جواهر الكلام - ج ٢٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

فيه ، إلا أنها متفقة في عدم الاختلاف المزبور.

بل خبر عبد الله بن سنان (١) منها ـ الذي قواه المتأخرون ، ومال إلى الأخذ به الفاضل المذكور ـ ظاهر الدلالة على ما ذكرنا ، وكذا حديث الثمالي (٢) وخبر حمزة بن حمران (٣) بل النبوي صريح في ذلك.

وفي‌ المروي عن قرب الإسناد عن علي بن المفضل (٤) « أنه كتب الى أبي الحسن عليه‌السلام ما حد البلوغ؟ قال : ما أوجب على المؤمنين الحدود » وبه يظهر العموم في خبر يزيد الكناسي (٥) حيث دل على أن الحدود لا تثبت للغلام قبل بلوغ الخمس عشر ، فما تفرد به الفاضل الكاشاني ـ من أن التحديد بالسن مختلف في التكليفات ، وأن الحد في كل شي‌ء هو التحديد الوارد فيه ، ظنا منه أن التوفيق بين النصوص الواردة في السن إنما يحصل بذلك ـ واضح الفساد ، لمخالفته إجماع الإمامية بل المسلمين كافة ، فإن العلماء مع اختلافهم في حد البلوغ بالسن مجمعون على أن البلوغ الرافع للحجر هو الذي يثبت به التكليف ، وأن الذي يثبت به التكليف في العبادات هو الذي يثبت به التكليف في غيرها ، وأنه لا فرق بين الصلاة وغيرها من العبادات ، فيه.

بل هو أمر ظاهر في الشريعة ، معلوم من طريقة فقهاء الفريقين ، وعمل المسلمين في الأعصار والأمصار من غير نكير ، ولم يسمع من أحد منهم تقسيم الصبيان بحسب اختلاف مراتب السن ، بأن يكون بعضهم بالغا في الصلاة مثلا غير بالغ في الزكاة ، أو بالغا في العبادات دون المعاملات ، أو بالغا فيها غير بالغ في الحدود ، وما ذاك إلا لكون البلوغ بالسن أمرا متحدا غير قابل للتجزية والتنويع ، على أن في جملة من نصوص المقام خبري المروزي (٦) وابن راشد (٧) المصرحين بوجوب الفرائض والحدود على‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ـ ١٢ ـ.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ـ ٣ ـ.

(٣) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ٢.

(٤) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ٧.

(٥) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ٣.

(٦) المستدرك ج ـ ١ ـ ص ٧.

(٧) الوسائل الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث ـ ٤ ـ.

٤١

الغلام بإكمال الثمان ، والتوفيق بينهما وبين التحديدات غير ممكن.

وكذا ما ورد في الوجوب على ذي ست ، وعدم الوجوب على من لم يبلغ ثلاث عشرة سنة ، أو أربع عشر ، وما دل على وجوب الصوم على الجارية بالتسع ، وما دل على عدمه عليها إلا بالثلاث عشر.

وبالجملة فالنصوص مختلفة اختلافا لا يرجى جمعه بنحو ذلك ، وإنما الواجب النظر في اخبار المسألة بالنسبة إلى المكافاة وعدمها ، ثم الأخذ بالراجح ، وترك المرجوح أو تأويل ما يمكن فيه منه بالحمل على التمرين والتأديب ، أو غير ذلك ، كما فعله الأصحاب ، وقد بان لك بحمد الله الراجح منها والمرجوح ، والله أعلم بحقيقة الحال ، هذا كله في السن والإنبات والإنزال.

أما الحمل والحيض فليسا بلوغا في حق النساء بلا خلاف معتد به أجده فيه ، بل نفاه عنه غير واحد من دون استثناء ، ففي المسالك « لا خلاف في كون الحيض والحمل دليلين على البلوغ ، كما لا خلاف في كونهما بلوغا بأنفسهما » بل هو ظاهر العلامة في التذكرة والتحرير حيث نفي الخلاف في كون الحيض دليلا على البلوغ والدليل في كلامهم هنا خلاف السبب ، لكن في المبسوط أن البلوغ يحصل بثلاثة الاحتلام ، والحيض ، والسن ، ثم قال : والحمل دلالة على البلوغ ، وكذا الإنبات على ، خلاف فيه ، وظاهره كون الحيض بلوغا دليلا على سبقه ، ومثله ما في الوسيلة لكن يمكن أن يريدا بذلك عدم دلالته على السبق بزمان يسع التكليف ، لجواز اتصاله بالسن ، ووقوعه بعد كمال التسع بلا فصل ، فيكون كالسبب في البلوغ ، لا بمعنى جواز التقدم عليه فإن امتناعه مقطوع به في كلام الأصحاب ، كما أنه يمكن إرادة ثاني الشهيدين من العبارة السابقة أنه لا خلاف في كون الحمل والحيض دليلين على سبق البلوغ كما لا خلاف في كون هذين الأمرين المذكورين في المتن المفهومين ضمنا من دلالة الحمل والحيض على السبق بلوغا في أنفسهما ، ويمكن إرجاع الضمير إلى الحمل والحيض على معنى ارادة تعليق أحكام البلوغ عليهما في الشرع ، وإن كانا كاشفين عنه حقيقة.

٤٢

ففي خبر عبد الرحمن بن الحجاج (١) عن الصادق ( عليه‌السلام « ثلاث يتزوجن على كل حال ، وعد منها التي لم تحض ومثلها لا تحيض ، قلت : وما حدها قال : إذا أتي لها أقل من تسع سنين ».

وروايته الأخرى (٢) عنه أيضا « ثلاث يتزوجن على كل حال وذكر من جملتها التي لم تحض ومثلها لا تحيض ، قال : قلت : ومتى يكون كذلك قال ما لم تبلغ تسع سنين ، فإنها لا تحيض ومثلها لا تحيض ».

ورواية عبد الله بن عمر (٣) « قلت لأحدهما : الجارية يشتريها الرجل وهي لم تدرك أو قد يئست من المحيض؟ قال : لا بأس بأن لا يستبرءها ».

وموثق عبد الله بن سنان (٤) « إذا بلغ الغلام ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنة وكتبت عليه السيئة وعوقب ، وإذا بلغت الجارية تسع سنين فكذلك ، وذلك أنها تحيض لتسع سنين. » وخبر يونس بن يعقوب (٥) « أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلي في ثوب واحد؟ قال : نعم ، قلت : فالمرأة قال : لا يصلح للحرة إذا حاضت إلا الخمار ، إلا أن لا تجده » وغيرها من النصوص المعلقة لأحكام البلوغ على الحيض.

