جواهر الكلام - ج ٢٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

نعم جزمه بأن ما جمعه له خاصة مبني على ما سمعت من أن المباح يملك بمجرد الحيازة ، ولا عبرة بالنية وإن كانت للغير ولكن من الغريب ذلك منه مع قوله متصلا به وهل يفتقر المحيز في تملك المباح إلى نية التملك؟ قيل : لا وفيه تردد ونحوه وقع للفاضل في القواعد اللهم إلا أن يقال : المعتبر في الحيازة من النية على القول بها نية أصل الملك ، بمعنى عدم كون الحيازة لغرض آخر غير أصل الملك ، ولا ريب في أن نية أصل الملك متحققة فيما نحن فيه ، وإنما فقد كونه له باعتبار فرض كون القصد له ولغيره فلا ينافي حينئذ الجزم بالملك ، والتردد في اعتبار النية ، ضرورة كون المحوز له على التقديرين ، أما على القول بكونها من السبب القهري حتى مع النية للغير فواضح ، وأما على الثاني فالنية لأصل الملك محققة ، وإن لم يقع للغير ، لعدم التوكيل والإجارة ، أو لعدم مشروعيتهما.

وكيف كان فقد قيل في وجه التردد : من أن اليد والسلطنة سبب في الملك ، ولهذا تجوز الشهادة بمجرد اليد من دون توقف على أمر آخر ، ولأن الحيازة سبب لحصول الملك للمباح في الجملة قطعا بالاتفاق ، لأن أقصى ما يقول المشترط للنية أنها سبب ناقص ، فحصول الملك بها في الجملة أمر محقق ، واشتراط النية لا دليل عليه ، فينفي بالأصل ، ومعارضة ذلك ـ بأصالة عدم حصول الملك للمباح إلا بالنية ـ تقتضي تساقطهما فيبقى سببية اليد من غير معارض.

ومن أنه قد تكرر في فتوى الأصحاب أن ما يوجد في جوف السمكة مما يكون في البحر يملكه المشتري ، ولا يجب دفعه إلى البائع.

وأيد الأول في جامع المقاصد بأنه « لو اشترطت في حصول الملك لم يصح البيع قبلها ، لانتفاء الملك ، والثاني معلوم البطلان ، لإطباق الناس على فعله في كل عصر من غير توقف على العلم بحصول النية ، حتى لو تنازعا في كون العقد الواقع بينهما ، أهو بيع أو استنقاذ لعدم نية الملك ، لا يلتفت إلى قول من يدعي الاستنقاذ.

ثم حكي عن فخر المحققين أنه أورد ذلك على والده العلامة ، فأجاب عنه بأن إرادة البيع تستلزم نية التملك ، واعترضه بأنه إنما يتم فيمن حاز وتولى هو‌

٣٢١

البيع ، أما إذا تولاه وارثه الذي لا يعلم بالحال أو وكيله المفوض إليه جميع أموره التي منها بيع ما حازه من المباحات لم يندفع السؤال ، قال : « ويرد عليه أيضا أن حيازة الصبي والمجنون على ما ذكره يجب أن لا تثمر ملكا جزما ، لعدم العلم بالنية وعدم الاعتداد بأخبارهما ، خصوصا المجنون ، ولو خلف ميت تركة فيها ما علم سبق كونه مباح الأصل ، ولم يعلم نية التملك ، لا يجب على الوارث تسليمها في الدين والوصية ، وإلا صح عدم اشتراطها ».

قلت : لا يخفى عليك ما في جميع هذا الكلام ، ضرورة أن الوجه الأول من التردد إن أريد به أن السلطنة واليد فيما نحن فيه سبب في الملك كان مصادرة محضة وإن أريد به أن ذلك سبب في الحكم بالملك كما هو مقتضى ما ذكره من التعليل كان خروجا عما نحن فيه ، وذلك لأن الحكم بملكية ما في اليد لسبب من أسبابها لا يقتضي كونها هي نفسها سببا ، وهو محل البحث ، وتعارض الأصلين ـ بعد تسليم كون الأول منهما أصلا معتمدا به ـ وإن اقتضى تساقطهما ، لكن دعوى بقاء سببية اليد بحالها لا معارض لها واضحة الفساد ، لعدم دليل يقتضي ذلك على وجه يجدي فيما نحن فيه.

وأما الوجه الثاني ، فيمكن المناقشة فيه أولا : بمنع أن ما في بطن السمكة مما لا يعد جزء لها ولا كالجزء ، مثل غذائها يعد محوزا بحيازتها ، ولو سلم فأقصى ما يلزم اشتراطه إما القصد إلى المحوز بالحيازة ، أو الشعور به ولو تبعا ، أما نية التملك فلا.

وأما التأييد ففيه أن اطباق الناس الذي ذكره إنما يفيد الحكم بملكية ما في اليد ، لحصول سببه ، لا أنه يقتضي كونها سببا في الملك وإن علمنا تجرده عن النية ومنه يعلم ما في مناقشته بما لو خلف ميت تركة إلى آخره ، بل وبما ذكره من الصبي والمجنون ، باعتبار إمكان الحكم بملكية ما في أيديهما أيضا من غير حاجة إلى أخبارهما ، والمراد بنية التملك عند القائل بها هي القصد بالحيازة ، ودخول المحوز تحت اليد والسلطنة العرفية ، فيتبعها الملك الشرعي ، بل قد يقال إن المباحات هي‌

٣٢٢

ملك لكافة الناس ، لقوله تعالى (١) ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ) والحائز بحيازته يسبق إلى الخصوصية نحو ملك شخص الفقير لشخص الزكاة المملوكة جنسا لجنس الفقراء وحينئذ فالمراد بفاقد النية غير المقصود بالحيازة للإدخال تحت الحوزة والسلطنة ، كمن حول ترابا عن طريق أو حجرا ونحو ذلك مريدا التمكن من عبوره ، أو قطع غصن شجرة مباحة عن مكان يريد السكنى فيه ، ونحو ذلك مما لا يريد إدخاله تحت حوزته ، فإنه بذلك لا يدخل في ملكه ، ولا يمنع من أخذه ، ولا يخرج عن أصل الإباحة ، وكذا من حفر بئرا في المباح لمجرد الارتفاق ، كما عن الشيخ المحكي عنه اعتبار النية ، قال في باب إحياء الموات من المبسوط : « إذا نزل قوم موضعا من الموات فحفروا فيه بئرا يشربوا منها ، ويسقوا غنمهم ومواشيهم منها مدة مقامهم ، ولم يقصدوا الملك بالإحياء ، فإنهم لا يملكونها بالاحياء ، لأن المحيي إنما يملك بالإحياء إذا قصد تملكه » وهو كالصريح فيما ذكرناه من نية التملك.

