جواهر الكلام - ج ٢٨

الشيخ محمّد حسن النّجفي

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

وبه نستعين‌

كتاب الوقوف والصدقات‌

وتمام النظر فيه يحصل في العقد ، والشرائط ، واللواحق‌ الأول : الوقف عقد ثمرته تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة كما في القواعد والتنقيح وإيضاح النافع والكفاية على ما حكى عن بعضها بل وفي النافع واللمعة أيضا لكن ترك ذكر العقد ، كما هو المحكي عن المبسوط ، وفقه القرآن للراوندي والوسيلة والسرائر والجامع والمهذب البارع ، ومجمع البرهان إلا أنه تبديل الإطلاق بالتسبيل كما‌ في النبوي (١) « حبس الأصل وسبل المنفعة » إلا ان المتأخرين أبدلوه بالإطلاق لما قيل من أنه أظهر في المراد من التسبيل الذي هو إباحتها للجهة الموقوف عليها بحيث يتصرف كيف شاء كغيره من الأملاك ، لكن في الصحاح سبل فلان ضيعته أى جعلها في سبيل الله تعالى ، ومن هنا كان التعبير بالتسبيل أولى ، بناء على ارادة ذلك من الإطلاق القابل للتحبيس كما هو مقتضى ابداله بذلك في المتن وغيره لإشعاره باعتبار القربة حينئذ وأنه من الصدقات ، كما في النهاية ومحكي المراسم أن الوقف والصدقة شي‌ء واحد ولعله لذا عرفه في الدروس بأنه الصدقة الجارية ، بل في المسالك ومحكي التذكرة والمهذب البارع والتنقيح « قال العلماء : المراد بالصدقة الجارية الوقف ».

وعلى كل حال فقد ذكرنا غير مرة أن المقصود من أمثال هذه التعاريف التمييز في الجملة ، فلا ينبغي نقض تعريف المصنف بالسكنى وأختيها ، والحبس ، وتعريف الدروس بنذر الصدقة والوصية ولا الجواب عن الأول بإرادة الحبس على الدوام ، وكان الاختلاف في ذكر العقد‌

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥١١ لكن فيه‌ « وسبل الثمرة ».

٣

وعدمه على نحو ما سمعته في البيع ونحوه من أنها اسم للعقود ، أو للمعنى الحاصل منها ، وإن لم نقل بمشروعية المعاطاة فيه ، أو لما تسمعه من الخلاف باعتبار القبول فيه وعدمه ، المقتضى للاختلاف في عقد أولا كما ستسمع.

وكيف كان فـ ( اللفظ الصريح فيه وقفت ) بلا خلاف كما في المسالك ، ومحكي التذكرة وجامع المقاصد ، بل في محكي السرائر والتحرير والتنقيح وإيضاح النافع الإجماع على صراحتها فيه.

نعم عن الشافعي في بعض أقواله أنها كناية عن الوقف ، وعن الفاضل في التذكرة أنه من أغرب الأشياء ، ونفى الغرابة عنه بعض متأخري المتأخرين باستعمال لفظ الوقف في مجرد الحبس والسكنى والرقبى والعمرى ، في صحيح ابن مهزيار (١) ، والصفار (٢) وفيه أن الاستعمال مجازا لا ينافي الصراحة المراد منها وضع اللفظ لذلك كما هو واضح.

نعم الظاهر أنها الصريحة أما وفي بعض اللغات الشاذة أوقفت ، ولا بأس بالعقد بها على شذوذها أما لفظ حرمت وتصدقت فلا خلاف في عدم صراحتهما فيه كما اعترف به غير واحد بل حكى الإجماع في المسالك ، ومحكي التنقيح فلا يحمل على الوقف إلا مع القرينة لاحتمالهما مع الانفراد عن قرينة حال أو مقال غير الوقف لاشتراكهما بينه وبين غيره.

ولكن لو نوى بذلك الوقف من دون القرينة دين بنيته كما عن الخلاف والمبسوط والغنية والسرائر وغيرها من كتب المتأخرين ، بل لا أجد فيه خلافا كما اعترف به بعض مشايخنا ، بل ولا في أنه يدان بنيته إن لم يقصد الوقف بما هو صريح فيه إذا لم يكن له معارض ، لكن قد يشكل الأول بعدم الاجتزاء بمثل ذلك في غيره من العقود اللازمة ، بل المشهور فيما بينهم عدم انعقادها بالمجازات ، وإن كان خلاف المختار إلا أنه على كل حال لا بد من اعتبار الدال على القصد في حصول أصل العقد ، لا الحكم به ، لأنه المتيقن من السببية وإن لم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب أحكام الوقوف ـ الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب أحكام الوقوف ـ الحديث ـ ٢.

٤

نجد في المقام دليلا مخصوصا ، ودعوى ـ أن هذا العقد ليس من الخطاب الذي يراد به إفهام الغير حتى يعتبر فيه ذكر القرينة ـ تستلزم الاكتفاء بذلك في غيره من العقود ، فلا حظ وتأمل.

وعلى كل حال فالمراد من الإدانة بنيته هو إيكاله إلى دينه وقصده فيما بينه وبين ربه ، فيعامل كلا منهما معاملة حاله في الواقع مع فرض عدم المعارض.

نعم لو أقر أنه قصد ذلك أى الوقف بالكناية حكم عليه بظاهر الإقرار في الظاهر فيكون كالصريح حينئذ من هذه الجهة ، وأن بقي حكم الإدانة بحاله في الواقع أيضا ، هذا.

وفي محكي التذكرة إذا أتى بالكناية فالمقترن الزائد عليه إما لفظ أو نية ، فاللفظ أن يقرن إليه صدقة موقوفة أو محبسة إلى أن قال : وأما النية فينظر إن أضاف اللفظ إلى جهة عامة كأن قال : تصدقت بهذا على المساكين بنية الوقف ، فالأقرب إلحاقه بالصحيح ، وإن أضافه إلى معين ، فقال : تصدقت عليكم أو عليك لم يكن وقفا على الأقوى وفي المسالك وغيرها أن الفرق غير واضح ، إلا أنه لم يحك عن التذكرة كما حكيناه ، وقد يقال : إن مراده من عدم الحكم بوقفه وإن نواه لعدم ما يقتضي التأييد.

