جواهر الكلام - ج ٢٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

صغرا وكبرا باعتبار قلة الماء وكثرته ، لكن في المسالك « المراد بعلم الموضع الذي يجري الماء منه أن يقدر مجراه طولا وعرضا لترتفع الجهالة عن المحل المصالح عليه ، ولا يعتبر تعيين العمق ، لأن من ملك شيئا ملك قراره إلى تخوم الأرض » وفيه أن ما ذكره في الصلح عما ادعى به على مجرى الماء ، لا على استحقاق إجرائه الذي هو المفروض في المتن ، ولذا قال في الدروس : « ولو جعل عوض الصلح عن الدعوى مجرى الماء في أرضه ، قدر المجرى طولا وعرضا ، لا عمقا ، لأن من ملك شيئا ملك قراره إلى تخوم الأرض ، ولو جعله اجراء الماء في ساقية محفورة مشاهدة ، جاز إذا قدرت المدة ، قال الشيخ : يكون فرع الإجارة ، وفي المجرى ، فرع البيع ، قال الشيخ : ولو كانت الساقية : غير محفورة لم يجز الصلح على الإجراء ، لأنه من استيجار المعدوم ، ويشكل بإمكان تعيين مكان الاجراء طولا وعرضا ، واشتراط حفره على مالك الأرض ، أو على المجرى ماؤه.

نعم لو كانت الأرض موقوفة أو مستأجرة لم يجز ، ولو صالحه على المدعى به على إجراء الماء من سطحه على سطح المدعى عليه اشتراط العلم بسطح المدعى ، وهو كالصريح فيما ذكرناه ، ومن ذلك يعلم ما في قوله أى المسالك أيضا « قد أطلق المصنف وغيره حكم الماء من غير أن يشترطوا مشاهدته ، ليرتفع الغرر ، ولا بأس باعتباره ، لاختلاف الأغراض بقلته وكثرته ، ولو كان ماء مطر اختلف بكبر محله وصغره ، فمعرفته تكون بمعرفة محله ، ضرورة أنك قد عرفت فرض مراد المصنف الذي ترتفع الجهالة عنه بالعلم بالموضع الذي يجري الماء منه ، فإنه كاف في رفع الغرر.

نعم قد يناقش في أصل اعتبار ذلك لعمومات الصلح ، وقبوله من الجهالة والغرر ما لا يقبله غيره ، وعلى كل حال فإذا وقع السطح أو احتاجت الساقية إلى إصلاح ، وجب ذلك على المالك ، لتوقف الحق عليه ، وليس على المصالح الذي له حق الاجراء مساعدته ، والله العالم.

وإذا قال المدعى عليه صالحني عليه لم يكن إقرارا ، لأنه قد يصح مع الإنكار كما عرفته ، فيما تقدم ، خلافا لبعض العامة ، فجعله إقرارا ، بناء على عدم صحته‌

٢٤١

إلا معه ، وهو كما ترى ، أما لو قال : بعني أو ملكني كان إقرارا في عدم كونه ملكا له ، لاستحالة طلب تحصيل الحاصل.

نعم هو ليس إقرارا بكونه ملكا للمخاطب الذي طلب منه ذلك المحتمل وكالته أو ولايته أو غيرهما ، فيبقى حينئذ على أصالة عدم ملكه ، وحينئذ فلو أقر به حينئذ لغيره لم يكن رجوعا مقتضيا للضمان. اللهم إلا أن يدعى دلالة العرف على كونه ملكا له ، فيترتب عليه حينئذ الحكم المزبور ، ضرورة كونه المتبع في نحو ذلك ، ولولاه لأمكن المناقشة في أصل الإقرار بطلب البيع ، لاحتمال ارادته ذلك منه على تقدير كونه ليس له احتياطا ، فإنه يؤثر ملكا له في الواقع وان كان محكوما بكونه له في ظاهر الشرع.

ولو صالح أجنبي المدعي عن المنكر صح عينا كان أو دينا. أذن أولا. لأنه في معنى قضاء الدين ، لكن عن المبسوط انه يرجع عليه ان دفع المال بإذنه ، سواء صالح بإذنه أو لا ، والا فلا رجوع ، لأنه تبرع ، وقد يشكل الرجوع بما أداه ولو بإذنه مع كون الصلح بغير اذنه ، باقتضاء عقد الصلح لزوم المال للأجنبي ، فلا عبرة بالإذن إذا كان قد صالح ليؤدي هو ، بل وكذا لو صالح مطلقا.

نعم لو صالح ليؤدي المدعى عليه كان الصلح فضوليا ، ولو صالحه لنفسه لا عن المنكر صح ، وانتقلت الخصومة إليه ، لكن في الدروس « ان تعذر عليه انتزاع المصالح عليه فله الفسخ ، لعدم سلامة العوض » وفيه تأمل.

نعم لا فرق في صحة ما ذكرناه من الصلح بين اعتراف المدعى عليه بالحق قبل الصلح أو لا على الأقوى ، ولو ادعى الأجنبي أنه وكيل المدعي عليه في الصلح ، فصالحه المدعي صح فإن أنكر المدعى عليه وكالته حلف ، ولكن له اجازة العقد بعد حلفه وقبله والله العالم.

وكيف كان فـ ( يلحق بذلك أحكام النزاع في الأملاك ) لنوع من الاعتبار الذي هو ما عرفت من كون الصلح لقطع النزاع ، على أنه ربما يذكر الصلح في بعض أفراده ، ولم يلحظ ذلك في الدروس فجعله كتابا مستقلا سماه بكتاب تزاحم‌

٢٤٢

الحقوق ، والأمر في ذلك سهل.

وعلى كل حال فـ ( هي مسائل : الأولى ) لا خلاف ولا إشكال في أنه يجوز إخراج الرواشن والأجنحة ونحوهما الى الطرق النافذة إذا كانت عالية لا تضر بالمارة ولم يعارض فيها مسلم ، للسيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار من زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى يومنا هذا ، وقد وضع هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ميزابا لدار عمه العباس ، بل هي كذلك من غير حاجة الى الإذن من حاكم ولا من غيره ، سواء قلنا بكون الهواء ملكا للمسلمين أو باقيا على الإباحة الأصلية ، فما عن أحمد من اعتبار اذن الإمام في وضع الجناح ، في غير محله ، بل هو كذلك.