أما الحمل فقد يدل عليه‌ الحسن كالصحيح (٦) « عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : في رجل ابتاع جارية ولم تطمث قال : إن كانت صغيرة لا يتخوف عليها الحبل فليس عليها عدة ، وليطأها إن شاء ، وإن كانت قد بلغت ولم تطمث فإن عليها العدة ».

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب العدد الحديث ـ ٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب العدد الحديث ـ ٥.

(٣) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب بيع الحيوان الحديث ـ ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ـ ١٢.

(٥) الوسائل الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب لباس المصلى الحديث ـ ٤ ـ.

(٦) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب نكاح العبيد والإماء الحديث ـ ١ ـ.

٤٣

و‌مرسل جميل (١) عن أحدهما عليهما‌السلام « في الرجل يطلق الصبية التي لم تبلغ ولا يحمل مثلها وقد كان دخل بها ، والمرأة التي قد يئست من المحيض وارتفع حيضها ولا يلد مثلها؟ قال : ليس عليهما عدة وإن دخل بهما ».

وموثق محمد بن مسلم (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : التي تحبل مثلها لا عدة عليها ».

وخبر منصور بن حازم (٣) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الجارية لا يخاف عليها الحبل قال : ليس عليها عدة ».

وخبر ابن أبي يعفور (٤) عن الصادق عليه‌السلام أيضا « في الجارية التي لم تطمث ولم تبلغ الحبل إذا اشتراها الرجل قال : ليس عليها عدة يقع عليها ».

بل قد يشهد لذلك أيضا فحوى الأخبار المستفيضة (٥) المتضمنة لنفي العدة عن الصغيرة والتي لم تبلغ المحيض ، فإن الوجه في انتفاء العدة في مثلها على ما يستفاد من النصوص عدم الاسترابة بالحمل في مثلها ، ومقتضى ذلك خروجها عن حد الصغر بإمكان الحمل ، فخروجها عنه بتحققه أولى.

وعلى كل حال فقد بان لك مما ذكرنا عدم كونهما بلوغا بأنفسهما بل قد يكونان دليلين على سبق البلوغ في مثل المجهول حالها ، بأن يكون الحيض منها كاشفا عن حصول العدد لها ، فلا يرد أن الدم الذي تراه قبل التسع ليس بحيض ، وبعدها يكون بلوغها بالسن ، فلا أثر للحيض في الدلالة ، إذ الجواب ما أومأنا إليه من ظهور القاعدة في مجهوله السن ، فإن بلوغها يعرف بالحيض ، لدلالته على السن الدال عليه ، لا بالسن ، لفرض جهالته.

نعم يعتبر فيه معلومية كونه حيضا من الصفة أو غيرها ، ولا يكفى هنا ما اشتهر بين الفقهاء من قاعدة الإمكان ، إذ هو مشروط ببلوغ التسع كما صرحوا به ، والفرض‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب العدد الحديث ـ ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب العدد الحديث ـ ٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب نكاح العبيد والإماء الحديث ٢.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب العدد.

(٥) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب نكاح العبيد والإماء الحديث ٣.

٤٤

في المقام الاشتباه.

ومن هنا قال في التذكرة : « لو اشتبه الخارج أنه حيض أم لا لم يحكم بالبلوغ ، ولا يحكم إلا مع اليقين عملا بالاستصحاب » وهو كذلك ومعه يسقط اعتبار الصفة ، فإنها إنما تعتبر في صورة الشك.

وأما دلالة الحمل على السبق فباعتبار قضاء العادة بتقدم الحيض ، وباعتبار كونه مسبوقا بالإنزال الذي قد عرفت سببيته للبلوغ ، لأن تكون الولد إنما يكون من اختلاط مجموع المائين ، وهو المراد من الأمشاج في الآية الكريمة (١) على ما هو المهور بين المفسرين كإرادة صلب الرجل وترائب المرأة من قوله تعالى (٢) ( يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ ) لا صلب الرجل وترائبه ، ولا أن المراد بالامشاج الاختلاط من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، ولا الأطوار والشؤن ، ولا الاختلاط من مني الرجل وحيض المرأة ، مع أنه على الأخير يتم المطلوب أيضا.

وما ذكرناه في الآيتين هو المروي عن ابن عباس بل هو موافق للنصوص الكثيرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام على أن خلق الولد من المائين وأن ماء الرجل أبيض غليظ ، وماء المرأة أصفر رفيق ، وأن العظم والعصب والعروق من نطفة الرجل والشعر والجلد واللحم من نطفة المرأة ، وأن الذكورة والأنوثة والشبه بالأعمام والأخوال من تسابق المائين ، وعلو أحد هما على سابقه روى ذلك الصدوق ، والراوندي ، والطبرسي ، في المحكي عن العلل ، والقصص ، والمجمع والاحتجاج.

وما عن الحكماء والأطباء من الاختلاف في منى المرأة فعن أرسطو وأتباعه أنه لا مني لها وانما ينفصل عنها رطوبة شبيهة بالمني إذا امتزج بها مني الرجل تولد منها مادة الجنين ، وذلك لوجود القوة العاقدة في مني الرجل والمنعقدة في رطوبة المرأة.

__________________

(١) سورة الدهر الآية ـ ٢.

(٢) سورة الطارق الآية ـ ٦.

٤٥

وعن جالينوس وأكثر الأطباء أن للمرأة منيا كالرجل ، وفي كل منهما قوة عاقدة ومنعقدة ، لكن مني الذكر أشد وأقوى في الفعل والتأثير من مني الأنثى ، وعن الحكماء أن مبدء التصوير في مني الرجل ، ومبدء التأثير والتصور في مني المرأة ، وإنما المني إنما يقال عليهما بمحض اشتراك الاسم ، والا فمني الرجل حار نضيج ثخين ، ومني المرأة جنس من دم الطمث ، وإنما حصل به استحالة يسيرة ، لا يبعد به عن الدم بعد منى الرجل منه ، ولذا يسمونه طمثا لا منيا.

