جواهر الكلام - ج ٢٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

جعله له بالأمر ، ولا يدري صاحبه ما الذي حمله على ذلك كيف يصنع؟ قال : يضعه حيث شاء ».

إلى غير ذلك مما يجب حمله على التقييد المزبور في النصوص السابقة ، ومنه يعلم ضعف جميع الأقوال في المسألة المستلزم كل منها أو أكثرها طرح أكثر النصوص أو بعضها.

فمنها : القول بأنه من الأصل مطلقا كما هو المشهور بين القائلين بأن المنجزات منه ، لا من الثلث ، لعموم‌ « إقرار العقلاء » ، لاقتضاء الحكمة قبول إقراره ، والا بقيت ذمته مشغولة في بعض الأحوال ، وصاحب المال ممنوعا عن حقه.

ومنها أنه إن كان عدلا مضى من الأصل ، وإلا فمن الثلث ، وكان مستنده إرجاع تلك الأوصاف في النصوص المزبورة إلى العدالة وفيه أنه لا شاهد عليه ، ولا تنافي بين العدالة والتهمة المفروضة في كلام كثير من الأصحاب من القرائن الحالية أو المقالية كما لا تنافي بين الفسق وعدمها كما هو واضح.

ومنها : التفصيل بين الأجنبي والوارث ، فالإقرار للأول من الأصل مطلقا ، والثاني كذلك مع عدم التهمة ، ومعها من الثلث ، وهو المحكي عن أبي حمزة ، وفيه طرح للنصوص المقيدة بالأجنبي أو المطلقة.

ومنها : ما في النافع من أن الإقرار للوارث من الثلث مطلقا وللأجنبي مع التهمة ، وبدونها من الأصل ، وفيه طرح للنصوص المقيدة في الوارث.

ومنها : ما عن المفيد من أنه إن كان بدين مضى من الأصل ، وإن كان بعين وكان عليه دين يحيط بجميع التركة قبل إقراره إن كان عدلا مأمونا ، وإن كان متهما لم يقبل إقراره ، وفيه طرح لبعض النصوص السابقة.

ومنها : ما عن التقي من عدم الفرق بين الصحيح والمريض في مضي الإقرار إن كان مأمونا ، وعدمه إن كان غير مأمون وهو غريب ، إذ لا خلاف في مضي إقرار الصحيح من الأصل مطلقا.

٨١

ومنها : ما عن النهاية والقاضي من اشتراط العدالة وانتفاء التهمة في المضي من الأصل ، واشتراط انتفائهما معا في المضي من الثلث ، قال : الأول : « إقرار المريض جائز على نفسه للأجنبي والوارث إذا كان مرضيا موثوقا بعدالته ، فإن كان غير موثوق به ، وكان متهما فإن لم يكن مع المقر له بينة أعطى من الثلث » ويمكن إرجاعه إلى المشهور ، إن لم يكن الظاهر ، فتكون الأقوال ستة ، لا سبعة ، وربما عدت عشرة والأمر سهل بعد أن عرفت أن الأصح منها الأول الذي يجتمع عليه جميع النصوص.

لكن أشكله بعضهم بأنه ليس في شي‌ء منها الدلالة على النفوذ من الثلث مع التهمة ، وإنما تدل على عدم النفوذ مطلقا بالمفهوم.

وفيه أن خبر العلاء وخبر إسماعيل بن جابر ظاهران في ذلك ، بل لعله هو مقتضى المفهوم بعد الإجماع على عدم جريانه ، لئلا يلزم اتحاده مع المنطوق حينئذ.

نعم قد يشكل بأن المتجه إخراج ثلث ما أقر به من الدين من ثلثه ، والإمضاء في ثلث العين المقر بها من دون غرامة قيمة الباقي من ثلثه ، لأن الدين بعد الموت يتعلق بمجموع التركة ، ولذا لو أقر الوارث نفذ في حصته بالبينة ، ولأن تعلق حق الورثة يمنع من نفوذ الإقرار في الزائد على الثلث ، فلا تقصير منه يوجب الضمان للمالك كما أنه لا مقتضى لغرامته للوارث من ثلثه لو أخذها المقر له بالإقرار.

ويدفع أيضا في الدين بظهور الفتاوى وبعض النصوص كخبر إسماعيل بن جابر ، بل لعله المنساق من جميعها في خروج ما أقر به منه من الثلث ، ولعله للفرق بينه وبين إقرار الوارث الذي حصل له سبب ملك حصته ، وهو الموت ، والدين إنما يمنع عنها بالنسبة ، بخلاف إقرار الميت المقتضى لشغل ذمته والتأدية من ماله الذي لم يعارضه فيه غيره بتعلق حق ونحوه.

وفي العين بأن مقتضى عموم الإقرار وكون المال في يده دفعها إلى المقر له ، لأنه المخاطب بذلك ، ولا إثم عليه في الواقع ، ولكن في الظاهر منعه الشارع عما يقتضي إضرار الورثة من التصرفات التي لم تكن مستحقة عليه التي منها ما نحن فيه ، إذ‌

٨٢

إقراره لم يثبت به سبق الاستحقاق على وجه ينفذ على غيره.

فالجمع حينئذ بين الحقوق جميعها يكون بتدارك ضرر الورثة بدفع قيمة ما فات عليهم من ثلثه ، فلو لم يكن له ثلث كان للورثة منع المقر له من أخذها ، وكذا الكلام في المنجزات ، بل لعل الإقرار بعد عدم ثبوت السبق به منها ، وإن لم يكن إنشاء ، إذ هو سبب في الحكم بإزالة الملك في العين ، وشغل الذمة بالنسبة إلى الدين ، كالنذر في أيام المرض ، بناء على أنه من الثلث.

ومنه ينقدح حينئذ احتمال التفصيل بالتهمة وعدمها في سائر المنجزات ، على معنى أنه إن كان قد اتهم بقصد الإضرار بالورثة بالتنجيز ، والفرار من الإرث كان ذلك من ثلثه ، وإلا فمن الأصل ، وبه حينئذ يجمع بين النصوص السابقة ، وربما كان في ذيل صحيح عبد الرحمن الطويل إيماء في الجملة إليه ، لكن ظاهر الأصحاب خلاف ذلك ، بل يمكن دعوى الإجماع على عدم وجود اعتبار التهمة وعدمها في المنجزات ، ولعله لعدم اشعار النصوص السابقة على كثرتها بذلك.

