دروس تمهيديّة في الفقه الإستدلالي - ج ٣

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

دروس تمهيديّة في الفقه الإستدلالي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : الفقه
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: توحيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢١٩

حقيقة الوقف

الوقف انشاء يتضمّن تحبيس العين وتسبيل الثمرة. وقد يعبّر عنه بالصدقة وهو مشروع بلا اشكال.

وفى كونه عقداً يعتبر فيه القبول ، خلاف.

وهو يشتمل تارة على موقوف عليه فيكون متقوّماً بثلاثة أطراف : الواقف والعين الموقوفة ، والموقوف عليه ، واُخرى لا يشتمل على ذلك فيكون متقوماً بطرفين.

والمستند فى ذلك :

١ ـ أما أن الوقف ما تقدم فهو من واضحات الفقه ، ويقتضيه ارتكاز المتشرّعة الذى لا تأمل فيه. وفى الحديث عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حبِّس الأصل وسبِّل الثمرة ». (١)

٢ ـ وأما أنه قد يعبَّر عنه بالصدقة ، فهو واضح لمن راجع النصوص ، فلاحظ صحيحة ربعى بن عبداللّه‏ عن أبى عبداللّه‏ عليه‌السلام : « تصدَّق أميرالمؤمنين عليه‌السلام بدار له في المدينة فى بنى زريق فكتب : بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم هذا ما تصدَّق به على بن أبى طالب وهو حيٌّ سوى تصدّق بداره التى فى بنى زريق صدقة لاتباع ولا

__________________

١ ـ مستدرك الوسائل : ١٤ / ٤٧.

٢٠١

توهب حتى يرثها اللّه‏ الذى يرث السماوات والأرض وأسكن هذه الصدقة خالاته ما عشن وعاش عقبهنَ ، فاذا انقرضوا فهى لذى الحاجة من المسلمين » (١) وغيرها.

قال فى الحدائق : « لا يخفى على من له اُنس بالأخبار ومن جاس خلال تلك الديار أن الوقف فى الصدر الأول اعنى زمن النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله وزمن الائمة عليهم‌السلام انما يعبّر عنه بالصدقة ». (٢)

ويمكن أن يقال : إن لفظ الصدقة مصطلح مشترك بين الوقف والحبس والصدقة بمعناها الأخص ، إلاّ أنه فى الأول تخرج العين عن ملك الواقف مع حبسها عن التصرف فيها بالنقل بالبيع ونحوه ، وفى الثانى تبقى العين على ملك الحابس ويكون التمليك للمنفعة ، وفى الثالث تنتقل العين الى المتصدَّق عليه مع جواز تصرفه فيها بأيّ نحو أحب.

هذه ثلاثة معانى للصدقة. وتطلق على معنيً رابع ، وهو فريضة الزكاة ، كما قال تعالي : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها ... ) (٣)

٣ ـ وأما أن الوقف مشروع ، فهو من المسلَّمات بين جميع المسلمين ، بل يستفاد من النصوص رجحانه ، فلاحظ صحيحة هشام بن سالم عن أبى عبداللّه‏ عليه‌السلام : « ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلاّ ثلاث خصال : صدقة أجراها فى حياته فهى تجري بعد موته ، وسنّة هديً سنّها فهى يعمل بها بعد موته ، أو ولد صالح يدعو له » (٤) وغيرها.

__________________

١ ـ وسائل الشيعة : ١٣ / ٣٠٤ ، باب ٦ من أحكام الوقوف والصدقات ، حديث ٤.

٢ ـ الحدائق الناضرة : ٢٢ / ١٢٨.

٣ ـ التوبة : ٦١.

٤ ـ وسائل الشيعة : ١٣ / ٢٩٢ ، باب ١ من احكام الوقوف والصدقات ، حديث ١.

٢٠٢

٤ ـ وأما أن الوقف يعتبر فيه القبول ، فهو ظاهر كلّ من عبَّر عنه بالعقد كالمحقق الحلي ، حيث قال : « الوقف عقد ثمرته تحبيس الأصل واطلاق المنفعة ». (١)

وقد يستدلّ على ذلك :

تارة باستصحاب عدم ترتب الأثر بدونه.

واُخرى بأن ادخال الشيء فى ملك الغير بدون رضاه ، خلاف قاعدة سلطنة الانسان على نفسه.