وعن بعض المحققين ان المني عند الحكماء وهو الماء الجامع لبياض اللون ورائحة الطلع ، والدفق واللذة والقوة العاقدة غير قادح في شي‌ء مما ذكرنا ، ضرورة كون النزاع بين الفريقين لفظيا ، وأن الاتفاق منهما واقع على أن تكون الولد من مجموع المائين ، والعبرة في التسمية بالعرف واللغة ورطوبة المرأة تسمى منيا فيهما ، وخروجها عنه باصطلاح الحكماء لا يقدح في ثبوت الحكم الشرعي المنوط بغيره ، كما هو واضح.

وعلى كل حال ففي التذكرة والقواعد والمسالك « أن دلالة الحمل على البلوغ منوطة بالوضع ، لعدم العلم بتحققه بدونه ، فبعد الوضع يحكم بالبلوغ قبله ».

قلت الأجود إناطة الحكم بالعلم في أصل الحمل ، وابتدائه فلو علم به قبل الوضع حكم بالبلوغ ، وكذلك لو علم بكونه لأكثر من ستة أشهر حكم به ، لما يحتمل النقص عنه ، ولا فرق في دلالة الحمل على البلوغ بين أن يكون الولد تاما أو غير تام ، إذا علم أنه مبدء نشو آدمي ، كما في العلقة والمضغة ، ويسقط اعتبار الستة أشهر هنا. وللرجوع إلى الأربعين ـ كما دلت عليه الروايات في مراتب النشو ـ وجه وجيه.

ثم لا يخفى عليك أن الحاجة إلى هذه العلامة فيما إذا تحقق الحمل للمرأة من غير إحساس بالإنزال ، فلو أحست به حصل لها العلم بالبلوغ بذلك ، وجرى عليها القلم ، وإن توقف الحكم به ظاهرا على ظهور الحمل ، أو تحقق الوضع والله هو العالم بحقيقة الحال.

تفريع : الخنثى المشكل بناء على الانحصار في الرجل والمرأة ، وأنه‌

٤٦

لا قسم ثالث إن نبت شعره الخشن حول الفرجين أو بلغ سنه الخمس عشر لو خرج منيه من الفرجين أو أمنى من فرج الذكر بعد مضي تسع ، وإمكان الامناء من الذكر حكم ببلوغه بلا خلاف أجده بيننا ولا إشكال ضرورة حصول سبب البلوغ في الفرضين ، إن كان رجلا أو امرأة.

نعم لو خرج منيه من أحدهما يحكم به بناء على اعتبار اعتياد المخرج في الدلالة على البلوغ ، لجواز كون ذلك الفرج زائدا ، فلا يكون معتادا أما لو صار ذلك معتادا أو قلنا بدلالة خروج المني مطلقا على البلوغ ، اتجه الدلالة هذا.

وفي المسالك بعد أن حكم بعدم الدلالة قال : « ومثله ما لو حاض من فرج النساء خاصة هذا هو الذي اختاره أكثر العلماء ولبعض العامة قول بأن ذلك كاف في البلوغ لان خروج المني من فرج الذكر يحكم بكونه ذكرا ، كما يحكم به لو خرج البول منه خاصة ، وكذا القول في الحيض والمني من فرج الأنثى ، ولان خروج مني الرجل من المرأة والحيض من الرجل مستحيل ، وكان دليلا على التعيين ، ومتى ثبت التعيين كان دليلا على البلوغ ، ولأن خروجهما معا دليل البلوغ ، فخروج أحدهما أولى ، لأن خروجهما يفضى إلى تعارضهما ، وإسقاط دلالتهما ، إذ لا يتصور حيض صحيح ومني رجل ، ونفى في التذكرة البأس عن هذا القول ، وهو في محله نعم لو صار ذلك معتادا قويت الدلالة ».

قلت لا ينبغي التأمل في دلالة الحيض ، بعد فرض العلم بكونه حيضا ، لا أنه بصفاته وان احتمل كونه غير حيض على التعيين ، وعلى البلوغ ، كما أنه لا ينبغي التأمل في دلالة المني الخارج من الفرج بعد العلم بكونه منيا عليهما أيضا ، إذا كان خروجه في زمان عدم إمكان خروجه من الذكر ، لاستحالة ذلك من غير الأنثى كما هو واضح.

أما لو كانا بالصفة مع احتمالهما غيرهما ، فالمتجه ما هو المشهور من عدم الدلالة على أحدهما ، لما عرفت ، وقياسه على البول مع أنه منصوص هو مع الفارق ، ضرورة كون المفروض أنهما بالصفات ، وإن لم يقطع بكونهما حيضا أو منيا ، ودعوى أن‌

٤٧

الصفات مما تورث العلم ظاهرة الفساد ، وإلا لم يمكن فرض التعارض فيهما في المسألة التي ذكرها المصنف وغيره بقوله.

ولو حاض من فرج الإناث وأمنى من فرج الذكور حكم ببلوغه على المشهور بين الأصحاب ، نقلا إن لم يكن محصلا ، بل في المسالك « أن دلالة ذلك عليه واضحة ، لأنه إما ذكر فقد أمنى ، وإما أنثى فقد حاضت » وللعامة قول بعدم ثبوت البلوغ بذلك ، لتعارض الخارجين وإسقاط كل واحد منهما الآخر ، ولهذا لا يحكم والحال هذه بالذكورة ولا بالأنوثة ، فيبطل دلالتهما كالبينتين إذا تعارضتا ، بل في المسالك « هو وجه في المسألة ».

قلت : هو مع أنه مناف للوضوح الذي ادعاه سابقا اللهم إلا أن يريد بالوجه مطلق الاحتمال وان كان واضح الضعف تعارضهما بالنسبة إلى الدلالة على الذكورة أو الأنوثة لا يقضي به بالنسبة إلى البلوغ ، ضرورة عدم التلازم بينهما كما هو واضح والله أعلم.

الوصف الثاني الذي يتوقف عليه رفع الحجر الرشد في المال بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل الكتاب والسنة دالة عليه أيضا ، والمرجع فيه العرف كما في غيره من الألفاظ التي لا حقيقة شرعية لها ، ولا لغوية مخالفة للعرف ، وما عن الكشاف ـ من أن الرشد الهداية ، والقاموس الاهتداء ، والنهاية والصحاح خلاف الغي ، المفسر فيهما بالضلال ـ لا ينافي ما ذكره الأصحاب في المقام ، إذ هو بالنسبة إلى خصوص المال ، ولو سلم فالعرف مقدم على اللغة عندنا ، كما حررناه في محله.