بل يمكن من ذلك أن يكون النزاع لفظيا ، فإن القائل بعدم اعتبارها إنما يريد الإكتفاء بقصد الحيازة ، وإدخال المحوز تحت الحوزة والسلطنة العرفية ، لا أنه يقول بالملك قهرا كالإرث ، وإن لم يقصد بالحيازة ذلك ، ضرورة عدم كون ذلك حيازة عند التحقيق ، وحينئذ يتجه حصول أثرها في المجنون والصبي المميز مع فرض حصول قصدها منهما كما صرح به بعضهم بل ظاهر الفخر وغيره المفروغية منه بل هو مقتضى السيرة والطريقة سيما في الصبي ، وبذلك ونحوه يترجح ما يقتضي ترتب الملك بها على ما دل على عدمه من‌ قوله عليه‌السلام (٢) « لا يجوز أمره » ونحوه مما يقتضي سلب المجنون والصبي عن التملك الاختياري ، ولو بالافعال التي منها الحيازة والالتقاط.

وبالتأمل فيما ذكرناه يظهر لك ما في كلام جملة من الأعيان منهم الكركي‌

__________________

(١) سورة البقرة الآية ـ ٢٩.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الحجر الحديث ـ ١.

٣٢٣

وغيره ، بل لو قلنا بعدم لفظية النزاع كان وجه التردد في المتن وغيره دعوى ظهور‌ قوله عليه‌السلام (١) « من أحيا أرضا ميتة فهي له » الذي هو كالقول بأن من حاز شيئا فهو له في الملكية قهرا ، وأنه من باب الأسباب ، فلا تعتبر النية ، ومن كون المراد بذلك القصد بالإحياء والحيازة إلى دخول المحوز تحت الحوزة ، والسلطنة ، بل لا يعد غيره حيازة فاعتبرت النية بهذا المعنى ، ولعل الأقوى ذلك ، كما أن الأقوى عدم اعتبارها ان أريد بها إنشاء قصد التملك الذي يمكن دعوى السيرة بل الضرورة على خلافه ، وربما يأتي لذلك مزيد تحقيق في محله إنشاء الله ، فإن البحث عن ذلك انما ذكر استطرادا والله العالم المؤيد.

المسألة الثالثة : لو كان بينهما مال بالسوية فأذن أحدهما خاصة لصاحبه في التصرف بالمال المشترك على أن يكون الربح بينهما نصفين ، لم يكن قراضا ، لأنه لا شركة للعامل في مكسب مال الآمر وهو حقيقة القراض ، إذ المفروض كون المال بينهما نصفين ، فنصف الربح الذي يستحقه ، انما هو لكونه شريكا في المال ، ولا شي‌ء له من الربح زائدا على ذلك في مال الآمر كي يكون قراضا ولا شركة اصطلاحية وان حصل الامتزاج في المال ، لعدم كون العمل منهما بل لا يكون المال في يد العامل إلا بضاعة وذلك لأن حصة الشريك مال مبعوث للتجارة في يد الوكيل قال في الصحاح : البضاعة طائفة من المال تبعثها للتجارة ، تقول أبضعته واستبضعته : أي جعلته بضاعة ، وفي المثل كمستبضع تمرا الى هجر ، وبنحو ذلك صرح في القواعد ، لكن لا يخفى عليك بناؤه على اعتبار العمل منهما في الشركة ، وقد عرفت البحث فيه سابقا كما أنك عرفت الحال فيما لو شرط التفاوت في الربح مع التساوي في المالين والله العالم.

المسألة الرابعة : إذا اشترى أحد الشريكين متاعا ، فادعى الآخر أنه اشتراه لهما وأنكر فلا إشكال ولا خلاف ( فـ ) ى أن القول قول المشتري مع يمينه ، لأنه أبصر بنيته وكذا لو ادعى أنه اشترى لهما ، فأنكر الشريك ف‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب إحياء الموات الحديث ـ ١.

٣٢٤

إن القول أيضا قوله بيمينه لمثل ما قلناه من كونه أبصر بنيته بعد فرض كونه أمينا ، بل لو ادعى عليه التصريح في العقد بكون الشراء للشركة مثلا أمكن تقديم قوله لان الاختلاف في فعله ، ولان ظاهر يده يقتضي الملك.

نعم لو قال كان مال الشركة وخلص لي بالقسمة ، كان القول قول الآخر في إنكار القسمة بيمينه ، كما هو واضح.

المسألة الخامسة : لو باع أحد الشريكين سلعة بينهما ، وهو وكيل في البيع والقبض للثمن عن صاحبه فادعى المشتري تسليم الثمن أجمع إلى البائع الذي هو الوكيل وصدقه الشريك الموكل برء المشتري من حقه قطعا ، لاعترافه بالوصول الى وكيله على القبض وهو الشريك البائع ، بل لو وقعت الدعوى بين المشتري والبائع قبلت شهادته أي الشريك المصدق إذا كان عدلا على القابض في النصف الآخر الراجع اليه وهو حصة البائع لارتفاع التهمة عنه بجر النفع إليه في ذلك القدر لكن إذا كانت شهادته التي أداها بوصول حقه اليه ، أما إذا كانت بوصول جميع الثمن اليه ، والفرض عدم قبولها بما يرجع اليه ، لكونه مدعيا صرفا ، ولجر النفع إليه في ذلك أمكن عدم قبولها أيضا في حق البائع ، بناء على أن الشهادة متى ردت في البعض ردت في غيره ، وان كان لنا فيه نظر ، بل ظاهر الفاضل في قواعده القبول ، بل لعله ظاهر المتن هنا أيضا ، لو لا قوله فيما يأتي : والمنع في المسألتين أشبه.

