جواهر الكلام - ج ٢٨

الشيخ محمّد حسن النّجفي

التي كانت وقفا ، والفرض عدم القول بالفصل ، بل هي على كل حال من الإبدال الشرعية عن النفس ، بمعنى ترتب حكم شرعي بالسبب المزبور ، لا البدلية المقتضية للحقوق أحكام المبدل منه ، بل اللازم على ما ذكروه أنه مع تعذر العين المماثلة والشقص يتجه شراء مال آخر ووقفه.

بل يشكل الحال في أرش ـ مثلا ـ لا يقابل ما لا تنتفع به البطون الذي مدار هذه الاحكام على مراعاة حقهم ، ولعل احتمال كون الدية هنا للواقف ـ باعتبار بطلان الوقف الذي من أركانه بقاء العين والانتفاع بها ، فيكون من قبيل الوقف المنقطع ، ولو بانقطاع بقاء العين ـ أو لبيت المال لتزاحم الامارات فيها ، أولى مما ذكروه.

وكيف كان فقد ظهر لك النظر في المباحث المذكورة في المسالك وغيرها التي منها ـ هل للموقوف عليهم العفو عن القصاص أو عن الأرش أو الدية؟ يبني على أن البطون اللاحقة هل تشارك فيه ، أم لا ، فعلى الأول ليس لهم العفو ، وعلى الثاني لهم ، لانحصار الحق فيهم ، وعلى تقدير المشاركة لو عفى الأول فللثاني أن يستوفى لوجود سبب الاستحقاق من حين الجناية ، وإن لم يثبت بالفعل ، مع احتمال العدم لتجدد استحقاقهم بعد سقوط الحق بالعفو ، وعلى تقدير جواز استيفاء الثاني هل له القصاص كالأول لو كانت الجناية توجبه ، أو تختص بالدية وجهان ، من مساواته للأول في الاستحقاق ، ومن تغليب جانب العفو بحصوله من الأول ، والأقوى الأول ، وكأنه أخذ بعض ذلك مما في القواعد من أنه لو جنى عليه بما يوجب القصاص ، وفإن اقتص الموقوف عليهم استوفى ، وإن عفى فهل لمن بعده من البطلان الاستيفاء الأقرب ذلك إن لم يكن نفسا.

وفيه أنه مناف لما ذكروه أجمع بلا اشكال ولا تردد ، من أن للموقوف عليهم الموجودين استيفاء القصاص ، بناء على انتقال العين إليهم بلا غرامة منهم للبطون اللاحقة ، وعلى تقدير أنها لله تعالى ـ يتولاه الحاكم ـ أو للواقف يتولاه هو ، ويحتمل على ضعف الموقوف عليهم فيهما كما تقدم سابقا ـ ضرورة أنه لا يتجه استيفاؤهم له ، مع فرض مشاركة البطون اللاحقة لهم فيه ، كما أن المتجه مع فرض أن ذلك لهم جواز عفوهم عنهم لمعلومية تخيير ذي الحق بين استيفائه‌

١٠١

وبين العفو عنه ، وليس للبطون الآتية القصاص حينئذ لعدم حق لهم فيه ، وإن لوحظ قاعدة استيفاء حق القصاص للمشتركين أنه إن عفى أحدهم دون الآخر ، كان له القصاص مع غرامة ما يخص من عفى من الدية ، فيتجه حينئذ بناء على الاشتراك هنا غرامة من يقتص منهم الدية تماما للآخرين لعدم معلومية التوزيع هنا ، مع عدم انحصار الموقوف عليهم ، ودعوى ـ أن ذلك يوجب عدم الغرامة ـ ليس بأولى من دعوى عدم جواز القصاص مع العفو عن بعضهم.

كل ذلك مضافا إلى ما في القواعد من إشكال الفرق بين الطرف والنفس ، وإن كان قد يوجه باقتضاء الجناية على النفس بطلان الوقف ، فلا حق حينئذ للبطون ، بخلاف الأطراف ، فإن حق الوقف باق ببقاء محله ، لكنه كما ترى ، ضرورة اقتضاء ذلك اختصاص الواقف بالدية في الجناية على النفس خطأ لبطلان الوقف ، بل مقتضاه أن ولاية القصاص له ، وإن قلنا بالانتقال إليهم لانتقال ملكهم الوقفي بتلف ملك العين المفروض كونه من مبطلات الوقف نحو الانقطاع بموت الموقوف عليهم ، وفرق واضح بين انتهاء الوقف ، وبين بطلانه هذا.

وعن الإيضاح أنه حكى قولا بأن البطون يستوفون الدية لتغليب العفو وقال أنه الأصح ، وعن الكركي إن فيه قوة.

وفيه إن العفو مع صحته على مال أو مطلقا يقتضي السقوط مطلقا ، وإلا فلا يؤثر شيئا ، وجميع هذه الاحتمالات والتهجسات نشأت من احتمال بقاء أثر عقد الوقف مع تلف العين بنحو ذلك ، فينتقل أثره إلى ما أوجبه الإتلاف المزبور ، ولو القصاص ، إلا أنه هو كما ترى ، وإنما المتجه اختصاص الموقوف عليهم ، بناء على الانتقال إليهم بذلك قصاصا أو دية أو أرشا ، أو بطلان الوقف ورجوع ذلك إلى الواقف ، أو يرجع أمره إلى والى المسلمين ، لعدم معرفة حاله ، ولعلها مترتبة بالقوة والضعف ، وإن لم أجد المصرح بالأخيرين.

ولا يخفى عليك بعد ذلك كله الحال فيما لو كان الجاني عبد واسترق كله أو بعضه بجنايته ، فهل يختص به الموجودون أو يكون وقفا ، إذ هو على البحث السابق ، وكذا لو اتفق هو ومولاه على الفداء ، فهل يختصون به أيضا ، أو يشتري به عبدا أو شقصا أو مالا آخر يكون وقفا؟

١٠٢

المسألة الرابعة : إذا وقف في سبيل الله انصرف إلى جميع ما يكون وصلة وطريقا إلى الثواب ، كالغزاة والحج والعمرة وبناء القناطر والمساجد ونفع المحاويج ونحو ذلك مما هو طريق إلى ثوابه ورضوانه ، كما هو المعروف بين الأصحاب ، بل عن ابني زهرة وإدريس في بحث الوصية الإجماع عليه ، وهو الحجة مضافا إلى الفهم عرفا ، وإلى الخبر المروي عن تفسير علي بن إبراهيم (١) على ما تقدم مفصلا في كتاب الزكاة خلافا للمحكي عن الشيخ من اختصاصه بالغزاة المطوعة دون العسكر المقاتل على باب السلطان ، وبالحج والعمرة فيقسم أثلاثا ، وابن حمزة من اختصاصه بالمجاهدين إذ هو كما ترى ، مناف للمفهوم ـ عرفا ولغة ـ من ذلك بلا دليل وإن كان ما ذكروه أقوى في الدلالة ، الا أنه لا يمنع من تناول غيره مما يدخل في مفهومه وملاحظة معنى الطريق في ذلك لا يقتضي التخصيص المزبور عرفا كما هو واضح.