وعلى كل حال فـ ( هو أن يكون مصلحا لماله ) وقد قيل : إنه طفحت به عباراتهم ، بل عن التنقيح « أنه لا شك فيه عند العرف » ومجمع البرهان « هو الظاهر المتبادر منه عرفا ، وأنه هو الذي ذكره الأصحاب » وعن مجمع البيان « أنه العقل وإصلاح المال وهو‌ المروي عن الباقر عليه‌السلام (١) وعن مجمع البحرين عن الصادق ـ عليه‌السلام (٢) في تفسير الآية « أنه حفظ المال ».

ولعل مرجع الجميع إلى شي‌ء واحد ، وهو ما صدق عليه عرفا انه رشد‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ٧.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ٦.

٤٨

بالنسبة إلى المال ، إلا أن قاعدتهم في مثل هذه الألفاظ الراجعة إلى العرف عدم التحديد التام ، اتكالا عليه ، بل ربما لا ينافي في بعض المقامات تحديده على الوجه التام ، ومن هنا قد عرفت تفسيره بما سمعت ، وفي القواعد وعن غيرها أنه كيفية نفسانية تمنع من إفساد المال ، وصرفه في غير الوجوه اللائقة بأفعال العقلاء ، وكثير منهم ممن فسره بالإصلاح قد أخذ الملكة فيه في مقام آخر ، وجميع ذلك عند التأمل فضول لوفاء العرف في مصداقه ، فليس من وظائف الفقيه البحث فيه ، فضلا عن الاطناب.

نعم جرت عادتهم بذكر تفسير له على جهة الإجمال ، ولذا تختلف في القيود ، ومن هنا يعرف ما في المسالك في شرح عبارة المتن معترضا بها عليه ، بل وعلى غيره قال : « ليس مطلق الإصلاح موجبا للرشد ، بل الحق أن الرشد ملكة نفسانية تقتضي إصلاح المال ، وتمنع من إفساده ، وصرفه في غير الوجوه اللائقة بأفعال العقلاء.

واحترزنا بالملكة عن مطلق الكيفية ، فإنها ليست كافية ، بل لا بد من أن تصير ملكة يعسر زوالها ، وباقتضائها إصلاح المال عما لو كان غير مفسد له ، ولكن لا رغبة له في إصلاحه على الوجه المعتبر عند العقلاء ، فإن ذلك غير كاف في تحقق الرشد ، ومن ثم يختبر بالاعمال اللائقة بحاله ، كما سيأتي ، ويمنعه من إفساده عما لو كان له ملكة الإصلاح والعمل ، وجمع المال ، ولكن ينفقه بعد ذلك في غير الوجه اللائق بحاله ، فإنه لا يكون رشيدا ».

وفيه أولا : أنه من المعلوم إرادة الصفة اللازمة ضرورة عدم صدق الرشيد عرفا على من حصل منه ذلك على وجه الاتفاق ، ومرجع الملكة إلى ذلك فهي مرادة للجميع بهذا المعنى قطعا ، والمراد بإصلاح المال حفظه والاعتناء بحاله ، وعدم تبذيره والمبالاة ونحو ذلك مما ينافيه العرف بالاعمال التي لا تليق بحاله.

أما تنميته والتكسب به فقد يمنع اعتباره في الرشد عرفا ، من غير فرق بين أولاد الرؤساء وغيرهم ، وستعرف عدم وجوب الاختبار بالاعمال اللائقة بحاله ، وانما هو طريق من طرق معرفة الرشد ، كالغزل والاستغزال ، والنسج والاستنتاج في الأنثى والجمع بينهما في الخنثى ، ضرورة عدم توقف تحقق الرشد عرفا على ذلك ، بل قد‌

٤٩

يتحقق عرفا بدونه ، كما هو واضح بأدنى تأمل. وبالجملة إطالة الكلام في تحقق مصداق الرشد في المال مع وفاء العرف به تضييع للعمر فيما لا ينبغي.

وأولى من ذلك البحث في أنه هل يعتبر فيه العدالة أولا حتى قال المصنف فيه تردد بل وخلاف فعن الشيخ ، والراوندي ، وأبي المكارم ، وفخر الإسلام ، اعتبارها ، بل عن الغنية الإجماع عليه ، والمشهور نقلا وتحصيلا ـ بل في المسالك ومحكي التذكرة نسبته إلى أكثر أهل العلم ـ العدم ، إذ لا ريب في صدق العرف بدونها ، ولو كانت معتبرة في الابتداء لاعتبرت في الاستدامة ، وهو معلوم الفساد بالسيرة القطعية في معاملة المخالفين ، وأهل الذمة والفسقة وغير هم.

ومن هنا حكي عن التذكرة الإجماع على عدم التحجير بطرو الفسق الذي لم يستلزم تبذيرا ، وعلى عدم مدخلية ترك المروة ككشف الرأس ومد الرجل وأشباه ذلك في العدالة على تقدير اعتبارها في دفع المال.

قلت : بل يمكن دعوى كونه ضروريا يشك في إسلام منكره ، وقد صرح الأصحاب بجواز بيع الخشب لمن يعمل الأصنام ، والتمر والزبيب لمن يصنع الخمر.

فمن الغريب النقل عن الشيخ في الخلاف ، والمبسوط ، وابن زهره التزام ذلك بل هو في المبسوط لم يجعل ذلك احتياطا ، كالمحكي عن الخلاف ، والغنية المستظهر من الاحتياط فيهما الوجوب دون الندب ، مع أن الإنكار عليهما في الاحتياط لو أريد منه الاستحباب واضح ، فضلا عما لو لم يكن احتياطا.

وأغرب من ذلك استدلالهما عليه بقوله (١) ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) بضميمة ما‌ روي عنهم (٢) « من أن شارب الخمر سفيه » وبأن الفاسق موصوف بالغي الذي هو ضد الرشد المعتبر في المال ولان المتيقن العدل دون غيره ، ونحو ذلك مما لا يليق بالفقيه جعل شي‌ء منها مدركا للحكم الشرعي كما هو واضح.

وأطرف من ذلك كله القول بأنه لا يرد عليهما على تقدير قولهما بذلك شي‌ء‌

__________________

(١) سورة النساء الآية ـ ٥ ـ.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ـ ٨.

٥٠

مما ذكر ، لأن العدالة عندهما ظاهر الإسلام مع عدم ظهور الفسق ، أو حسن الظاهر ، وهما معا متحققان في غالب الناس إذ هو كما ترى.