ثم إنه قد يظهر من عبارة المصنف وما شابهها أن اللفظين صيغة واحدة للوقف باعتبار إفراد الضمير الراجع إليهما ولعله لذا قال في الدروس ، ان ظاهر الأصحاب يدل على أنهما صيغة واحدة ، فلا تغني الثانية عن الأولى ، وتغني الأولى مع القرينة ولو قال : جعلته وقفا أو صدقة مؤيدة محرمة كفى لكن في المسالك « أن ما ادعاه من الظاهر غير ظاهر ».

قلت : قد عرفت الإشعار في المتن وما شابهه ، نعم قد يناقش ـ فيما ذكر من الفرق بين الأولى والثانية ـ بأنه لا دليل عليه ، بل في محكي التذكرة « وأما حرمت هذه البقعة للمساكين أو أبدتها ، أود أرى محرمة أو مؤبدة ، فالأقرب أنها كناية عن الوقف ، فإن انضم إليها قرينة تدل على الوقف صارت كالصريح ، وإلا فلا ، وكذا عن غيرها.

نعم حكى فيها عن أظهر وجهي الشافعية المنع في حرمت وأبدت لعدم استعمالهما مستقلين ،

٥

وإنما يؤكد بهما غيرهما ، وأما ما ذكره أخيرا فلا أجد فيه خلافا.

نعم في المسالك بعد أن استحسنه قال : إلا أن فيه خروجا عن صيغة الوقف المنقولة ، وظاهرهم عدم المسامحة في مثل ذلك ، وإن كان الأقوى الاكتفاء في كل لفظ يدل على المطلوب صريحا.

قلت : هو كذلك في غير المقام ، أما فيه فمساحتهم فيه في غاية الظهور ، نعم هو ليس صريحا في الاصطلاح الذي هو وضع اللفظ لخصوص المعنى.

ولو قال حبست أو سبلت قيل : يصير وقفا وأن تجرد لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) « وحبس الأصل وسبل الثمرة‌ فيكون صريحا في الوقف كما عن الخلاف والغنية والجامع والتذكرة والكيدري ، بل في الأول الإجماع عليه وقيل لا يكون وقفا إلا مع القرينة كما عن الأكثر لعدم الوضح له والاستعمال أعم إذ ليس ذلك عرفا مستقرا بحيث يفهم ( عند ) الإطلاق لا أقل من الشك والأصل بقاء الملك ، ولا ريب في أن هذا أشبه بأصالة عدم النقل والانتقال ، وعدم ترتب أثر الوقف وأحكامه ، خصوصا مع معلومية اشتراك كل منهما معنى بين الوقف وغيره ، والخبر إنما يدل على حصول الوقف بهما معا ، لا بكل واحد منهما ، فيكون صريحا في عدم صراحتهما التي هي بمعنى وضع اللفظ للوقف الذي معناه مركب من معناهما ، كما هو واضح بأدنى تأمل. هذا بل هما معا لا يقومان مقام وقفت في الصراحة ، لاشتراكهما بين الوقف وبين الحبس ، بل لعلهما في الثاني أظهر ، وربما توهم من عدم تعرض المصنف للقبول ، عدم اعتباره فيه ، وكذا غيره.

ولكن فيه أنه يمكن اكتفاء المصنف عنه بذكر كونه عقدا ، ومن المعلوم اعتباره في معناه ، وعدم ذكره بالخصوص لعدم النزاع في خصوص ألفاظ له ، إذ هو ما يدل على قبول ذلك الإيجاب ، ولذا ترك ذكره المصنف فيما تقدم من بعض العقود الجائزة المعلوم اعتباره فيه ، على أنه سيأتي له التصريح بعدم اعتباره في خصوص ما إذا كان على جهة عامة ، وهو كالصريح‌

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥١١.

٦

في اعتباره فيه في غيرها ، ونحوه غيره ممن ذكره في قسم العقود ، بل في جامع المقاصد والمسالك إطباق الأصحاب على أنه من قسمها مؤيدا ذلك كله بمعلومية عدم دخول عين أو منفعة بسبب اختياري ابتداء في ملك الغير من دون قبول ، مع أنه لو كان لاتجه كونه حينئذ من قسم الإيقاع ، فلا يبطله الرد ، وهو مناف لما صرح به جماعة من البطلان به ، وإن لم نقل باشتراط القبول ، بل عن ظاهر الإيضاح وجامع المقاصد أنه لا خلاف فيه بيننا ، وأن المخالف فيه إنما هو بعض الشافعية وحينئذ فعدم اشتراطه فيه مطلقا ـ كما عساه يتوهم من عدم ذكر جماعة له في غير محله.

نعم قد صرح المصنف ومن تأخر عنه كالفاضل والشهيدين وغيرهم بعدم الحاجة إليه في الوقف على الجهات العامة ، لعدم القابل للقبول فيها ، ولما عساه يظهر من المحكي من صدقات أمير المؤمنين عليه‌السلام والزهراء عليها‌السلام والصادق عليه‌السلام (١) المشتملة على ذكر إنشاء الإيجاب بدون قبول ، ولأن الأصل عدم اشتراطه بعدم تناول المطلقات للمجرد عنه ، إلا أن الجميع كما ترى ، ضرورة عدم اقتضاء الأول الصحة بلا قبول ، بل بعد فرض الدليل على اعتباره ، يتجه عدم الصحة فيها حينئذ ، على أن قبول الولي العام كالحاكم أو منصوبه ممكن ، بل ربما يستفاد من بعض الأدلة الآتية في القبض الاكتفاء بقبول من يجعله فيما لها ، ولو نفسه كالقبض ولعله على ذلك ينزل ما وقع من صدقاتهم بناء على أنها من الوقف ، لا قسم مستقل برأسه ، يثبت مشروعيته من هذه الروايات ، لخلوها عن التصريح بكونه وقفا ، ولا بعد في دعوى مشروعية مثل هذا التسبيل بهذه النصوص ، وإن لم أجد من احتمله.