والمناسب عدم الاعتبار لوجوه :

أ ـ التمسّك بإطلاق قوله عليه‌السلام فى صحيحة محمد بن الحسن الصفار : « الوقوف تكون‏على حسب ما يوقفها أهلها إن شاء اللّه‏ » ، (٢) حيث‏يدلّ‏عليأن الوقف كلما صدق كان ممضيً وبالكيفية المرسومة فيه ، وواضح أن صدق عنوان الوقف عرفاً لا يتوقف على القبول ، بل يتحقق بمجرد الإيجاب ، فيلزم كونه ممضياً حتى مع عدم القبول.

ب ـ التمسّك بصحيحة ربعى السابقة الحاكية لوقف أميرالمؤمنين عليه‌السلام حيث لم يشر فيها الى القبول.

ج ـ التمسّك بسيرة المتشرعة الجارية على عدم مراعاة القبول حين الوقف. ولو كان ذلك معتبراً لانعكس على النصوص والسيرة ، بعد شدة الابتلاء بالوقف.

وبهذا يتضح بطلان الوجهين السابقين لإثبات الاعتبار.

ووجه ذلك : ان النوبة تصل اليهما اذا لم يفترض وجود ما يمكن التمسّك به

__________________

١ ـ شرائع الاسلام : ٢ / ٤٤٢.

٢٠٣

لإثبات عدم الاعتبار ، وقد تقدم وجوده.

٥ ـ وأما أن الوقف يشتمل تارة على موقوف عليه واُخرى لا يشتمل عليه ، فذلك باعتبار أن الواقف تارة يخرج العين الموقوفة عن ملكه من دون ادخالها فى ملك الغير ، كما فى وقف المساجد ، فإن مرجعه الى اخراج المسجد من الملك وتحريره وفكه من دون ادخاله فى ملك أحد ، وفى مثله لا موقوف عليه ، واُخرى يدخلها في ملك الغير ، كما فى الوقف على الأولاد أو الفقراء أو العلماء ، وفى مثله يكون الموقوف عليه ثابتاً ، وهو الأولاد ونحوهم.

من شرائط الوقف

يعتبر فى تحقق الوقف ابرازه بكلّ ما يدلّ عليه ـ ولا يكفى النيّة ـ مثل وقّفت ونحوه بما فى ذلك المعاطاة ، كما لو سلَّم الواقف الفرش الى متولى شؤون المشاهد المشرفة بقصد الوقف. بل ربما يتحقق بغير ذلك أيضاً ، كما لو بنى شخص حسينية بقصد كونها وقفاً.

وفى اعتبار قصد القربة فيه خلاف.

ويعتبر فى لزومه اذا كان خاصاً قبض الموقوف عليه ، بل قيل باعتباره فى صحته أيضاً. أجل ، لا يلزم أن يكون ذلك بنحو الفورية. ويكفى فى الوقف الذرى قبض الطبقة الأولي.

ويعتبر فى الوقف أيضاً التأبيد ، فلو أنشأ الوقف لفترة عشرين سنة مثلاً ، لم يقع وقفاً. وفى وقوعه حبساً خلاف. وفى صحة الوقف على من ينقرض عادة ـ كالوقف على ثلاثة بطون من الأولاد ـ خلاف أيضاً.

ويعتبر فى العين الموقوفة أن تكون قابلة للانتفاع بها مع بقاء عينها ، فلا يصح وقف الأطعمة والفاكهة وما شاكلها.

ويعتبر فيالموقوف عليه وجوده فلايصح الوقف عليالمعدوم ، كالوقف على من‏يوجد بعد ذلك.

٢٠٤

والمستند فى ذلك :

١ ـ أما أنه يعتبر فى صحة الوقف ابرازه بما يدلّ عليه ولا تكفى النيّة وحدها ، فباعتبار عدم صدق عنوانه بدون ذلك.

وأما الاكتفاء بكلّ ما يدلّ عليه ، فهو مقتضى إطلاق دليل الإمضاء ، كقوله عليه‌السلام في صحيحة الصفار السابقة : « الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها ». الدال علي امضاء الوقف كلّما صدق وبكيفيته الخاصة ، فاذا أنشأ شخص الوقف بالفارسية شمله قوله : « الوقوف تكون ... » وثبت امضاء اصل الوقف وكيفيته الخاصة.