نعم لو تقدمت خصومة الشريك مع شريكه البائع على الخصومة بينه وبين المشتري ، أمكن حينئذ ردها للخصومة حينئذ ، بناء على قدحها في الشهادة ، وبهذا يظهر لك ان هنا خصومتين إحداهما بين البائع والمشتري ، والثانية بين الشريكين ، فان تقدمت الاولى فطالب البائع المشتري بنصيبه من الثمن ، فادعى الأداء واقام البينة ـ لو كان أحد أجزائها الشريك المقر على الوجه الذي عرفت ـ برء من الحقين بالإقرار والبينة ، وان لم تكن له بينة حلف البائع أنه لم يقبض ، فيستحق أخذ نصيبه ، ولا يشاركه فيه الآذن ، لأن إقراره بقبض البائع أولا يقتضي ان يكون ما‌

٣٢٥

قبضه ثانيا بيمينه ظلما ، فإن نكل عن اليمين ردت على المشتري ، فإذا حلف أنه أقبضه الجميع انقطعت عنه المطالبة فإن نكل الزم بنصيب البائع فقط ، لأصالة بقاء الثمن في ذمته ، كما هو واضح.

ثم ان كان المشتري قد أقام البينة بإقباضه البائع جميع الثمن ، كان للآذن المطالبة بحصته قطعا ، اما إذا كان ذلك بشاهد ويمين ، أو باليمين المردودة فلا ، وان قلنا انها كالبينة ، لأنها كذلك في حق المتخاصمين فيما تخاصما فيه ، لا مطلقا.

نعم للشريك حينئذ إحلاف البائع على عدم قبض حصته فان نكل حلف الآذن اليمين المردودة ، وأخذ منه ، وليس للبائع الرجوع بذلك على المشتري ، ولا مخاصمته لانه بزعمه ظالم.

وربما نوقش بان ذلك لا يسقط حق الدعوى ، بعد ان كان وكيلا عن الشريك في القبض ، وقد اغرم للموكل حصته.

ويدفعها ان اعتراف الشريك بقبض البائع يقتضي انعزاله بفعل متعلق الوكالة بل يقتضي سقوط حق الدعوى له على المشتري.

وفي جامع المقاصد « انه يمكن ان ينظر بوجه آخر ، وهو ان البائع قد ادى عن المشتري بأمر الحاكم فله الرجوع ، ويجاب بان ذلك انما هو مع تحقق الدين وهنا قد برء المشتري منه بإقرار الآذن ، ويمكن ان يقال : ان إقراره انما ينفذ في حقه ، لا في حق البائع ، ونحن لا نلزم المشتري بالدين جزما ، ليكون ذلك متوقفا على ثبوته ، وانما تجوز له المخاصمة ، والطلب على تقدير الثبوت ».

قلت : فيه ما لا يخفى من عدم الحق للبائع ، بعد اعتراف صاحب الحق انه لا حق للبائع على المشتري ، فكيف تتصور المطالبة بحق يعترف صاحبه بسقوطه. نعم قد يقال : ان له المقاصة مع إمكانها ، من غير فرق بين هذا الحق وغيره ، فتأمل جيدا.

ثم اعلم ان نكول البائع في خصومة المشتري لا يمنع من حلفه في خصومة الشريك ، لأنها خصومة اخرى ، وبالعكس ، وقد عرفت ان اليمين المردودة كالإقرار‌

٣٢٦

أو كالبينة في حق المتخاصمين لا مطلقا ، هذا فيما إذا تقدمت خصومة البائع مع المشتري ، اما إذا تقدمت خصومته مع الشريك فالحكم كما عرفت ، غير ان شهادة الشريك حينئذ على البائع في الخصومة مع المشتري يشكل قبولها بما عرفت ، واما المشتري فعلى كل حال لا تقبل شهادته ، لانه مدع ولعل المصنف انما يتعرض للصورتين نظرا الى عدم وجود كثير فرق ، أو الى عدم قبولها على التقديرين لما عرفت ، هذا كله فيما لو ادعى المشتري التسليم الى البائع.

اما لو ادعى تسليمه الى الشريك الاذن فصدقه البائع وكان قد اذن له في ذلك فالحكم كما عرفت. نعم إذا لم يكن مأذونا من البائع لم يبرء المشتري من شي‌ء من الثمن ، لأن حصة البائع لم تسلم اليه ولا الى وكيله فيجب عليه دفعها له من غير يمين والفرض ان الشريك ينكره فكان القول قوله مع يمينه ، فإذا حلف أدى المشتري جميع الثمن ولكن قيل تقبل شهادة البائع هنا على الشريك في وصول حقه اليه ، كما قبلت شهادة الشريك عليه في المسألة السابقة ، لعدم التهمة ، باعتبار بقاء حقه عند المشتري ، وفيه أن التهمة هنا باعتبار إرادة استقلاله بما يأخذه من المشتري ، إذ الشريك له مشاركته فيما يأخذه منه ، لكون الثمن مشتركا بينهما.

ومن هنا قال المصنف المنع في المسألتين أشبه بأصول المذهب وقواعده وإن كنت قد عرفت تفصيل الحال في المسألة. نعم لو فرض اندفاعها هنا من هذه الجهة بإبراء البائع ونحوه ، اتجه القبول ، ومما ذكرنا لك سابقا يظهر لك الوجه هنا في الخصومتين ، بل الظاهر توجه اليمين هنا على الشريك مرتين ، إحداهما للمشتري بأنه لم يقبض منه شيئا ، والثانية إذا أراد الشركة مع البائع فيما أخذه من المشتري لأنه يدعي عليه وصول حقه اليه ، ولا يسقط هذا اليمين عنه باليمين في خصومته مع المشتري التي هي خصومة أخرى ، ولا يرجع البائع على المشتري بما أخذه منه الشريك لاعترافه بكونه ظالما له فيه ، كما هو واضح.

المسألة السادسة : لو باع اثنان عبدين ، كل واحد منهما لواحد منهما بانفراده‌

٣٢٧

صفقة بثمن واحد ، مع تفاوت قيمتهما قيل : يصح البيع ويكون الثمن مشتركا بينهما على نسبة قيمة ماليهما ، للأصل السالم عن معارضة الجهالة بالثمن ، لعدم الدليل على اعتبار العلم أزيد من ذلك ، وهو العلم بمجموع الثمن ، وقد حصل ، أما حال الأجزاء فيكفي حينئذ مقابلة جميع الثمن لجميع المبيع ، واستواء نسبة الملاك إلى الأبعاض ، وكذا لو آجرا أنفسهما صفقة بأجرة معينة وقيل : يبطل لأن الصفقة تجري مجرى عقدين ، فيكون ثمن كل واحد منهما مجهولا لكن فيه ما عرفت كما أوضحنا ذلك في كتاب البيع.