بل قد يقال بمنع كون الإقرار من المنجزات التي قد تقدم الخلاف فيها ، ضرورة تضمن تلك النصوص للعتق والهبة ونحوهما ، مما لا يشمل الإقرار ، ولا منقح ، فالذي تقتضيه الضوابط كونه من الأصل مطلقا ، لكن أخرجت عنها صورة التهمة ، لا أن مقتضاها الخروج من الثلث باعتبار تعلق حق الورثة ، وخرجنا عنها في صورة المأمونية بالنصوص ، إذ الظاهر من النص والفتوى عدم تعلق حق للوارث في العين حال الحياة.

ومن ذلك يظهر لك الحال في حكم الواسطة أي الذي لم يعلم كونه مأمونا وعدمه ، وفيما لو ادعاها الوارث على المقر له ، فإن القول قول المقر له مع يمينه على عدم العلم بالتهمة ، لا على العلم بعدمها ، لأنه يمين على نفى فعل الغير ، ويكفي حينئذ في الحكم للمقر له بالحق مجرد الإقرار مع عدم ظهور المانع من صحته ، وإن لم يعلم صحة السبب ، كما جزم به في المسالك ، بل ويظهر أيضا فيما لو أقر بمنجز ولم يسنده إلى ما قبل المرض ، لكن في جامع المقاصد أنه لا يبعد جعله من الثلث ،

٨٣

وإن لم يكن تهمة ، لأن الإقرار إنما يقتضي اللزوم قبيل زمان الإقرار بمقدار ما يمكن إنشاؤه ، ومقتضاه حينئذ سقوط حق المقر له مع عدم وفاء الثلث ، وفيه نظر.

وعلى كل حال فإقراره يلزم به في الظاهر لو برء ، سواء كان متهما أو غير متهم ، للعموم ، واحتمال أنه كالوصية في عدم اللزوم إذا كان متهما وقلنا بالخروج من الثلث كما ترى ، وتمام الكلام في هذه المسائل كلها في محلها إنشاء الله وانما اقتضت الضرورة لذكره هذه النبذة منها على الاجمال.

كما أنها اقتضت البحث في حال تركة الميت مع الدين ، إذ هي من المال المحجور على مالكه التصرف فيه ، بناء على انتقالها إلى الوارث ، وأن الدين متعلق بها تعلق الرهانة ، ولكن تحقيق الحال فيها أن الإجماع بقسميه على تعلق الديون بها في الجملة ، وعلى عدم انتقالها إلى الديان ، كما أن الإجماع بقسميه أيضا على انتقالها إلى الوارث مع عدم الدين والوصية ، بل حكاه بعضهم أيضا على انتقال الفاضل عن الدين مع عدم الوصية ، وعلى انتقال الزائد عن الثلث إليهم معها وإن أوصى به.

إنما الكلام في انتقالها أجمع إلى الوارث مع الاستيعاب ، وفي انتقال المقابل للدين منها مع عدمه ، فخيرة الحلي ، والمصنف ، والفاضل ـ في الإرشاد ، والشهيد ، ومحكي المقنع ، والنهاية ، والمبسوط ، في أحد النقلين والخلاف والنهاية ، وفقه الراوندي ، قيل ومال إليه الفخر ووالده في وصايا المختلف ، أو قالا به ـ الثاني ، وأنه باق على حكم مال الميت ، بل في المسالك والمفاتيح نسبته إلى الأكثر.

بل في وصايا السرائر « إذا كان على الميت دين يحيط بالتركة ، فإنها بلا خلاف بيننا لا تدخل في ملك الغرماء ، ولا ملك الورثة ، والميت قد انقطع ملكه وزال ، فينبغي أن تكون موقوفة على انقضاء الدين.

وفي دينها « ان أصول مذهبنا تقتضي أن الورثة لا يستحقون شيئا من التركة دون قضاء جميع الديون ، ولا يسوغ ولا يحل لهم التصرف في التركة دون القضاء إذا كانت بقدر الدين ، لقوله تعالى « (١) ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) » فشرط صحة‌

__________________

(١) سورة النساء الآية ـ ١٢.

٨٤

الميراث وانتقاله أن يكون ما يفضل عن الدين ، فلا يملك الوارث الا بعد قضاء الدين » الى آخره للآية الظاهرة في أن ملك السهام بعد الدين ، لظهور اللام في الملك لا استقراره.

ولصحيح عباد بن صهيب أو موثقته (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام « في رجل فرط في إخراج زكاته في حياته ، فلما حضره الوفاة حسب جميع ما فرط فيه مما يلزمه من الزكاة ، ثم أوصى به أن يخرج ذلك فيدفع إلى من يجب له قال : جائز يخرج ذلك من جميع المال ، إنما هو بمنزلة دين لو كان عليه ، ليس للورثة شي‌ء حتى يؤدوا ما أوصى به من الزكاة » وصحيح سليمان بن خالد (٢) عنه عليه‌السلام أيضا « قضى أمير المؤمنين في دية المقتول أنه يرثها الورثة على كتاب الله ، وسهامهم إذا لم يكن على المقتول دين ».

والسيرة المستمرة على تبعية النماء للتركة في وفاء الدين وهو مستلزم لبقائها على حكم مال الميت لا الورثة

خلافا لقواعد الفاضل وجامع المقاصد والمبسوط في النقل الأخر والتحرير ، والتذكرة ، وقضاء المختلف ، وحجر الإيضاح ، ووصاياه ، وحواشي الشهيد ، وقضاء المسالك ومواريثه ، ومواريث كشف اللثام ، فاختاروا الأول ، بل ربما استظهر من بعضهم أنه المشهور ، ومن التذكرة الإجماع عليه ، حيث قال : الحق عندنا أن التركة تنتقل إلى الوارث ، لمعلومية عدم بقاء المال بلا مالك ، كمعلومية عدم كونه في المقام للغرماء للإجماع بقسميه وغيره ، بل والميت ضرورة كون الملك صفة وجودية لا تقوم بالمعدوم ، كالمملوكية ولذا لم يدخل في ملكه جديدا إذ لا فرق بين الابتداء والاستدامة وقضاء الدين من ديته ، ومما يقع في شبكته بعد موته أعم من ملكيته لذلك ، فتعين كونه للوارث ، ولأنها لو لم تنتقل إليهم لما شارك ابن الابن مثلا عمه لو مات أبوه بعد جده ، وحصل الإبراء من الدين ، والتالي باطل إجماعا ، ولان الحالف مع الشاهد إنما هو الوارث المخاصم في مال الميت ، فلو لا الانتقال لساوى الغريم في عدم إثبات مال الغير‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ـ ١ ـ.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب موانع الإرث الحديث ـ ١.