وأما الأصل فيقتضي اعتباره ، لا عدمه ، لما سمعت من أن مقتضاه عدم ترتب الأثر ، والمطلقات لا تتناوله ، بعد فرض الشك في معناه ، وأنه من قسم العقود المعتبر فيها المعنى الارتباطي بين اثنين أولا ، بل من ذلك ينقدح قوة اعتباره مطلقا على نحو غيره من العقود ، حتى في الفورية والعربية وغيرهما ، ضرورة ظهور النصوص أجمع في كونه قسما واحدا ، وقد عرفت المفروغية من اعتبار القبول فيه في الجملة ، إذ القول بعدم اعتباره مطلقا وأنه فلك ملك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام الوقوف والصدقات.

٧

كالتحرير في غاية السقوط ، بل لم نعرفه قولا لأحد من المعتبرين وإنما يذكر احتمالا ، وتهجسا ، فالوحدة المزبورة حينئذ تقتضي اعتباره أيضا حتى في الجهات العامة ، بعد فرض مشروعيته فيها ، على نحو فرض مشروعية غيره من العقود فيها ، من الصدقة وغيرها ، وإلا كان للوقف معنيان أحدهما عقدي ، والآخر إيقاعي ، وهو مناف للوحدة المزبورة ، كما هو واضح ونافع وموافق للذوق السليم.

نعم قد يقال : إن الأصل يقتضي عدم اعتبار القربة في صحته ، وإن كان هو خيرة الفاضل في القواعد ، للأصل بعد اندراج فاقدها بناء على ما ذكرناه في العقود المأمور بالوفاء بها ، وفي نحو قوله‌ (١) « الوقوف على حسب ما يقفها أهلها » وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) « حبس الأصل وسبل الثمرة » ونحوها ، وإطلاق الصدقة عليه في كثير من النصوص ـ بل لم يذكر فيما ورد مما أوقفوه عليهم‌السلام الا بلفظ الصدقة ، ومن المعلوم اعتبار القربة فيها خصوصا بعد‌ الصحيحين (٣) « لا صدقة ولا عتق إلا ما أريد به وجه الله عز وجل » بل هو دال عليه في الفرض ، بناء على إرادة الوقف منه أو ما يشمله ، وارادة نفي الصحة فيه كما هو الأقرب للحقيقة لا الكمال ، بل لو سلم إطلاقها عليه من باب المجاز فهو من التشبيه البليغ أو الاستعارة المقتضيين للمشاركة في الأحكام الظاهرة التي لا شك في كون القربة منها ، مؤيدا ذلك كله بما صرح به في وقوفهم من وقوع ذلك منهم ابتغاء وجه الله ـ لا يقتضي ذلك ، ضرورة عدم اقتضاء شي‌ء من ذلك أن الوقف جميعه من الصدقة ، بل أقصاه أن منه ما يكون كذلك ، وهو ما قصد به وجه الله تعالى ، وهو الذي وقع منهم عليهم‌السلام ولذا اتبعوه بذلك ، ولا دلالة فيه على اعتبارها في صحته على وجه ، بحيث لو وقف على ولده ونحوهم من دون ملاحظة القربة يكون باطلا ، مع أن مقتضى ما سمعته من الإطلاقات صحته ، وما من الغنية والسرائر من الإجماع على ذلك لم نتحققه ، لخلو كثير من عبارات الأصحاب المشتملة على بيان شرائطه عنه.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الوقوف والصدقات.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٥١١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث ـ ٢ ـ ٣.

٨

نعم قد يقال : باستفادة رجحانه في نفسه عند الشارع على نحو رجحان النكاح وهو غير اعتبار النية فيه على وجه يلحقه بالعبادات ، على بحث يأتي فيه ، أنه هل هو اسم للصحيح منه أو للأعم ، وأن القربة في الصيغة ، أو في القبض والإقباض وغير ذلك مما لا يخفى على الفقيه بأدنى ملاحظة القطع بعدمه ، خصوصا بعد معلومية عدم اعتبار ما يعتبر في الصدقة في الموقوف عليه من فقر ونحوه ، بل ستسمع إن شاء الله تصريحهم بجوازه على الكافر ، وبصحة وقف الذمي على البيع والكنائس ، ومنه ومن العامي المعلوم عدم صحة عباداتهما لفقد الايمان ، ولعله لذا وغيره اعترف غير واحد من المحققين هنا بعدم الدليل على الاشتراط هنا ، وفي الأول أي القبول بأن الأولى اعتباره حتى في الجهات العامة لما ظهر من ذلك ، فتأمل جيدا فإن كثيرا من الكلمات هنا غير نقية بل ظاهرة في التشويش من أهلها ، والله العالم.

وكيف كان فـ ( لا يلزم ) عقد الوقف إلا بالإقباض الذي هو القبض بالاذن فلكل منهما حينئذ فسخه قبله ، وهذا لا ينافي كونه مع ذلك من شرائط الصحة التي هي بمعنى ترتب الأثر من ملك الموقوف عليه المنفعة وغيره كما سيصرح به المصنف وغيره ، بل فرعوا عليه البطلان بموت الواقف قبله وغيره ، ضرورة كون المراد هنا بيان عدم اللزوم قبله كما عن بعض العامة أو بيان أن وقوع العقد لا يقتضي وجوب الإقباض الذي هو من شرائط الصحة ، وإن توهم من نظير المقام جمعا بين قوله تعالى (١) ( أَوْفُوا ) وما دل على اعتباره في الصحة التي هي بمعنى ترتب الملك ونحوه إذ هو ـ مع أنه مناف لأصالة البراءة وغيرها ـ لا يوافق ما دل هنا على اعتباره مما هو كالصريح بل صريح في الاذن بالفسخ قبل حصوله ، وأنه لا إثم عليه.

قال صفوان في الصحيح (٢) : « سألت عن الرجل يوقف الضيعة ثم يبدو له أن يحدث في ذلك شيئا؟ فقال : إن كان وقفها لولده ولغيرهم ، ثم جعل لها قيما لم يكن له أن يرجع ، وإن كانوا صغارا ، وقد شرط ولايتها لهم حتى يبلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع فيها ، وإن كانوا كبارا ولم يسلمها إليهم ، ولم يخاصموا حتى يحوزونها عنه ، فله أن يرجع فيها ، لأنهم لا يجوزونها عنه ، وقد بلغوا ».