أما لو كان العبدان لهما على الشركة أو كانا لواحد جاز بلا خلاف ولا إشكال بل وكذا لو كان لكل واحد قفيز من حنطة مثلا متساوية القيمة على انفراده فباعاهما صفقة ، لانقسام الثمن عليهما بالسوية فلا جهالة حينئذ كما هو واضح.

المسألة السابعة : قد بينا أن شركة الأبدان باطلة فلو وقعت وآجرا أنفسهما مثلا بعنوان الشركة فإن تميزت أجرة عمل أحدهما عن صاحبه بالتسمية اختص بها ولا يشاركه الآخر فيها لما عرفت من بطلان عقد الشركة ، وإن اشتبهت كأن لم يسم لأحدهما أجرة مخصوصة ، قسم حاصلهما على قدر أجرة مثل عملهما ، وأعطي كل واحد منهما ما قابل أجرة مثل عمله نحو ما سمعته في بيع المالين المتفاوتين بالقيمة بثمن واحد ، كما هو واضح.

لكن في المسالك « في المسألة وجهان آخران ، ذكرهما العلامة ، أحدهما : تساويهما في الحاصل من غير نظر إلى العمل ، لأصالة عدم زيادة أحدهما على الآخر ، وأن الأصل مع الاشتراك التساوي ، ولصدق العمل على كل واحد منهما ، والأصل عدم زيادة أحد العملين على الآخر ، والحاصل أنه تابع للعمل ، ويضعف بمنع كون الأصل في المال والعمل التساوي ، والثاني : الرجوع إلى الصلح لان به يقين البراءة كما في كل مال مشتبه ، ولا شبهة في أنه أولى مع اتفاقهما عليه ، وإلا فما اختاره المصنف أعدل من التسوية ».

قلت : لا يخفى عليك أن مفروض المسألة في المتن لا تأتي فيه الوجوه الثلاثة ،

٣٢٨

بل ليس فيه إلا الوجه الذي ذكره المصنف ، وذلك لان صريح العبارة أو كصريحها كون العمل من كل منهما معلوما ، إلا أنه لم يكن بأجرة مسماة ، وإنما سميت الأجرة لمجموع العملين بعنوان شركة الأبدان من الأجيرين ، وهذه ليس فيها بعد فرض صحة الإجارة إلا التوزيع على أجرة مثل عمليهما ، نحو بيع المالين المنفردين لشخصين الذي تقدم الكلام فيه سابقا.

وقد ذكرها العلامة سابقا على هذه المسألة فقال : « ولو باعا بثمن واحد ، أو عملا بأجرة واحدة تثبت الشركة ، سواء تساوت القيمتان أو اختلفتا ، ولكل منهما بقدر النسبة من القيمة » ومفروض العلامة في القواعد ليس فيه إلا وجهين التساوي بالأجرة والأصح الصلح ، وهو ما إذا لم يتميز عمل كل منهما ، قال : « وإذا تميز عمل الصانع عن صاحبه اختص بأجرته ، ومع الاشتباه يحتمل التساوي والصلح » ، ومراده أنه مع تمييز العمل يختص بالأجرة ، ولو ما يخصه من التوزيع ، أما مع اشتباه العمل ففيه الاحتمالان ، وكان وجه الأول منهما اجتماع الأجرتين معا في ذلك الحاصل ، لانه الفرض ، والأصل عدم زيادة أحدهما على الآخر ولأن الأصل مع الاشتراك التساوي.

ولكن فيه أن الأصل المذكور ممنوع هنا ، فإن زيادة مال شخص على آخر ونقصانه أو مساواته له ليس أصلا ، إذ لا رجحان لأحدهما على الآخر ، لا بحسب العادة ولا في نفس الأمر وإنما يتحقق في مثل ما إذا اشتركا في السبب المملك ، كما لو أقر لهما بملكية شي‌ء ، أو أوصى لهما أو وقف عليهما ، فإن السبب المملك لهما هو الإقرار والوصية والوقف ، والأصل عدمها ، بخلاف ما نحن فيه ، فإن العمل الصادر من أحدهما غير الصادر من الآخر ، واستواءهما وتفاوتهما على حد سواء بالنسبة إلى النفي بالأصل ، فليس حينئذ إلا الصلح ، كما في كل مالين امتزجا ، وجهل قدر كل منهما ، بل لعل ذلك كذلك حتى لو تميز عمل أحدهما ، وجهل الآخر ، أو تميز بعض عمل كل منهما ، وجهل الباقي ، وبالجملة متى جهلت النسبة بين العملين ، اللهم إلا أن يقال : إن التساوي هو الراجح منهما ، فيكون كالأصل ، لان فضله كالأمر العدمي ، لكن لنا في ذلك نظر ذكرناه في محله ، وعلى كل حال فهو غير موضوع‌

٣٢٩

ما ذكره المصنف المصنف من العمل المتميز والله العالم.

المسألة الثامنة : إذا باع الشريكان مثلا سلعة بينهما صفقة ثم استوفى أحدهما منه شيئا ولو بنية أنه له شاركه الآخر فيه كما في كل دين مشترك بين اثنين فصاعدا ، وذلك لان كل جزء منه مشاع بينهما ، فإن ما في الذمة إنما يخالف الشخصي الخارجي في الكلية والجزئية ، أما الإشاعة فهما على حد سواء فيها.

ففي المرسل عن أبي حمزة (١) قال : « سئل أبو جعفر عليه‌السلام عن رجلين بينهما مال منه بأيديهما ، ومنه غائب عنهما ، فاقتسما الذي بأيديهما ، وأحال كل منهما نصيبه من الغائب ، فاقتضى أحدهما ، ولم يقتض الآخر ، قال : ما اقتضى أحدهما فهو بينهما ما يذهب بماله ».

ومثله‌ خبر غياث (٢) « عن جعفر عن أبيه عن علي عليه‌السلام ، إلا أنه قال : « ما اقتضى أحدهما فهو بينهما ، وما يذهب بينهما » وكذا خبر محمد بن مسلم (٣) عن أحدهما عليه‌السلام ، ومعاوية بن عمار (٤).