نعم لهما الفرق بين الابتداء والاستدامة مع أنه ليس لهما أيضا ، للقطع بتحقق الرشد عرفا بدونها ، فلا يجوز منع مال الناس بأمثال هذه المزخرفات ، وبعض أفراد الفسق الذي يرتفع معها وصف الرشد ويثبت بها وصف السفه لا يقضي باعتبار العدالة في ماهية الرشد قطعا ، كما هو واضح وبالجملة الإطناب في ذلك كما وقع لبعضهم أيضا من تضييع العمر ، فيما لا ينبغي كالمسألة السابقة والله أعلم.

وكيف كان فـ ( إذا لم يجتمع الوصفان اى البلوغ والرشد ) كان الحجر باقيا بلا خلاف ولا إشكال وكذا لو لم يحصل الرشد ولو طعن في السن لإطلاق الأدلة خلافا لبعض العامة فأوجب دفع المال إليه إذا بلغ خمسة وعشرين سنة.

وعلى كل حال وأماما يعلم به رشده فهو أيضا بطرق لا تنحصر عرفا ومنها معرفته باختباره بما يلائمه من التصرفات ليعلم قوته على المكايسة في المبايعات ، وتحفظه من الانخداع ، وكذا تختبر الصبية وحينئذ فيعرف رشدها بأن تحفظ من التبذير ، وأن تعتني بالاستغزال مثلا ، وبالاستنتاج ، إن كانت من أهل ذلك أو بما يضاهيه من الحركات المناسبة لها ويأتي تمام الكلام في آخر المبحث إنشاء الله تعالى.

وكيف كان فـ ( يثبت الرشد بشهادة الرجال ) في الرجال إجماعا وبشهادة الرجال منفردين والنساء كذلك في النساء أو مع التلفيق بلا خلاف أجده فيه ، بل قيل : عليه الإجماع في كثير من العبارات ، وإن كنا لم نتحققه دفعا لمشقة الاقتصار على الرجال فيهن وغيره فيندرج فيما دل على نفيهما من الآية والرواية.

بل قد يندرج فيما دل على قبول شهادتهن فيما يعسر اطلاع الرجال عليه من النصوص ، وإن كان لا يخلو من بحث لو لا الاعتضاد باتفاق الأصحاب ، ظاهرا عليه ، فظهر حينئذ عدم الإشكال في الحكم بجميع أفراده والخناثى كالنساء على الظاهر.

إنما الكلام في اعتبار قيام بينة الرشد عند الحاكم وحكمه بها في الثبوت ، أو يكفي قيامها بعد معلومية جمعها للشرائط من العدالة ونحوها عند من في يده المال ،

٥١

ربما احتمل الأول ، لمعلومية اعتبار الحاكم في الشهادة ، والغرض أن المقام من موضوعها ، وإلا لاكتفى بخبر الواحد ، وقد يقوى الثاني خصوصا مع تعذر الحاكم أو تعسر الوصول إليه لعموم قبول البينة ومنع اشتراطها بالحاكم في المقام ، وأمثاله الذي قيل أنه يكتفى فيه بالظاهر ، للسيرة القطعية في معاملة مجهول الحال ، والبينة لا تقصر عنه ، كما إنه قيل بتحقق وصف الرشد بقيامها ولو عند غيره ، فيحصل حينئذ شرط الدفع ، وإن كان لا يخلو من نظر ، وتمام الكلام في المسألة في مقام آخر ، ضرورة كثرة أفرادها والله أعلم هذا كله في الرشد.

وأما السفيه بالنسبة إلى المال فهو المقابل له فيكون عبارة عن الذي يصرف أمواله في غير الأغراض الصحيحة عند العقلاء ولو أبناء الدنيا ، لما عرفت من أن الرشد إصلاح المال ، وتحققه لا يحصل إلا بعدم الصرف في غير الأغراض الصحيحة ، وتمام الكلام فيه يعرف مما قدمناه في الرشد ، وأن مرجعه إلى العرف الذي لا شك في عدم تحققه بمجرد الصرف في مطلق المعاصي ، إما لأنه ليس تبذيرا ، أو لأنه لا يتحقق السفه عرفا.

لكن في المحكي عن التحرير إن استلزم فسقه التبذير ـ كشراء الخمر وآلات اللهو والنفقة على الفاسق ـ لا يسلم إليه شي‌ء لتبذيره ، وفي المحكي عن التذكرة : الفاسق إذا كان ينفق أمواله في المعاصي ويتوصل بها إلى الفساد فهو غير رشيد ، ولا تدفع إليه أمواله إجماعا ، بل قيل : الظاهر أنه إجماع الأمة.

وفيه : أن مثله قد لا يعد عرفا سفيها ، خصوصا الإنفاق على الفاسق ، وإلا لاتجه ما عن الأردبيلي من الإشكال بأنه قل ما يخلو عن ذلك الإنسان ، فإنهم يشترون ما لا يجوز ويستعملون الربا ، ويعطون الأموال للمغني واللاعب بالمحرم ، وإلى من يأخذ من الناس الأموال قهرا ، خصوصا الحكام والظلمة ، فيلزم أن يكونوا سفهاء لا تجوز معاملتهم ومناكحتهم وأخذ عطاياهم ، وزكواتهم وخمسهم ، فإنهم سفهاء ، بإجماع الأمة كما فهمناه من التذكرة مع أنهم صرحوا وأطلقوا معاملاتهم ، ومناكحتهم ، وقبول جوائزهم ، وقالوا بكراهتها.

٥٢

بل يمكن أن يقال : إن صرفه في العنب بأن يعمل خمرا ، وفي الخشب بأن يعمل صنما ونحو ذلك صرف في المحرم ، فيكون فاعله سفيها لا تجوز معاملته ومناكحته ، مع أنهم جوزوا ذلك وقالوا بكراهتها ، ولا شك أن صرفه ولو كان قليلا من الإطعام للرياء والسمعة وغير ذلك من الأغراض الغير الصحيحة شرعا حرام ، فيكون موجبا للسفه ، ومن الذي يخلو عنه من أرباب الأموال فيلزم عدم جواز أخذ العطية بل الزكاة والخمس منهم فتأمل.

وبالجملة فالتنزه عنه متعسر جدا ، فإنه لو لم يعامل السفيه ، فإنه يعامل من يعامله ، ويصعب ذلك أيضا أنهم قالوا أن الرشد شرط ، فلا بد من تحققه ، ليعمل بالمشروط ، فمن جاء إلى سوق كيف يعرف ذلك ، بل كيف يعرف حصول الرشد الابتدائي الذي هو شرط بالإجماع ، فالظاهر أنهم يبنون على الظاهر ، ويتركون الأصل ، فإن حال الإنسان أنه لم يفعل حراما ، ولا يصرف ماله فيه.

