبة إلى البيع ، أي قسم خاص من السكنى.

لكن لا يخفى عليك أولا : أن مقتضاه إطلاق السكنى عليهما وإن كانت الصيغة بلفظهما ، كإطلاق البيع على السلم والصرف.

وثانيا : أن المعلوم من النص والفتوى تباين العقود ، وأنه لا يجتمع عقدان في عقد واحد ، ضرورة كون كل منهما سببا مستقلا في نفسه ، كما أن المعلوم منهما هنا أن هذه العقود الثلاثة كغيرها من العقود ، بدليل ـ اختلاف مواردها في كثير من المقامات ـ وغيره ، ومع فرض اتحاد موردها واتحاد الصيغة القابلة لكن منها يجب التمييز بالنية والقصد ، كالصلة والبيع والهبة المعوضة.

بل قد يظهر من المحكي عن التحرير عدم إمكان اجتماعها أصلا ، قال : « إن كانت السكنى مطلقة أو يقول أسكنتك عمري أو عمرك ، أو مدة معينة من الزمان قيل : سكنى ، وإن قيدت بالعمر بأن يقول : أعمرتك مدة عمرك أو عمري قيل : عمري وإن قرنت بالمدة قيل : رقبى ، بأن يقول : أرقبتك هذه الدار مدة » ضرورة ظهوره في اعتبار تحقق كل منها الصيغة باسمها بل لعل التباين ظاهر المحكي عن الوسيلة والكافي.

قال في الأولى : « العمرى أن يجعل منفعة داره أو ضيعته لغيره مده حياته ، والرقبى أن يجعلها مدة معلومة ، والسكنى أن يجعل سكناها لغيره مدة عمر أحدهما ».

وفي الثاني : السكنى أن يجعل منفعة سكناها لغيره مدة معلومة ، والرقبى أن يسكنه فيها مدة حياة المالك ، والعمرى أن يسكنه فيها طول عمر المعمر » أى الغير.

١٣٦

وعن المبسوط والخلاف والمهذب وفقه القرآن للراوندي والغنية والسرائر أن صورة الرقبى صورة العمرى ، إلا أن اللفظ يختلف ، فإنه يقول : أعمرتك هذه الدار مدة حياتك أو حياتي ، والرقبى يحتاج أن يقول أرقبتك هذه الدار مدة حياتك أو حياتي بل عن المبسوط لا فرق بينهما عندنا ، وعن المهذب وما يفرق به بعض الناس ليس مذهبا لنا.

وفي محكي التذكرة‌ عن علي عليه‌السلام (١) « الرقبى والعمرى ، سواء » وفي محكي الخلاف أن العمرى عندنا سكنى ، وعن الجامع أن العمرى والرقبى بحكم السكنى ، وعن صيغ العقود أن العبارات شتى والمقصود واحد ، وعن المختلف بعد أن ذكر كلام المبسوط والمهذب والوسيلة والكافي والسرائر قال : وهذه اختلافات لفظية.

قلت : لا إشكال في أن المفاد واحد مع فرض كون المورد المسكن ، إلا أنه تظهر الثمرة مع فرض التباين بلزوم القصد مع فرض العقد باللفظ الصالح للجميع ، كما في كل مشترك ، وقضى القدر المشترك غير كاف ، لعدم ثبوت مشروعيته لنفسه ، نحو قصد النقل المطلق من دون تشخيص كونه بيعا أو صلحا أو هبة معوضة ، والفرض صلاحية المورد ، فإن كان المراد من الوحدة والتسوية بالنسبة إلى النتيجة أو بالنسبة إلى أكثر الأحكام الثابتة لهما ، فكذلك ، وإن أريد بالوحدة الاتحاد بالعقد وإن تكثرت أسماؤه باعتبار ألفاظه فخلاف ظاهر النص والفتوى أنها عقود مستقلة مختلفة المعاني ، بل لو أريد من مورد أحدها الآخر بطل ، نحو ما يراد من البيع الصلح ، وبالعكس ، إلا بناء على جواز إنشاء العقد اللازم بالمجاز ، والفرض قصد المعنى المجازي ، أما مع عدمه فلا ريب في بطلانه ضرورة كونه حينئذ كإرادة الإجارة بالبيع ، وبالعكس ، فتأمل.