وفي خبر عبد الله بن سنان (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألته عن رجلين بينهما مال ، منه دين ومنه عين ، فاقتسما العين والدين ، فتوى الذي كان لأحدهما من الدين أو بعضه ، وخرج الذي للآخر أيرده على صاحبه؟ قال : نعم ما يذهب بماله ».

لكن هذه النصوص بل والمتن وما شابهه مشتملة على الجزم بالشركة ، وما ذاك إلا لحصول الإذن من الشريك بالقبض ، ولو لزعم القسمة الفاسدة ونحوها ، وحينئذ يتجه الجزم بشركة المقبوض ، إنما الكلام فيما إذا أقبض أحد الشريكين حصته لنفسه من دون إذن شريكه ، وقد ذكر غير واحد من الأصحاب ، بل نسب إلى المشهور أن للشريك مشاركة الآخر فيما قبض ، وله مطالبة الغريم بمقدار حصته ، فيكون قدر الحصة في يد القابض ، كقبض الفضول إن أجازه ملكه ، وتبعه النماء ، وإن رده ملكه‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب أحكام الشركة الحديث ـ ١ وذيله ـ ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب أحكام الشركة الحديث ـ ١ وذيله ـ ٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب أحكام الشركة الحديث ـ ١ وذيله ـ ٢.

(٤) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب أحكام الشركة الحديث ـ ١ وذيله ـ ٢.

(٥) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب أحكام الشركة الحديث ـ ١ وذيله ـ ٢.

٣٣٠

القابض ، ويكون مضمونا عليه على التقديرين ، ولو تلف قبل اختيار الشريك كما في المسالك ، بل في التذكرة التصريح في تعين حقه به ، ولا يضمنه للشريك ، وقد أطنب في المسالك في تحقيق ذلك ، وأنه من الفضولي ، وأن ذلك هو المراد من قولهم تخير الشريك بين الرجوع على الغريم ، وبين الشركة فيما قبضه شريكه.

والجميع كما ترى لا ينطبق على القواعد الشرعية ، وذلك لانه وإن اتجهت الشركة مع إجازة القبض لهما ، بناء على تأثير مثل هذه الإجازة في مثله ، وإن كان فيه إشكال أو منع من وجوه ، بل لم نجده في المقام لغير ثاني الشهيدين ، لكن اختصاص القابض وملكه مع عدمها لا وجه له ، بل المتجه حينئذ بقاؤه على ملك الدافع ، وذلك لان القابض ليس له إلا نصف المال المشاع بينه وبين شريكه ، ومع فرض عدم إجازة الشريك لم يكن المال المقبوض مال الشركة ، ونية الدافع أنه مقدار حصة القابض لا تنفع في ذلك وإن وافقتها نية القابض ، بل لو رضي الشريك بكون ذلك حصة للقابض ، وما في ذمة الغريم حصة له ، لم يجد ، لعدم صحة مثل هذه القسمة.

ودعوى ـ جوازها لكنها مراعاة بقبضه ، فإن حصل تمت ، وإلا رجع على القابض ، وشاركه فيما قبضه ـ تهجس بلا دليل ، بل هو مخالف للمعروف من عدم صحة قسمة الدين ، وللمعلوم من أنه مع عدم إجازة القبض على وجه يكون به المقبوض مالا للشركة لا يكون كذلك ، فكيف يعود إليه بعد عدم القبض ، وحينئذ فإن لم يكن ثمة إجماع أشكل الحكم بملك القابض جميع ما قبضه ، بعد عدم الإجازة ، بل ولا بعضه اللهم إلا أن يقال : إنه برضا الشريك يكون المقبوض حصة للقابض بتمحض المقبوض مالا للشركة ، بل هو في الحقيقة إجازة لذلك.

نعم جعله حصة له ، لا يتم قسمة إلا بقبض الشريك مقابله ، على وجه يقع الرضا منهما معا بأن لكل منهما ما في يده ، فمع فرض عدمه يبقى ذلك المال المقبوض على الشركة ، فله الرجوع عليه ، وأخذ نصيبه منه ، إذ لم يدخل في ملك القابض ، وذلك الرضا الذي وقع من الشريك أولا يكون ما قبضه حصة له ، لا يفيده تمليكا مع احتماله ، لكن على جهة التزلزل ، إلا أن الأقوى خلافه ، وإن كان ذلك كله‌

٣٣١

كما ترى.

وعلى كل حال فمما ذكرنا يظهر لك ضعف ما عن ابن إدريس من اختصاص كل من الشريكين بما يستوفيه من حقه ، ولا يلحقه الآخر فيه ، لان اشتراك الدين في الذمة لا يمنع من تعيين حق واحد في معين.

ولان لكل واحد أن يبرء الغريم من حقه ، ويصالح منه على شي‌ء ، بحيث إذا استوفى شريكه لم يلحقه فيه.

ولان متعلق الشركة بينهما هو العين ، وقد ذهبت ، ولم يبق لهما إلا دين في ذمته ، فإذا أخذ أحدهما نصيبه لم يكن قد أخذ عينا من أعيان الشركة ، فلا يشاركه الآخر فيما أخذ.

ولان ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض المالك أو وكيله ، والمفروض ليس منه ، وذلك لان الشريك لم يقبض إلا لنفسه.

ولأنه إن وجب الأداء بالمطالبة بحقه وجب أن لا يكون للشريك فيه حق ، لكن المقدم حق بالاتفاق ، فالتالي مثله ، وذلك لان وجوب الأداء بالمطالبة بحصة الشريك فرع التمكن من تسليمها ، لاستحالة التكليف بالممتنع ، فإذا ثبت تمكنه من دفعها ـ على أنها للشريك ـ ودفعها كذلك امتنع أن يكون للشريك الآخر فيها حق.

ولانه لو كان للشريك في المدفوع حق ، لزم وجه قبح ، وهو تسلط الشخص على قبض مال غيره بغير اذن.

ولانه لو كان كذلك لوجب أن يبرء الغريم من مقدار حقه من المدفوع ، لاستحالة بقاء الدين في الذمة ، مع صحة قبض عوضه ، لكن التالي باطل عندهم ، لكونهم يحكمون بأنه مخير في الأخذ من أيهما شاء.

ولانه لو نهاه الشريك عن قبض حقه ، فإن تمكن من المطالبة بحصته ، وجب أن لا يكون للشريك فيها حق ، وإلا امتنع أخذ حقه بمنع الشريك إياه من القبض.