وكذا لو قال في سبيل الله تعالى وسبيل الثواب وسبيل الخير كان واحدا بمقتضى الفهم عرفا وحينئذ فـ ( لا يجب قسمة الفائدة أثلاثا ) أحدها للغزاة والحج والعمرة وهو سبيل الله ، والثاني : للفقراء والمساكين ويبدأ بأقاربه وهو سبيل الثواب ، والثالث : لأصناف الزكاة وهو سبيل الخير. كما عن الشيخ لعدم الدليل على ذلك على وجه يقتضي الخروج عن مفهوم اللفظ لغة وعرفا ، ودعوى أنه كذلك فيها لا يخفى عليك ما فيها.

المسألة الخامسة : إذا كان له موال من أعلى وهم المعتقون له أو من انتهى إليه ولاء العتق وموال من أسفل وهم الذين أعتقهم ومن انتقل إليه ولاؤه ، ثم وقف على مواليه ، فان علم أنه أراد أحدهما بقرينة حال أو مقال انصرف الوقف إليه بلا خلاف ولا اشكال ، كما إذا لم يكن إلا أحدهما ، بناء على أنه قرينة على عدم إرادة غير الموجود ، ولو مع الضم إلى الموجود ، وإن لم يعلم ففي المسالك ، « رجع إليه في تفسيره ، لأنه أعلم لما أراد ، فإن تعذر الرجوع إليه أو قال : إنه لم يقصد شيئا بخصوصه ، وإنما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة الحديث ـ ٧.

١٠٣

وقف على مدلول هذا اللفظ ، ففي بطلان الوقف أو صرفه إليهما ، أو أحدهما أقوال ».

وفيه إنه لا وجه لتعيين الرجوع اليه ، بناء على أن اللفظ ظاهر ينصرف إليه ، كما أنه لا بد من التأمل في تصور المسألة هنا ، حيث يقول إني لم أقصد شيئا مع أنك قد عرفت فيما سلف الإجماع على اعتبار معلومية الموقوف عليه وتمييزه ، ولو بجهة العموم ، ضرورة اعتبار قصد إنشاء التمليك للمنفعة ، أو مع العين منه ، خصوصا في الوقف الخاص المحتاج إلى قبول للإنشاء الذي توجه إليه على أن المشترك اللفظي لا مدلول له بالخصوص يحمل عليه من دون قصد.

وعلى كل حال فالأمر في ذلك سهل ، إذ يكفي في ذلك تصور المسألة الصورة الأولى : وحكمها عند المصنف وجماعة أنه إذا كان كذلك انصرف الوقف إليهما وفاقا للمشهور ، كما عن الدروس ، وهو مبنى على جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى مطلقا أو إذا كان للفظ الجمع ، وأنه يحمل على إرادة جميع المعاني مع التجرد عن القرائن مطلقا ، وإذا كان بلفظ الجمع الذي لا يعتبر فيه ـ وفي التثنية ـ اتفاق المعنى ، كما صرح به بعض النحويين ، لأنه بمثابة العطف بالواو ، خلافا لجماعة فأبطلوه ، بناء على عدم جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى وان كان بلفظ الجمع أو على عدم حمله على الجميع مع التجرد.

قال في المسالك : « وإن قلنا بعدم حمله على معانيه حقيقة بطل ، لعدم تعين مصرفه ، سواء جوزنا جمع المشترك بجميع معانيه أم لا ، أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلأنه حينئذ بمنزلة المفرد المشترك ، وحكمه كذلك ، وتبعه عليه غيره ».

قلت : قد حققنا في الأصول جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد لكن على جهة المجاز ، وأن المعتبر في الجميع اتفاق المعنى مع اتفاق اللفظ ، وأنه لا يحمل اللفظ المشترك على الجميع مع التجرد عن القرائن ، بل على معنى واحد منها بخصوصه ، إلا أنه مع ذلك كله قد يقال : بالصحة في المقام ، ويستخرج الموقوف عليه بالقرعة ، بعد فرض اجتماع باقي شرائط الصحة فيه ، إذ إجمال الموقوف عليه في الظاهر لا يقتضي بطلان الوقف ، بل هو كالمشتبه في الأثناء.

١٠٤

نعم لو فرض تجرد الواقف عن قصد واحد بخصوصه ، اتجه البطلان ، ولكنه خلاف ظاهر الاستعمال ، خصوصا في مثل المقام ، وأما بناء الصحة في الفرض على أنه مشترك معنوي كما عن الشيخ فهو مناف للمحكي عن نص أهل اللغة على الاشتراك اللفظي ، بل وللعرف الآن عندنا ، خصوصا مع عدم صلاحية قدر مشترك بينهما يقصده المستعمل وكذا ما عن ابن حمزة من أنه إن جمع اللفظ حمل عليهما ، وإن أفرد حمل على الأعلى ، بقرينة المكافاة للإحسان ، وأضعف منه ما عن بعض الشافعية من الحمل على المولى من أسفل خاصة بقرينة محتاجا فتوجه النفس إلى الوقف عليه لشدة حاجته بخلاف الأعلى ، لأنه على العكس غالبا إذ هو كما ترى لا يستأهل ردا ، ومما ذكرنا يعلم لك الحال فيما لو كان الوقف بلفظ المفرد ، كما أنه يظهر لك الحال أيضا في ظاهر جملة من الكلمات هنا والله العالم.

المسألة السادسة : إذا وقف على أولاد أولاده ، اشترك أولاد البنين والبنات ذكورهم كما عن الشيخ وإناثهم بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع صريحا وظاهرا عليه من غير واحد ، بل لعله لا اشكال فيه بناء على تناول اسم الولد الذي هو بمعنى التولد منه لهما حقيقة ، وإن كان هو محل تأمل في عرفنا الآن ، بل لعل الظن بالعدم كما أنه لا اشكال ولا خلاف في اشتراكهم في ذلك من غير تفصيل لأنه المفهوم عرفا من إطلاق سبب الاستحقاق المفروض اتحادهم فيه ، بل الأظهر دخول الخناثي معهم أيضا كذلك ، وإن قلنا إنهم طبقة مستقلة ، لصدق اسم الولد بالمعنى المزبور عليها.

نعم لو كان وقفه على البنين خاصة ، قيل : لم يدخلن ، كالبنات ، وعلى البنات لم يدخلن كالبنين ، وعليهما بني دخولهم ـ على عدم خروجهم عن الصنفين في نفس الأمر ، لقوله تعالى (١) ( يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً ) إلى آخره ولاستخراج أحدهما بالعلامات ومع فقدها نصف النصيبين ـ وخروجهم على كونهم واسطة لعدم ظهور الآية في الحصر ولا كلام فيه مع وجود العلامات ، كما لا دلالة في نصف النصيبين على ذلك ، بل يمكن دلالته على عدمه ، ضرورة جواز كون نصيبها المتوسط ، لأنها متوسطة الحقيقة.