٨٥

بيمينه ، وتعلق الحق لو سلم لا يسوغ ذلك ، ولأنه لا خلاف في أن الورثة أحق بأعيان التركة من غيرهم ، بل الإجماع بقسميه عليه ، ومن هنا حكي عن بعضهم أن النزاع في القيمة لا في نفس الأعيان » وفي كل من الدليلين نظر ، أما الآية فالمراد منها بعد الإجماع على ملك الوارث للثلثين مع الوصية بالثلث والإجماع المحكي الذي يشهد له التتبع على ملكه الزائد على مقابل الدين بيان كون تقدير السهام بعد الوصية والدين دفعا لتخيل كون الثلث مثلا من أصل المال ، فلا تعرض فيها حينئذ لمالك ما يقابل الوصية والدين أنه الميت أو الوارث ، ضرورة عدم منافاة المعنى المزبور لكل منهما ، إذ مرجعه إلى نحو النصوص (١) الواردة في بيان الحال في تركة الميت ، من إخراج الكفن أولا ، والدين ثانيا ، والوصية ثالثا والسهام رابعا ، وإن لم يكن فيها بيان تمام ذلك ، فالتقدير حينئذ هذه السهام من بعد الوصية والدين ، لا أن المراد منها تعليق الملك بعد الوصية والدين ، لمنافاته حينئذ الإجماع المزبور ، سواء أريد بعد إيصال الوصية والدين إلى أهلها ، أو بعد عزلهما وتعيينهما.

واحتمال كون المراد منها تعليق جواز التصرف في الملك ، أو استقراره مع بعده غير نافع للخصم ، بل هو ضار له ، كتقدير سعة المال بمعنى أن هذه السهام من أصل المال لأهلها مع سعة المال للوصية والدين ، وإن وجب عليهم حينئذ التأدية منها ، فتبقى السهام حينئذ على ما هو المنساق منها ، من كونها من أصل المال ، خصوصا مع قوله تعالى (٢) ( مِمّا تَرَكْتُمْ ) ويكون مورد الآية حينئذ والمقصود منها بيان حكم التركة الزائدة ، وكذا تقدير العزل والأداء.

وعلى كل حال ما ذكرناه أولى من الجميع ، بل هو المقطوع به بعد التأمل الجيد ، وربما يرجع إليه بعض ما سمعت ، ومنه يظهر لك ما في الذي أطنب فيه الأردبيلي وتبعه عليه غيره ، بل منه يظهر لك ما في كلام كثير من الأصحاب فلاحظ وتأمل.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب أحكام الوصايا.

(٢) سورة النساء الآية ـ ١٢.

٨٦

وأما احتمال كون المراد « من بعد » فيها الكناية عن ملك الزائد على الوصية والدين ، فهو ـ مع انه لا يساعد عليه اللفظ كمال المساعدة ـ غير مجد للخصم ، ضرورة كون أقصاه بيان حكم الزائد لا غيره ، واشعار التقييد حينئذ بعدم ملكه لغيره يدفعه احتمال كون ثمرة التقييد حينئذ بيان أنه الملك المجدي للوارث النافع له ، بخلاف غيره الذي يزول عنه بأدائه للوصية والدين ، بل لعل ذلك أولى من الأول الذي لا قرينة على تعيينه.

ومما ذكرنا يظهر لك النظر في الاستدلال بصحيح عباد (١) المعلوم عدم سوقه لبيان ذلك ، وأنه لا معنى لإرادة نفى الملك منه بعد الإجماع المزبور ، وتخصيصه بمقابل الوصية والدين مناف لظاهرة ، إذ لا يرجع لفظ حتى فيه إلى معنى محصل ، ضرورة أنه يكون معناه ليس لهم ذلك حتى يؤدوه وحمله على خصوص التأدية من غير التركة كما ترى فلا بد من حمله حينئذ على جواز التصرف أو استقرار الملك أو غير ذلك ، وكذا صحيح سليمان (٢).

وأما السيرة فقد يمنع تحققها على وجه يجدى ، ولو سلم فهي أعم من الكون على حكم ملك الميت ، إذ يمكن كونه ملك الوارث ، ومع ذلك يجب دفعه في الدين لها كالأصل ، كما هو واضح.

وأما أدلة القول الثاني ففي أولها أنه لا مانع عقلا ولا شرعا في بقاء المال على حكم ملك الميت ، بل لا بد من التزامه في مثل الوصية بالثلث للعبادة ونحوها ، والتزامه فيمن لم يكن له وارث إلا مملوك يشترى فيعتق حتى يرث ، والتزام كونه للورثة في الأول ـ ويجب عليهم تأديته في تلك المصارف كما في جامع المقاصد ـ لا داعي له ، ولا دليل عليه ، مع أنه لا يتم في مثل الثاني ، ودعوى الإجماع على عدم بقاء المال بلا مالك بحيث لا يكفى هذا الحكم من الملك واضحة المنع.

وما أبعد ما بين ذلك وبين القول بأنه يملك جديدا حقيقة كما عن ثاني الشهيدين‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب موانع الإرث الحديث ـ ١.

٨٧

والفخر ، ناسبا له إلى بعض ، بل قيل : إنه ربما أراد به المصنف في باب القصاص ، فيما إذ شهد به الوارث على جرح الموروث قبل الاندمال ، محتجا بوفاء الدين من ديته الحاصلة بعد موته ، ومما يقع في شبكته.

وفيه أنه أعم من صفة الملك حقيقة ، ولعله لا يريدها بل يريد ما يرجع إلى حكم الملك ، ضرورة معلومية زوال الملك بالموت ، وقد سمعت نفي الخلاف فيه ، من الحلي والأمر سهل في ذلك حيث لا ثمرة معتدة بها فيه.

وشركة ابن الابن عمه أعم من الدعوى ، إذ لعله لإرثه الاستحقاق الذي كان لأبيه ، فإنه لا إشكال في استحقاق الوارث المال المقابل للدين لو اتفق ارتفاعه بإبراء ونحوه ، وإن قلنا بكونه على حكم مال الميت حاله ، ولذا كانت الخصومة في أموال الميت له ، بل قد عرفت أنه الذي يحلف مع الشاهد ، ولعله لهذا الاستحقاق الذي كان الدين مانعا عنه جاز يمينه عليه ، وإن لم يكن ملكا له بالفعل ، ضرورة كونه ليس كغيره من الحقوق التي لم تجز اليمين لإثبات المال معها ، كحق الرهانة وغرماء المفلس ونحوهم ، والمسلم من أحقية الوارث عدم مزاحمة الغير له لو أراد العين بثمنها ، وهذا أعم من الملكية.