ولعل هذا المقدار كاف للعلم بالرشد المطلوب في جواز المعاملة والمناكحة ، ولهذا ما نقل الامتناع والتفحص عنهم عليهم‌السلام ، ولا عن أحد من العلماء المتدينين ، ويكون الاختبار الابتدائي لتسليم المال للنص والإجماع.

وفيه أن ذلك لا يجدي في المعلوم حالهم ، كالحكام وغيرهم ومن هنا التجأ بعضهم إلى الجواب بأن السفيه لا تجوز تصرفاته بعد الحجر عليه لا قبله ، وليس السفه بنفسه موجبا للمنع ، وهو أيضا مناف لإطلاق النص والفتوى ، بل وقوله (١) ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) وغيره فالتحقيق ما عرفته من أن المناط في تحققه وصدقه العرف ، ولا ريب في عدمه عرفا في جميع ما ذكره ، ضرورة اختلاف أصناف الناس ، فقد يليق بالسلطان ما لا يليق بغيره ، ولا يعد به سفيها ، وإن كان صرفه في محرم كما هو واضح.

وقد عرفت أن السيرة القطعية على معاملة مجهول الحال ، عملا بظاهر الحال ، وأصل الصحة وغير ذلك ، وحيث عرفت أن المدار في السفه والرشد على العرف ، فقد‌

__________________

(١) سورة النساء الآية ـ ٥.

٥٣

يقال بتحقق الأول منهما فيه بصرف جميع المال في وجوه البر ، خصوصا بالنسبة إلى بعض الأشخاص ، والأزمنة ، والأمكنة ، والأحوال ، كما أومأ إليه رب العزة بقوله (١) ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ) (٢) ( وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ).

وهو كما‌ عن الصادق عليه‌السلام (٣) « الوسط من غير إسراف ولا إقتار » والباقر (٤) عليه‌السلام « ما فضل عن قوة السنة » وابن عباس « ما فضل عن الأهل والعيال ، أو الفضل عن الغنى ».

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥) « انه قال : لمن أتاه ببيضة من ذهب أصابها في بعض الغزوات يجي‌ء أحدكم بماله كله يتصدق به ، ويجلس فيكفف الناس ، إنما الصدقة عن ظهر غنى ».

والمرسل (٦) عن الصادق عليه‌السلام « لو ان رجلا أنفق ما في يده في سبيل الله ما كان أحسن ، ولا وفق للخير ، أليس الله تبارك وتعالى يقول ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ).

وعن الصادق عليه‌السلام (٧) أيضا « قوله ( وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) » فبسط كفه وفرق أصابعه ، وحناها شيئا وقوله ( وَلا تَبْسُطْها ) فبسط راحته ، وقال : هكذا وقال : القوام ما يخرج من بين الأصابع ويبقى في الراحة منه شي‌ء ».

وعنه (٨) أيضا « أنه تلا هذه الآية فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده ، فقال : هذا الإقتار الذي ذكره الله تعالى في كتابه ، ثم قبض قبضة أخرى فأرخى كفه كلها ثم قال :

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ـ ٢٩.

(٢) سورة البقرة الآية ـ ٢١٩.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب النفقات الحديث ١٥.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب النفقات الحديث ١٦.

(٥) المستدرك ج ـ ١ ص ٥٤٤.

(٦) الوسائل الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب النفقات الحديث ٧.

(٧) الوسائل الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب النفقات الحديث ـ ٧.

(٨) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب النفقات الحديث ـ ٦.

٥٤

هذا الإسراف ، ثم قبض أخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها ، وقال : هذا القوام ».

وفي صحيح الوليد بن صبيح (١) عنه أيضا « أن رجلا كان ماله ثلاثين أو أربعين ألف درهما ثم شاء أن لا يبقى منها إلا وضعها في حق فيبقى لا مال له فيكون من الثلاثة الذين يرد دعاؤهم قلت : من هم قال : أحدهم رجل كان له مال فأنفقه في وجهه ، ثم قال : يا رب ارزقني فيقال له : ألم أرزقك ».

بل‌ في صحيح ابن أبى نصر (٢) عن أبى الحسن عليه‌السلام « سألته عن قول الله عز وجل ( وَآتُوا حَقَّهُ ) إلى آخره كان أبى يقول من الإسراف في الحصاد ، والجذاذ ، أن يتصدق بكفيه جميعا ، وكان أبي عليه‌السلام إذا حضر شيئا من هذا فرأى أحدا من غلمانه أنه يتصدق بكفيه صاح أعط بيد واحدة ، القبضة بعد القبضة ، والضغث بعد الضغث من السنبل ».

وفي خبر ابن المثنى (٣) « سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) فقال : كان فلان بن فلان الأنصاري سماه وكان له حرث وكان إذا جذه يتصدق به ويبقى هو وعياله بغير شي‌ء ، فجعل الله ذلك سرفا ».

وعنه (٤) أيضا « أنه لما دخل الصوفية عليه أنكر عليهم ما يأمرون به الناس من خروج الإنسان من ماله بالصدقة على الفقراء والمساكين » وفي بعض الاخبار (٥) « أن السرف ان تجعل ثوب صونك ثوب بذلتك » وفي بعضها (٦) « أن السرف أمر يبغضه الله عز وجل حتى طرحك النواة ، فإنها تصلح لشي‌ء ، وحتى فضل شرابك.

وفي خبر إسحاق (٧) « ليس فيما أصلح البدن إسراف ، وفيها إنما الإسراف فيما‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب الصدقة الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب زكاة الغلاة الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب الصدقة الحديث ـ ٣ ـ مع اختلاف يسير.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب الصدقة الحديث ـ ٨.

(٥) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الملابس الحديث ـ ٢.

(٦) الوسائل الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب النفقات الحديث ـ ٢.

(٧) الوسائل الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب النفقات الحديث ـ ١ ـ.