ولو عارض فيها مسلم ، على الأصح لعدم ثبوت حق له في المعارضة ، لما عرفت من استمرار السيرة المعتضدة بالفتوى على فعل ذلك ، وعدم الالتفات الى المعارض خلافا للمحكي عن الخلاف والمبسوط من أنه لكل مسلم منعه ، لأنه حق لجميع المسلمين ، ولأنه لو سقط شي‌ء منه ضمن ، وهو يدل على عدم جوازه الا بشرط الضمان ولأنه لا يملك القرار ، فلا يملك الهواء ، وفيه ما لا يخفى ، بعد ما عرفت ، فهو حينئذ بمنعه معاند لا حق له ، والضمان بعد تسليمه لا ينافي الجواز كما هو في صورة عدم المعارضة التي قد وافق فيها ، وجواز الفعل لا يتوقف على كونه مالكا كما هو واضح.

نعم يعتبر فيه عدم الضرر على المارة ، بل في المسالك وغيرها أن المعتبر ما يليق بتلك الطريق عادة ، فإن كانت مما يمر عليها الفرسان ، اعتبر ارتفاع ذلك بقدر لا يصدم الرمح مائلا عادة ، واعتبر في التذكرة مروره ناصبا رمحه ، لأنه قد تزدحم الفرسان ، فيحتاج الى نصب الرماح ، ونفاه في الدروس لندوره ، ولإمكان اجتماعهم مع إمالته على وجه لا يبلغهم وهو أقوى ، وان كانت مما يمر فيها الإبل اعتبر فيها مروره محملا ومركوبا وعلى ظهره محمل إن أمكن مرور مثل ذلك عادة ، وهكذا يعتبر ما تجري العادة بمروره على تلك الطريق.

قلت : قد يقال : ان المعتبر عدم الضرر حتى في الصورة النادرة ، لأنه المتيقن من الجواز فيما هو حق المسلمين كافة ، واليه أومأ فيما سمعته من التذكرة ، فيعتبر‌

٢٤٣

حينئذ في الطريق كونه على الوجه المزبور وان لم يعتد ازدحام الفرسان والإبل والكنائس ، الا أنه ربما اتفق ذلك ، خصوصا بناء على أن الأصل المنع لتعلق حق المسلمين بإحيائهم ، والمعلوم جوازه من السيرة ذلك لا غيره ، نعم لو قلنا : ان الأصل الجواز ، لكونه من مباح الأصل ، فيقتصر على المتيقن في المنع ، اتجه حينئذ ما ذكروه ، الا أن الأول لا يخلو من قوة.

هذا كله في تضرر المارة أما تضرر غيرهم كالجار بالإشراف عليه ونحوه ففي المسالك وغيره لا عبرة به ، كما لو وضعه في ملكه واستلزم الإشراف عليه فإن المحرم التطلع عليه لا البناء المشرف عليه.

خلافا للتذكرة حيث الحق الأول بتضرر المارة ، وفرق بينه وبين وضعه في ملكه ، بأن الروشن في الطريق مشروط بعدم التضرر ، لأن الهواء ليس ملكه ، بخلاف الموضوع في ملكه ، لأن للإنسان التصرف في ملكه كيف شاء ، وان استلزم الاشراف على الجار ، أو الظلمة عليه ، وانما يمنع من الإشراف لا من التعلية المفضية الى ذلك ، إلى أن قال : ولست أعرف في هذه المسألة بالخصوص نصا من الخاصة ولا من العامة ، وانما صرت الى ما قلت عن اجتهاد.

ورده بعضهم بأن المعتبر عدم الإضرار بأهل الطريق من حيث الاستطراق الموضوع له الطريق ، أما غير ذلك فلا دليل على المنع منه ، بل قد عرفت أنه لا عبرة بضرر غير المعتاد سلوكه فضلا عن غير المار ، فهو حينئذ كمن أحدث بناء في مباح استلزم الإشراف عليه ، وتقييد العلامة وغيره الضرر بالمارة دليل على ذلك ، وانما عمم هو الضرر في هذا الفرع خاصة.

قلت : يمكن أن يكون بناء العلامة ما ذكرناه من أن المسلمين باحيائهم الطريق صار هو وقراره وهواؤه ملكا لهم أجمع ، أو كالملك فلا يجوز لأحد منهم التصرف فيه بغير إذنهم ، أو اذن وليهم ، الا أن السيرة جرت على فعل ذلك ، والمتيقن منها الخالي عن ضررهم من جهة الاستطراق وغيره ، أما الخالي عن ضرر الاستطراق خاصة دون غيره فلا سيرة عليه ، فيبقى على أصل المنع ، اللهم الا أن يدعى كونها‌

٢٤٤

كذلك أيضا ، لكنه كما ترى ، أو يدعى أن الأصل بالعكس كما أشرنا إليه سابقا ، ولو لفقد نحو‌ « الناس مسلطون على أموالهم » في المقام ، الباقي على اشتراك الناس فيه الذي يختص السابق به منهم مع عدم تضرر الآخر ، لقاعدة‌ « لا ضرر ولا ضرار ».

لكن‌ في دعائم الإسلام (١) « وعنه صلوات الله وسلامه عليه أنه سئل عن الرجل يطيل بناءه فمنع جاره الشمس قال : ذلك له. وليس هذا من الضرر الذي يمنع منه ويرفع جداره ما أحب إذا لم يكن نظر منه إليهم » وفيها (٢) أيضا « وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ليس لأحد أن يفتح كوة في جداره ينظر منها إلى شي‌ء من داخل دار جاره فإن فتح للضياء في موضع يرى منه لم يمنع ذلك ».

وأما عمل السرداب في الطريق النافذ إذا أحكم أزجه ولم يحفر الطريق من وجهها بحيث يضر المارة فقد صرح غير واحد بجوازه ، للسيرة أيضا. نعم لا يجوز ذلك في المرفوع إلا بإذنهم. وان أحكم ، ومثله الساقية من الماء وان لم يكن لها رسم قديم ، لكن الفاضل منع من عملها في النافذ وان أحكم الأزج عليها ، أما لو عملها بغير أزج فإنه يمنع منها إجماعا ، كما في الدروس ، ولكل أحد إزالتها ولو تضرر الجار بالسرداب والساقية فالظاهر جريان البحث السابق فيها ، ولا يجوز إحداث دكة فيه ونحوها على باب داره وغيرها لأهل الدرب وغيرهم.

نعم ربما ظهر من بعضهم جوازها في الزائد على المقدر شرعا عنه وفيه : أن الزائد بعد احياء المسلمين له بالاستطراق يكون حاله كحال الطريق بالنسبة الى ذلك ، ولعله لذا قال في الدروس : « اتسع الطريق أو ضاق ، لأن احياء الطريق غير جائز ، إذ هو مشترك بين مارة المسلمين ، فليس له الاختصاص المانع من الاشتراك » بل فيها أيضا « وكذا لا يجوز الغرس فيه ، وان كان هناك مندوحة ، لأن الزقاق قد يصدم ليلا وتزدحم فيها البهائم ، ولأنه مع تطاول الأزمنة ينقطع أثر الاستطراق في ذلك ، ويحتمل جوازه ما لم يتضرر به المارة من ذلك ، كالروشن والساباط » ويضعف بأنهما في الهواء ، بخلاف الدكة والشجرة.