ومنه يعلم أن دعوى النزاع في القيمة لا العين لذلك في غير محلها ، بل كلمات الأصحاب صريحة في خلافه ، كما لا يخفى على الملاحظ لها فتأمل جيدا. فإنه قد بان لك من ذلك كله النظر في الحجتين.

لكن لا ريب في ان الأقوى القول الثاني لا لما ذكروه ، بل لأنه بعد ما عرفت من عدم دلالة الآية والرواية على البقاء على حكم مال الميت ، لم يكن معارضا لما دل على أن جميع تركة الميت لوارثه بموته من العمومات وغيرها ، كقوله عليه‌السلام (١) تركه الميت لورثته » وغيره ووجوب الوفاء غير قادح.

نعم في الوصية بالثلث بما يرجع إلى الميت لا يبعد البقاء على حكم ماله ، للنصوص الدالة على أن له مع الوصية من ماله ثلثه ، وتعذر الملك حقيقة يعين إرادة بقاء حكم‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ـ ٣ ـ وغيرها.

٨٨

الملك ، فهي في الحقيقة مخصصة لتلك النصوص ، إذ هو أقرب من احتمال الجمع بينها بإرادة حصول النفع للميت ، فلا ينافي ملك الورثة لها كما هو مقتضى العموم الأول وإن وجب عليهم صرفها فيما أوصى به ، كما لا يخفى على من لاحظها فإنها ظاهرة كمال الظهور في عدم ملك الوارث لها.

وبذلك افترقت الوصية عن الدين ، فإنه ليس فيما عثرنا عليه من الأدلة ما يدل على نحو ذلك ، الا ما عرفت النظر فيه ، مضافا إلى اقتضاء القول ببقاء مقابل الدين على حكم مال الميت وملك الوارث الزائد تجشما وتكلفا ، إذ هو إن رجع إلى الإشاعة على معنى أنه لو فرض مقابلة النصف وقت الوفاة كان المال بين الميت والورثة نصفين ، واتجه التوزيع لو أنفق نقصان السعر أو التلف ، لا اختصاص الوارث وعود المال إلى ملك الميت كما هو المعروف بين الأصحاب ، وإن لم يرجع إلى الإشاعة اقتضى ملكا للكلي في غير الذمة ، وقد عرفت أن التحقيق احتياجه إلى الدليل في باب بيع الصاع من الصبرة ولا دافع لذلك إلا التزامه للدليل ، كما سمعته في خبر الأطنان (١) أو التزام الأول والتخلص مما سمعته بدعوى المراعاة في الملك لا العود من الوارث ، والكل تجشم.

ولعله مثله لازم في الوصية لو كان قد أوصى بكلي من ثلثه كألف ونحوه ، فإنه لا ينقص ما دام في الثلث سعة ، ولا يرجع إلى حصة معينة منه بحيث لو نقص أصل المال بسعر أو تلف دخلها النقص على تلك النسبة. لكن الجميع كما ترى لا يخلو من اشكال.

أما الدين فلا يرد فيه شي‌ء من ذلك ، بناء على المختار من كون الجميع ملك الورثة ، وربما نلتزم مثله في نحو هذه الوصية وإن اخترنا كونها على حكم مال الميت لو أوصى بالحصة المشاعة على الوجه الذي عرفت ، فتأمل جيدا فإنه قل من تعرض للوصية والذي تعرض لها جعل حكمها حكم الدين اغترارا بظاهر الآية ، وقد عرفت تحقيق الحال في ذلك.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٩ ـ من أبواب عقد البيع وشروطه الحديث ـ ١.

٨٩

وكيف كان فقد ظهر لك مما ذكرنا حكم ما لو لم يكن الدين مستغرقا إذ على ما قلناه لا فرق بينهما في الانتقال إلى الوارث ، أما على القول الأول فقد صرح بعضهم بأن حكم المقابل حكم المستوعب في البقاء على ملك الميت ، وأما الفاضل فهو ملك الورثة وقد سمعت حكاية بعضهم الإجماع عليه ، ومن الغريب ما عن الفاضل في إرث القواعد من أن التركة مع الاستيعاب للورثة ، وأما إذا لم يكن مستوعبا فما قابل الدين على حكم مال الميت ، ولم يحضرنا الآن ما يشهد له من آية أو رواية أو اعتبار.

والأمر سهل بعد وضوح الحال لديك ، كوضوح الثمرات المترتبة على هذا الخلاف التي منها : أنه لا إشكال في تعلق الدين بالنماء بناء على بقائها على حكم مال الميت ، أما على الانتقال إلى الوارث ، فالمتجه عدمه ، للأصل ، ودعوى تبعية النماء للمال في التعلق أيضا ممنوعة ، وقد سمعت في باب الرهن منعها ، على أنك ستعرف أن التعلق هنا ليس كتعلق الرهن.

فنقول : إن تعلق الدين بالتركة هل هو تعلق رهن حتى لا يجوز للورثة التصرف كما هو المشهور نقلا إن لم يكن تحصيلا ، أو أرش جناية فيجوز كما عن السيد الرضي ، بل هو ظاهر قواعد الفاضل في باب الرهن ، أو تعلقا مستقلا؟ كما هو خيرة جامع المقاصد ، والمحكي عن الفخر ، والظاهر أن هذا البحث يأتي على القولين ، إلا أن ثمرته في المستوعب على الأول نادرة ، ضرورة عدم جواز تصرف الوارث بعد أن لم يكن مالكا على كل حال.

نعم قد تظهر ثمرته في الوصي باعتبار تصرفه في التركة لقضاء الدين ، فإنه لا يجوز على الأول من دون إذنهم كالرهن ، وعلى الثاني يجوز كالثالث في احتمال ، ولو قيل : بأن الكل متفقون على جواز التصرف للدين من دون إذن الغرماء ، وإنما مراد القائل بتعلق الرهانة بالنسبة إلى نفوذ تصرف الوارث ، سقطت الثمرة من هذه الجهة.

وكيف كان فالتحقيق أنه تعلق مستقل لا يدخل في أحد التعلقين ، ضرورة خروجه عن موضوعهما ، فلا يشمله دليلهما ، والشبه بكل منهما من جهة يقتضي خروجه عنهما ، وكثرة وجه الشبه بأحدهما لا تقتضي لحوق أحكامه ، ولعل مراد الأصحاب في‌

٩٠

هذا الخلاف أن الدليل ولو الأصل يقتضي كون التعلق تعلق الرهانة في الاحكام والأرش وإلا فمعلوم خروجه عن موضوعها ، وان الشبه في الجملة لا يثبت جميع الاحكام.