__________________

(١) سورة الشورى الآية ـ ٤٩.

١٠٥

قلت : قد يقال : إن المتجه القرعة في الأول كما في الدروس قال : « لأنها في نفس الأمر من أحد الصنفين » قلت : بل لعله كذلك ، وإن قلنا بالواسطة ، فتتجه القرعة ، حتى في الثاني أيضا ، إذ هي غير معلومة اللهم إلا أن يقال : بتشخيصها حينئذ بالخروج عنها بعدم ظهور أمارة أحدهما ، وإلا فالأصول متعارضة حتى أصالة عدم الاستحقاق ، فإنه معارض بأصالة عدم اختصاص غيرها به أيضا ، ومنه يظهر قوة القول بها في الأول ، فتأمل جيدا.

ثم لا يخفي عليك أن المراد هنا بيان اندراج أولاد البنين والبنات في الدرجة الأولى في أولاد الأولاد ، لصدق الولد على الذكر والأنثى ، لا بيان دخول أولاد أولاد الذكور من الدرجة الثانية والثالثة ، وهكذا كما احتمله في الرياض ، وأشكله في أولاد بنات أولاد الواقف ، بناء على المشهور بأنهم ليسوا بأولاد حقيقة لأولاده بخلاف أولاد أولاده الذكور ، فإنهم أولاد أولاد حقيقة ، وإن نزلوا إجماعا إذ هو كما ترى مناف لما تسمعه منهم بلا خلاف من اختصاص الوقف على أولاده وأولاد أولاده بالبطنين فيما لو قال : أولادي ، وأولادي أولادي ، لدعوى الانصراف عرفا فلا وجه لاحتمال إرادتهم هنا ما ذكره كما هو واضح.

وعلى كل حال فذلك غير ما نحن فيه أما لو قال من انتسبا إلى منهم لم يدخل أولاد البنات على الأشهر بل المشهور ، بل يمكن دعوى الإجماع من الجميع ، فان المرتضى وابن إدريس وإن قالا فيما لو قال أولادي وأولاد أولادي أنه ولد ، لكن لا يلزم القول منه بصدق الانتساب المفهوم منه عرفا ، خلاف ذلك.

ومن هنا قال في محكي السرائر في الباب إنما أراد الشاعر بقوله‌ « بنونا بنو أبنائنا »

إلى آخر الانتساب ، بمعنى أن أولاد البنت لا ينسبون إلى أمهم ، وإنما ينسبون إلى أبيهم ، وليس كلامنا فيه ، بل في الولادة وهي متحققة من جهة الأم من غير خلاف ، والذكر والأنثى فيه سواء ، ونحوه عن اختلاف ، وقد أومأنا نحن سابقا إلى نحو ذلك ، وقلنا : إن أولاد البنات وإن كانوا أولادا حقيقة إلا أنهم لا يستحقون الخمس الذي عنوانه اسم القبيلة الخاص بالذكور ومن يتولد منهم ، وحينئذ فما عن التحرير ـ من أن في دخول أولاد البنات في الفرض نظرا ، وعن إيضاح النافع أن الفرض ضعيف وعن الكفاية أن الأظهر الرجوع إلى العرف بل عن الإيضاح وجامع المقاصد ، أن الخلاف مع المرتضى‌

١٠٦

وابن إدريس ـ في غير محله.

ولو وقف على أولاده وأولاد فلان وأطلق ولم يكن ثم قرينة حال أو مقال انصرف إلى أولاده لصلبه ، ولم يدخل معهم أولاد الأولاد وفاقا للمشهور وقيل : لما عن المقنعة والكافي والنهاية والمهذب والسرائر ، وبعض نسخ النافع. واللمعة والتحرير بل يشترك الجميع لصدق الولد على الجميع حقيقة ولا ريب في أن الأول أظهر ، لأن ولد الولد لا يفهم من إطلاق لفظ الولد وإن قلنا أنه حقيقة ، لمعلومية اختلاف أفراد المتواطي ، فلا ينافي الاختصاص بغيره كونه حقيقة ، ضرورة رجوعه إلى انسياق بعض أفراد المطلق عند الإطلاق ، وربما يؤيده قرأة النصب في قوله تعالى (١) ( وَوَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ) واحتمال كونه لتفخيم شأن يعقوب كما في عطف جبريل على الملائكة في قوله تعالى (٢) ( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ ) إلى آخره خلاف ظاهر العطف ، وبذلك يظهر لك سقوط الأطناب هنا في الاستدلال على كونه ولدا حقيقة مطلقا ، أو في خصوص ولد الذكر دون الأنثى ، لما عرفت من أن وجه المسألة ما ذكرنا ، اللهم إلا أن يمنع الانسياق المزبور ، فيتجه الاستدلال المذكور حينئذ ، وقد ذكرنا مختارنا فيه غير مرة أن ولد الولد ولد حقيقة ، من ذكر كان أو أنثى ، والله العالم.

ولو قال : على أولادي وأولاد أولادي اختص بالبطنين دون ما نزل ، إلا مع القرينة ، بناء على ما عرفت من الانسياق المزبور من غير فرق في ذلك بين الذكور والإناث.

ولو قال : على أولادي فإذا انقرضوا وانقرض أولادي فعلى الفقراء ، فالوقف لأولاده لصلبه خاصة بناء على ما عرفت فإذا انقرضوا قيل : كما عن الشيخ حاكيا له عن بعض يصرف إلى أولاده ، فإذا انقرضوا فإلى الفقراء وإلا لكان ذكرهم لغوا ، وفي الدروس أنه قوي ، إما لقرينة الحال وإما لشمول لفظ الولد للنافلة ، كقول المفيد وجماعة ، وكأنه مال إليه أيضا في غاية المراد ،

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ـ ١٣٢.

(٢) سورة البقرة الآية ـ ٩٧.

١٠٧

قال : عملا بالظاهر والقرينة المقالية يجعل ذلك المجاز واردا مورد اللفظ ، ولا شك أن عطف الانقراض ، على الانقراض مشعر بذلك ، وإلا لكان الوقف منقطعا ، والوقف شأنه الدوام.

وقيل : لا يصرف إلى أولاد الأولاد لأن الوقف لم يتناولهم ، لكن يكون انقراضهم شرطا لصرفه إلى الفقراء بناء على صحة منقطع الوسط وهو أشبه بأصول المذهب وقواعده ، ضرورة أنه لا دلالة في اللفظ المزبور على دخولهم في الوقف ، لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما إذ لا تلازم بين اشتراط انقراضهم ، وبين كونه وقفا عليهم ، وإلا لاقتضى اشتراكهم مع الأولاد ، لا ترتبهم عليهم ، والخصم لا يقول به ، واعتبار الدوام في الوقف لا يكون قرينة على ما لا يظهر من اللفظ ، ويكفي في فائدة ذكرهم إرادة الشرطية فلا دلالة في عطفه انقراض الأولاد على إرادة الدخول ، بل لعل فيه دلالة على العدم.