ولان المقبوض إما أن يكون مالا مشتركا ، أو لا ، فإن كان مشتركا وجب على‌

٣٣٢

تقدير تلفه أن يتلف منهما ، كسائر أموال الشركة ، وتبرء ذمة الغريم منه ، وإلا لم يكن للشريك فيه حق.

وقد مال إلى ذلك في جامع المقاصد ، فقال : « ولا يخفى أن بعض هذه الوجوه في غاية القوة والمتانة ، والروايات لا تقاومها ، مع أنها قابلة للتأويل فمختار ابن إدريس قوي متين ، كما اعترف به المصنف في المختلف ، وإن كان الوقوف مع المشهور أولى » وتبعه على ذلك ثاني الشهيدين.

إلا أن الجميع كما ترى ، بعد التأمل الجيد فيما ذكرنا ، مع قطع النظر عن النصوص إذ الأول مصادرة محضة ، خصوصا بعد ما عرفت من تحقق الإشاعة في العين كلية كانت أو شخصية.

وإبراء أحدهما الغريم أو الصلح معه بشي‌ء يمحض الباقي للشريك الآخر ، فإن الإبراء يتعلق بالمشاع على إشاعته ، وكذا الصلح ، فمع فرض حصولهما وعدم تصور ملك الشخص على نفسه ليتمحض الباقي للشريك الآخر ، وقد ذكر طرق متعددة لاختصاص كل منهما بما يأخذه إذا أراد ، إلا أنه خروج عن مفروض المسألة.

والثالث : أيضا مصادرة محضة كما عرفت.

والرابع : مبنى على ملك الشريك لما قبضه الآخر قهرا ، والقائل لا يلتزمه بل يشترطه بالإجازة على الوجه الذي سمعت.

والخامس : بعد تسليم ان له المطالبة منفردا ، ووجوب الأداء له لا يقتضي ما ذكره الخصم ، بل يمكن أن يكون ولو بالجمع مع شريكه ، أو بتعين حقه بأحد الوجوه المعينة له عن صاحبه ، بصلح ونحوه.

والسادس قد عرفت توقف الحق على الإجازة فلا جهة قبح فيه.

والسابع : مع الإجازة ، لا إشكال في الإبراء والتخيير إنما هو في الإجازة وعدمها كما عرفت ذلك مفصلا ، أو في القسمة على الوجه الذي ذكرناه ، على ان التخيير المزبور لم أجده في الخلاف والنهاية والوسيلة بل الموجود شارك مثل عبارة المتن وما شابهها وظاهرهم تعين الشركة ، وليس ذلك إلا للاذن للشريك في القبض ،

٣٣٣

فإنه يكون حينئذ مالا للشركة وإن نوى لنفسه ، بل لو أذن له الشريك في القبض لنفسه فقبض يكون أيضا مشتركا ، لمعلومية كون القيد لغوا لعدم إمكانه ، والنصوص المزبورة محمولة على الإذن ، فلا يقدح عموم ما اقتضى أحدهما ، لما عرفت ، وفي الوفاء بغير الجنس وجهان ، ومثله المقاصة به لنفسه ، أما المقاصة بالجنس فكالوفاء به.

والثامن : قد عرفت الجواب عنه بما عن الخامس ، كما أن التاسع يعرف ما فيه مما تقدم في السابع وغيره ، فمن الغريب دعوى المتانة في هذه الوجوه التي هي واضحة الفساد ، والتحقيق ما عرفت. نعم لكل منهما طرق في الاختصاص لو اراده ، كالصلح والتأجيل المقتضي للافراز بعقد لازم مثلا ، والضمان والحوالة ، والشراء بها شيئا ونحو ذلك مما لا ينافي التصرف بها على الإشاعة كما أوضحنا ذلك كله في محله والله العالم.

المسألة التاسعة : إذا استأجر للاحتطاب أو الاحتشاش أو الاصطياد مدة معينة صحت الإجارة لعموم أدلتها الشامل لذلك ويملك المستأجر ما يحصل من ذلك في تلك المدة لأنه نماء عمله المملوك له ، فهو في الحقيقة كالعبد المملوك الذي يكون لسيده.

نعم قد يشكل ذلك بأنه لا يتم بناء على عدم قبول هذه الأشياء للنيابة الذي صرح به المصنف في كتاب الوكالة وأنه يملكها المحيز وإن نواها للغير كما سمعته منه هنا ، مع التردد في اعتبار النية ، ومن هنا صرح في جامع المقاصد بأنه إذا جوزنا التوكيل في هذه جوزنا الإجارة عليه ، وإن منعناه منعنا الإجارة ، حاكيا له عن صريح التذكرة قال : « وظاهر الشرائع في كتاب الشركة صحة الاستيجار مطلقا نظرا إلى أنه بالإجارة تصير منافع الأجير مملوكة للمستأجر ، فيملك ما حازه ، ويضعف بأنه على القول بعدم صحة التوكيل في الحيازة لا يتصور صحة الإجارة ».

قلت : قد يمنع التلازم ويكون حينئذ ملك المباح في الفرض من توابع ملك العمل بالإجارة وهو غير التملك بالنيابة في الحيازة فتأمل جيدا والأمر سهل عندنا بعد ما عرفت أن المختار عندنا صحة التوكيل ، واعتبار النية بالمعنى الذي أسلفناه‌

٣٣٤

هذا كله لو ضبط العمل بالمدة.

وأما لو استأجره لصيد شي‌ء بعينه لم يصح ، لعدم الثقة بحصوله غالبا بناء على اشتراط ذلك فيها ، كما عرفت نظيره في البيع وتعرف تمامه في كتاب الإجارة والله الموفق والمعين.

٣٣٥

( كتاب المضاربة )

من الضرب في الأرض ، لضرب العامل فيها للتجارة ، وابتغاء الربح بطلب صاحب المال ، فكان الضرب مسبب عنهما ، طردا لباب المفاعلة في طرفي الفاعل ، أو من ضرب كل منهما في الربح بسهم ، أو لما فيه من ضرب المال وتقليبه ، كذا قيل ولعل الاولى من ذلك في تحقق المفاعلة ضرب كل منهما فيما هو للآخر من المال والعمل ، ويقال : للعامل مضارب ، بكسر الراء ، لأنه الذي يضرب في الأرض.