وعلى كل حال فقد جزم المحقق الثاني ، والفخر ، والشهيد في المحكي عنهما ، بخروجه عنهما نعم قال الأول : يحتمل المنع من التصرف بالعتق بالبيع ونحوهما ، لمنافاته حكمة التعلق لاقتضاء نفوذ التصرف ضياع الدين ، ولصيرورة العين به كالمال المشترك ، ويحتمل العدم ، للأصل ، بل الأصول ، ولا منافاة بعد ثبوت التسلط الذي الحق على الفسخ إن لم يدفع له ، ففي الصحة حينئذ جمع بين الحقين ، وتحتم الأداء على الوارث حكمة التعلق. كما أن سلطنة الغريم على الفسخ تنفي الضياع ، ومن هنا قال : « التحقيق أن القول بالنفوذ أقوى » قلت : هو كذلك ، لكن لا ثمرة ظاهرة غالبا حينئذ بينه وبين القول بتعلقه تعلق الأرش.

وعلى كل حال فهل يشترط في تعلق الدين بمجموعة التركة استغراق الدين إياها أو أزيد فلو كان أنقص لم يتعلق إلا بقدره ، لأن الحجر إنما وقع لأجل الدين فيختص بقدره أم لا يشترط لأنه لا أولوية لبعض على بعض في اختصاص التعلق به ـ لأن الأداء لا يقطع بكونه بذلك البعض ، لجواز التلف ، ولظاهر الآية (١) بناء على أنها لتعلق الملك ، أو جواز التصرف ، وصحيح عباد المتقدم (٢) بل وصحيح سليمان (٣) ولأن الميت لما خرج بالموت عن صلاحية استقرار الدين في ذمته ، وجب أن يتعلق بكل ما يمكن اداؤه من أمواله لأن حدوث تعلقه ببعض آخر عند تلف بعض معلوم انتفاؤه ـ اشكال « أقربه الأول » في القواعد والمحكي عن حواشي الشهيد وجامع الشرائع ، المسالك ، والكفاية ، « والأصح الثاني » في جامع المقاصد ، وهو المحكي عن ميراث لقواعد وحجر الإيضاح ورهنه وإرث الدروس وإيضاح النافع ، وظاهر المبسوط وقد يؤيد الأول ـ مضافا إلى السيرة وإلى استبعاد الحجر على مال كثير بدين يسير ، بل لا يخلو من‌

__________________

(١) سورة النساء الآية ـ ١٢ ـ.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ـ ١ ـ.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب موانع الإرث الحديث ـ ١ ـ.

٩١

ضرر وحرج ـ الحسن أو الصحيح (١) « أنه سئل عن رجل يموت ويترك عيالا وعليه دين أينفق عليهم من ماله؟ قال : إن استيقن أن الذي عليه يحيط بجميع المال ، فلا ينفق عليهم ، وإن لم يستيقن فلينفق عليهم من وسط المال ، ونحوه خبر عبد الرحمن بن الحجاج (٢) عن أبي الحسن عليه‌السلام إذ هما وإن كانا في التصرف الاتلافي الذي يمكن أن يمنعه أيضا القائل بتعلق الأرش أو التعلق المستقل ، وإن جوز غيره مما ليس فيه إتلاف للعين ، لكن دال على غيره بطريق أولى ، من إمكان المناقشة في أدلة الثاني بأنه لا أولوية بعد أن كان التعلق بالمقابل الكلي ، والآية قد عرفت المراد منها ، والصحيح كما أنه محتمل لتعليق جواز التصرف ، محتمل لاستقرار الملك ، وأولى منه بذلك صحيح سليمان ، ولا حدوث للتعلق بعد تلف المعزول له ، بل هو انكشاف لكون التعلق بالذي تصرف فيه الوارث.

ومنه يظهر الوجه في تسلط الغريم على الفسخ لو فرض تصرف الوارث ولم يؤد الدين وضمانه لو كان قد أتلفه ، واحتمال عدم جواز الفسخ للإذن في التصرف الذي وقع حال عدم تعلق الدين في غاية الضعف ، كتعليله ، فبان لك حينئذ من ذلك كله قوة القول بالتفصيل بين المستوعب وغيره ، الذي تظهر ثمرته على تقدير كون التعلق تعلق رهانة ، أو مستقلا يمنع من التصرف ، أما إذا قلنا بعدم منعه حتى في المقابل فلا ثمرة له ظاهرة غالبا ، كما أنه بان لك مما ذكرناه عدم الفرق في جواز التصرف عند القائل بأنه تعلق أرش أو مستقل بين الاستيعاب وغيره ، كما هو مقتضى ما سمعته من الأدلة.

لكن عن قضاء الإيضاح والمسالك ، وظاهر قضاء دين الميت من السرائر ، الإجماع على عدم جواز التصرف مع الاستيعاب ، وأن الاشكال في غير المستوعب ، قال في الأول : « أجمع الكل على أنه إذا مات من عليه دين يحيط بجميع التركة ، لا يجوز للوارث التصرف فيها إلا بعد قضاء الدين ، أو إذن الغرماء » ونحوه عن الثاني أيضا ، بل في مفتاح الكرامة « أنه كذلك ، يشهد له التتبع ».

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ٢.

٩٢

قلت : بل التتبع شاهد بخلافه كما لا يخفى على من لاحظ القواعد ، وجامع المقاصد في باب الحجر ، مضافا إلى عدم اقتضاء الأدلة الفرق بين المستوعب والمقابل للدين من غيره ، نعم في الزائد ما سمعته من البحث السابق فلاحظ وتأمل ، ولو كان على الميت عهدة كما لو كان قد حفر بئرا في طريق المسلمين عدوانا فتردى فيه بعد موته ، أو كان قد سرت جنايته كذلك ، ولم نقل بالكشف بها عن شغل ذمته قبل الموت ، أورد مبيعه بالعيب بعد أن أتلف هو الثمن مثلا ، فإن لم يكن قد تصرف الوارث بالتركة وجب الأداء منها ، بلا خلاف أجده فيه ، كما أنه لا أجده أيضا في انتقال التركة هنا إلى ملك الوارث قبل حدوث الضمان ، وإن كان السبب متقدما ، ضرورة عدم اقتضاء تقدمه بقاء التركة على حكم ماله ، لعدم تحقق الدين حينئذ.

اللهم إلا أن يدعى الكشف ولا دليل عليه ، إذ وجوب الأداء منها أعم من ذلك بل ينبغي الجزم به بناء على المختار من انتقالها إلى الوارث مع الدين المحقق فعلا فضلا عما نحن فيه ، وإن كان قد تصرف فيها الوارث ببيع ونحوه ففي القواعد « احتمل فساد التصرف لتقدم سبب الدين ، فأشبه الدين المقارن ، وعدمه ، فإن ادعى الوارث الدين وإلا فسخ التصرف » ، وكأنه بنى الأول على كون التعلق تعلق رهانة وقد عرفت ما فيه سابقا.