ومنه يتضح النظر فيما يظهر من صاحب الحدائق من الميل الى لزوم الاقتصار على لفظ « وقفت ، وتصدقت » باعتبار ورودهما فى الأخبار حيث قال قدس‌سره : « لا يبعد الانحصار فى هذين اللفظين وقوفاً على ما خالف الأصل على مورد النفي ، بمعني أن الأصل بقاء الملك لمالكه ، والذى ورد من الصيغة المخرجة منحصر فى هذين اللفظين ». (١)

٢ ـ وأما تحقق الوقف بالمعاطاة وغيرها ، فلأنه بعد صدق عنوان الوقف عرفاً يكون مشمولاً لاطلاق دليل الامضاء ، كقوله عليه‌السلام : « الوقوف تكون ... ».

وتؤكد ذلك ، سيرة المتشرعة الجارية على عدم التقيد بالصيغة.

٣ ـ وأما اعتبار قصد القربة فى صحة الوقف ، فهو ظاهر كلام بعض الأصحاب. وقد يستدلّ على ذلك بمقدمتين :

أ ـ أن الوقف صدقة ، كما يستفاد ذلك من صحيحة ربعى المتقدمة وغيرها.

ب ـ أن كل صدقة يشترط‏فيها قصدالقربة ، كما دلّت‏عليه صحيحة حماد بن

__________________

١ ـ الحدائق الناضرة : ٢٢ / ١٢٩.

٢٠٥

عثمان عن أبى عبداللّه‏ عليه‌السلام : « لا صدقة ولا عتق إلاّ ما أريد به وجه اللّه‏ عزّوجلّ » (١) وغيرها.

وفيه : أن المقدمة الاُولى لا تدلّ على أن كلّ وقف صدقة ، ويحتمل أن الصدقة حصة خاصة منه وهو ما قصد به التقرب.

والمناسب عدم اعتبار ذلك لإطلاق قوله عليه‌السلام : « الوقوف تكون ... » الدال علي إمضاء كلّ ما يصدق عليه مفهوم الوقف عرفاً ، ومن الواضح أن مفهوم الوقف لا يستبطن عرفاً قصد التقرب.

ومن هذا يتضح بطلان التمسّك باستصحاب عدم ترتّب الأثر من دون قصد التقرب.

ووجه البطلان : أن الأصل لا تصل النوبة اليه مع وجود الدليل الاجتهادي.

وممّا يؤكد عدم اعتبار قصد التقرب انعقاد سيرة المتشرعة على الوقوف من دون خطور ذلك فى أذهانهم ، بل يوقفون لنفع أولادهم لا غير ولا يحتمل أن مثل الوقوف المذكورة باطلة.

٤ ـ وأما القبض ، فلا إشكال فى اعتباره فى الجملة ـ وإن كانت القاعدة تقتضي عدم ذلك ـ فلو تحقق الوقف من دون قبض جاز للواقف التراجع ولو مات رجع ميراثاً ، إن هذا المقدار لا إشكال فيه وإنما الإشكال فى أن ذلك شرط للصحة والانتقال أو شرط لللزوم.

والثمرة تظهر فى النماء فى الفترة المتخللة بين الوقف والقبض.

والمشهور كونه شرطاً للصحة بينما الروايات لا يظهر منها أكثر من كونه شرطاً

__________________

١ ـ وسائل الشيعة : ١٣ / ٣١٩ ، باب ١٣ من أحكام الوقوف والصدقات ، حديث ٢.

٢٠٦

فى اللزوم ، فلاحظ صحيحة صفوان بن يحيى عن أبيالحسن عليه‌السلام : « سألته عن الرجل يقف الضيعة ثم يبدو له أن يحدث فى ذلك شيئاً ، فقال : إن كان وقّفها لولده ولغيرهم ثم جعل لها قيّماً لم يكن له أن يرجع فيها. وإن كانوا صغاراً وقد شرط ولايتها لهم حتي بلغوا فيحوزها لهم لم‏ يكن له أن يرجع فيها. وإن كانوا كباراً ولم يسلّمها اليهم ولم يخاصموا (١) حتى يحوزوها عنه فله ان يرجع فيها لأنهم لايحوزونها (٢) عنه وقد بلغوا » (٣) ، فإنها دلّت على جواز الرجوع قبل التسليم ، وذلك لا يقتضى أكثر من عدم اللزوم.