٥٥

أفسد المال وأضر بالبدن ، قيل وما الإقتار قال : أكل الخبز والملح ، وأنت تقدر على غيره ، قيل : فما القصد قال : الخبز واللحم واللبن والخل ، والسمن ، مرة هذا ، ومرة هذا » ونحوه غيره لكن في القواعد ان صرف المال في وجوه الخير ليس تبذيرا ، كما عن ظاهر مجمع البرهان ، بل وعن مجمع البيان ، بل في المسالك إن المشهور ذلك لأنه لا سرف في الخير ، كما لا خير في السرف ، ولم يثبت كونه خيرا » وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « انه قال : لعلي عليه‌السلام وأما الصدقة فجهدك » وبالنصوص الدالة على الترغيب في ذلك ، بل في المسالك « ومن المستفيض خروج جماعة من أكابر الصحابة وبعض الأئمة كالحسن عليه‌السلام صلات من أموالهم في الخير ، وقصة صدقة أمير المؤمنين عليه‌السلام بالإقراض مشهورة ، وفي الأول أنه لا دلالة على القرض كالنصوص ، والمستفيض عنهم لعله لانه يليق بهم ما لا يليق بغيرهم وعلى كل حال فالمحكم العرف كما عرفت والله أعلم.

وكيف كان فلو باع والحال هذه أى غير رشيد لم يمض بيعه ولا شراؤه ولا غير ذلك من عقوده ومعاملاته إذا حجر عليه الحاكم ، أو مطلقا على الخلاف ، وكذا لو وهب أو أقر بمال والضابط : المنع من التصرفات المالية بلا خلاف أجده فيه ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، بل عن مجمع البرهان دعواه وهو الحجة بعد الاعتضاد بما دل عليه من كتاب وسنة ، من غير فرق في ذلك بين ما ناسب أفعال العقلاء منها أو لا ، ولا بين العين والذمة ، ولا بين الذكر والأنثى ، بل هي أولى منه ، لنقصان عقلها ، ويسر انخداعها.

ومن هنا حكي عن بعض العامة بقاء الحجر عليها وإن بلغت رشيدة ، والظاهر دخول تزويجها نفسها في التصرفات المالية من جهة مقابلة البضع بالمال ، فلا يجوز بدون إذن الولي ، أما الذكر فظاهر ، لان الصداق منه.

وما عن نكاح القواعد من أن السفيه إذا كان به ضرورة إلى النكاح ، وتعذر الحاكم والولي فإنه يجوز ان يتزوج واحدة لا أزيد بمهر المثل ـ خارج عما نحن فيه ، كالمحكي من نكاح التذكرة أيضا من أنه لو نكح السفيه بغير إذن الولي مع حاجته اليه وطلبه‌

٥٦

من الولي فلم يزوجه « قال الشيخ رحمه‌الله » الأقوى الصحة ، لأن الحق تعين له ، فإذا تعذر عليه ان يستوفيه بغيره جاز أن يستوفيه بنفسه ، كمن له حق عند غيره ، فمنعه وتعذر عليه أن يصل إليه كان له أن يستوفيه بنفسه بغير رضى المديون.

وحكي عن أحد وجهي بعض الشافعية أن النكاح يبطل ولا حد ولا مهر ، وعن بعض أن لها مهر المثل ، وعن بعض أن لها أقل ما يتمول رعاية لحق السفيه ، ووفاء لحق العقد ، إذ به يتميز عن السفاح ، ولتحقيق ذلك مقام آخر ، إنما الكلام في أنه ممنوع من التصرفات المالية بدون إذن الولي ، وحال تعذر الولي أو مخالفته شي‌ء آخر كما هو واضح.

نعم يصح طلاقه ، وظاهره ، وخلعه ، وإقراره بالنسب ، وبما يوجب القصاص ونحو ذلك مما ليس هو تصرفا ماليا للأصل السالم عن المعارض إذ المقتضي للحجر صيانة المال عن الإتلاف فيختص منعه بما يقتضيه دون ذلك مما ليس ماليا ، ولا يشكل الخلع إذا كان بدون المثل ، لأنه إذا كان له الطلاق بدون عوض أصلا فمعه بطريق أولى ، اللهم إلا أن يفرق بين الخلع مطلقا وغيره بصدق المالية حينئذ فيراعى إذن الولي بمقداره وجنسه ونحو ذلك.

وكذا قد يشكل الإقرار بالنسب إذا تضمن الإنفاق ونحوه ، مما يرجع إلى المال ، ويدفع بأن المال فيه تبعي لا أصلي ، وقد يقال : بقبوله في النسب خاصة دون الإنفاق ، ويؤيده أنه ربما يجعل ذلك وسيلة لإتلاف المال لو قلنا بقبوله ، بل جزم به في المسالك ، بل ظاهره أن هذا هو المعروف قال : « وإن كان أحدهما لا ينفك عن الآخر إلا أن تلازمهما غير معلوم ، بل هو كالإقرار بالسرقة مرة واحدة من الحرز ، فإنه يثبت به المال دون القطع ، وبالعكس لو أقر بها السفيه فإنه يقبل في القطع دون المال ، وحينئذ فالنفقة من بيت المال المعد لمصالح المسلمين ، وللشهيد قول بأنه ينفق عليه من ماله ، لأنه فرع ثبوت النسب ، ولأن الإنفاق من بيت المال إضرار بالمسلمين ، فكما يمنع من الإضرار بماله ، يمنع من الإضرار بغيره ، ورده بأن إقراره إنما ينفذ فيما لا يتعلق بالمال ، وبيت المال معد لمصالح المسلمين ، فكيف يقال : إن مثل ذلك يضر‌

٥٧

بهم ، إذ ذلك آت في كل من يأخذ منه جزاء ».

قلت : للشهيد أن يقول : إن عموم الإقرار يشمله ، بعد أن لم يكن تصرفا ماليا ، والمال من التوابع ، فيبقى على مقتضى الضوابط فتأمل جيدا وعلى كل حال فمما سمعت قد ينقدح الإشكال في الإقرار بما يوجب القصاص ، وقد تقدم لنا البحث في نظير ذلك إذا أراد فداء نفسه بالمال ، لكن الأقوى كما في المسالك وجوب الفداء أما إذا لم يكن كذلك فلا إشكال في القبول والله اعلم.

ولا يجوز تسليم عوض الخلع إليه إذا كان مالا ، وإن كان هو الذي يوقع الخلع.