ولم نعثر على اشتقاق أهل اللغة اسما لرب المال من المضاربة التي هي لغة أهل العراق ، فأما أهل الحجاز فيسمونه قراضا ، من القرض بمعنى القطع الذي منه المقراض ، فكان صاحب المال اقتطع من ماله قطعة ، وسلمها للعامل الذي أقطع له قطعة من الربح ، أو من المقارضة بمعنى المساواة والموازنة ، يقال : « تقارض الشاعران » إذا وازن كل منهما الآخر بشعره ، ومنه « قارض الناس ، ما قارضوك ، فإن تركتهم لم يتركوك » بمعنى ساوهم فيما يقولون ، ولما كان العمل من العامل والمال من المالك فقد تساويا وتوازنا ، أو لاشتراكهما في الربح وتساويهما في أصل استحقاقه ، وإن اختلفا في كميته ، ويقال للعامل هنا : مقارض بالفتح ، وللمالك بالكسر ، والأمر في ذلك كله سهل ، لعدم الثمرة المعتد بها على ذلك.

إنما الكلام فيما ذكره في المسالك ، تبعا للتذكرة ، قال : « واعلم ان من دفع إلى غيره مالا ليتجر به فلا يخلو إما أن يشترطا كون الربح بينهما أو لأحدهما أو لا يشترطا شيئا : فإن شرطاه بينهما فهو قراض ، وان شرطاه للعامل ، فهو قرض ، وإن شرطاه للمالك فهو بضاعة ، وان لم يشترطا شيئا فكذلك إلا أن للعامل أجرة المثل ».

٣٣٦

وفيه منع تحقق القرض مع فرض صدور ذلك بعنوان المضاربة إذ أقصاه كونها من القسم الفاسد ، لا انها من القرض المحتاج إلى إنشاء تمليك المال بعوض في الذمة وقصد كون الربح للعامل أعم من ذلك ، وإن كان هو من اللوازم الشرعية لملك المال ودعوى الاكتفاء بقصد ذلك في تحققه لفحوى‌ الصحيح (١) « عن أبي جعفر عليه‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من ضمن تاجرا فليس له إلا رأس ماله وليس له من الربح شي‌ء » والموثق (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام « من ضمن مضاربة فليس له إلا رأس المال ، وليس له من الربح شي‌ء » إذ كما أن التضمين من لوازم القرض ، فكذا الاختصاص بالربح ـ يدفعها أن المتجه ـ بعد تسليم مضمونهما ، وعدم رجحان معارضهما عليهما ـ الاقتصار على ذلك فيما خالف الضوابط الشرعية ، ولو فرض عدم إرادة الفاضل ، والشهيد ذلك بل مرادهما أن الدفع المجرد عن عنوان خاص يقتضي الحكم عليه بذلك ، كان فيه أيضا منع تحقق القرض شرعا وعرفا بذلك ، لما عرفت ، وأصالة الصحة لا تصلح قرينة على صرف الظاهر ، مع أنه لا يتم في المعلوم خلوه عن هذا القصد نعم يمكن إرادتهما بيان حال كل من القراض ، والقرض ، والبضاعة في حد ذاته ، الا أن المراد تحققه على الوجه المزبور ، وحينئذ يخرج عما نحن فيه.

ثم إن ظاهر العبارة المزبورة الفرق بين فردي البضاعة ، باستحقاق الأجر في الثاني دون الأول الذي نسب عدم الأجر فيه إلى ظاهر الأصحاب في الرياض ، بل قال : « هو حسن ، إن لم يكن هناك قرينة من عرف أو عادة بلزومه ، وإلا فالمتجه لزومه ».

قلت : لا يخفى عليك عدم وضوح الفرق بينهما ، إذ التصريح في الأول منهما بكون الربح بأجمعه للمالك ، أعم من التبرع بالعمل ، وعدم إرادة الأجر عليه ، فالتحقيق حينئذ عدم الفرق بينهما ، وأن العامل يستحق الأجر فيهما ، وقيام احتمال التبرع ـ ما لم يعلم منه ارادة التبرع ـ لا يدفع أصالة احترام عمل المسلم المأذون فيه من المالك ، فضلا عن الواقع بأمره واعترافه ، من غير فرق في ذلك بين الوقوع بصورة‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام المضاربة الحديث ـ ١ ـ وذيله.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام المضاربة الحديث ـ ١ ـ وذيله.

٣٣٧

المضاربة وغيرها ما لم يعلم منه ارادة التبرع ، ولا بين كون العامل من المعدين لأخذ الأجرة ، كالسمسار ونحوه وغيره ، مع فرض كون العمل مما له أجرة في العادة ، بل مقتضى الأصل المزبور استحقاق الأجرة على العمل المأذون فيه ، وإن لم ينو العامل الرجوع بها ، بل يكفي عدم قصده التبرع.

ولعله إلى ذلك أشار الفاضل المقداد في شرح النافع قال في البضاعة : « فإن قال أي المالك مع ذلك لا اجرة لك ، فهو توكيل في الاسترباح من غير رجوع عليه بأجرة وإن قال : ولك أجرة كذا ، فإن عين عملا مضبوطا بالمدة أو العمل فذاك إجارة ، وإن لم يعين فجعالة ، وإن سكت ، فإن تبرع العامل بالعمل ، فلا أجرة له ، وإن لم يتبرع وكان ذلك الفعل له أجرة عرفا ، فله أجرة مثله ».

ومن ذلك يعرف ما في كلام الرياض الذي حكيناه عنه ، بل وفيما ذكره سابقا في دفع إشكال استحقاق الأجرة فلاحظ وتأمل.

وكيف كان فقد علم مما ذكرنا أن المضاربة دفع الإنسان إلى غيره مالا ليعمل فيه بحصة من ربحه ، ولكن يتبعها أحكام عقود كالوكالة والوديعة والشركة ، وغيرها كالغصب وأجرة المثل ونحوها ، والظاهر أنه المراد مما في المسالك من أن عقد القراض مركب من عقود كثيرة ، لأن العامل ـ مع صحة العقد وعدم ظهور ربح ـ ودعي أمين ، ومع ظهوره شريك ، ومع التعدي غاصب ، وفي تصرفه وكيل ، ومع فساد العقد أجير ، لا أن المراد إنشاء هذه العقود بإنشاء عقدها ، وإلا كان محلا للنظر ، مضافا إلى ما في ذكر الغصب وأجرة المثل ، والشركة في الربح في العقود.