نعم على قول المفيد ومن تبعه بشمول إطلاق الأولاد لأولادهم يتجه دخولهم في الوقف معهم على الشركة ـ لا على الترتيب ـ بمجرد اللفظ الأول ويكون ذكرهم ثانيا لفائدة بيان وقت استحقاق الفقاء ، فيكون في قوة تقييد إطلاق الأولاد الشامل للبطون المترتبة أبدا بالبطنين الأولين ، ويكون ذكرهما قرينة لإرادة تخصيصهما بالأولين ، وإن كان منهما متناولا لما بعده أبدا لو لا القرينة.

أما على المختار من انسياق خصوص أولاد الصلب من إطلاق الأولاد وبطلان منقطع الوسط في المراتب المتأخرة مع فرض تحقق انقطاعه فالمتجه البطلان ، اللهم إلا أن يدعى أنا نفهم عرفا أن العبارة المزبورة للدخول على الترتيب المذكور ، ولكن المتجه أيضا على ما ذكرنا اختصاص ذلك بالبطنين ، وقد تقدم البحث سابقا في مصرف الوقف بناء على صحة المنقطع حال الانقطاع بنحو ذلك ، فلا حاجة إلى إعادته بعد معلومية فساده لديك بلا مزيد عليه كما هو واضح.

المسألة السابعة : إذا وقف مسجدا مثلا فخرب أو خرجت القرية أو المحلة التي هو فيها لم تبطل بذلك مسجديته ، للأصل بعد إمكان الانتفاع به ، ولو فيما يأتي وحينئذ لم يعد لذلك إلى ملك الواقف ، ولا تخرج العرصة عن الوقف‌

١٠٨

وإن لم يبق من آثاره غيرها ، إذا هي العمدة في المسجد بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك بيننا.

نعم في المسالك هذا كله يتم في غير المبنى في الأرض المفتوحة عنوة حيث يجوز وقفه ، تبعا لآثار التصرف ، فإنه حينئذ ينبغي بطلان الوقف بزوال الآثار ، لزوال المقتضي للاختصاص ، وخروجه عن الأصل ، اللهم إلا أن تبقى فيه رسوم ، ولو في أصول الحيطان بحيث يعد ذلك أثرا في الجملة ، كما هو الغالب في خراب البناء ، وحينئذ فقول المصنف « لا تخرج » إلى آخره لا يتم إلا في المملوك بالأصل ، إذ لم يعتبر في الوقف إلا العرصة وهي أرض المسجد ، وإن زالت الآثار أجمع.

قلت : قد أشرنا في كتاب البيع إلى خروج ذلك بالسيرة القطعية على اتخاذ المساجد فيها ، وإجراء حكمها علينا من غير مدخلية للآثار في ذلك ، ضرورة اقتضاء المسجدية الدوام والتأبيد ، وحينئذ فلا وجه للحكم بمسجديتها لا على هذا الوجه ، بل التزام عدم صيرورتها مسجدا حينئذ أولى ، وإن كان هو مردودا بالسيرة القطعية ، بل بالمعلوم من الشرع من جريان أحكام المساجد على مساجد العراق ونحوه ، وغيرها من المفتوحة عنوة.

وعلى كل حال فما عن بعض العامة ـ من عود المسجد بما عرفت إلى ملك الواقف قياسا على ما لو أخذ السيل مثلا ميتا فيئس منه كان الكفن للورثة لجامع تعذر المصرف في الموضعين ـ واضح الضعف ، أن الكفن الذي هو من التركة قد كان ملكا لهم بموت الميت ، وإن وجب عليهم صرف ذلك في تكفينه فإذا زال الموجب عاد إلى ما كان ، كما يعود إلى الزكاة أو إلى الوقف أو إلى باذله إن كان منها ، بل لو قلنا أن مقدار الكفن من التركة على حكم مال الميت ، فالحكم كذلك أيضا لمعلومية تقييده بما دام الميت محتاج إليه ، وإلا دخل في الإرث.

المسألة الثامنة : إذا انهدمت الدار ولم يبق من آثارها شي‌ء لم تخرج العرصة بذلك عن الوقف ولم يجز بيعها بلا خلاف أجده فيه بين من تعرض له ، كالفاضل والشهيدين وغيرهم ، لأن الخراج لا يصلح لنقض الوقف وإبطاله ، مع بنائه على التأبيد ، وعلى عدم جواز بيعه ، ولأن العرصة من جملة الموقوف ، وهي باقية ، بل لم يحكوا‌

١٠٩

الخلاف في ذلك إلا عن بعض العامة ، فجوز بيعها ، إذا انهدمت ، ولم يكن عمارتها كالمسجد ، وفي المسالك تقييده في غير الأرض الخراجية على نحو ما سمعته في المسجد ».

قلت : لا ريب في أن الحكم كذلك مع فرض وقوع عقد الوقف عليها من حيث نفسها ، وإن قارن بذلك كونها دارا ، فينتفع بها حينئذ بزرع ونحوه مما تكون قابلة له ، إذ لا حصر للانتفاع بها في الدارية ، وإن كانت حال الوقف دارا ، إلا أن يصرح بالاشتراط.

نعم قد يشكل تغييرها اختيارا كما نص عليه في محكي التذكرة قال : لا يجوز تغيير الوقف عن هيئته ، فلا يجوز جعل الدار الموقوفة بستانا ولا حماما ، ولا بالعكس ، ولو تعذر الاستمرار صار إلى أقرب الأوصاف ، وعن الكاظم عليه‌السلام (١) فيما وقفه « لا يحل لمؤمن بالله تعالى واليوم الآخر أن يبيعها ، ولا يبتاعها ، ولا ينحلها ولا يغير شيئا منها » إلى آخره ، اللهم إلا أن يحمل ذلك منه لبيان الاشتراط منه عليه‌السلام كما يحمل كلام التذكرة على وقف الدار الملحوظ في وقفها داريتها ، لكن لا يخفي أنه لا داعي إلى هذا الحمل ، لظهور وقف الدار إلى إرادة الانتفاع بها دارا وهكذا إلا مع التصريح بعدم قصد ذلك وهو خارج عن محل الفرض.

هذا كله مع عدم ملاحظة الدارية في وقفه ، أما إذا لا حظ الواقف في وقفه لها حيثية كونها دارا ، فمتى بطل كونها كذلك بحيث خرجت عن قابلية ذلك ، يمكن الحكم ، ببطلان الوقف حينئذ بذهاب موضوعه ، بل يمكن التزامه في النخلة الموقوفة الملاحظة في وقفها تسبيل ثمرتها أيضا إذا سقطت كما ستسمعه إن شاء الله تعالى.

ولعل مرجعه إلى نظير ما سبق من جواز الوقف في منفعة خاصة ، وربما يشهد لذلك ما سمعته سابقا من ثاني الشهيدين ومن تبعه في أن الوقف على مصلحة تنقرض غالبا يكون من الوقف المنقطع الآخر ، وهو كذلك.