والمناسب أن يقال : إن مقتضى إطلاق قوله عليه‌السلام : « الوقوف تكون علي ... » صحة الوقف ولزومه بدون اشتراط القبض ، والنص المتقدم لايدلّ على أكثر من كونه شرطاً فى اللزوم ، فيلزم الحكم بالصحة من دون لزوم جمعاً بين الإطلاق المتقدم والنص المذكور.

٥ ـ وأما تقييد اعتبار القبض بما إذا كان الوقف خاصاً ، فلأن النصوص المتقدمة لا يظهر منها أكثر من ذلك وتبقى الأوقاف العامة مشمولة لمقتضى القاعدة بلا حاجة الى قبض الحاكم الشرعى نيابة عن الجهة العامة.

٦ ـ وأما أنه لا تلزم الفورية فى القبض ، فهو لإطلاق النصوص المتقدمة. بل حتي لو فرض أنها مجملة ولم يكن لها إطلاق كفى إطلاق قوله عليه‌السلام : « الوقوف تكون ... ».

٧ ـ وأما كفاية قبض الطبقة الاُولى فى الوقف الذرى ، فلأن قبض جميع الطبقات أمر غير ممكن ليحتمل اعتباره. على أنه مع فرض عدم الدليل على اعتبار قبض

__________________

١ ـ قيل بان المقصود لم تقع خصومة بينه وبينهم ليجبروه من خلالها على القبض والتسليم.

٢ ـ وفى الوافي : ١٠ / ٥٥٠ ، نقل عن نسخة : « لم يحوزوها ».

٣ ـ وسائل الشيعة : ١٣ / ٢٩٨ ، باب ٤ من أحكام الوقوف والصدقات ، حديث ٤.

٢٠٧

جميع الطبقات فبالإمكان نفى احتمال ذلك بإطلاق قوله عليه‌السلام : « الوقوف تكون ... ».

٨ ـ وأما اعتبار التأبيد فى تحقق الوقف ، فقد يستدلّ عليه :

تارة بتقوّم مفهومه بذلك.

واُخرى بأن وقوف الأئمّة عليهم‌السلام التى حكتها الروايات ـ كصحيحة ربعى المتقدمة فى بداية الحديث عن الوقف ـ كانت مؤبدة.

وثالثة بالتمسّك باستصحاب عدم ترتب الأثر بعد كون القدر المتيقن صحته هوالمؤبد.

والجميع كما تري.

اذ الأول غير ثابت.

والثانى لا دلالة له على الانحصار.

والثالث لا مجال له بعد إطلاق قوله عليه‌السلام : « الوقوف تكون ... ».

ومن هنا قال السيد اليزدي : « فالعمدة : الاجماع إن تَمَّ ». (١)

٩ ـ وأما وجه القول ببطلان الوقف المقيد بمدة وعدم وقوعه حبساً ، فواضح ، فإن الحبس لم يقصد فكيف يقع؟!

وأما وجه وقوعه حبساً ، فباعتبار أن قصد الوقف المؤقت قصد لحقيقة الحبس. ولا يضر اعتقاد كونه وقفاً بعد انشاء ما هو حبس حقيقة.

١٠ ـ وأما الوقف على من ينقرض فقيل بصحته وقفاً. وقيل بصحته حبساً. وقيل ببطلانه.

ولعل الأوجَه هو الأول ، إذ الإجماع وإن انعقد على اعتبار التأبيد ولكنه في

__________________

١ ـ ملحقات العروة الوثقي : ٢ / ١٩٢.

٢٠٨

مقابل ‏التوقيت ‏بمدة ، ولايعلم شموله لمثل المقام فيقتصرعلى القدر المتيقن بعد كون الدليل لبّياً لا إطلاق فيه ، ويعود التمسّك بإطلاق قوله عليه‌السلام : « الوقوف تكون ... » بلامانع.

١١ ـ وأما اعتبار أن تكون العين الموقوفة قابلة للانتفاع بها مع بقاء عينها ، فباعتبار تقوّم الوقف عرفاً بحبس العين ، فاذا لم يمكن حبسها عند الانتفاع بها فلايمكن تحققه.

١٢ ـ وأما اعتبار وجود الموقوف عليه ، فقد يستدلّ له :

أ ـ تارة بأن الوقف تمليك ولا يعقل تمليك المعدوم ، لانَّ الملكية صفة وجودية تستدعى محلاً موجوداً.