__________________

(١) الدعائم ج ٢ ص ٥٠٥ الطبعة الثانية بمصر.

(٢) الدعائم ج ٢ ص ٥٠٥ الطبعة الثانية بمصر.

٢٤٥

وعلى كل حال فـ ( لو كانت ) الرواشن والأجنحة وما شاكلها مضرة ، وجب إزالتها على الواضع الغاصب وعلى كل قادر على رفع المنكر ولو بإلزام الغاصب الواضع بذلك إذ لا يجب على غيره الإزالة ، لأنه ( لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ).

ولو كان ضررها بأن أظلم بها الطريق على وجه ذهب الضياء منه أصلا فإنه لا خلاف ولا إشكال حينئذ في أنه يجب إزالتها ، بل في المسالك « الإجماع عليه » بل وكذا إذا ذهب على وجه يضر المارة ولو ضعيف البصر منهم ، ولو ليلا ، لما عرفت من اعتبار عدم الضرر في الجواز ، فما عن الشيخ من إطلاق عدم تأثير الظلمة في المنع في غير محله ، ولعله الى ذلك أشار المصنف بقوله قيل : لا يجب إزالتها اللهم الا أن يريد ما لا ضرر فيها على المارة ، فإن وجود ظلمة ما بسببها من اللوازم.

وقد عرفت السيرة مع ذلك على فعلها كما لا خلاف في أنه يجوز فتح الأبواب المستجدة فيها أي الطرق النافذة سواء كانت لها باب أخرى إليها أو الى طريق مرفوع أم لا ، لما عرفت من أن المسلمين في ذلك شرع سواء ، ولا يقدح في ذلك صيرورة المرفوعة نافذة بسبب الباب المفتوح في بعض الصور ، لأن ذلك انما يوجب نفوذ داره لا نفوذ الطريق ، إذ ليس لأحد دخول داره إلا بإذنه ، فلا يتحقق نفوذ الطريق ، بل لو فرض تحققه لا بأس به أيضا ، للأصل وغيره.

وفي دعائم الإسلام (١) وعنه عليه‌السلام أنه قال : « من أراد أن يحول باب داره عن موضعه ، أو يفتح معها بابا غيره في شارع مسلوك نافذ فذلك له ، الا ان يتبين أن في ذلك ضررا يقينا ، فإن كان في رافعة غير نافذة لم يفتح فيها بابا ، ولم ينقله عن مكانه الا برضا أهل الرائغة » ، هذا كله في الطرق النافذة.

أما الطرق المرفوعة وهي التي لا تنتهي إلى طريق آخر ولا مباح ، بل الى ملك الغير فهي ملك حقيقة لأربابها الذين لهم أبواب نافذة إليها ، دون من يلاصق داره ويكون حائطه إليها من غير نفوذ ، فلهم سدها عن السكة والارتفاق بها‌

__________________

(١) دعائم الإسلام ج ٢ ص ٥٠٥.

٢٤٦

كغيرها من أملاكهم ، ولهم قسمتها فيما بينهم ، وإدخال كل منهم حصته الى داره ، خلافا لبعض الشافعية فمنع من سدها ، لأن أهل الشارع يفزعون إليها ، إذا عرض لهم سبب من زحمة وشبهها ، وضعفه واضح.

كما أنه لا يجوز لأحد من غير أربابها احداث ساباط ولا باب فيها ولا جناح ولا غيره الا بإذن أربابه ، سواء كان مضرا أو لم يكن ، لأنه مختص بهم وكذا ليس لبعضهم أيضا ذلك إلا بإذن شركائه ، لكن على بحث في بعض أفراد التصرف ستسمع الحال فيه إنشاء الله ، بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك بل كأنه إجماع.

خلافا لأحد قولي الشافعية من أنه لا يجوز لغير أهل السكة ذلك مطلقا ، وأما هم فيجوز لكل واحد منهم انتزاع الجناح والروشن وغيرهما إذا لم يضر بالمارة لأن لكل واحد منهم الارتفاق بقرارها ، فكذا هوائها كالشوارع.

وفيه بعد حرمة القياس عندنا إمكان الفرق بحصر أهل الطرق المرفوعة دون الشوارع ، فاعتبر اذن الأولين ، وعومل معاملة الدار ونحوها من الأملاك بالنسبة الى ذلك ، وان لم يتضرر بخلاف الشوارع التي لا حصر لأهلها ، وجرت السيرة على التصرف فيها بما لا ضرر فيه على استطراقهم ، فملكهم لها حينئذ على هذا الوجه ، ولو لهذه السيرة ونحوها.

فما عن المقدس الأردبيلي من التأمل في ملك الطرق المرفوعة لأهلها في غير محله ، لا لما في الحدائق « من أن التصرف دليل الملك ولكن في الشوارع لما لم يكن المتصرف متعينا لم يترتب عليه الملك ، بخلاف المرفوعة » إذ هو كما ترى ، بل لما عرفت من أن الطريق المرفوع ان كان بعض ملكهم أخرجوه لهم فيما بينهم لهذه المنفعة الخاصة فلا اشكال ، بل هو خارج عن محل البحث ، وان كان من المباحات فقد أحيوه وحازوه على هذا الوجه الخاص بهم ، ضرورة كون احياء كل شي‌ء بحسب حاله ، وهذا وان اقتضى كون الشارع ملكا للمسلمين ، باعتبار أن هذه الحيازة ـ التي ليست من معين بل المعين سلكه أيضا على جهة العموم ـ تقتضي ذلك أيضا ، الا أنه‌

٢٤٧

للسيرة المستمرة في العمل في الأعصار والأمصار جعل ذلك على الوجه المزبور ، من غير رجوع إلى إذن حاكم الشرع ، بل ليس له ولا لغيره من المسلمين المنع مع فرض عدم تضرر المارة ، أو يقال : بعدم تحقق الحيازة التي هي الاختصاص عن الغير باستيلاء ونحوه ، فلا يتحقق حينئذ الملك في النافذ دون المرفوع ولذا قالوا انه ملك لأربابه بخلاف النافذ ولعل ذلك هو المراد مما سمعته من الحدائق ، لكن قد يمنع اعتبار الحيازة بالمعنى المزبور في الملك ، فيكفي فيه الاستيلاء وكذا الكلام في باقي المرافق العامة والخاصة.