__________________

(١) سورة المائدة الآية ـ ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الوقوف الحديث ـ ٢ و ٨.

٩

و‌عن الأسدي فيما ورد عليه من جواب مسائله عن العمرى (١) عن صاحب الزمان روحي له الفداء « وأما ما سألت عنه من الوقف على ناحيتنا وما يجعل لنا ثم يحتاج إليه صاحبه ما لم يسلم ، فصاحبه فيه بالخيار ، وكل ما سلم فلا خيار فيه لصاحبه ، احتاج أو لم يحتج ، افتقر إليه أو استغنى عنه « إلى أن قال » : وأما ما سألت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لنا حياتنا ضيعة ويسلمها من قيم يقوم فيها ويعمرها ويؤدى من دخلها خراجها ومؤنتها ، ويجعل ما بقي لنا من الدخل لناحيتنا ، فإن ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيما عليها إنما لا يجوز ذلك لغيره » لكن كما هما ترى غير صريحين ، بل ولا ظاهرين في اشتراطه في الصحة بمعنى ترتب الأثر الذي هو الملك ونحوه ضرورة انطباق ما فيهما على كونه شرطا في اللزوم ، وتظهر الثمرة في النماء المتخلل بينهما.

لكن في جامع المقاصد والمسالك نفى الخلاف من كونه شرطا فيها مكررا ، بل فيها الإجماع على ذلك ، وإن كان قد يناقش بما قد يظهر من الغنية من كونه شرطا في اللزوم حيث أنه بعد أن ذكر شرائط الصحة ، قال : « فأما قبض الموقوف عليه أو من يقوم مقامه في ذلك فشرط في اللزوم » بل لعله صريحها بعد التأمل في جميع كلامه ، وحينئذ يكون هو معقد إجماعها ، بل لعله ظاهر اللمعة أيضا حيث ذكر أولا أنه لا يلزم بدون القبض بإذن الواقف ، فلو مات قبله بطل ، إلى أن قال ، وشرطه التنجيز والدوام ، إذ من المحتمل بل الظاهر كونه من العقود الجائزة فيلحقه حكمها من البطلان بالموت ، ولو للنصوص الدالة على ذلك في الصدقة بناء على إرادة الوقف منها ، أو ما

نعم عبارة المصنف وما شابهها محتملة لإرادة الصحة بقرينة تصريحه بعدم ذلك بكونه من شرائطها أو من شرائطه الظاهر في أرادتها أيضا ، واحتمال العكس بعيد ولإرادة ما ذكرناه أو لبيان أنه متى كان شرطا في الصحة كان شرطا في اللزوم ، أما من لم يكن له إلا التعبير بكونه شرطا في اللزوم ، فلا ريب في ظهوره بترتب الصحة قبله كالمحكي عن المبسوط والخلاف والسرائر ، بل عن الأخيرين الإجماع عليه مضافا إلى إجماع الغنية ، وبذلك يظهر أن في المسألة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الوقوف الحديث ٢ ، ٨.

١٠

قولين ، بل عن الوسيلة أنه جعل التسليم شرطا في الصحة ، إلا إذا جعل ولاية الوقف لنفسه مدة حياته.

وعن كافي أبي الصلاح « إذا تصدق على أحد الوجوه المذكورة ، وأشهد على نفسه بذلك ، ومات قبل التسليم ، فان كانت الصدقة على مسجد أو مصلحة فهي ماضية ، وإن كانت على من يصح قبضه ، أو وليه ، فهي وصية يحكم فيها بأحكام الوصايا » وعن سلار في المراسم عدم ذكره من الشروط أصلا ، وبذلك كله يظهر لك ما في المسالك والرياض وغيرهما من المفروغية عن اشتراطه فيها حتى فيما حكوه عن التنقيح من الإجماع على ذلك ، مع أن التأمل في كلامه يقتضي إرادة دعواه على اعتباره في الجملة لأنه بعد ذلك بلا فاصلة معتد بها حكى الخلاف فيه ، بل قد يقال : باقتضاء القواعد كونه شرطا فيه لا فيها ، جمعا بين ما يدل عليها بدونه من الإطلاقات ، وآية ( أَوْفُوا ) وغيرها وبين الخبرين السابقين.

وأما النصوص المتضمنة لبطلان الصدقة بالموت قبل القبض ، فمع أن الاستدلال مبني على ارادة الوقف منها أو ما يشمله ، لا تدل على اشتراطه في الصحة ، وإن ذكره غير واحد ، إذ من الممكن ما سمعت من كونه عقدا جائزا ينفسخ بالموت ومثله ولو لهذه النصوص ، والخروج عن ذلك في الصدقة غير الوقف لدليل لا يقتضي الخروج عنه في الوقف أيضا ، ومع الإغضاء عن ذلك كله فالمتجه كونه شرطا كاشفا لا جزء سبب ، كما حرره في المسالك ، وتبعه غيره ، لما عرفت من وجود مقتضى الصحة فلا وجه حينئذ لجعل الثمرة في النماء المتخلل ، فتأمل جيدا ، والله العالم.

وكيف كان فلا خلاف ولا إشكال في أنه إذا تم الوقف بجميع شرائطه المعتبرة فيه كان لازما ، لا يجوز الرجوع فيه ، إذا وقع في زمان الصحة بل الإجماع بقسميه عليه عندنا ، بل هو كالضروري من مذهبنا ، خلافا لأبي حنيفة ، فجوز للواقف الرجوع به بل لورثته ، إلا أن يرضوا به بعد موته ، فيلزم ، أو يحكم به حاكم ، مع أن تلميذه أبا يوسف لما قدم إلى بغداد كان على قوله ، ولكن حدثه إسماعيل بن إبراهيم بن علية عن ابن عوف عن ابن عمر خلافه ، فقال هذا لا يسع احد خلافه ، ولو تناهى الى أبي حنيفة لقال‌

١١

به ، مع أن المحكي عن أبي حنيفة أنه قال : إن أوصى بالوقف لزم في الثلث ، وفي الخلاف ، تناقض ، لأنه جعله لازما في ثلثه في مرضه المخوف ، ولم يجعله إذ أنجزه لازما في جميع ما له في حال صحته ، وإن كان قد يفرق بينهما ، بعد تسليم ارادة لزوم الوقف منه ، هذا.