ب ـ واُخرى بأن ‏القبض شرط فيصحة الوقف ، وهومتعذرمع انعدام الموقوف عليه.

من أحكام الوقف

اذا تَمَّ الوقف فلا يجوز للواقف تغيير كيفيته التى أنشأ عليها ويكون أجنبياً عنه كسائر الأفراد. أجل ، يجوز له حين انشائه جعل التولية لنفسه أو لغيره أولهما. بل يجوز جعلها بنحو يحق للمتولى تفويض التولى بنصب متولٍ آخر فى حياته أو بعدها حسب نظره. ومع عدم جعلها لأحدٍ تنتهى النوبة الى الحاكم الشرعى فيما اذا لم يكن الوقف بنحو التمليك.

والمتولى المنصوب يستحق اُجرة مثل عمله إن لم تجعل له بنحو المجّانية.

والموقوف على مشهد من المشاهد المقدسة يصرف فى مصالحه. والموقوف علي المعصومين عليهم‌السلام يصرف فى كلّ ما يوجب إحياء ذكرهم.

واذا وقّف شيء على مسجد مثلاً فخرب أو لم يحتج الى الصرف فيه لانقطاع المارة عنه أو لغير ذلك ، يصرف فى مسجد آخر إن أمكن وإلاّ ففى وجوه البر الأقرب فالأقرب.

٢٠٩

والمستند فى ذلك :

١ ـ أما أنه لا يجوز للواقف تغيير كيفية الوقف بعد تماميته ، فباعتبار خروج العين عن ملكه فكيف يريد التصرف؟! هذا مضافاً الى إمكان استفادة ذلك من قوله عليه‌السلام : « الوقوف تكون ... » ، حيث يدلّ على أن الوقف بعد تماميته يبقى على ما هو عليه من دون إمكان التصرف فيه.

وأما جواز جعل الواقف التولية حين انشاء الوقف بأحد الأشكال المتقدمة ، فلدلالة قوله عليه‌السلام : « الوقوف تكون ... » على ذلك.

٢ ـ وأما ثبوت التولية للحاكم الشرعى اذا لم تجعل لغيره ، فباعتبار أن تولي شخص خاص لإدارة شؤون الوقف قضية ضرورية ، واذا دار الأمر بين كون ذلك الشخص هو خصوص الحاكم الشرعى أو مطلق عدول الموءمنين تعيّن كونه الحاكم الشرعى لكونه القدر المتيقن.

وأما استثناء حالة ‏الوقف بنحو التمليك ـ كالوقف علي الأولاد ـ فباعتبار أن‏الوقف اذا كان له مالك تعيّن تصدّيه لأنه الأولى بإدارة شؤون ملكه ولامعنى لتصدى الغير له.

٣ ـ وأما استحقاق المتولى للأجرة ، فلانعقاد سيرة العقلاء على كون طلب العمل سبباً من أسباب الضمان.

وأما التقييد بحالة عدم جعلها بنحو المجانية ، فلاختصاص السيرة بذلك.

٤ ـ وأما أن الموقوف على المشهد أو أحد المعصومين : يصرف فيما ذكر ، فباعتبار ان الوقف على شيء ينصرف عرفاً الى الصرف فى مصالحه وشؤونه.

٥ ـ وأما أن الموقوف على المسجد يصرف فى مسجد آخر إن أمكن وإلاّ ففى وجوه

٢١٠

البر متى ماخرب أو لم يحتج الى الصرف ، فلأن ذلك هو المقصود للواقف عند انشاءالوقف.

من أحكام الحبس

الحبس انشاء يتضمن تسليط الغير على شيء لاستيفاء منفعته ـ أما مع الإطلاق أو خلال فترة محدودة ـ مع بقائه على ملك مالكه من دون ان يحقَّ للمحبَّس عليه التصرف فيه بالنقل بالبيع ونحوه.

وهو مشروع بلا اشكال.

ويتحقق بلفظ التحبيس ، كقول الحابس : حبَّست ـ لفترة سنة مثلاً أو مع إطلاق المدة ـ مكتبتى على أهل العلم أو سيّارتى للمحتاج اليها.

واذا كانت العين المحبَّسة أرضاً قابلة للسكن اصطلح على الحبس بالسكني ، فالسكني ـ التى هى مصداق للحبس ـ انشاء يتضمن جعل حق السكن للغير مع بقاء العين على ملك مالكها.