نعم قد يقال : باقتضاء السيرة والطريقة جواز الدخول فيها ، والجلوس مع فرض عدم تضرر أهلها ، وعدم اعتبار المساواة في استطراق أربابها قلة وكثرة منه ، أو من أتباعه والمترددين اليه ، بل قد يقال بحصول الإذن شرعا وان كان فيهم مولى عليه من طفل أو غيره ، بل يمكن القول بذلك حتى مع منع بعضهم.

لكن في الدروس « يجوز للأجنبي دخول السكة المرفوعة بغير إذن أهلها عملا بشاهد الحال ، والجلوس غير المضر بهم ، ولو نهاه أحدهم حرم ذلك ».

وفي المسالك « ومما يدخل في المنع من التصرف في المرفوعة بغير إذن أهلها المرور فيها والوجه فيه ما تقدم من الملك ، والأقوى الإكتفاء فيه بشاهد الحال ، فلو منع أحدهم حرم ، أما الجلوس فيها وإدخال الدواب إليها ونحو ذلك فلا ، الا مع اذن الجميع ، لأصالة حرمة مال الغير بغير اذنه ، وانتفاء شاهد الحال فيه غالبا ، نعم لو كان الجلوس خفيفا غير مضر تناوله بشاهد الحال » وكذا الفاضل في التذكرة ، ويمكن أن يريدوا بشاهد الحال تلك الإذن الشرعية ، وظاهرهم الحرمة بمنع أحد منهم ، وان أذن له من أراد دخوله اليه ، بل وان كان أضيافه وأتباعه ، بل مقتضى ذلك أن لبعضهم منع الآخر أيضا الى غير ذلك من الأحكام المترتبة على الشركة الحقيقية المعلومة بالسيرة خلافها ، والله العالم.

وكذا لا يجوز لغير أهلها بل وأهلها أيضا لكن على التفصيل الآتي لو أراد فتح باب لا يستطرق فيه بلا خلاف أجده فيه دفعا للشبهة الحاصلة منه على ممر‌

٢٤٨

الأزمان ، فإنه امارة على استحقاق الاستطراق ، وبذلك فرق بينه وبين رفع الجدار الجائز له قطعا الذي لا امارة فيه. لكن قد يقال : ان ذلك كذلك ، الا أنه لا دليل على جواز منعه بذلك ، لإمكان التحرز عن ضرر هذه الشبهة بالطرق المعدة لمثل ذلك ، وليس كل ضرر يكون على الغير بالتصرف في الملك يجب تركه.

ومن هنا لا خلاف في أنه يجوز فتح الروزان والشبابيك إليها ، بل الى دار الجار للاستضاءة بها أو لغيره مما لا يحرم عليه مع عدم الإذن ، بل مع النهي ، لعموم (١) « تسلط الناس على أموالها » نعم للجار ، وضع شي‌ء في ملكه يمنع الاشراف عليه وان منع الضوء.

وكيف كان فـ ( مع إذنهم ) في كل ما عرفت منعه فلا إشكال في الجواز ولا اعتراض لغيرهم الخارج عنهم ، فإنه لا حق له ، ولكن الظاهر كون ذلك كالعارية يجوز لكل الرجوع عن ذلك ، بل تبطل بالموت والخروج عن التكليف بالجنون والإغماء ونحوهما.

نعم في التذكرة « له الأرش للسببية في إتلاف المال على اشكال » ولعله لإمكان منع التسبيب بعد فرض كونها عارية من حكمها جواز الرجوع بها ، اللهم الا أن يقال : انه لم يعلم جواز الرجوع بها مجانا ، لقاعدة الضرر.

ولو صالح من له حق من هم على احداث روشن مثلا قيل : والقائل الشيخ لا يجوز لانه لا يصح افراد الهواء بالبيع والصلح فرعه وفيه تردد بل منع إذ المقدمتان ممنوعتان ، للعمومات خصوصا عمومات الصلح المقتضية جوازه ، وان قلنا بعدم أفراده في البيع.

لكن في الدروس « أما لو صالحوا على ذلك بعوض فإنه لازم مع تعيين المدة وان كان بغير عوض بني على أصالة الصلح أو فرعيته للعارية » وفي التذكرة « لو صالح واضع الروشن أو الجناح أو الساباط أرباب الدرب وأصحاب السكة على وضعه جاز على الأظهر عندنا ، لكن الأولى اشتراط زمان معين » وفيه : منع اعتبار المدة في‌

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ الطبعة الحديثة.

٢٤٩

الصلح عنه المراد به نقله نفسه اليه ، نعم لا إشكال في اعتبارها لو أريد منه القائم مقام الإجارة مثلا ، ولو فرض الاذن منهم على إنشاء التمليك له مجانا أو بعوض ملكه ولكل حكمه ضرورة كون الفضاء ملكا كسائر الأملاك فيجري عليه جميع أحكامها. والله العالم.

ولو كان للإنسان داران مثلا باب كل واحدة منهما الى زقاق غير نافذ ، جاز أن يفتح بينهما بابا فضلا عن النافذين ، بل يجوز فتح باب ذات الشارع الى ذات السكة ، فضلا عن العكس ، كل ذلك للأصل وقاعدة التسلط وأولويته من رفع الجدار الحائل بينهما وجعلهما واحدة الجائز له إجماعا في جامع المقاصد وقولا واحدا في التذكرة.

فما عن بعض العامة ـ من عدم الجواز لأنه يثبت له حق الاستطراق في درب مملوك لدار لا حق لها فيه ، ولأنه ربما ادى الى إثبات الشفعة لو بيعت بعض دور احدى الطريقين بسبب الاشتراك في الطريق لكل واحد من الدارين في زقاق الأخرى على تقدير القول بثبوتها بذلك ومع الكثرة ـ فيه : أن فتح الباب لا يوجب حقا للدار في الطريق الأخر ، وانما أباح الانتقال من داره الى داره الأخرى ، ومتى صار فيها استحق المرور في طريقها تبعا للكون الثاني والدار التي هو فيها لا للأولى ، وحينئذ فكل دار على ما كانت عليه من استحقاق الشفعة بالشركة في الطريق ، ولا يتعدى الى الأخرى ، وان جاز الاستطراق.