ومن ذلك يظهر أن الأولى قصد السكنى والعمرى في اللفظ المشتمل عليهما ، وكذا اللفظ المشتمل على المدة المعينة وربما تسمع لذلك تتمة إن شاء الله تعالى.

وعلى كل حال فـ ( العبارة عن العقد أن يقول : أسكنتك أو أعمرتك أو.

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥١٣.

١٣٧

أرقبتك أو ما جرى مجرى ذلك ، هذه الدار أو هذه الأرض أو هذا المسكن عمرك أو عمري أو مدة معينة بلا خلاف ولا إشكال في أصل جواز العقد بذلك.

إنما الكلام في حصره بذلك ، وقد قدمنا سابقا تحقيق الحال في سائر العقود اللازمة ، فضلا عن غيرها بالنسبة إلى خصوص اللفظ وبالنسبة إلى اعتبار الماضوية وغيرها فلاحظ وتأمل.

لكن عن التذكرة هنا أو يقول : أرقبتك هذه الدار ، وهي لك مدة حياتك أو وهبت منك هذه الدار عمرك على أنك إن مت قبلي عادت إلى ، وإن مت قبلك استقرت عليك ، قيل : وظاهره الملك للعين مستقرا كما حكاه هو وغيره عن بعض العامة ، ويمكن ارادة الاستقرار للمنفعة بقية العمر لمعلومية مخالفة الأول لظاهر المذهب وأن يكون مراده صحة الهبة على هذا الوجه ، ولكن جاء بها في المقام لأن لها شبها بالعمرى من حيث التقييد به ، لا عقد العمرى بلفظ الهبة الذي قد يشكل بأنه مجاز فلا يعقد به العقد اللازم بناء على المعروف عندهم ، والأمر في ذلك سهل بعد وضوح الحال.

ثم إنه غير خفي عليك وجه المناسبة في العمرى ، أما الرقبى فالظاهر أنها من الارتقاب الذي هو الانتظار ، لانتظار كل منهما المدة ، المضروبة ، أو من رقبة الملك باعتبار دفع الرقبة إليه لاستيفاء المنفعة ، وعن بعض أصحابنا أن الرقبى أن يقول : جعلت خدمة هذا العبد لك مدة حياتك أو مدة حياتي ، وكأنه أخذها من رقبة العبد إلا أنا لم نعرفه ، كما اعترف به غيرنا.

بل في الحدائق إنكار أصل عقد الرقبى ، لعدم وجود لفظها في شي‌ء من نصوصنا ، وإن كان فيه عدم اعتبار ذلك في ثبوت العقد ، خصوصا بعد المرسل عن علي عليه‌السلام المتقدم (١) ، بل عن الخلاف نسبته إلى أخبارنا ، والله العالم.

وكيف كان فـ ( تلزم ) السكنى وأختاها بالقبض بعد فرض اجتماع غيره مما يشترط فيها قيل : والقائل أبو الصلاح في المحكي عن كافية ، بل لعله ظاهر المحكي عن المقنعة والغنية ، وجامع الشرائع تلزم ان قصد به القربة وإلا فلا.

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥١٣.

١٣٨

والأول أشهر بل المشهور في المسالك هو المعروف من مذهب الأصحاب ، بل فيها أيضا لم نقف على قائل بالقولين الآخرين ، بل في محكي الخلاف إذا أتى بواحدة منها أي العقود الثلاثة وأقبضه فقد لزمت العمرى ، ثم ادعى عليه إجماع الفرقة واخبارهم ، ولعله الحجة مضافا إلى قاعدة اللزوم واستصحابه.

وخبر أبي الصباح الكناني (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سئل عن السكنى والعمرى فقال : إن كان قد جعل السكنى في حياته فهو كما شرط ، وإن كان جعلها له ولعقبه بعده حتى يغني عقبه ، فليس لهم أن يبيعوا ولا يرثوا ثم ترجع الدار إلى صاحبها الأول ».

ومضمر حمران (٢) « سألته عن السكنى والعمرى؟ فقال : إن الناس فيه عند شروطهم إن كان شرط حياته سكن حياته ، وإن كان لعقبه فهي لعقبه كما شرط حتى يفنوا ، ثم ترد إلى صاحب الدار ».