والحبس ـ سواء كان فى العين القابلة للسكن أم لا ـ متى ما قيّد بفترة محددة كسنة مثلاً اصطلح عليه بالرقبي. ومتى ما قُيِّدَ بعمرالحابس أوالمحبَّس عليه اصطلح عليه بالعمري.

والسكنى والعمرى والرقبى هى من العقود التى تحتاج الى القبول ، بل الحبس كذلك اذا كان على الشخص دون الجهة.

والمستند فى ذلك :

١ ـ أما أن الحبس ما ذكر ، فهو من واضحات الفقه؛ وفرقه عن الوقف أن العين في الوقف تخرج عن ملك مالكها ـ مع دخولها فى ملك الموقوف عليه أو بدونه ـ

٢١١

بخلافه فى الحبس ، فإنها باقية على ملك مالكها وترجع بعد موته الى ورثته. وفي الوقف يعتبر التأبيد بخلافه فى الحبس فإنه لايلزم ذلك.

٢ ـ وأما أنه مشروع ، فمن المسلّمات. وقد دلت عليه روايات كثيرة إلاّ أنه لم يرد فيها لفظ الحبس ، بل لفظ الصدقة إلاّ فى الرواية الحاكية لقصة ابن ابى ليلى التي رواها المحمّدون الثلاثة بسند صحيح عن عمر بن أذينة : « كنت شاهداً عند ابن أبي ليلى وقضى فى رجل جعل لبعض قرابته غلّة داره ولم يوقّت وقتاً فمات الرجل فحضر ورثته ابن أبى ليلى وحضر قرابته الذى جعل له غلّة الدار ، فقال ابن أبى ليلي : أرى ان أدعها على ما تركها صاحبها ، فقال محمد بن مسلم الثقفي : أما أن على بن أبي طالب عليه‌السلام قد قضى فى هذا المسجد بخلاف ما قضيت ، فقال : وما علمك؟ قال : سمعت أبا جعفر محمد ابن على عليه‌السلام يقول : قضى على عليه‌السلام بردِّ الحبيس وانفاذ المواريث ، فقال له ابن أبى ليلي : هذا عندك فى كتابك؟ فقال : نعم قال : فأرسل وائتنى به ، فقال له محمد بن مسلم : على أن لاتنظر من الكتاب إلاّ فى ذلك الحديث قال : لك ذلك ، قال : فأحضر الكتاب وأراه الحديث عن أبى جعفر عليه‌السلام فى الكتاب فردَّ قضيّته ». (١) إنها دلّت على أن من حبّس شيئاً من دون تحديد المدة فبموته يرجع الى ورثته ويردُّ الحبس ، وهذا يكشف عن صحة الحبس فى الجملة.

٣ ـ وأما تحقق الحبس بلفظ حبّست ، فممّا لا خلاف فيه. وهو القدر المتيقن من الانشاء الذى يتحقق به. بل حكم الأصحاب بتحققه بكلّ ما يدلّ عليه ولو فعلاً.

٤ ـ وأما التفرقة بين الحبس وأخواته بما تقدم ، فهو مورد تسالم الفقهاء. وقد دلّت على مشروعية تلك روايات متعددة ، كصحيحة حمران : « سألته عن السكني

__________________

١ ـ وسائل الشيعة : ١٣ / ٣٢٨ ، باب ٥ من أحكام السكنى والحبس ، حديث ١.

٢١٢

والعمري ، فقال : الناس فيه عند شروطهم إن كان قد شرط حياته فهى حياته ، وإن كان لعقبه فهو لعقبه كما شرط حتى يفنوا ثم يردُّ الى صاحب الدار » ، (١) وصحيحة الحسين ابن نعيم عن أبى الحسن عليه‌السلام : « سألته عن رجل جعل سكنى داره لرجل أيام حياته أو له ولعقبه من بعده ، قال : هى له ولعقبه كما شرط ». (٢)

٥ ـ وأما أن السكنى وأخواتها عقود تحتاج الى قبول ، فقد ادّعى عليه الإجماع. (٣) ولولاه أمكن التمسّك بإطلاق مثل الصحيحتين المتقدمتين لنفى اعتبار ذلك.

وأما التفرقة فى الحبس بين كونه على الشخص ، فيعتبر فيه القبول وبين كونه على غيره ، فلا يعتبر فيه ذلك ، فلا مدرك له سوى الإجماع أيضاً.