ومن ذلك كله يظهر لك أن وقف الدار مثلا يقع على وجوه :

أحدها : وقفها ما دامت دارا فانهدمت والظاهر كونها من منقطع الآخر.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام الوقوف الحديث ـ ٥ ـ مع اختلاف يسير.

١١٠

ثانيها : وقفها دارا على معنى أنه ينتفع بها دارا ، والظاهر أنها وقف كذلك ما دامت صالحة لذلك ، وإن انهدمت نعم إذا خرجت عن قابلية ذلك على وجه لا يرجى عودها ، أمكن القول ببطلان وقفها.

ثالثها : وقف الدار على معنى تسبيل منفعتها كائنة ما كانت وإن قارن كونها دارا حال الوقف ، والظاهر بقاء وقفها ، بل يجوز تغييرها اختيارا.

رابعها : وقفها دارا وعلم إرادة دوام أصل الوقف منه ، فاتفق انهدامها ، والظاهر عدم جواز تغييرها اختيارا لكن إذا انهدمت جاز له الانتفاع بها على غير وجه الدارية ، إلا مع التصريح.

وقد ذكرنا تفصيل بعض ذلك في كتاب البيع في مسألة بيع الوقف إذا أدى بقاؤه إلى خرابه ومن ملاحظته يعلم الحال فيما لو وقع بين الموقوف عليهم خلف بحيث يخشى خرابه وإن قال المصنف هنا جاز بيعه جاز ما به ، إلا أن المسألة شديدة الإشكال والاختلاف ، وقد استقصينا الكلام فيها هناك بحمد الله تعالى شأنه وكذا فيما لو لم يقع خلف بينهم ولا يخشى خرابه ، بل كان البيع أنفع لهم وإن قيل : أنه يجوز بيعه حينئذ في ذلك ولكن الوجه المنع كما ذكرنا الكلام فيه مفصلا ومنه يعلم الحكم أيضا فيما لو انقلعت نخلة من الوقف وإن قال المصنف هنا قيل : والقائل الشيخ في محكي مبسوطة ونهايته يجوز بيعها لتعذر الانتفاع إلا بالبيع وقيل : والقائل ابن إدريس لا يجوز لإمكان الانتفاع بالإجارة للتسقيف وشبهه وهو أشبه وفي المختلف أن النزاع بينهما لفظي ، لأن الشيخ فرض عدم الانتفاع إلا بالبيع ، وابن إدريس فرضه بالتسقيف ونحوه.

قلت : عبارة الخلاف لأنه لا يمكن الانتفاع بها إلا على هذا الوجه ، لأن الوجه الذي شرطه الواقف قد بطل ، ولا يرجى عوده ، وعبارة المبسوط جاز بيعها لأرباب الوقف لأنه تعذر الانتفاع بها على الوجه الذي شرطه ، وهو أخذ ثمرتها ، وظاهر هما بطلان الوقفية المقتضية لحبس العين وعدم جواز بيعها ، ببطلان المنفعة التي وقفت العين أى حبست العين عن النوافل ،

١١١

لإرادة استيفائها ، فلا يجب حينئذ على الموقوف عليه حبسها لغيرها من المنافع ، وإن كانت صالحة للانتفاع بها مع بقاء عينها ، وحينئذ يكون الخلاف معنويا لا لفظيا وإن زعمه الفاضل في المختلف.

بل لعل كلام الشيخ لا يخلو من قوة ، وإن خالفه من تأخر عنه ، خصوصا مع ملاحظة الواقف ذلك قيدا في وقفه ، كما هو مقتضى تعبير الشيخ بالشرطية ، وحينئذ يرجع إلى ما ذكرناه في البيع وفي المقام من أنه متى جعل الجاعل هيئة الموقوف عنوانا في وقفه ، فذهبت الهيئة ، بطلت الوقفية المقتضية لتحبيس الأصل وجاز البيع للموقوف عليهم ، لا للواقف كما أوضحناه في كتاب البيع.

نعم لو لم يجعل ذلك عنوانا بل كان مراده الانتفاع بالعين مع بقائها كائنة ما كانت المنفعة لم يجز البيع حينئذ ، إلا مع سلب المنافع أجمع وانحصار منفعتها بالإتلاف كالخشبة للإحراق ونحوه فتأمل جيدا.

ولا ينافي ذلك ـ ولا ما تقدم من مسألة المسجد والدار ـ ما تقدم سابقا من صرف الوقف ـ على مصلحة فبطل رسمها ـ في وجوه البر بعد ما عرفت أن مرادهم ذلك في الوقف المؤبد الذي ذكر له مصرفا خاصا فاتفق تعذره المنزل على أنه يصرف له ما دام ممكنا ليجامع تأبيد وقفه كما أوضحناه فيما تقدم هذا.

وفي القواعد ولو شرط بيعه عند التضرر به كزيادة خراج وشبهه ، وشراء غيره بثمنه أو عند خرابه وعطلته أو خروجه عن حد الانتفاع أو قلعه أو قلة نفعه ففي صحة هذا الشرط إشكال ، بل عن الإرشاد الوجه الجواز ، ونفى عنه البأس في محكي الروض قيل : وكأنه مال إليه ، أو قال به الشارحان له ولده والشهيد ، بل وثاني المحققين وفي الحواشي أنه الأقوى.

ولعله لعموم‌ « الوقف (١) » و « المؤمنون (٢) » وما عساه يظهر من إذن أمير‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الوقوف الحديث ـ ١ ـ ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ـ ٣.

١١٢

المؤمنين عليه‌السلام (١) للحسن عليه‌السلام في صدقته بذلك ، وربما يرجع ذلك كله أو بعضه إلى نحو ما قررناه في شرط عودة إليه عند الحاجة ، كما أنه لا ينبغي الإشكال في جواز اشتراط بعض ذلك بناء على جواز بيعه منه من دون شرط ، فضلا عنه معه.

نعم بناء على منافاة هذا الشرط لعقد الوقف في الجميع كما عن الإيضاح ، أو في البعض وجه المنع واضح.

لكن قد عرفت فيما تقدم سابقا من المباحث إمكان كونه على وجه لا ينافي مقتضاه ، إذ المسلم منه عدم جواز بيعه وهو وقف ، لا جواز بيعه بعد خروجه عنه ، ويمكن عود الشرط في جميعها أو في بعضها إلى ذلك ، كما أومأنا إليه في اشتراط العود عند الحاجة ، فلا حظ وتأمل كي تعرف بقرينة ما سمعته في الدية ، وقيمة العين الموقوفة من اختصاص البطن الأول بها كالقيمة عند سلب المنافع منها ، أن معنى الوقف تمليك العين محبوسة على المالك عن النواقل ما دامت قابلة ، ومتى خرجت عن الانتفاع تكون ملكا مطلقا من دون حبس ، وكذا لو شرط الواقف ذلك معلقا له على حال من الأحوال السابقة أو يشرط شراء غيرها بثمنها على أن يكون وقفا ، ولا يقدح ملك البطن في صحة الوقف عليهم ، إذا المسلم منه غير هذه النوع من الملك ، ولعل هذا غير الانقطاع من الملك الذي ذكرناه عوده إلى الواقف ، ضرورة كون الفرض تقييدا في الحبس ، لا في الملك ، ولكن الانصاف عدم خلو ذلك عن التأمل ، وإن كان يشهد له بعض كلماتهم ، فلا حظ وتأمل.