ولكن للمفيد في المقنعة ما ينافي بظاهره لما ذكرنا قال : « الوقوف في الأصل صدقات لا يجوز الرجوع فيها إلا أن يحدث الموقوف عليهم ما يمنع الشرع من معونتهم ، والقرب إلى الله سبحانه وتعالى بصلتهم أو يكون تغير الشرط في الوقف إلى غيره أرد عليهم وأنفع لهم من تركه على حاله ، وإذا أخرج الواقف الوقف عن يده إلى من وقفه عليه لم يجز له الرجوع في شي‌ء منه ، ولا يغير شرائطه ولا نقله من وجوهه وسبله » وعن ابن إدريس انه أطال في رده ، ويمكن أن يكون ذلك منه بناء على اعتبار بقاء صلاحية الموضوع للتقريب في الموقوف ، فيكون انتفاء الوصف المزبور حينئذ مقتضيا لانتفاء الموقوف عليه المقتضى لبطلان الوقف بناء على مختاره من عدم اعتبار التأييد فيه ، والأمر سهل بعد وضوح الحال ، والله العالم.

هذا كله لو وقف في زمان الصحة أما لو وقف في مرض الموت فإن أجازه الورثة نفذ من الأصل وإلا اعتبر من الثلث لكونه حينئذ ( كـ ) باقي منجزاته من الهبة والمحاباة في البيع ونحوهما وقيل يمضى من أصل التركة ولا ريب في أن الأول أشبه كما أوضحنا ذلك مفصلا في كتاب الحجر وكتاب الوصايا وحينئذ فـ ( لو وقف ووهب وأعتق وباع فحابى ولم يجز الورثة ، فإن خرج ذلك من الثلث ، صح وإن عجز بدئ بالأول فالأول ) لأنه هو السابق في التعلق حتى يستوفى قدر الثلث ثم يبطل ما زاد خلافا للمحكي عن الفاضل في المختلف فبسط الثلث على الجميع فارقا بين المنجزات والوصايا ، وضعفه واضح.

وهكذا لو أوصى بوصايا ، ولو جهل المتقدم قيل والقائل الشيخ في المحكي عن مبسوطة ، لكن فيما إذا أوصى يقسم على الجميع بالحصص لعدم الترجيح بعد قيام احتمال التقدم المعلوم كونه في أحدها في كل منها ، وبذلك يكون الفرض كالمنجزات التي لم يعلم التقدم في أحدها المحكوم فيها بالاقتران لأصالة عدم تقدم كل منها على الآخر ، كما هو قضية‌

١٢

كل حادث اشتبه سبقه بالآخر وتأخره عنه ولكن فيه ما لا يخفى عليك في المقيس ، والمقيس عليه ، ضرورة كون المتجه في الأول القرعة ، ولذا قال المصنف ولو اعتبر ذلك بالقرعة كان حسنا‌ ـ « لأنها لكل أمر مشتبه (١) » ولا ريب في أن الفرض منه ، بل لعل الأمر كذلك في المقيس عليه أيضا إذا فرض عنوان الحكم في الشرع السبق والاقتران ، ولم يعلم أحدهما ، إذ الأصل لا يشخص الثاني الذي هو من الحوادث ، والأصل عدمه فليس إلا القرعة.

نعم لو قلنا أن العنوان في الشرع السبق خاصة كما هو الظاهر فمع عدم العلم يبقى الحكم على مقتضى إطلاق الوصية الذي هو التعلق بالجميع فمع القصور يتجه التقسيم حينئذ بالحصص ، لا القرعة كما سلف لنا غير مرة في نظائر المقام ، بل قد ذكرنا جملة من ذلك في هذه المسألة في كتاب الوصايا فلا حظ وتأمل.

ثم أنه لا يخفى عليك أنه ليس في الشرع اعتبار كيفية خاصة للقرعة بالنسبة إلى التعدد والاتحاد ، فله حينئذ تعددها في الثلاثة التي في المتن مثلا ، مع فرض جهل الحال فيها على وجه لم يعلم أنها مرتبة كلا أو بعضا أو لا ، فيقرع أولا لبيان اقترانها على السواء ، أو ترتبها كذلك ، أو الاقتران في بعض والترتب في آخر ، فإذا خرج أحدهما أقرع لتعرف احتمالاته خاصة إن كانت.

وله أن يقرع قرعة واحدة بثلاثة عشر ورقة على عدد الاحتمالات فيها ، وهي ترتيبها مع سبق الوقف ثم العتق ثم البيع ، أو مع تقدم البيع على العتق ، وسبق العتق ثم الوقف ثم البيع ، أو مع تقدم البيع وسبق البيع مع الصورتين ، فهذه ست.

ومقارنة اثنين منها وهي ست أيضا ، اقتران العتق والوقف سابقين ، وتأخر البيع ولاحقين له ، وتقارن الوقف والبيع سابقين وتأخر العتق ولاحقين له ، واقتران العتق والبيع سابقين وتأخر الوقف ولاحقين له واقتران الثلاثة.

وله القرعة بكتابة سبع رقاع في أحدها الوقف وفي الثانية العتق ، وفي الثالثة البيع ، وفي الرابعة الوقف والعتق ، وفي الخامسة الوقف والبيع ، وفي السادسة العتق والبيع ، وفي السابعة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى الحديث ١١ و ١٨. وفيها‌ « كل مجهول ففيه القرعة ».

١٣

اجتماع الثلاثة ، ثم يخرج واحدة ، فإن ظهرت بأحد المنفردين قدم ، وأخرج أخرى ، فإن ظهر منفرد آخر أو مجتمع مع غيره والثلاثة أطرحتا وأخرج غيرها كما ذكر ، وأن ظهر أولا رقعة الثلاثة أفاد الاجتماع ، أو رقعة اثنين جمع بينهما سابقا وحكم بتأخر الثالث وبالجملة ، فالمدار على كتبه رقاع تصح على جميع الاحتمالات ، والله العالم.