من أحكام الصدقة بالمعنى الأخص

تستحب الصدقة بمعناها الأخص ، وهى الإحسان للغير بقصد القربة. والمعروف أنها عقد تحتاج الى ايجاب وقبول. ويعتبر فيها قصد القربة. وتجوز من غير الهاشمى علي الهاشمي. وتجوز على الغنى أيضاً.

والمستند فى ذلك :

١ ـ أما استحباب الصدقة بمعناها الأخص ، فهو من المسلّمات. وقد ورد الحث عليها فى روايات كثيرة ، من قبيل : « ان الصدقة تقضى الدين وتخلف بالبركة » ، (٤)

__________________

١ ـ وسائل الشيعة : ١٣ / ٣٢٥ ، باب ٢ من أحكام السكنى والحبس ، حديث ١.

٢ ـ وسائل الشيعة : ١٣ / ٣٢٥ ، باب ٢ من أحكام السكنى والحبس ، حديث ٢.

٣ ـ جواهر الكلام : ٢٨ / ١٣٤.

٤ ـ وسائل الشيعة : ٦ / ٢٥٥ ، باب ١ من ابواب الصدقة ، حديث ١.

٢١٣

« الصدقة ترفع ميتة السوء » (١) ، « تصدقوا فإن الصدقة تزيد فى المال كثرة فتصدقوا رحمكم اللّه‏ » ، (٢) « داووا مرضاكم بالصدقة » ، (٣) « يستحب للمريض أن يعطى السائل بيده ويؤمر السائل أن يدعو له » ، (٤) « قال رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : الأيدى ثلاثة فيد اللّه‏ العليا ، ويد المعطى التى تليها ، ويد السائل السفلي ، فأعط الفضل ولا تعجز نفسك » ، (٥) ومن الألفاظ الموجزة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله التى لم يسبق اليها « اليد العليا خير من اليد السفلي » ، (٦) « بكّروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها » ، (٧) « من تصدق بصدقة حين يصبح أذهب اللّه‏ عنه نحس ذلك اليوم ». (٨)

بل قد يستدلّ على ذلك بقوله تعالي : ( ألم يعلموا أن اللّه‏ هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ). (٩)

ويلحق بالصدقة كلّ إحسان وإن لم يكن بالمال ، ففى الحديث الصحيح : « كلّ معروف صدقة ». (١٠)

٢ ـ وأما أن الصدقة عقد تحتاج الى ايجاب وقبول ، فهو المشهور ، ولا دليل عليه سوى الشهرة والإجماع المدّعي. ومن هنا قال السيد اليزدي : « لا إشارة فى شيء من

__________________

١ ـ وسائل الشيعة : ٦ / ٢٢٥ ، باب ١ من ابواب الصدقة ، حديث ٢.

٢ ـ وسائل الشيعة : ٦ / ٢٥٧ ، باب ١ من ابواب الصدقة ، حديث ٨.

٣ ـ وسائل الشيعة : ٦ / ٢٥٨ ، باب ١ من ابواب الصدقة ، حديث ١٨.

٤ ـ وسائل الشيعة : ٦ / ٢٦٢ ، باب ٥ من ابواب الصدقة ، حديث ٢.

٥ ـ وسائل الشيعة : ٦ / ٢٦٣ ، باب ٥ من ابواب الصدقة ، حديث ٤.

٦ ـ وسائل الشيعة : ٦ / ٢٦٣ ، باب ٥ من ابواب الصدقة ، حديث ٣.

٧ ـ وسائل الشيعة : ٦ / ٢٦٦ ، باب ٨ من ابواب الصدقة ، حديث ١.

٨ ـ وسائل الشيعة : ٦ / ٢٦٢ ، باب ٨ من ابواب الصدقة ، حديث ٢.

٩ ـ التوبة : ١٠٤.

١٠ ـ وسائل الشيعة : ٦ / ٣٢١ ، باب ٤١ من ابواب الصدقة ، حديث ٢.

٢١٤

الأخبار على اعتبار اللفظ فيها على كثرتها فما أدرى من أين اشترطوا فيها الإيجاب والقبول وجعلوها من العقود ». (١)

والمناسب التفصيل بين مواردها ، فإن كانت بنحو التمليك احتاجت الى ايجاب وقبول ، وإن كانت بنحو البذل والإحسان المجرد كفى الإذن فى الصرف.