وكذا في القواعد ولو خلق حصير المسجد وخرجت عن الانتفاع به فيه أو انكسر جذع بحيث لا ينتفع به في غير الإحراق ، فالأقرب بيعه ، وصرف ثمنه في مصالح المسجد كما عن التذكرة والإيضاح وجامع المقاصد والدروس التصريح به.

نعم زاد في الأخير اشتراط ان لا ينتفع به في غيره أيضا كما أنه في الثلاثة التصريح بصرف ثمنه في بدله من حصير وجذع ، فان تعذر صرف في مصالح المسجد اعتبارا لما يقرب من مراد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام الوقوف الحديث ـ ٤.

١١٣

الواقف ، وفي محكي التذكرة أيضا أنه لا خلاف بين العامة في جواز بيع ما اشترى من الوقف أو قبل المتولي هبته عند الحاجة ، وفي جامع المقاصد أنه لا يخلو من قوة ، فإذا بيع صرف في مصالح المسجد من غير تعيين شراء مثله ، ولا يخفى عليك التحقيق في ذلك كله وفي شراء عين بثمن الموقوف عوضه مساوية أو غير مساوية أو يكون طلقا لهم ، بعد الإحاطة بما أسلفناه في كتاب البيع ، وبما ذكرناه في كتاب الوقف في مسألة ما لو أتلف العين الموقوفة متلف وغيرها من المسائل ، فلا حظ وتأمل. لكن لا ينبغي ترك ما أمكن من الاحتياط في كثير من هذه المسائل لأنها غير منقحة.

نعم لا ينبغي التأمل في صرف حاصل الوقف في وجوه البر مع الجهل بأربابه ، وإن توقف فيها أو في نحوها الخراساني في كفايته لكنه في غير محله ، ضرورة أنه من مجهول المالك ، مضافا إلى‌ خبر أبي علي (١) بن الراشد « اشتريت أرضا إلى جنب ضيعتي بألفي درهم ، فلما وفرت المال خبرت أن الأرض وقف ، فقال : لا يجوز شراء الوقف ، ولا تدخل الغلة في ملكك ادفعها إلى من أوقفت عليه ، قلت : لا أعرف لها ربا ، قال : تصدق بغلتها » وهو صريح فيما ذكرنا ، بل منه يعلم الحال في نسيان المصرف ونحوه ، فإن الجميع من واد واحد.

نعم لو علم الموقوف عليه ، ولم يعلم سهامهم ولا ترتيبهم ولا عدمه ولو لتلف ما رسمه الواقف ، فالظاهر تساويهم في القسمة الذي هو الأصل في نظائره ، وخلافا لبعض الشافعية فيوقف إلى أن يصطلحوا ، وكذا لو اختلفوا في شرط الواقف ولا بينة ، يقسم بينهم بالسوية.

نعم لو علم تفضيل بعضهم على بعض ولم يعرف المفضل احتمل الوقف حتى يصطلحوا والأقوى القرعة ، وعن التذكرة أنه لا بعد في الرجوع إلى قول الواقف لو كان حيا ، لأنه هو المتصدق ، وفيه أنه لا رجوع إليه بناء على رجوعه عن الوقف ، إذ هو حينئذ كالأجنبي ، وكالبائع الذي لا يرجع إليه عند اختلاف المشتريين منه.

المسألة التاسعة : إذا آجر البطن الأول الوقف مدة معينة مثلا ثم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب أحكام الوقوف الحديث ـ ١.

١١٤

انقرضوا أجمع في أثنائها فإن قلنا أن الموقت يبطل الإجارة في الملك المطلق فلا كلام ضرورة أولوية المقام منه وإن لم نقل فهل يبطل هنا؟ فيه تردد من إطلاق ما دل على صحة الإجارة ولزومها عموما وخصوصا ، ومن انكشاف دخول غير ما لهم من المدة في مدتهم أظهره البطلان كما في الخلاف والمبسوط والتذكرة والتحرير والإرشاد والدروس والإيضاح واللمعة وجامع المقاصد والروض والروضة والمسالك ، بل لا أجد فيه خلافا.

لأنا بينا أن هذه المدة ليست للموجودين ضرورة اقتضاء الوقف تسبيل المنفعة للموقوف عليه مدة العنوان الذي يجعله الواقف لا أزيد ، والبطن الثاني يتلقى عن الواقف كالأول ، ولذا لا تمضي إجارته مدة يعلم بالعادة زيادتها على حياته مثلا بل قد يتوقف في صحة غير ذلك لو صرح الواقف بإرادة تمليك البطن الأولى على حسب الملك المطلق ، بناء على عدم مشروعية عقد الواقف لمثل هذا التمليك ، وإن كان لا يخلو من نظر.

لكن لا إشكال في حمل قصد الواقف مع الإطلاق على ما ذكرنا ، وحينئذ فإجارته في الفرض وقعت على ما له وما ليس له ، بخلاف المالك الذي هو مسلط على أمواله ، والوارث إنما يرث ما يجده على ملكه ، فمع فرض زيادة مدة الإجارة على موته لم يكن للوارث شي‌ء إذ المنفعة صارت ملكا للغير بعقد الإجارة ، وليست من تركة الميت.

وحينئذ فيكون في الفرض للبطن الثاني الخيار بين الإجازة في الباقي وبين الفسخ فيه لأنه من الفضولي ، وهو المراد من البطلان المزبور.

وإن كان قد يشكل أولا : بعدم المجيز له في المال بناء على اشتراط ذلك في الفضولي وفرض عدمه ، اللهم إلا أن يجعل الناظر الولي على ذلك ، إلا أنه كما ترى.

وثانيا : بعدم الملك والمالك حال العقد ومجرد تأهل العقد لملكهم لو وجد وإلا يجعله من الفضولي ، اللهم إلا أن يدعى تناول أدلته لمثله ، وتكون الإجازة حينئذ كاشفة حال انقراض البطن الأول ، لا حال وقوع العقد ، وفيه بحث ، ولعله لذا حكى عن جماعة البطلان ، الذي لا يترتب عليه أثر بالنسبة إليهم ، لا بالمعنى الذي سمعته من المصنف.