وحسن الحلبي أو صحيحه (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الرجل يسكن الرجل داره ولعقبه من بعده ، قال : يجوز ، وليس لهم أن يبيعوا ولا يرثوا ، قلت : فرجل أسكن رجلا في حياته قال : يجوز ذلك ، قلت : فرجل أسكن رجلا داره ، ولم يوقت ، قال : جائز ويخرجه إذا شاء » المعلوم إرادة المضي من الجواز فيه خصوصا بملاحظة ذيل الخبر ، وما تقدمه من النصوص المراد منها لزوم الشرط على حسب ما شرط.

وكذا‌ صحيح الحسين بن نعيم (٤) عن الكاظم عليه‌السلام « سألته عن رجل جعل سكنى داره لرجل أيام حياته أوله ولعقبه من بعده ، هل هي له ولعقبه كما شرط؟ قال : نعم قلت فان احتاج يبيعها قال : نعم ، قلت فينقض بيعه الدار السكنى؟ قال : لا ينقض البيع ، كذلك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام السكنى الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام السكنى الحديث ـ ٢.

(٣) الوسائل ذكره صدره في الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام السكنى الحديث ـ ٢ وذيله في الباب ـ ٣ ـ الحديث ـ ١.

(٤) التهذيب ج ٩ ص ١٤١ الحديث ـ ٤٠ الفقيه ج ٤ ص ١٨٥.

١٣٩

سمعت أبي عليه‌السلام يقول ، قال أبو جعفر عليه‌السلام : لا ينقض البيع الإجارة ولا السكنى ، ولكن يبيعه على أن ، الذي يشتريه لا يملك ما اشترى حتى تنقضي السكنى على ما شرط ، وكذلك الإجارة ».

كما صرح به‌ في خبر أحمد بن عمر الحلبي (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألته عن رجل أسكن داره رجلا في حياته؟ قال : يجوز له وليس له أن يخرجه ، قال : قلت فله ولعقبه؟ قال يجوز له ، وسألته عن رجل أسكن رجلا ولم يوقت له شيئا قال يخرجه صاحب الدار إذا شاء ».

إلى غير ذلك من النصوص التي لا يعارضها‌ خبر أبي البختري (٢) المروي عن قرب الاسناد عن جعفر عن علي عليه‌السلام « أن السكنى بمنزلة العارية إن أحب صاحبها أن يأخذها أخذها ، وإن أحب أن يدعها فعل أي ذلك شاء » القاصر عن ذلك من وجوه مع أنه محمول على السكنى المطلقة ، بل لعلها هي السكنى ، وأما المحدود بالعمر والمدة المعينة فهي العمرى ، والرقبى ، كما سمعت الكلام فيه سابقا ، وإطلاق المصنف وغيره هنا لزومها منزل على غير هذا الفرد الذي سيصرح المصنف بحكمه ، مع إمكان إرادته الإطلاق حتى بالنسبة إليه لكن في مسماها خاصة ، كما سمعته من الفاضل بل هو مقتضى الجمع بين الأدلة على ما ستعرف.

وعلى كل حال فقد ظهر لك ضعف القولين المزبورين اللذين لم نتحقق أولهما كما لم نعرف دليله ، سوى الخبر المزبور المعارض بما عرفت وبما دل سابقا من النصوص على عدم جواز الرجوع بما اعطى لله تعالى شأنه ، إن كان مراده الجواز حتى في هذا الفرد ، بل ولا دليل الثاني منهما إلا العمل به أيضا وبنصوص ما أعطى لله تعالى شأنه لا يجوز الرجوع فيه ، إلا أن الجميع كما ترى مناف لقواعد الاستنباط ، والجمع بين جميع الأدلة بعد وزنها بموازين القسط. والله العالم.

ولو قال : لك سكنى هذه الدار مثلا ما بقيت أنت أو ما حييت أنت جاز بلا خلاف ولا إشكال ، لعموم الأدلة ،

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٤٠ الحديث ـ ٣٦ الفقيه ٤ ص ١٨٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام السكنى الحديث ـ ٣.

١٤٠