٣ ـ وأما اعتبار قصد القربة فيها ، فهو ممّا لا خلاف فيه. ويدلّ عليه صحيح حمّاد بن عثمان عن أبى عبداللّه‏ عليه‌السلام : « لا صدقة ولا عتق إلاّ ما اُريد به وجه اللّه‏ عزّوجلّ » (٢) وغيره.

٤ ـ وأما جواز صدقة غير الهاشمى للهاشمى ، فلإطلاق نصوص الصدقة بعد اختصاص دليل المنع بالصدقة الواجبة التى هى زكاة المال وزكاة الفطرة. ومع التنزل عن ذلك يكفينا الأصل.

٥ ـ وأما جواز الصدقة على الغنى ، فهو مقتضى إطلاق أخبار الصدقة ، بل في الحديث عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كلّ معروف صدقة الى غنى أو فقير فتصدقوا ولو بشق التمرة ... ». (٣) وبقطع النظر عن ذلك يكفينا الأصل.

هذا اذا لم يُدعَ انصراف مفهوم الصدقة الى خصوص الفقير والا انحصرت به.

__________________

١ ـ ملحقات العروة الوثقي : ٢ / ٢٧٤.

٢ ـ وسائل الشيعة : ١٣ / ٣٢٠ ، باب ١٣ فى أحكام الوقوف والصدقات ، حديث ٢.

٣ ـ وسائل الشيعة : ٦ / ٢٦٥ ، باب ٧ من ابواب الصدقة ، حديث ٥.

٢١٥
٢١٦

فهرس

كلمة المكتب................................................................. ٥

( العقود ٢)

كتاب النكاح.............................................................. ١١

النكاح وبعض أحكامه.................................................... ١٣

ولاية الأبوين............................................................. ٢٠

أحكام النظر............................................................. ٢٣

من يحرم العقد عليها....................................................... ٣١

المصاهرة................................................................. ٣٣

الرضاع.................................................................. ٤٣

شروط الرضاع المحرّم...................................................... ٤٩

الاعتداد................................................................. ٥٤

استيفاء العدد............................................................. ٥٨

الكفر................................................................... ٦٠

الإحرام واللعان........................................................... ٦٣

الزواج المؤقت............................................................ ٦٦

٢١٧

( الايقاعات )

كتاب الطلاق.............................................................. ٧٧

١ ـ حقيقة الطلاق...................................................... ٧٩

٢ ـ شرائط صحة الطلاق................................................ ٨١

٣ ـ اقسام الطلاق....................................................... ٩٣

٤ ـ أحكام العدّة...................................................... ١٠٣

٥ ـ من أحكام الخلع والمباراة............................................ ١١٥

كتاب الظهار............................................................. ١٢٣

كتاب الإيلاء............................................................. ١٣١

كتاب اللعان............................................................. ١٣٩

ما هو اللعان............................................................ ١٤١

كيفية اللعان............................................................ ١٤٦

من أحكام اللعان........................................................ ١٤٦

كتاب اليمين والنذر والعهد............................................... ١٤٩

من أحكام اليمين........................................................ ١٥١

من أحكام النذر......................................................... ١٥٦

من أحكام العهد........................................................ ١٦١

كتاب الشفعة............................................................ ١٦٣

حقيقة الشفعة........................................................... ١٦٥

من أحكام الشفعة....................................................... ١٦٦

٢١٨

كتاب الجعالة............................................................. ١٧٣

حقيقة الجعالة........................................................... ١٧٥

من أحكام الجعالة....................................................... ١٧٧

كتاب الوصية............................................................ ١٨١

١ ـ الوصية بقسميها................................................... ١٨٣

ا٢ ـ الوصية ايقاع..................................................... ١٨٥

٣ ـ من أحكام الوصى................................................. ١٨٨

٤ ـ من أحكام الوصية : ............................................... ١٩٣

كتاب الوقف............................................................. ١٩٩

١ ـ حقيقة الوقف..................................................... ٢٠١

٢ ـ من شرائط الوقف................................................. ٢٠٤

٣ ـ من أحكام الوقف.................................................. ٢٠٩

٤ ـ من أحكام الحبس.................................................. ٢١١

٥ ـ من أحكام الصدقة بالمعنى الأخص................................... ٢١٣

الفهرس.................................................................. ٢١٧

٢١٩