وإذا وقف شاة كان صوفها الذي على ظهرها ولبنها الموجود في ضرعها داخلا في ما اقتضاه الوقف من تسبيل الثمرة ما لم يستثنه نظر إلى العرف كما لو باعها بلا خلاف أجده بين من تعرض له من الفاضل ، والشهيدين والكركي وغيرهم ، بخلاف الحمل ، بل وبخلاف ثمرة النخل والشجر ونحوهما ، فإنه لا عرف يقتضي ذلك إلا أن الانصاف عدم خلوه من الأشكال بحسب ما نجده الآن ، بل قد يشك في أصل الحكم حتى مع التصريح بناء على عدم اقتضاء عقد الوقف تمليك نفس الثمرة وإنما اقتضاؤه ذلك بإدخال العين الموقوفة في ملك الموقوف عليه ، فتكون الثمرة نماء ملكه المحبوس عليه بالمنع من التصرف فيه ببيع ونحوه بخلاف الثمرة ، ومن المعلوم أن ذلك إنما يكون في النماء المتجدد دون ما حصل من النماء الذي هو ملك الواقف فإنه لا يتصور تملكه من حيث التبعية المزبورة كما هو واضح ، ودعوى قابلية عقد الوقف لنقلها باعتبار كونها ثمرة تقتضي قابليته لها على جهة التسبيل حتى مع الانفصال وهو محل تأمل ، إلا أن ظاهر من تعرض المفروغية من قابليته لذلك كاقتضائه دخول باقي المنافع المتجددة في ملك الموقوف عليه كالصوف واللبن المتجددين ، وعوض البعض ، واجرة الدابة والعبد ونحوها ، بل والنتاج المتجدد ، كما نص عليه الفاضل في القواعد ومحكي التذكرة وإن كان لا يخلو من نظر تقدم في نظائره في كتاب البيع.

وأما أغصان الشجر الذي هو كالثمر فيها نحو شجر الخلاف فهو أيضا ملك للموقوف عليه لأنه من المنافع ، بل لا يبعد دخول ما جرت العادة بقطعه كل سنة مما فيه إصلاح الشجر والثمرة من تهذيب الأغصان ، وما يقطع من أغصان شجر العنب في الثمار كما لا يبعد كونه من أجزاء الموقوف في حال ، ومن المنافع في حال آخر ، مثل أطراف النخل حال كونها رطبة ويابسة ، والله العالم.

بقي الكلام في فروخ الأشجار المتجددة بعد الوقف ، ولا يبعد أن تكون من نماء الوقف ومن‌

١٤

فوائده إن كانت متولدة منها نفسها وإلا فهي لمن يجوزها أو لمن كان بذرها له هذا.

وعن التذكرة اشتراط دخول اللبن المتجدد في منافع الموقوف على وجه يدخل في ملك الموقوف عليه بما إذا لم تكن العين موقوفة على جهة خاصة لا يدخل فيها نحو ذلك كما إذا وقف بقرة للحرث ، فان الدرع يكون للواقف ، ومرجعه الى جواز الوقف في بعض المنافع دون بعض ولنا فيه نظر يأتي إن شاء الله تعالى.

( النظر الثاني : في الشرائط )

وهي أربعة أقسام : القسم الأول : في شرائط الموقوف وهي أربعة الأول أن تكون عينا مملوكة ينتفع بها مع بقائها ، ويصح إقباضها ، فلا يصح وقف ما ليس بعين كالدين معجلة ومؤجلة على الموسر والمعسر وكذا الكلي كما لو قال : وقفت فرسا أو ناضحا أو دارا ولم يعين وإن وصفها بأوصاف معلومة ، بل وكذا المنفعة ، لأن العين تطلق في مقابل الثلاثة التي لا يصح وقف شي‌ء منها للشك في تناول أدلة الوقف لذلك ، ولاتفاق الأصحاب ظاهرا ، ولأن المستفاد من‌ قوله (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « حبس الأصل وسبل الثمرة » وما وقع من وقوفهم ، اعتبار فعليه التهيؤ للمنفعة في الأصل الذي يراد حبسه ، ولا ريب في انعدام التهيؤ فعلا للكلي المسلم فيه مثلا ، ولذا لا تصح إجارته ولا غير الإجارة مما يقع على المنفعة ، لعدم ملكها لمن يملكه.

نعم يصح بيعه والصلح عليه وغيرهما مما يقتضي نقله نفسه ، بل وهبته إن لم يدل دليل على اعتبار الشخصية فيها ، وتهيؤه بعد القبض لا يقتضي ذلك قبله الذي هو مورد العقد في الفرض.

وأما وقف كلى موصوف في الذمة على نحو إجارته الذي أشار إليه المصنف بقوله « وكذا » ‌

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ١١ د.

١٥

إلى آخره فيمنعه أولا : عدم صلاحية عقد الوقف لإثبات نحو ذلك في الذمم ، كغيره من عقد الهبة والصدقة ونحوهما مما هو ليس عقد معاوضة ، بل هو غير مملوك. وثانيا : عدم تحقق الحبس والتسبيل فعلا وتأخره إلى التعيين مناف لاعتبار تنجيزه ، ومقارنة الأثر لسببه ، وبذلك افترق عن الإجارة المقتضية لملك دابة موصوفة عليه فعلا ، وتأخر تعينها للوفاء لا ينافي ذلك ، كما لا ينافي ذلك ملك عين الكلي في ذمته ، كل ذلك ، مضافا إلى ما في جامع المقاصد ، من دعوى الاتفاق على ما في القواعد من عدم صحة وقف الدين والمطلق كفرس غير معين وعبد في الذمة وملك مطلق ، قال : والمراد بالأخير أن يقف ملكا من الأملاك أيها كان ولا يشخصه ، ويجوز أن يراد به أن يقول وقفت ملكا ويقتصر على ذلك ».