مع أنه لو سلم في الدين المقارن أمكن منعه هنا ، للأصل ، وتقدم السبب لا يقتضي تقدم المسبب ، وأقصى العهدة تعلق الدين الحادث بالتركة ، لا منع الوارث من التصرف ، ودعوى حدوث البطلان بحدوثه محتاجة إلى دليل ، فلا ريب أن الأصح الاحتمال الثاني على هذا التقدير ، فضلا عن المختار ، بل إن لم يقم إجماع على تسلطه على الفسخ إن لم يؤد الدين الوارث أمكن منعه ، للأصل ولكن يقوى حينئذ تعلق الدين بالعوض ، لكونه بدل المال ذي العهدة.

اللهم الا أن يقال : إنها كالدين في التسلط على الخيار الذي منشؤه فيهما تضرر الغريم ، وأن له حقا في الجملة ، ومنه حينئذ يتوجه ضمان الوارث لو فرض أن تصرفه كان بإتلاف للمال من غير معاوضة ، كأن يكون طعاما فأكله ، أو ثوبا فلبسه ، أو وهبه مجانا أو نحو ذلك فتأمل جيدا والله أعلم.

٩٣

( الفصل الثاني في أحكام الحجر ).

وفيه مسائل : الأولى قد تقدم سابقا انه لا خلاف معتد به في أنه لا يثبت حجر المفلس إلا بحكم الحاكم وإنما الخلاف في توقف دفعه على حكم الحاكم على ما عرفت.

وهل يثبت الحجر في السفيه بظهور سفهه فيه تردد وخلاف والوجه عند المصنف أنه لا يثبت ، وكذا لا يزول إلا بحكمه وفاقا للفاضل ومحكي المبسوط وشرح الإرشاد للفخر وظاهر الغنية ، قيل : وكأنه مال إليه في غاية المراد ، بل عن تعليق الإرشاد للكركي المشهور توقف الحجر على حكم الحاكم ، فيقوى حينئذ توقف إزالته عليه ، وإن كان هو كما ترى ، للأصل بمعانيه الثلاثة في توقف الثبوت عليه ، وبمعنى الاستصحاب في الزوال مؤيدة بأن موضوع السفه اجتهادي لوقوع الاختلاف في بعض ما يعد فعله سفها ، وبالعسر والحرج ، إذ أكثر الناس سفهاء سيما مع اعتبار العدالة وإصلاح المال والاكتساب وتحصيل المعدوم في الرشد.

لكن فيه أن الأصل يقطعه ظاهر قوله تعالى (١) ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) بناء على أن المراد عدم تمكين السفهاء من أموالهم كما عن أكثر المفسرين بقرينة ( وَارْزُقُوهُمْ ) إلى آخره للإجماع على عدم وجوب الإنفاق على السفيه من غير ماله ، والحمل على من وجبت نفقته منهم ولا مال له كما ترى.

بل يشعر بذلك أيضا قوله ( وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) بناء على أن المراد الكلام الجميل والوعد بما لهم إذا رشدوا ، وتعليم حفظ المال وصيانته ونحو ذلك ، بل وما بعد الآية ، بل قيل : وما قبلها.

ولا ينافي ذلك الإضافة إلى ضمير المخاطب ، باعتبار رجوعها إلى الأولياء‌

__________________

(١) سورة النساء الآية ـ ٥ ـ.

٩٤

بالإرث ، أو باعتبار كونهم قوامين ومتصرفين بها كالملاك أو باعتبار الإشارة إلى حفظها كحفظ أموالكم ، أو باعتبار أنها من جنس أموالهم التي بها قوام الكل ، كما في قوله تعالى (١) ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) (٢) و ( فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ ) فإن المراد عدم قتل البعض بعضا وجنس ما ملكت وجنس الفتيات ، لا نفس المخاطب وما ملكت يمينه وفتياته ، أو غير ذلك مما يكفي في الإضافة التي كثر استعمالها لأدنى ملابسة.

وما‌ في الصافي والعياشي (٣) عن الصادق عليه‌السلام « هم اليتامى لا تعطوهم أموالهم حتى تعرفوا منهم الرشد ، قيل : فكيف يكون أموالهم أموالنا فقال : إذا كنت أنت الوارث لهم » يمكن عدم ارادة الحصر منه ، خصوصا بعد استفادة حكم خصوص اليتامى من الآية التي بعدها ، بل‌ روى عنه عليه‌السلام (٤) في هذه الآية أنه قال : « من لا تثق به » وفي رواية (٥) « كل من يشرب الخمر فهو سفيه ».

وعن الباقر عليه‌السلام (٦) « أنه سئل عن هذه الآية فقال : لا تؤتوها شراب الخمر ولا النساء ، ثم قال : وأي سفيه أسفه من شارب الخمر » ، ولفظ الإيتاء وان كان ظاهرا في سبق الاستيلاء على المال الا أنه يمكن ارادة عدم التمكين منه ، على أنه بعد التسليم يمكن دلالتها على المطلوب ، بناء على ما تسمعه في مفهوم آية الابتلاء (٧) نعم‌ في الصافي أيضا عن القمي عنه عليه‌السلام (٨) أيضا أنه قال : « السفهاء النساء والولد إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وولده سفيه مفسد لا ينبغي له أن يسلط واحدا منهما على ماله الذي جعله الله له قياما يقوم به ، ومعاشا قال ( وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) ».

__________________

(١) سورة النساء الآية ـ ٢٩ ـ.

(٢) سورة النساء الآية ـ ٢٥ ـ.

(٣) الوسائل الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ١٠.

(٤) الوسائل الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ٩.

(٥) الوسائل الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ٨.

(٦) الوسائل الباب ـ ٥٣ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ـ ٢.

(٧) سورة النساء ـ الآية ـ ٦.

(٨) المستدرك ج ـ ٢ ـ ص ـ ٤٩٦ ـ.

٩٥

ولكنك خبير أنه لا يجوز الخروج عن ظاهر الآية بمثل هذا المرسل الذي يمكن عدم منافاته للمعنى المراد من الآية أيضا ، فلا ريب حينئذ في استفادة المطلوب من ظاهر الآية ، ضرورة إطلاق النهي فيها من دون تعرض للحاكم ، بل قد يستفاد من مفهوم قوله تعالى (١) ، أيضا ( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) كاستفادة عدم توقف زواله على حكم الحاكم.