لكن قد يقال : ان الفتح المزبور وان لم يفد الحق المذكور ، الا أنه يورث شبهة في الاستحقاق نحو الباب المفتوح لغير الاستطراق الذي قد سمعت تصريحهم بالمنع منه ، اللهم الا ان يمنع دلالتها على ذلك ، بخلاف فتح الباب في الطريق ، وعلى كل حال فما في الدروس عن ظاهر الشيخ من اشتراك أهل الزقاقين في الدرب من الجانبين ، فتبطل حينئذ شفعة كل منهما بالكثرة ، أو تثبت بناء على ثبوتها معها لا وجه له ، مع فرض كون المراد من أهل الزقاقين ـ أى ذيهما ـ ما يشمل من فتح بابا لداريه المتلاصقين اللتين لكل منهما زقاق ، لما عرفت من عدم اقتضاء فتح الباب ذلك.

٢٥٠

نعم لو كانت دار واحدة لها طريقان للزقاقين ، اتجه حينئذ ما ذكره ، وتثبت الشفعة له ولهم ـ مع فرض تحققها مع الكثرة والشركة في الطريق ، فقد يكون لكل من أهل الزقاقين الشفعة في الدار ذاتها إذا بيعت مع الطريقين.

ولعله الى ذلك أشار في القواعد بقوله « ولذي الدارين المتلاصقين ، في دربين مرفوعين فتح باب بينهما ، وفي استحقاق الشفعة حينئذ نظر ، وان أكثر في جامع المقاصد في الاحتمالات فيها » والله العالم.

ولو أحدث الأجنبي أو بعض أهلها في الطريق المرفوع حدثا على غير الوجه الشرعي جاز ازالته لكل من له عليه استطراق من غير فرق بين المضر وغيره ، وبين كونه في الهواء كالروشن أو في الأرض كالدكة ، ولا بين وقوعه باذن بعضهم وعدمه ، بل لو بقي واحد بغير اذن كان له الإزالة ، بل وللآذن ذلك أيضا ، لقاعدة التسلط. واذن بعض الشركاء لا تجدي في المال المشترك.

ولو كان في زقاق بابان مثلا أحدهما أدخل من الأخر ، فصاحب الأول يشارك الأخر في مجازه ، وينفرد الأدخل بما بين البابين على المشهور بين الأصحاب كما في المسالك ، لأن المقتضي لاستحقاق كل واحد هو الاستطراق ونهايته بابه فلا يشارك الداخل ، بخلافه ، وقيل : يشترك الجميع في الجميع حتى في الفضلة الداخلة في صدرها : أي أسفلها ، لاحتياجه الى ذلك عند ازدحام الأحمال ووضع الأثقال ، ولأن اقتصار تصرف الخارج على نفس ما يخرج عن بابه أمر بعيد ، بل متعسر والمتعارف الاحتياج إلى أزيد من ذلك ، ولظهور اتحاد جميع أهل الدربية في اليد عليها أجمع حتى الفضلة التي تكون فيها ، فالقول بالاقتصار على ما حاذى الباب غير جيد.

ولعله لذا قوى في الدروس الاشتراك في الجميع ، كما ستسمعه إنشاء الله وعليه يتضح الوجه في الحكم باشتراك الفضلة بينهما فيما لو كان في الزقاق فاضل الى صدرها أى أسفلها وتداعياه أو لم يتداعياه فهما إذن فيه سواء لما عرفت من كونه جزء من الطريق الذي يدهم جميعا عليه بالاستطراق ، وغيره من‌

٢٥١

وجوه الارتفاق على وجه لا أولوية لأحد منهما على الآخر.

واحتياج الداخل الى استطراق ما بين البابين للدخول الى داره لا يقتضي اختصاصه بذلك ، بعد ما عرفت من مشاركة غيره في الارتفاق به ، وان لم يحتج إليه في الاستطراق الى داره.

وحينئذ فلا وجه لإشكال ذلك ـ بتوقف الانتفاع بالفضلة على استحقاق السلوك إليها ، فإذا لم يكن للخارج حق السلوك لا يترتب على تصرفه الفاسد ثبوت يد على الداخل ـ ، ولا الى دفعه بأن ثبوت ملك شي‌ء لا يتوقف على مسلك له ، ومع ذلك فيمكن دخول الخارج إليها ، بشاهد الحال ، كسلوك غيره ممن لا حق له في تلك الطريق ، فمع فرض اشتراكهم في اليد عليها حكم باشتراكها فيما بينهم ، ولا يرد مثله في المسلك بين البابين ـ حيث لا يجوز للخارج دخوله بذلك ، لأن الداخل له عليه يد بالسلوك المستمر عليه الذي لا يتم الانتفاع بداره الا به ، بخلاف الفضلة فإن يدهم فيها سواء ، إذ لا تصرف لهم فيها الا بالارتفاق وهو مشترك ـ إذ هو كما ترى ، بعد ما عرفت من أن يد الداخل على ما بين البابين لا تنافي يد غيره أيضا عليه بالسلوك فيه للفضلة أو لغيرها من مقامات الارتفاق.

فالتحقيق حينئذ بناء ذلك على اشتراك الجميع في الجميع الذي قواه في الدروس ، ويؤيده ظهور اتحاد كيفية احياء الطريق المرفوع والطريق العام ، فكما أن اتخاذ جملة من المسلمين طريقا على جهة العموم يفيد الحق للمسلمين كافة ، حتى لمن لم يستطرقه منهم ، لأنه وقع ممن وقع بعنوان الجميع ، كذلك الطريق الخاص الذي اتخذ طريقا الى دورهم على جهة الاشتراك بينهم في سائر وجوه الارتفاق التي منها الاستطراق الى الدار ، فكل منهم قد اتخذه لجميعهم على هذا الوجه ، ولذا كان بينهم أجمع على الشركة.

ومن ذلك يعلم النظر فيما ذكره المصنف وغيره من متأخري الأصحاب من أنه يجوز للداخل أن يقدم بابه الى الخارج وكذا الخارج يجوز أن يقدم بابه ولكن ( لا يجوز لـ ) ـه أي لـ ( لخارج أن يدخل بابه ) الى‌

٢٥٢

أسفل وكذا الداخل بالنسبة إلى الأدخل الذي هو خارج في القياس إليه ، فإن ذلك كله مبني على اختصاص كل داخل عن الخارج بما دخل عنه ، ومشاركته فيما خرج ، فيجوز للداخل إخراج بابه لثبوت حق الاستطراق له في جميع الطريق الى بابه ، فكل ما خرج عنه له فيه حق.