١١٥

وعلى كل حال فمع الفسخ وتسليمهم الأجرة يرجع المستأجر على تركة الأولين بما قابل المتخلف بلا خلاف ولا اشكال فينسب أجرة مثله إلى آجره مثل مجموع المدة ويرجع من المسمى بمثل تلك النسبة ، فلو كان قد آجره سنة بمائة ومات بعد انقضاء نصفها ، وفرضنا أن أجرة مثل النصف المتخلف تساوى ستين وأجرة مثل النصف الماضي تساوى ثلاثين رجع المستأجر بثلثي المائة كما هو واضح.

فمن الغريب وسوسة بعض متأخري المتأخرين في ذلك ، حتى تجرأ بعض من تأخر عنه إلى الجزم بجواز اجارة البطن الأول مدة تستغرق عمر الموقوف عليه ، معللا له بأن المنفعة ملكهم ملكا مطلقا ، والناس مسلطون على أموالهم ، وهو كما ترى.

نعم لو كان المؤجر ، الناظر على الوقف لمصلحة الوقف اتجه ذلك ، لأن له الولاية المقتضية لنفوذ تصرفه في ذلك مع وجودهم ، فضلا عما قبله ، والأجرة يملكها الموجودون ، وإن كانت هي عوضا عن منافع المدة المتأخرة عن حياتهم ، إلا أنها بعد فرض المشروعية لهذه الإجارة بالإجماع ، وظاهر بعض النصوص الدالة على جواز اشتراط الناظر صيرورته وليا للمال نفسه ، وأن له هذه الولاية تكون حينئذ بمنزلة وجود المنافع المتأخرة في حياتهم إلا أنها محبوسة أيضا لا يجوز لهم صرفها في غير التعمير ونحوه ، مما يرجع مصلحته للبطون أيضا ، ولو سلم عدم الجزم بذلك ، كان الحكم بالصحة كافيا في حصول المطلوب وإن لم يجزم بتعيين مالك ما زاد من المنافع على الموجودين ، والله العالم.

ولو آجر المتولي بأجرة المثل في الحال ، فاتفق زيادة لم تنفسخ الإجارة لأصالة لزومها بعد وقوعها على الوجه المعتبر شرعا ، فلا خيار له ، نعم لو آجره زيادة عن المدة التي اشترطها الواقف بطلت الإجارة في الزائد خاصة ، لأنه من تبعض الصفقة ، بل قد يحتمل البطلان بالجميع ، لأنه عقد مخالف لشرط الواقف ، إلا أن الأول هو الأقوى.

المسألة العاشرة : لو وقف على الفقراء مثلا انصرف إلى إرادة صرف نمائه في ذي الوصف منهم ، لا استيفاؤهم ، ضرورة كون المراد من مثل هذه الوقف باعتبار عدم انحصارهم الجهة المخصوصة ، وحينئذ فله صرفه في فقراء البلد ، ومن يحضره من‌

١١٦

غيرهم ، ولا يجب تتبع الجميع بلا خلاف أجده فيه.

وكذا لو وقف على العلويين ، وكذا لو وقف على بني أب منتشرين ، صرف إلى الموجودين ، ولا يجب تتبع من لم يحضر فإن الجميع من واد واحد في عدم إرادة ـ الاستيعاب وفي خبر علي بن محمد بن سليمان النوفلي (١) عن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام « قال : كتبت إليه أسأله عن أرض وقفها جدي على المحتاجين من ولد فلان ابن فلان وهم كثير متفرقون في البلاد ، فأجاب عليه‌السلام ذكرت الأرض التي وقفها جدك على الفقراء من ولد فلان هي لمن حضر البلد الذي فيه الوقف ، وليس لك أن تتبع من كان غائبا ».

لكن كلمات الأصحاب هنا لا تخلو من تشويش ، إذ ظاهر المتن وغيره ممن عبر كعبارته وجوب استيعاب فقراء البلد ومن يحضره من غيرها ، بل لعله ظاهر الخبر المزبور بل هو صريح المحكي عن شرح الإرشاد للفخر ، قال : « إذا وقف على الفقراء صح إجماعا ولم يكن لبيان المصرف إجماعا ، بل كان تشريكا ، وصرفه للكل معتذر لانتشارهم ، وللزوم خروج نصيب كل واحد منهم عن الانتفاع والتملك ، وصرفه للبعض ترجيح من غير مرجح ، فلا بد من أن يقال : إنه يصرف إلى كل فقراء البلد ، ومن حضر في البلد من غيرهم ، ويجب الاستيعاب مهما أمكن ، فهذا الوقف يشابه بيان المصرف من جهة الاقتصار على البعض ، والتشريك من جهة أنه لا يجوز الاقتصار مع المسكنة ».

وفي الدروس « يفرق في فقراء بلد الوقف ومن حضره ، ولا يجب تتبع الغائب ، ولو تتبعه جاز ، ولا ضمان في الأقرب بخلاف الزكاة ، والفرق أن الفقراء فيها لبيان المصرف بخلاف الوقف ، ولا يجزى أقل من ثلاثة ، مراعاة لأقل الجمع ، ولا يجب التسوية ، بخلاف المنحصرين » الى غير ذلك من عباراتهم الظاهرة والصريحة ، إلا أن ما في أيدينا من العرف في أمثال ذلك على خلافه ، وأنه لا فرق بينه وبين الزكاة والخمس.

وحينئذ فلا فرق بين الواحد والأزيد من أهل البلد وغيرهم ، والحاضرين وغيرهم ولا مدخلية لأقل الجمع ، وكونه ثلاثة واثنين ، بل يمكن إرادة ذلك من الخبر (٢) المنساق لبيان عدم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب أحكام الوقوف الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب أحكام الوقوف الحديث ـ ١.

١١٧

وجوب التتبع ، وإن كان مشتملا على النهي ، إلا أنه في مقام توهم الوجوب ، وإلا لاقتضى عدم جواز الدفع إلى غيرهم ، وهو باطل إجماعا ، كما اعترف به بعضهم بل الظاهران المراد من قوله فيه « لمن حضر » بيان كونهم مصرفا لذلك ، وإن كان لا يجب استيعابهم ، لموضع المشقة وغيره أيضا ، وحينئذ فالمتجه الضمان مع التأخير ، بعد أن كان مقتضاه المصرفية ووجود المستحق ، ضرورة كونه كالزكاة بالنسبة إلى ذلك.

ولا يجوز للموقوف عليه وطئ الأمة الموقوفة وإن انحصر في واحد ، وقلنا : بانتقال الملك إليه ، بلا خلاف أجده فيه بين من تعرض له ، بل قيل : قد يظهر من المبسوط والتذكرة ، أنه لا خلاف فيه بين الخاصة والعامة إلا أن ما ذكروه من الدليل له لا يخلو من إشكال ( لـ ) أن المصنف وجماعة عللوه بـ ( أنه لا يختص بملكها ) وغيره بأنه وإن كان مالكا إلا أن للبطون اللاحقة حقا ، ووطؤه وإن كان له انتفاعا في زمن ملكه ، إلا أنه يغاير غيره من وجوه الانتفاعات من حيث أنه معرض للحمل الموجوب لصيرورتها أم ولد المانعة من دوام وقفها على البطون ، لانعتاقها بموته.