ودعوى خروجها عن محل النزاع ـ للإجماع على عدم اعتبار الحاكم في الإثبات والإزالة بالنسبة إلى السفه المتصل بعد البلوغ ، وخصوصا الزوال ، إذ لو توقف عليه لطلب الناس عند بلوغهم فك الحجر عليه من الحاكم ، ولكان عندهم من أهم الأشياء فالسيرة القطعية شاهدة على ذلك ، وعن المبسوط « وأما حجر الصبي فإنه يزول ببلوغه ولا يحتاج إلى حكم حاكم ، وفي الناس من قال : لا بد فيه من حكم الحاكم ، وهو خلاف الإجماع » ـ

يدفعها أولا : ما عن نكاح التذكرة من ظهور عموم النزاع مؤيدا بإطلاق كثير منهم هنا ، وثانيا : القطع بعدم الفرق ، ضرورة عدم مدخلية الاتصال بالصغر المنقطع بالبلوغ ، إذ هو سبب جديد غير الأول ، فإن كان لا يمنع من التصرف بالمال إلا بحكم الحاكم ، وجب اعتباره في منع المالك منه ، وكذا الزوال ، والاتصال غير مجد ، بل وكذا يستفاد المطلوب من قوله تعالى (٢) ( فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً ) الى آخره حيث أثبت الولاية بمجرد السفه.

إلى ما ذكرنا يرجع الاستدلال بأن العلة السفه كما يشعر به تعليق الحكم عليه ، فوجوده يستلزم وجود المعلوم ، وعدمها يستلزم عدمه ، وبأنه إن جاز التصرف مع عدم حكم الحاكم لم يكن الرشد شرطا ، وهو باطل بالآية وبأن اشتراط جواز التصرف بالرشد يقضي بأن زوال الشرط يستلزم زوال المشروط ، كما أن منه يظهر الاستدلال أيضا بالإجماع السابق ، بل وبإطلاق النصوص التي هي نحو آية الابتلاء.

__________________

(١) سورة النساء ـ الآية ـ ٦.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ٢٨١.

٩٦

والتأييد الأول واضح الدفع ، ضرورة كون الكلام في الحجر بعد ثبوت السفه لا في موضوع السفه ، وأما التأييد الثاني فيدفعه منع كون أكثر الناس سفها ، على أنه مشترك الإلزام ، ضرورة وجوب التحجير حينئذ على الحاكم من باب الحسبة ، وخصوصا إذا كان هو الولي وقد تقدم في موضوع السفه ما يفيدك حقيقة الحال ، فلاحظ وتأمل.

ومن ذلك كله يظهر قوة القول بعدم توقفه ثبوتا وزوالا على حكم الحاكم ، وفاقا لجامع المقاصد ، والروضة ، والمسالك ، والكفاية ، والمفاتيح ، والرياض ، على ما حكي عن بعضها ، بل هو خيرة اللمعة أيضا بالنسبة إلى الثبوت دون الزوال ، فأوقفه على حكم الحاكم للأصل المقطوع بما عرفت ، ولاحتياج معرفته إلى الاجتهاد الذي قد سمعت ما فيه ، مضافا إلى انتقاضه في الثبوت.

ومنه يظهر ضعف القول الرابع الذي هو عكس ذلك ، وقد اعترف جماعة بعدم معرفة قائله وربما استظهر من غاية المراد للشهيد ، نعم عن التحرير أنه جزم باحتياجه إلى حكم الحاكم في الثبوت ، وتوقف في الزوال عكس ما عن الإرشاد.

وعلى كل حال ففيه ما لا يخفى ، مع أن ما قيل في وجهه من أن حكم الحاكم كان مشروطا بوجوده فلما عدم السفه امتنع ثبوت الحجر ، إذ يمتنع بقاؤه من دون الشرط ، خصوصا على القول بأن البقاء يحتاج إلى علة ، وأن علة البقاء علة الحدوث موافق للمختار ، إنما الكلام في توقف ثبوته على حكم الحاكم ، وليس إلا ما عرفت سابقا مما هو واضح الضعف والله أعلم.

المسألة الثانية إذا حجر عليه الحاكم فبايعه انسان ، كان البيع باطلا مع عدم اجازة الولي لا معها ، لما عرفت سابقا سواء كان بعين ماله أو ما في الذمة ، رضي البائع بالانتظار إلى احتمال فك الحجر أولا ، بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، بل عن الأردبيلي أنه يمكن تحريم أصل المعاملة معه ، ومجرد إيقاع صورة البيع والشراء معه ، وإن كان فيه منع واضح ، وحينئذ فإن كان المبيع موجودا استعاده البائع عالما كان أو جاهلا بالحكم أو الموضوع ، أذن بالقبض أو لا ، بلا خلاف أجده ولا إشكال ، ضرورة بقاء المال حينئذ على ملكه ، فله انتزاعه ، واحتمال‌

٩٧

صيرورته هبة في بعض أفراد المسألة كما ترى.

وإن تلف وقد قبضه بإذن صاحبه العالم بموضوعه وحكمه كان تالفا من مال مالكه وإن فك حجره بعد التلف لأصالة البراءة بعد أن كان هو المسلط له على ذلك ، وهو المسقط لحرمة ماله ، فلا يشمله شي‌ء من أدلة الضمان.

لكن الإنصاف أنه إن لم يثبت الإجماع عليه كما هو الظاهر من بعضهم حيث أرسلوه إرسال المسلمات ، وادعوا ظهوره ووضوحه بحيث لا يحتاج إلى بيان لا يخلو من اشكال ، يظهر مما ذكروه في قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، مع العلم بالفساد من أنه لا يقتضي سقوط الضمان بعد أن كان الاذن حاصلا فمن ضمن البيع فهي في الحقيقة مشروط بصحة البيع المفروض انتفاؤها ، فتنتفي حينئذ الاذن ، ويكون كفاقد الإذن في شمول أدلة الضمان له ، وهو بعينه جار في المقام وقياس السفيه على المجنون الذي لا يعقل معه الخطاب المشروط ـ واضح الفساد ، ضرورة كون السفيه مكلفا قابلا للخطاب ، وإن حجر عليه في التصرف في المال.

وأغرب من ذلك ما عساه يظهر من إطلاق المصنف وغيره ، من عدم الضمان مع الجهل أيضا ، بل صريح القواعد ومحكي المبسوط ، والتحرير ، والتذكرة ، وجامع المقاصد ، والكفاية ، ولعله ظاهر المسالك أيضا قال : « ووجهه أن البائع قصر في معاملته قبل اختبار حاله وعلمه بأن العوض المبذول منه ثابت أم لا؟ فهو مضيع لماله ».