وله حق التصرف في جداره برفعه أجمع ، فبعضه أولى ، بل مقتضى إطلاق المتن وغيره عدم الفرق بين سد الباب الأول وعدمه ، بل وصرح به بعضهم ، وان توقف فيه آخر ، باعتبار اقتضاء ذلك تعدد حق الاستطراق الى الدار ، لكنه في غير محله ، بخلاف الخارج ، فإنه لا حق له في الاستطراق إلى أزيد من بابه ، فليس حينئذ أن يدخلها ، وان كان ربما أشكل ذلك بأنه قد كان له في السابق فتح بابه من أي جهة شاء من جداره ، بل له رفع الجدار أجمع ، فلا وجه لعدم جواز إدخال بابه ، لكن قد يدفع بأنه وان كان له ذلك قبل ذلك الا أنه تشخص حقه بالباب التي استطرقها ، فله حينئذ الاستطراق من أي جهة شاء من جداره ، منتهيا الى تلك الباب دون الأدخل منها ، ورفع الجدار كله لا يقتضي ثبوت حق الاستطراق له من أي جهة منه بل بناء على انتهاء اختصاصه الى بابه ، يكون كذلك بعد رفع الجدار أيضا.

نعم ذلك كله مبني على الاختصاص والاشتراك المزبورين ، أما بناء على ما ذكرناه من اشتراك الجميع في الجميع فالمتجه حينئذ تساوى الإخراج والإدخال من كل منهم في الجواز وعدمه ، لتساوي الجميع في الاستحقاق.

وقد يقوى الجواز بالنسبة إلى الاستطراق الذي بناء الشركة على عدم معارضة أحدهم الأخر فيه ، فيختر في فتح بابه من أي جهة شاء من جداره ، خارجا عن بابه الأول أو داخلا ، بل مع سد الأولى وعدمه ، لأن له حق الاستطراق متحدا أو متعددا من أي جهة شاء.

نعم ليس لأحدهم إخراج روشن أو جناح أو ساباط بدون إذن جميعهم ، لخروجه عن الاستطراق الذي وضع الاشتراك فيه ، على ما عرفت ، نعم لو قلنا باختصاص الداخل بما بين البابين ، اتجه حينئذ عدم اعتبار اذنه في الجناح والروشن والساباط ونحوها‌

٢٥٣

لعدم الحق له حينئذ ، وانما يتوقف على اذن غيره ممن هو أدخل بابا ان كان ، والا لم يحتج إلى إذن أصلا.

قال في الدروس : « ولو كان في أسفل الدرب فضلة فهم مستوون فيها لارتفاقهم بها ، وقال متأخرو الأصحاب ان ذا الباب الخارج انما يشارك الى موضع بابه ، ثم لا مشاركة حتى ان الداخل ينفرد بما بقي ، ويحتمل التشارك في الجميع كالفضلة لاحتياجهم الى ذلك عند ازدحام الأحمال ، ووضع الأثقال ، فعلى الأول ليس للخارج حق في المنع من الروشن وشبهه فيما هو أدخل منه ، ويكفي اذن من له فيه حق ، وعلى الثاني لا بد من اذن الباقين ، وهو عندي قوى » وهو كما ذكرنا. وكذا ما فيها أيضا درس في الجدار.

اما الخاص فلمالكه التصرف فيه بما شاء من فتح كوة للاستضاءة ووضع الجذوع وغير ذلك حتى رفعه من البين ، ويتخرج من هذا جواز إدخال الباب من غير اذن الجار في المرفوعة نعم ما ذكره سابقا يخالفه في الجملة ، وإن كان قد يشهد له في الجملة خبر الدعائم (١).

قال : « وأما السكة المرفوعة أي المنسدة الأسفل ، فلا يجوز احداث روشن ولا جناح فيها إلا بإذن جميع أهلها ، سواء كان في أسفلها أو أعلاها ، ولا فتح باب أدخل من بابه ، سد بابه أو لا ، ويجوز له إخراج بابه وان لم يسد الأولى على قول ، ولو أذن أهل الأسفل في إدخال الباب فهل لأهل الأعلى المنع ، فيه اشكال ، من عدم استطراقهم ، ومن الاحتياج اليه عند ازدحام الدواب والناس ، وهو أقوى ».

إذ قد عرفت أنه بناء على الاشتراك يتجه له الجواز في الباب ، بناء على ما سمعت من عدم حق لأحدهم في المعارضة فيه ، لبناء مثل هذه الشركة على ذلك ، وانما هو كذلك بالنسبة إلى الروشن والجناح وغيرهما ، أما الفضلة ، فيمكن أن تكون كذلك أيضا ، فلكل منهم إخراج بابه منها من غير حاجة الى إذن الأخر ، بل مع منعه لكونها جزء من الطريق الذي قد عرفت أصل وضعه لذلك ، ويمكن عدم‌

__________________

(١) الدعائم ج ٢ ص ٥٠٥ الطبعة الثانية بمصر.

٢٥٤

الجواز إلا بإذن الجميع ، لعدم اعدادها للاستطراق وان انتفعوا بها في غيره اما الروشن والجناح إليها فلا إشكال في الحاجة إلى اذن الجميع.

وبذلك كله بان أن إطلاق الأصحاب سابقا ـ ان الطريق المرفوع ملك لأربابه ، وأنه لا يجوز لأحد منهم أو من غيرهم إخراج روشن أو جناح أو ساباط أو فتح باب ولو للاستضاءة ـ غير مراد منه ظاهره على جهة العموم ، بل هو على الإهمال وإلا لنافاه ما سمعته من كثير منهم ممن صرحوا بكيفية اشتراكه ، وبالفرق بين الداخل والخارج بالنسبة إلى فتح الباب وغيره ، وان كان هو على مختارنا أليق منه على غيره ، فما وقع لبعضهم من الإشكال في ذلك حتى ظن التدافع بين كلماتهم في غير محله ، هذا.

وقد بان لك أيضا مما تقدم سابقا أنه لو أخرج بعض أهل الدرب النافذ روشنا مثلا غير مضر بالمارة لم يكن لمقابله ولا لغيره معارضته ولو استوعب عرض الدرب ما لم يضع منه شيئا على جداره ، للأصل والسيرة المستمرة على معاملته معاملة المباح من غير اختصاص لأهل الدور في شي‌ء منه ، من غير فرق بين ما قابله منهم وعدمه.

بل صرح غير واحد منهم الفاضل والشهيدان بأنه لو سقط ذلك الروشن فسبق جاره الى عمل روشن لم يكن للأول منعه ، لأنهما فيه شرع ، كالسبق الى القعود في المسجد فقام منه ولم يملك الأول الموضع بوضع الروشن فيه ، وانما اكتسب أولوية سبقه اليه ، فإذا زال أثره زالت كالقعود في المسجد والسوق ، بل لو فرض أن الثاني أخرب روشن الأول لم يكن له ازالة ما وضعه الثاني وان كان قد ضمن الأرش واكتسب الإثم في الإزالة ، وكذا الكلام في المسجد وشبهه.