قلت : قد يشك في عدم صحة وقف عبد من عبيده المعينين على وجه يكون الموقوف فيها واحدا منهم بخصوصه وشخصه على البدل على نحو مذهب الإمامية في الواجب المخير ، ويتعين حينئذ بالقرعة ، أو بتعيين الواقف ، أو يكون الموقوف عبدا منها الصادق على كل منها ، بل لعل هذا هو المتيقن في الفرض على تقدير الصحة ، ضرورة عدم وقف كل منها بالخصوص على البدل ، وإن جاز ذلك في الواجب المحير لغة وعرفا على وجه لا يحتاج إلى تعيين من الأمر ولا قرعة ، بخلافه في المقام المفروض فيه كون أحدهما ، لا كل منهما ، وفي محكي التذكرة عن الشافعية في أحد الوجهين صحته كصحة عتق أحد العبدين ، وربما يشعر به اقتصار المصنف الأولين في التفريع على العين ، اللهم إلا أن يريد بقرينة قوله ولم يعين خصوص المفروض أو الأعم منه ، وفي مفتاح الكرامة « قل من تعرض لعدم الصحة في ذلك ، وأول من تعرض له الفاضل في التذكرة » لكن في الرياض عن الغنية الإجماع على عدم الصحة في المنفعة والدين والمبهم ، وإن كنا لم نتحققه ، وإنما الموجود فيها وفي المحكي عن السرائر الإجماع على كونه معلوما مقدورا على تسليمه مع بقاء عينه في يد الموقوف عليه ، مع أنه يمكن إرادة إخراج نحو وقفت شيئا من أملاكي ، وبطلانه حينئذ للإبهام المحض الذي يشك معه في صلاحية كونه موردا للعقد ان لم يظن العدم ، ولعله المراد من الملك المطلق في القواعد كما سمعته من جامع المقاصد في تفسيرها بل لعله المراد من اعتبار العلم فيما حكيناه عن الغنية والسرائر ، ضرورة ارادة‌

١٦

إخراج فاقده أصلا وهو المبهم المحض وبالجملة إن لم يكن إجماعا فالقول بالصحة لا يخلو من وجه خصوصا على المختار عندنا من صحة وقف المشاع المنافي لدعوى التشخيص ، ولتحقق الحبس والتسبيل فعلا في أحدهما كالوصية به لشخص والجهل بعينه لا يقدح بعد عدم اعتبار المعلومية فيه كالبيع والإجارة ، فتأمل جيدا فإنه قد تكون المسألة مبنية على جواز ملك الكلي في الخارج بدون الإشاعة بناء على أن الموقوف ملك للموقوف عليه ، وقد تقدم الكلام فيها في كتاب البيع وغيره ، والله العالم.

وأما عدم صحة وقف المنفعة فلعدم تصور الحبس فيها ، ضرورة كونها مبنية على الاستيفاء شيئا فشيئا ، ودعوى ـ عدم اعتبار أصل التحبيس في الوقف ، بل يكفى فيه تسبيل المنفعة كما عن أبي الصلاح ـ يدفعها ظهور النص والفتوى بخلافه بل يمكن دعوى ضرورة المذهب أو الدين على ذلك ، نعم نحو ذلك يشرع في السكنى والرقبى والعمرى ، وهي غير الوقف كما هو واضح.

وكيف كان فلا إشكال كما لا خلاف بيننا في أنه يصح وقف العقار والثياب والأثاث والآلات المباحة ونحو ذلك مما ضابطه كلما يصح الانتفاع به منفعة محللة مع بقاء عينه لا كمنفعة أعيان الملاهي ونحوها ، ولا ما لا منفعة له أصلا ، أو لا منفعة له إلا بإتلاف عينه ، كالطعام والشمع ونحوهما ، بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك بيننا ، بل الإجماع بقسميه عليه ، لإطلاق الأدلة وخصوصها في بعض.

نعم عن أبي حنيفة عدم جوازه في الحيوانات والكتب ، بل عن مالك في مطلق المنقول ، وعن أبي يوسف عدم جوازه إلا في الأرض والدور ، والكراع ، والسلاح ، والغلمان تبعا للضيعة ، إلا أنها كما ترى مخالفة للنصوص من طرقنا ، وطرقها عموما وخصوصا ، والإجماع والسيرة المستمرة في وقف الحصير والقناديل والزوالى ونحوها.

١٧

لكن هل يعتبر طول زمان المنفعة أولا؟ ظاهر الأكثر كما اعترف به في الروضة والنصوص الثاني ، فيصح حينئذ وقف ريحانة يسرع فسادها ، وربما احتمل الأول ، بل هو ظاهر جماعة وصريح محكي التذكرة والتحرير ، لدعوى الانسباق الممنوعة على مدعيها ، وللمنافاة للتأبيد المراد من الوقوف الذي يدفعها معلومية عدم إرادة أزيد من عمر العين منه ، وإلا لم يصح وقف أبدا ، لعدم عين عمرها الأبد كما هو واضح.

وكذا لا يعتبر فعلية النفع ، بل يكفي تأهله ، فيصح وقف الفلو والجحش ، والعبد الصغار ، بلا خلاف أجده ، لإطلاق الأدلة أيضا وكذا يصح وقف الكلب المملوك ككلب الصيد والماشية والزرع والحائط بناء على ملكيتها والسنور وغيرها من الحيوانات التي تدخل تحت الملك ، ولها منافع مقصودة محللة ، لحصول مقتضى الصحة حينئذ من ملك الأصل ولإمكان الانتفاع به المحلل مع بقاء العين.

نعم لو قلنا بعدم ملكها وأن لصاحبها حق الاختصاص ، ولكن له الانتفاع بها اتجه حينئذ عدم صحة وقفها ، بناء على اعتبار ملك الأصل ، بل لعل قوله حبس الأصل وسبل الثمرة يشمله ، إذ لا دلالة في الأصل على اعتبار كونه مملوكا وهو واضح ، نعم لا يصح وقف الخنزير ، لأنه لا يملكه المسلم وكذا غيره من كلب الهراش ، ونحوه مما لا يدخل تحت يد المسلم على وجه يملك منفعته بلا خلاف أجده فيه ، أما الكافر فالأقرب صحة وقفه له على مثله ، كما في القواعد وغيرها ، بناء على صحة الوقف منه لمعاملته معاملة الملك في حقه ، والمراد بصحة الإقباض في المتن القدرة على تسليمه أو ما يشملها ، ولذا قال ولا وقف الآبق لتعذر التسليم مفرعا له على ذلك ، وهو جيد فيما يرجع منه إلى السفه ، كالطير في الهواء والسمك في الماء ، أما إذا لم يكن كذلك فلا دليل على عدم جوازه ، لإطلاق الأدلة التي ليس في شي‌ء منها ما يقتضي مقارنة إمكان القبض للعقد في الصحة ، بناء على اعتبارها فيها ، بخلاف البيع المعتبر فيه ، عدم الغرر ، الذي هو بمعنى الخطر ، وحينئذ فيقف الآبق فإن قبض بعد ذلك صح ، وإلا فلا كما صرح به ثاني المحققين والشهيدين ، وأولى بالصحة وقفه على القادر على تسلميه لحصول الإقباض من المالك الذي هو بمعنى الإذن فيه من جهته ، بل قد عرفت في كتاب البيع قوة صحة بيع مثله ، فضلا عن وقفه.