وهما معا كما ترى ، إذ هما ـ مع أنهما غير تامين في المنقطع المختص به ، وفي اليائسة ونحوها المعلوم عدم ولادتها ـ قد يناقش في الأول منهما بمنع عدم الاختصاص الآن وإن تأهل العقد لملك البطن الثاني ، إلا أنه ليس ملكا فعلا ، حتى يترتب عليه الاشتراك ونحوه ، خصوصا مع فرض كونه معدوما.

ومنه يعلم وجه المناقشة في الثاني الذي لا يتم على القول بعدم صيرورتها أم ولد بذلك أيضا ، على أن مجرد تعريضها لذلك لا يمنع الموقوف عليه من الانتفاع الحاصل له بسبب عقد الوقف فالعمدة حينئذ الإجماع ان تم.

وعلى كل حال فـ ( لو أولدها كان الولد حرا ) لأن وطأه غير معدود من زنا لأنه مالك في الجملة ولا يجب قيمت ه‍ عليه لمن بعده من البطون. لأنه المستحق له الآن إذ الولد بمنزلة كسبها وثمرة البستان ، وحينئذ فـ ( لا يجب له على نفسه غرم ) وكذا لا مهر عليه للبطون الآتية.

١١٨

نعم لو قلنا أن ولد الموقوفة وقف أيضا ففي المسالك « يجب أن يشترى بقيمته عند سقوطه ـ حيا ما يكون وقفا » وفيه نظر ، ولا يجب عليه الحد لما عرفت من عدم كونه زانيا وإن أثم كالوطئ في الحيض ، ولكن عليه التعزير مع العلم ، بل عن التذكرة نفى الحد عليه أيضا على القول بانتقال الملك إلى غيره ، لأنها مسألة اجتهادية ، لا يرفع ترجيح أحد جانبيها أصل الشبهة عن الجانب المخالف ، وهو كاف في درء الحد ، ونفى عنه البأس في المسالك ، وإن كان فيه ما لا يخفى.

هذا كله إذا لم يكن له شريك ، بأن انحصر أهل طبقته فيه ، وإلا وجب عليه قيمة حصة الشريك ، بل في المسالك « وفي حده بنسبة حصته وجه قوي ، لأن ملكها مشترك بينهما على حد سواء ، ووطء الأمة المشتركة يوجب ذلك ، ولكن لم يتعرضوا له هنا ».

قلت : قد يناقش فيه بعدم صدق الزاني عليه أيضا ، ولا أقل من الشبهة التي تدرأ الحد أيضا ، وقد مر تمام الكلام في ذلك في البيع فيما لو وطئ أحد الشريكين الجارية المشتركة.

وكيف كان فـ ( هل تصير ) الأمة في الفرض أم ولد؟ قيل : نعم كما عن المبسوط والتذكرة وشرح الإرشاد للفخر والإيضاح وحواشي الشهيد ، بل عن غاية المراد نسبته إلى الأصحاب لتحقق علوقها منه في ملكه ، وهو السبب في صيرورتها أم ولد بالنص والإجماع على ما في المسالك.

وحينئذ تنعقد بموته كغيرها من أمهات الأولاد ، وتؤخذ القيمة من تركته لمن يليه من البطون ، وفيه تردد بل منع ، وفاقا لثاني المحققين والشهيدين لمنع سببية مطلق ذلك على وجه يشمل الفرض الذي قد عرفت ظهور الأدلة في عدم تغيره بالأسباب الاختيارية والقهرية ، مضافا إلى خصوص استصحاب بقاء حكمه ولزومه ودوامه ، المقدم على عموم الاستيلاد ، أو السالم عن معارضته ، بعد معاضدته بعمومات الوقف ، وخصوصا بناء على عدم اقتضاء الملك الوقفى الانعتاق ، ولذا صح وقف من ينعتق على الموقوف عليه عند بعض.

١١٩

ثم على تقدير صيرورتها أم ولد ، فلا خلاف أجده فيه في ترتب الحكمين المزبورين حينئذ بل عن التذكرة والإيضاح الاتفاق على ذلك ، بل عن المبسوط أن الناس متسالمون على أخذ قيمتها من تركته ، وإنما اختلفوا فيما ذا يعمل بها ، فمن قال : إن الموقوف عليه إذا أتلف اشترى بقيمته آخر قال هنا : يشتري بها أخرى تقوم مقامها ، ومن قال : تنتقل إليه قال : أعطى من يليه من البطون تلك القيمة ، كما إذا وجبت القيمة وهو حي ، وحاصل مراده أن الإتلاف منه على بعده إنما هو بعد موته الذي هو سبب في انعتاقها المترتب عليه رتبة كغيره من المسببات ، وهو في ذلك الحال غير مالك ، وإنما هو زمان ملك البطن المتأخر فلا تكون القيمة له.

نعم يجري فيها الاحتمالان اللذان سمعتهما في قيمة العين الموقوفة والموقوف عليه موجود ، ولعل هذا هو الوجه في استشكال الفاضل في القواعد قال : « ومعه تنعتق بموته ، وتؤخذ من تركته قيمتها لمن يليه من البطون على اشكال » بل وتردد المصنف بناء على رجوعه إلى ذلك ، لا إلى صيرورتها أم ولد ، واعترضهم الشهيد في شرح الإرشاد « بأنها إذا صارت أم ولد حكم بنفوذ الاستيلاد في الحال ، كما في صورة ما إذا وطأ أحد الشريكين وعلقت ، إلى أن قال : ولعلهم أرادوا ذلك ، إلا أنه لما كان أحد الاحتمالين صرفها إلى من يليه من البطون ، وهو الآن غير مالك ، تأخر الدفع إلى ما بعد الموت ، ولا يلزم منه تأخر الحكم بنفوذ الاستيلاد.

وفيه أولا : أن الفرق بين المقام وبين وطئ الشريكين واضح ضرورة حيلولته بين المالك وبين التصرف في ملكه ، بمجرد الاستيلاد ، بل بالإحبال ، فتتوجه له القيمة عليه ، كما تطابقت عليه النصوص والفتاوى هناك ، بخلاف المقام الذي لا حيلولة فيه بين العين الموقوفة وبين البطن اللاحق ، لعدم استحقاقه ، ولأن الوقف كان هو السبب في المنع من التصرفات الناقلة ، فلا وجه لترتب الضمان عليه هنا بمجرد الاستيلاد.

وثانيا : أنه مناف لتصريح بعضهم بانعتاقها من نصيب ولدها ، إذ على تقدير أنها من وطئ أحد الشريكين ينبغي أخذ القيمة منه ، لأنه من نصيب ولدها ، ومناف أيضا لصريح المحكي عن المبسوط والتذكرة وبل كلامه نفسه في الحواشي بل ولظاهر المتن وغيره بل للإجماع المحكي على أخذ قيمتها من تركته على كل حال ، بل ولما سمعته‌

١٢٠