وفيه منع كون ذلك مسقطا لحرمة المال ، مع عموم أدلة الضمان ، وقد يفرض عدم التقصير المزبور أيضا ، ولعله من هنا حكى في التذكرة عن بعض الشافعية أن السفيه إذا أتلف المال بنفسه ضمن بعد رفع الحجر ، ثم قال : « ولا بأس به » بل خص في اللمعة الضياع وعدم الضمان بالمعامل العالم ، بل نص في الروضة لو كان جاهلا بحاله كان له الرجوع مطلقا ، لعدم تقصيره ، بل عن الأردبيلي أنه تأمل في صورة العلم أيضا لأنه صار سفيها أيضا ، إلا أنه استظهر عدم الضمان ، ثم قال : « الذي يختلج في صدري ضمانه مع علمه ، أي السفيه بعدم صحة هذا العقد وعدم صحة التسلط إلا أن يكون المسلم إليه عالما وقبضه إياه » فتأمل هذا كله إذا قبضه بالإذن.

٩٨

وأما إذا كان قد قبضه بغير إذن ، فالمتجه فيه الضمان ، لعموم أدلته ، وعدم صدور غير العقد الفاسد من المالك ، وهو لا يقتضي الإذن فهو حينئذ كما لو أتلف ما لم يؤذن له فيه ، وهو الظاهر من المصنف ، بل هو صريح غيره ، بل لا أجد فيه خلافا بيننا وبين غيرنا ، سوى ما عن الأردبيلي من أن الظاهر عدم الضمان ، لأن المالك قد ضيعه على نفسه بإجراء العقد المسلط عرفا على القبض ، وفيه ما لا يخفى ، خصوصا بعد أولوية السفيه في الضمان من الصبي والمجنون اللذين قيل بلزوم الضمان عليهما لو فرضنا كذلك.

ومما ذكرنا يظهر لك الحال فيما لو اقترض السفيه وأتلف المال ، وإن صرح في القواعد أيضا بعدم الضمان فيه على كل حال ، لكن فيه ما تقدم ، مضافا إلى ما ذكروه في اقتراض المملوك وإتلافه له على نفسه من دون إذن سيده من ضمانه ، وأنه يتبع به العتق ، إذ السفيه أما أولى منه أو مساو له ، ولو لا تصريح البعض هنا بعدم الضمان ولو فك الحجر ، لأمكن تنزيل كلامهم على عدم الضمان فعلا ، بحيث يؤدي من ماله.

وعلى كل حال فالذي ينبغي مراعاة الضوابط بعد فرض عدم الإجماع في المقام إذ دون ثبوته على الوجه المثمر خرط القتاد ، فتأمل جيدا والله أعلم.

ومما ذكرنا يعلم الحال فيما لو أودعه إنسان مثلا وديعة مع العلم بحجره فأتلفها ولو مباشرة لكن قال المصنف ففيه أي في ضمانه تردد وخلاف والوجه انه لا يضمن كما عن إرشاد الفاضل ، للأصل ولتفريطه بالإيداع بعد نهى الله تعالى عن إيتاء السفيه المال ، فهو حينئذ سبب أقوى من المباشر.

ولأن‌ « إسماعيل بن الصادق عليه‌السلام (١) أراد أن يستبضع رجلا فنهاه أبو عبد الله عليه‌السلام عن ذلك ، لأن ذلك الرجل كان يشرب الخمر ، فخالف واستبضعه ، فاستهلك ماله ، فحج أبو عبد الله عليه‌السلام ، وحج معه ابنه إسماعيل فجعل يطوف بالبيت ويقول « اللهم أجرني واخلف على » فلحقه أبو عبد الله عليه‌السلام ، فهمزه بيده من خلفه ، فقال له : مه يا بني فلا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب أحكام الوديعة الحديث ـ ١.

٩٩

والله مالك على الله حجة ، ولا لك أن يأجرك ولا يخلف عليك وقد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنته ( الى ان قال ) : فإن الله عز وجل في كتابه يقول ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) فأي سفيه أسفه من شارب الخمر ، إن شارب الخمر لا يزوج ولا يؤتمن على أمانة ، فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على الله عز وجل أن يأجره ».

وفيه أن الأصل مقطوع بأدلة الضمان كعموم من أتلف ونحوه ، والإيداع من مكلف بعد أن لم يكن فيه إذنا بالإتلاف ليس تفريطا ليسقط معه حرمة المال ، ويخرج به عن عمومات الضمان ، ودعوى قوة السبب على المباشرة واضحة المنع ، كوضوح عدم دلالة الخبر المزبور الذي لا جابر له.

مضافا إلى اشتماله على مخالفة إسماعيل لوالده ، والمعلوم من ورعه خلافه ، وإلى نهيه عن الدعاء الذي لا إشكال في جوازه له ، فظهر حينئذ قوة القول بالضمان وفاقا للتذكرة ، وجامع المقاصد ، والمسالك ، والروضة ، ومجمع البرهان على ما حكي عن بعضها ، إذ هو حينئذ كالغصب الذي لم أجد خلافا في ضمانه ، بل هو منه ضرورة كون السفيه بالغا عاقلا ، بل لعله أفحش منه.

نعم لو كانت الوديعة مثلا من مجنون أو طفل غير مميز اتجه حينئذ عدم الضمان بالإتلاف مباشرة ، فضلا عنه بالتفريط ، كما عن التذكرة والتحرير ، للأصل بعد الشك في تناول عمومات الضمان له ، باعتبار قوة السبب على المباشر الذي هو كالحيوان ، فما عن بعضهم من الضمان مطلقا ضعيف.

بل وما في المسالك من الفرق بين المباشرة والتفريط ، لأن الضمان بالثاني فرع وجوب الحفظ المعلوم انتفاؤه عنها ، بخلاف الأول المبني على سببية الإتلاف للضمان ، وهي لا فرق فيها بين التكليف وعدمه ، ولذا ضمنا لو أتلفه بلا إذن من المالك في أصل الاستيلاء بلا خلاف ولا إشكال ، لما قد عرفت من قوة السبب على مثل هذا المباشر ، وأنه كما لو أهمل ماله حتى أتلفته دابة الغير.

أما إذا كان الصبي مميزا فقد يقوى ضمانه بالمباشرة ، بل وبالتفريط بناء على أنه لا يقصر عنها ، لمنع قوة السبب هنا على المباشرة بعد استمرار السيرة على الاعتماد‌

١٠٠