١٨

وهل يصح وقف الدراهم والدنانير قيل : لا يصح وهو الأظهر عند المصنف وفاقا لجماعة من القدماء بل في الدروس عن المبسوط الإجماع عليه إلا ممن شذ ، والموجود في المحكي عنه وعن الغنية والسرائر نفي الخلاف فيه ، لأنه لا نفع لها إلا بالتصرف فيها وهو مناف للوقف المقتضى بقاء الأصل وقيل : يصح كما أرسله في محكي المبسوط لأنه قد يفرض لها نفع مع بقائها كالتزين بها ، ودفع الذل ونحوها ، فيتناولها حينئذ إطلاق الأدلة ، ولعله لذا استشكل الفاضل في القواعد بل في محكي التذكرة أن أصحابنا ترددوا ، وفي محكي السرائر لو قيل بالجواز كان وجها ، وفي المسالك أقوى ، وفي الدروس ومحكي التذكرة والحواشي وجامع المقاصد الصحة مع المنفعة ، كالتحلي ونحوه.

قلت : ويؤيده الإجماع ـ في الظهور فضلا عن النصوص ، كما تقدم في محله ـ على جواز إعارتها ، وهي كالوقف في اعتبار وجود المنفعة ، واحتمال الفرق بينهما لا وجه له هذا كله في خصوص الدراهم والدنانير.

أما إذا اتخذت حليا أو اتخذ منها حليا فلا إشكال في جواز وقفها ، وعن التحرير أنه يصح وقف الحلي إجماعا ولو وقف ما لا يملكه لم يصح وقفه مع عدم الإجازة قطعا ولو أجاز المالك قيل : لا يصح ـ لا لأن الفضولي على خلاف الضوابط فيقتصر فيه على خصوص ما ورد فيه ، لأن الظاهر عدم الاختصاص ، بل ـ لأن نية التقرب شرط فيه ، ولا يقوم الغير مقام المالك فيها ونيتها حين الإجازة غير نافعة ، إما لاشتراط المقارنة للصيغة ، أو لأن تأثير نيته في الصحة غير معلوم ، والأصل بقاء الملك واختاره الكركي وفاقا للمحكي عن المهذب وجامع المقاصد والتحرير في موضع ، وكأنه قال به أو مال إليه في الروضة.

وقيل : يصح ، لأنه بالإجازة صار كالوقف المستأنف وهو حسن وفاقا للمحكي عن التحرير في آخر ، واللمعة والحواشي وشرح الإرشاد وللفخر ، والروض والتنقيح ، وظاهر المسالك وغيرها ، لأنه قسم من الصدقة التي ثبت بالنص جوازها من الفضولي في مثل مجهول المالك ونحوه ، والتقرب بمال الغير عن الفاعل غير مشروع أما عن الغير نفسه ففي‌

١٩

الأدلة ما يدل على مشروعية كل ذلك ، بناء على اعتبار نية التقرب فيه على وجه يكون من العبادة ، أما على القول بعدم اعتبارها أصلا فلا ريب أن المتجه حينئذ الصحة.

ويصح وقف المشاع بلا خلاف أجده فيه عندنا ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل نصوص التصدق به مستفيضة أو متواترة ، فيدخل فيه الوقف ، أو يراد منه بل في الغنية أنه مورد قوله عليه‌السلام حبس الأصل وسبل الثمرة ، فما عن الشيباني ـ من عدم الجواز لعدم إمكان قبضه ـ واضح الضعف لما عرفت ولأن قبضه هنا كقبضه في البيع كما هو واضح ، والله العالم.

بقي الكلام فيما يندرج في الضابط المزبور من جواز وقف من ينعتق على الموقوف عليه ، وقد صرح به الفاضل في قواعده ، ووافقه عليه في جامع المقاصد لأن العتق إنما هو في الملك التام ، بل عن غاية المراد الميل إلى ذلك ، أو القول به ، هذا.

ولكن الإنصاف عدم خلوه من النظر ، وتسمع لذلك تتمة إن شاء الله تعالى ، في صيرورة الأمة الموقوفة أم ولد ، إذا وطأها الموقوف عليه ، فولدت منه فتنعتق بموت السيد ، ويؤخذ من تركته قيمتها للبطون المتأخرة ، وأما أم الولد فالمتجه عدم جواز وقفها بناء على انتقال الموقوف للموقوف عليه ، لعدم جواز ، نقلها إلى الغير بجميع وجوه النقل ، أما على القول ببقائه على ملك الواقف فقد يقال بالجواز ، وتبقى حينئذ على الوقف إلى موت السيد ، ولو مات ولدها قبله تأبد وقفها ، وإلا عتقت من نصيبه وبطل وقفها.

وفيه أنه مناف للتأييد المعتبر فيه الذي يراد منه بناؤه عليه من أول الوقف ، اللهم إلا أن يمنع اعتبار ذلك ، أو يقال : كما عن بعض الشافعية من بقاء منافعها للموقوف عليه وإن تحررت ، كما لو آجرها ومات ، وأما المدبر فلا إشكال في جواز وقفه ، ويكون حينئذ رجوعا عنه ، ولعله لذا حكى الإجماع عن التذكرة على جواز وقفه.

نعم الظاهر عدم صحة وقف المكاتب بقسميه ، لانقطاع سلطنة المولى عنه ، كما عن التذكرة التصريح به ، وأما العين المستأجرة والموصى بمنفعتها شهرا مثلا فلا يجوز للمستأجر والموصى له وقفها ، لأنه لا يملك إلا المنفعة ، وقد عرفت جواز وقفها ، أما المالك فلا بأس‌

٢٠