لكن قد يناقش أولا : بصدق الغصب واستصحاب بقاء حقه ، بل قد يناقش في نحو المقام بأنه قد ملكه بالحيازة بناء على كونه مباح الأصل على ما صرح به في الدروس ، فيستمر حينئذ على ملكه ، وان زال أثره ، وقد احتمل في الدروس الملك في نحو المقام على بعد ، قال : « فرع » لو جعل المقابل روشنا تحت روشن مقابله‌

٢٥٥

أو فوقه فهل للسابق منعه؟ لم أقف فيه على كلام ، وقضية الأصل عدم المنع ، الا أن يقال لما ملك الروشن ملك قراره وهواءه ، وهو بعيد ، لأنه مأذون في الانتفاع ، وليس ملزوما للملك ».

قلت : ينبغي بناء المسئلة على أن الطريق المحيي بالاستطراق يكون ملكا لمن أحياه هو مع هواه ، فأرض الطريق حينئذ وما تحتها وهواها ملك للمسلمين ، الا أنه جرت السيرة والطريقة على تصرفهم فيه بما لا ضرر فيه على مارتهم ، وحينئذ فلا يملك ذو الروشن مثلا شيئا من الهواء ، بل هو على ملك المسلمين ، وإنما له حق اختصاص ، فإذا زال أثره زال حقه ، أو أن المسلمين إنما لهم منه حق الاستطراق ، فالفضاء والأسفل باق على الإباحة الأصلية ، يملكه من يجوزه ، ويجرى عليه حينئذ حكم ذلك ، لم أعثر على تحرير لهم في ذلك ، والذي ذكرناه سابقا الأول. وقلنا : إن حاله كحال الطريق الخاص في الكيفية ، بل هو الموافق لقاعدة « من ملك أرضا ملك هواها وقرارها إلى عنان السماء وتخوم الأرض » ولا ريب في ملك المسلمين نفس أرض الطريق بالاستطراق فيتبعها ذلك ، وحينئذ فالمتجه أن للسابق حق اختصاص سبقه فمتى زال أثره زال حقه والله العالم.

المسألة الثانية : إذا التمس وضع جذوعه مثلا على حائط جاره ، لم يجب على الجار اجابته ، ولو كان خشبة واحدة عندنا للأصل ، بل الأصول كما لا يجوز له الوضع بدونها ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) « لا يحل مال امرء مسلم الا بطيب نفسه » ولقاعدة عدم التصرف في مال الغير بغير اذنه ، فما عن أحمد ، ومالك ، بل والشافعي في القديم وان كان مع شروط ثلاثة ـ عدم احتياج مالك الجدار الى وضع الجذع عليه وأن لا يزيد الجار في رفع الجدار ، ولا يبني عليه أزجا ولا يضع عليه ما لا يحمله ويضر به وانحصار الحاجة في الرابع. لأنه مالك للجوانب الثلاث ، أما إذا كان الكل للغير لم يضع الجذوع عليها قولا واحدا من أن له الوضع بدونها بل يجبر مع الامتناع ، لخبر‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٣ من أبواب مكان المصلى الحديث ١ ـ ٣.

٢٥٦

أبي هريرة (١) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبة على جداره » واضح الفساد ضرورة وجوب طرح مثل هذا الخبر المعارض لأصول المذهب وقواعده.

لكن يستحب اجابته ، لما ورد من الحث على قضاء الحوائج ، والتوصية بالجار ، بل يمكن الحكم بكراهية المنع ، للخبر المزبور ولغيره ، وحينئذ فـ ( لو أذن جاز الرجوع قبل الوضع إجماعا ) بقسميه ، للأصل وغيره ، بل ظاهرهم ذلك ، وان استلزم ضررا عليه ، بفعل المقدمات من بناء وغيره.

وبعد الوضع المستلزم نقضه للضرر لا يجوز الرجوع عند الشيخ ومن تبعه لأن المراد به للمستعير والمعير التأبيد فهو حينئذ كالعارية للدفن وللضرر الحاصل بالنقض حيث يفضي الى خراب ملك المأذون.

ولكن مع ذلك فالقول بالجواز حسن مع الضمان بل هو خيرة الفاضل والكركي ، وثاني الشهيدين ، لأنه عارية ، ومن لوازمها جواز الرجوع الذي هو مقتضى الاستصحاب وقاعدة تسلط الناس وغير ذلك. والإلحاق بالدفن قياس مع الفارق لتحريم النبش ، وكذا العارية للرهن ، المقتضي لتعلق حق الغير به على وجه يقتضي اللزوم من طرف الراهن ، بخلاف ما هنا ، فإنه لا حرمة على المالك في خراب ملكه ، الا أنه نسبه في الدروس إلى القيل ، مشعرا بتمريضه ، واحتمل المنع من النقض ، بل كأنه مال اليه ، قال : « ولو أسعفه فوضع قيل : جاز له الرجوع ، لأنه اعارة ، ويحتمل المنع من النقض ، للضرر الحاصل به ، فإنه يؤدى الى خراب ملك المستعير نعم يكون له الأجرة فيها بعد الرجوع ».

وفي المبسوط « لا رجوع حتى يخرب ، لأن البناء للتأبيد وللضرر ، ولو قلنا بالرجوع ففي غرمه الأرش وجهان ، من استناد التفريط الى المستعير ، ومن لحوق ضرره بفعل غيره ».

قلت : الأصل في هذه المسألة ما حكاه في التذكرة عن الشافعية ، ومحصله خمسة وجوه :

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٦ ص ٦٨.

٢٥٧

أحدها أن له الرجوع ويتخير بين البقاء بالأجرة والقلع بالأرش ، قال فيها : وهو أظهر قوليها.

والثاني : أن له الرجوع والقلع بالأرش ، وأما البقاء بالأجرة فمتوقف على رضاهما بذلك ، وهو خيرة ثاني الشهيدين والمحققين ، واستحسنه في المتن.

الثالث : أن له الرجوع ولا يجوز له النقض ، وانما له الأجرة خاصة ، ومال اليه الشهيد في الدروس.

الرابع : أن له الرجوع والقلع مجانا.

الخامس : أن ليس له الرجوع ، بمعنى أنه لا يستفيد به جواز قلع ولا اجرة ، وهو الذي اختاره الشيخ ومن تبعه ، بل هو ظاهر المصنف.