وعلى كل حال فـ ( هو ) أي تمام البحث في كتاب المضاربة يستدعي بيان أمور أربعة : الأول : في العقد الذي جعله في التذكرة والقواعد من أركان هذه المعاملة ، بل صرح في التذكرة بأنه لا بد فيها من لفظ يدل على الرضا ، وظاهرهما أو صريحهما كغيرهما عدم مشروعية ما يشبه المعاطاة في البيع منها ، وهو وإن كان موافقا لأصالة عدم ملك العامل الحصة من الربح ، إلا أنه مخالف لما دل على جوازها في البيع مما هو مشترك بينه وبين المقام وغيره من السيرة المستمرة ، وصدق الاسم عرفا‌

٣٣٨

وتجارة عن تراض ، ونحو ذلك مما هو كاف في المشروعية ، وفي تخصيص نحو‌ قوله عليه‌السلام (١) « إنما يحلل الكلام ، ويحرم الكلام ».

فالمتجه بناء على ذلك مشروعيتها كذلك ، وإن لم يكن المركب من الإيجاب والقبول فعليين من عقدها ، وعدم الثمرة المترتبة بين معاطاتها وعقدها لجواز الفسخ فيهما ، لا ينافي الحكم بمشروعيتها على الوجه المزبور ، وإن كان قد سلف منا في البيع خلاف ذلك كله ، فلاحظ.

وعلى كل حال فلا خلاف في اعتبار اللفظ في إيجاب عقدها ، وإن كان لا يتعين فيه لفظ مخصوص ، بل يكفي فيه كل لفظ دال على إنشاء الرضا بها مستعمل في ذلك على النهج الصحيح ، لانه المتعارف في كيفية عقدها ، بل قد عرفت فيما مضى قوة الإكتفاء بذلك في العقود اللازمة ، فضلا عن الجائزة.

أما القبول ففي التذكرة ، وجامع المقاصد ، والروضة الاكتفاء فيه بالفعل في تحقق العقد ، خلافا لظاهر الفاضل في القواعد وغيره ، بل صرح به بعض العامة ، بل في الرياض بعد أن حكى عن التذكرة ذلك ، وأنه يظهر منها عدم الخلاف بيننا فيه ، وفي الإكتفاء في الإيجاب والقبول بكل لفظ ، قال : « فإن تم وإلا فالأولى خلافه اقتصارا فيما خالف الأصل الدال على أن الربح تابع للمال ، وللعامل أجرة المثل ، المنطبق مع المضاربة تارة ، والمتخلف عنها أخرى على المتيقن ، ولعله لذا اعتبر فيها التواصل بين الإيجاب والقبول ، والتنجيز وعدم التعليق على شرط أو صفة ، وهو حسن على ما حققناه.

ولكن على ما ذكره ـ من الاكتفاء بالفعل في طرف القبول ، وبكل لفظ فيه وفي طرف الإيجاب بناء على جواز العقد ـ مشكل ، وسؤال الفرق بينه وبين اعتباره إياهما متجه ، وكأنه أخذ ذلك أو بعضه من جامع المقاصد ، فإنه بعد أن حكى عن التذكرة اعتبار التواصل ، قال : وفيه نظر ، لأن ذلك معتبر في العقود اللازمة خاصة ، دون الجائزة من الطرفين ، وسيأتي التصريح بذلك في الوكالة ».

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب عقد البيع وشروطه الحديث ـ ٣.

٣٣٩

قلت : لا يخفى عليك ما في ذلك كله ، بناء على تحقق المضاربة في المركب من الفعلين إيجابا وقبولا ، فضلا عن محل الفرض ، وأقصاه أنه لا يكون عقد مضاربة ، وإلا فهو مشروع يترتب عليه أحكام المضاربة ، مع أنه يمكن القول بتحقق العقد أيضا بالقبول الفعلي ، بناء على تعارف عقدها بذلك بين المشرعة ، ومثله كاف في ذلك لكن لا ثمرة مهمة هنا بعد فرض المشروعية بين كون هذه الكيفية عقدا أو لا ، لما سمعته من عدم الفرق بينهما في الجواز ، وغيره من أحكامها.

نعم بناء على عدم مشروعية التعاطي فيها يتجه حينئذ البحث في القرض ، ولعل المانع فيه مستظهر ما لم يثبت تعارف كيفية عقدها بذلك ، لكن قد عرفت التحقيق إن لم يكن ثم إجماع بخلافه ، ودونه خرط القتاد ، وإن كان كثير من كلماتهم تفيد الناظر فيها تشويشا على نحو ما في بعض كتب العامة.

أما غير ذلك مما يعتبر في غيرها من العقود ، كالتواصل والتنجيز فيبقى على مقتضى ما دل على اعتباره ، الذي لا فرق فيه بين الجائز واللازم ، ضرورة كونه من كيفيات العقد ، والتوسع في العقود الجائزة بالنسبة إلى الاكتفاء في إيجابها مثلا بكل لفظ ، لا يقتضي التوسع فيها بالنسبة إلى ذلك ، وثبوته في الوكالة للدليل ، لا يقتضي الثبوت في غيرها ، بعد حرمة القياس ، هذا كله في التواصل أما التنجيز فلا ريب في اعتباره ، لاتحاد الطريق فيها وفي العقد اللازم كما حققناه في محله. والله العالم.

وكيف كان فـ ( هو جائز من الطرفين ، لكل واحد منهما فسخه ، سواء نض المال ) بأن صار دراهم أو دنانير أو كان به عروض بلا خلاف فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، وهو الحجة في الخروج عن قاعدة اللزوم. لكن ذكر غير واحد أنه إن كان الفاسخ العامل ولم يظهر ربح فلا شي‌ء له ، وإن كان المالك ضمن للعامل أجرة المثل إلى ذلك الوقت ، صونا للعمل المحترم من الخلو عن الأجر ، مع احتمال العدم للأصل ، وإقدام العامل عليه بمعرفته جواز العقد ، وإمكان فسخه قبل ظهور الربح ، بل وبعده مع تحقق الوضيعة المستغرقة له ، لكونه وقاية لرأس المال.

قلت : قد يقال : إن قاعدة احترام عمل المسلم المأذون فيه التي قدمناها سابقا‌

٣٤٠