ولو وكله أجنبي في بيع أو هبة مثلا جاز لأن السفه لم يسلبه حكم عبارته ولا أهلية مطلق التصرف بل في ماله خاصة فيبقى غيره مندرجا فيما دل على الصحة ، كما هو واضح ، خلافا لبعض العامة ولو أذن له الولي في النكاح الذي فيه مصلحته التي سوغت للولي الإذن فيه جاز إن عين له المهر والزوجة ونحو ذلك ، بحيث يؤمن معه من إتلاف المال بلا خلاف ولا اشكال ، بل وإن عين الزوجة وأطلق المهر ، لأنه ينصرف حينئذ إلى مهر المثل ، وكذا غيره من العقود على الأقوى ، واحتمال الفرق بين النكاح والبيع ـ مثلا بأن المقصود من الثاني المال دون الأول ، وبأن السوق يختلف ساعة فساعة فناسب أن يكون الولي هو العاقد احتياطا للمال ، بخلاف النكاح ولذا حكي عن الشيخ والقاضي المخالفة ، بل وعن غير هما ـ كما ترى مجرد اعتبار لا يصلح أن يكون مدركا ، وقد ظهر من ذلك وغيره أنه ليس مسلوب العبارة.

وحينئذ فـ ( لو باع فأجاز الولي فالوجه الجواز للأمن من الانخداع ) حينئذ ولأنه أولى من الفضولي بذلك خلافا لما سمعته من الشيخ والقاضي ، ضرورة أولوية المنع هنا مما سمعته سابقا من تقدم الاذن بل حكاه في المسالك عنهم وهنا وقد يفرق بين المقامين والله أعلم.

والخامس المملوك وهو ممنوع من التصرفات إلا بإذن المولى‌

٥٨

كما تقدم البحث فيه مفصلا في باب القرض.

والسادس المريض وهو ممنوع من الوصية بما زاد عن الثلث كالصحيح إجماعا محصلا ومحكيا مستفيضا أو متواترا ، كالنصوص (١) المشتمل جملة منها على أنه الحيف والتعدي ، وأنه يرد إلى الثلث الذي هو المعروف والغاية في الوصية ، وخلاف علي بن بابويه غير قادح ، أو غير ثابت ، لأنه قال كما في المختلف : « فإن أوصى بالثلث فهو الغاية في الوصية ، وإن أوصى بماله كله فهو أعلم بما فعله ، ويلزم الوصي إنفاذ وصيته على ما أوصى » وهو عين المحكي عن فقه الرضا ، ولعله بعد قوله هو الغاية غير صريح في الخلاف ، ويكون قوله يلزم إلى آخره كلاما مستأنفا.

كما أن قوله ـ وإن أوصى بماله ـ إلى آخره محمول على إرادة إلغاء وصيته أو على إرادة حمل ذلك لو وقع منه على الوصية بما يخرج من أصل المال من دين أو نذر أو كفارة أو نحو ذلك ، حملا لتصرفه على الوجه الصحيح ، إذ الكتاب والسنة قد توافقا على وجوب إنفاذ الوصية ، وعدم جواز تبديلها إلا مع الحيف ، وهو لا يثبت بالاحتمال ، وهذا وإن كنا لم نقل به ، إلا انه به يخرج عن الخلاف عما نحن فيه ، ضرورة رجوعه إلى حمل إطلاق الوصية بجميع المال على الوجه الصحيح ، وهو غير الوصية بالزائد على الثلث فيما لم يعلم عدم خروجه عن أصل المال من وجوه البر أو العطية أو نحو ذلك.

لكن فيه حينئذ أنه أيضا مخالف للنصوص ، (٢) المتضمنة لإبطال هذه الوصية ، وإرجاعها إلى الثلث ، فأصالة الصحة إنما هي في التصرف بماله لا بما يخرج عنه بالموت بل الأصل الفساد ، وإطلاق ما دل على نفوذ الوصية وأنها مقدمة على الإرث محمول بقرينة النص والفتوى على الثلث فما دون ، فلا وجه للاستناد إليه في ذلك ، ولا في الأول على تقدير خلافه.

وكيف كان فلا ريب في عدم صراحة كلامه في الخلاف فيما نحن فيه خصوصا بعد عدم نقل ولده عنه ذلك ، وتصريحه بعدم جواز الوصية بالزائد على الثلث من غير إشارة‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب أحكام الوصايا.

(٢) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب أحكام الوصايا.

٥٩

إلى خلاف والده.

بل عنه‌ في المقنع أنه روي عن الصادق (١) عليه‌السلام « أنه سئل عن رجل أوصى بماله في سبيل الله عز وجل فقال : اجعله إلى من أوصى له به ، وإن كان يهوديا أو نصرانيا فإن الله عز وجل يقول ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ثم قال : عقيب ذلك ماله هو الثلث ، لأنه لا مال للميت أكثر من الثلث » مضافا إلى اقتضاء القواعد ـ بعد الإغضاء عن أدلة الإرث ، وكونها مطلقة ـ بطلان أصل الوصية ، فيقتصر على المتيقن في الخارج عن ذلك ، وهو الثلث.

وخبر ابن عبدوس (٢) ـ « أوصى رجل بتركته متاع وغير ذلك لأبي محمد عليه‌السلام فكتبت إليه رجل أوصى الي بجميع ما خلف لك. وخلف ابنتي أخت له ، فرأيك في ذلك؟ فكتب إلى : بع ما خلف وابعث به الي ، فبعث وبعثت به اليه فكتب إلى قد وصل » محتمل لإجازة الوارث ، أو لكونه مخالفا بحيث يحرم ، ولطلب الامام ليأخذ ثلثه ويرد الباقي ، أو يحفظه لهما لصغرهما ، أو لجواز ذلك بالنسبة إلى الامام خاصة ، وللتنجيز في حال الصحة أو غير ذلك مما لا بأس به ، بعد قصوره عن معارضة غيره من وجوه ، وخصوصا ما تضمن منه نحو هذه الواقعة ، كما لا يخفى على من لاحظ هذه النصوص.

وكذا‌ خبر عمار (٣) « الرجل أحق بماله ما دام فيه الروح إن أوصى به كله فهو جائز » ـ الواجب حمله بعد معارضته بالمتواتر من النصوص على إرادة الثلث من ماله ، أو على إرادة الجواز الموقوف على إجازة الورثة أو على إرادة التنجيز من قوله « أوصى » ، فيكون من أدلة القائلين بكون المنجزات من الأصل ، أو على غير ذلك.

لكن عن الشيخ والصدوق حمله على من لا وارث له ، ومقتضاه نفوذ الوصية بجميع المال مع عدم الوارث غير الامام ، وهو مخالف أيضا لإطلاق النصوص (٤) ومعاقد‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ١٦.

(٣) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ١٩.

(٤) الوسائل الباب ـ ١١.

٦٠