ولا ريب في قوة الرابع بناء على أن له الرجوع ، ضرورة كون المنشأ في ذلك على تقدير القول به أن حكم هذه العارية حكم غيرها من العواري التي يعتبر في بقائها استدامة الإذن ، فمع فرض انقطاعها يبطل حكمها ، فيبقى وضع بلا اذن ، والضرر اللاحق بالقلع انما يجي‌ء من خطاب الشارع له بتخليص ملك الغير ورفعه عنه ، وبذلك لا يعد كون المعير متلفا لا مباشرة ولا تسبيبا كي يتجه ضمانه الأرش ، خصوصا بعد اقدام المستعير على الوضع بالاذن المفروض جواز الرجوع فيها ، فلا غرور منه ، بل وجوب الأرش إنما يتجه مع فرض ثبوت حق للمستعير في البقاء الذي قد فرض عدمه ، باعتبار ارتفاع استمرار الإذن الذي هو السبب فيه.

ومنه يعلم ما في القول بأن له الرجوع ، ولكن لا يجوز له النقض ، وانما له الأجرة ، فإنه لا حق له بعد فرض انقطاع الاذن المفروض أن دوامها هو السبب في البقاء ، فلا حق له حينئذ فيه ، كي يجب على المستعير مراعاته ، وقاعدة الضرر قد عرفت ما فيها ، على أن الضرر الحاصل على الغير بسبب تفريغ الملك المخاطب به شرعا لا دليل على الضمان به بل الأصل يقتضي عدمه ، والا لاتجه الضمان بالرجوع قبل الوضع مع فرض حصول الضرر بفعل المقدمات من بناء ونحوه ، فلا محيص عن المجانبة حينئذ مع فرض أن له الرجوع.

٢٥٨

نعم قد يتجه ما ذكره الشيخ من عدم جواز الرجوع باعتبار أن العارية المبنية على الدوام سببها ابتداء واستدامة انما هو الإذن الأولى التي لا يتصور فيها رجوع بعد صدورها ، بل يكون حينئذ الرجوع فيها كالرجوع بالإذن فيما مضى من العارية.

وهذا معنى قول الشيخ « لأن المراد الدوام والتأبيد » ومحصله أن عارية الدوام عرفا هكذا ، وقد شرعها الشارع بشرعه للعارية على هذا الوجه ، وهو معنا لا ينافي كون العارية من العقود الجائزة المعلوم ارادة ما كان استمرار الإذن فيها المقتضي للبقاء ، لا ما كان فيها علة الدوام والابتداء واحدة ، وهي الإذن الأولى التي لا يتصور فيها رجوع.

ولعل من ذلك العارية للدفن ، لا لأن النبش محرم فإن حرمة النبش لا تنافي جواز الرجوع المقتضي لتعين الأجرة حينئذ ، وكذا اعارة المكان للصلاة التي يحرم الابطال على الداخل بها. كما أن من ذلك يتجه حينئذ عدم انفساخها بالإغماء أو الجنون للمعير ، أو المستعير ، بل والموت وانتقال الدار الى وارث ، أو مشتر آخر ونحو ذلك الذي لا يخفى ما في دعوى التزام الانفساخ بذلك كله ، وخصوصا مع دعوى وجوب الأرش أو الأجرة حينئذ ، أو الإذن الجديدة من المعير ، فإن دعوى وجوب الأرش على المعير بانفساخ العارية بجنون المستعير مثلا ان لم يأذن جديدا مما لا يلتزمها من له أدنى رائحة في الفقه.

بل قد يقال : ان قاعدة الضرر وحرمة تضييع المال ونحو ذلك يقتضي لزوم العارية على المعير ، باعتبار أنه بإذنه في ذلك يترتب الخطاب الشرعي ، وهو حرمة الإضرار وحرمة تضييع المال ونحو ذلك ، مثل العارية للرهن الذي تعلق به حق الغير ، واندرج تحت ما دل على لزوم الرهن الذي لا يعارضه جواز الرجوع بالعارية من حيث نفسها إلا إذا قارنها أمر آخر خارج عنها ، وكالإذن بالدخول في الصلاة الذي يترتب عليه حرمة الإبطال فتأمل جيدا فإنه تحقيق وتدقيق.

ثم ان الأرش على تقدير وجوبه فهل هو نقص آلات الوضع بالهدم؟ أو تفاوت ما بين العامر والخراب؟ وجهان : ينشئان من كونه بهيئته حقا لبانيه ، فجبره بتفاوت‌

٢٥٩

ما بين كونه عامرا وخرابا ، لأن ذلك هو نقص المالية ، ومن أن نقص هذه المالية مستند الى ملك صاحب الجدار ، فلا يضمنه ، انما يضمن مال الغير الذي كان سبب إتلافه وفواته.

ولكن لا يخفى عليك قوة الأول ، لأن جميعه مال للواضع ، غايته كونه موضوعا على ملك الغير ، وذلك الملك انما أثر جواز النقض ، لا المشاركة في المالية ، بل قد يقال : ان المتجه ضمانه أيضا كل ضرر يحدث في ملك المالك ، بسبب النقض المزبور فتأمل والله العالم.

هذا كله في الرجوع قبل انتهاء أمده ، أما لو انتهى فـ ( انهدم ، لم يعد الطرح إلا بإذن مستأنف ) لانقطاع حكم الإذن الأولى بانقطاع زمان المأذون فيه الذي قد اقتضاه الاذن فيه ، ولكن فيه قول آخر محكي عن الشيخ في المبسوط ، وهو أنه ان أعاده بالهيئة الأولى لم يكن له منعه ، من رد الخشب والسقف عليه ، وان أعاده بغيرها كان له منعه وفيه ما لا يخفى من انقضاء مقتضى الإذن الأولى فليس له العود بدون الجديدة ، فضلا عما لو منع.

ودعوى ـ أن الإذن الأولى قد اقتضت الدوام على الوجه المزبور ، بمعنى كونها في صنف الوضع وان تعددت أشخاصه ـ واضحة المنع ، بل مع فرض التصريح بها لا يثبت ذلك ، وان قلنا بأن عارية الدوام لازمة ، لكن بمعنى أنها بالنسبة الى ذلك الشخص ، لا الصنف ، وكذا العارية للغرس والبناء ونحوهما.

نعم لو فرض انهدامه بهدم هادم لا بانتهاء عمره ، أمكن تخريجه على مذهب الشيخ ، كما انه يمكن ان يكون كلامه في غير ما نحن فيه ، من انه واضع الجذوع الذي لا يعلم كيفيته يحكم باستحقاقه ذلك ، حتى يعلم كونه عارية ، ضرورة ظهور تصرفه في استحقاقه ذلك ، فيتجه حينئذ وجوب بناء الجدار على المالك لو فرض انهدامه مقدمة لحصول حق الوضع ، هذا.

ولكن في المسالك بعد ان ذكر خلاف الشيخ قال : « وكثير من الأصحاب لم يذكروا هنا خلافا » ويمكن ان يكون سببه ان الشيخ ذكر أولا في الكتاب انه لو‌

٢٦٠