جواهر الكلام - ج ٢٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

إطلاق الأدلة إليه ولو كان المكفول محبوسا في حبس الحاكم العادل وجب تسلمه لأنه متمكن من استيفاء حقه منه ضرورة أنه برفع أمره إليه يخرجه من الحبس أو يطالبه وهو فيه وينهى أمره معه ولو بان يحبسه على الحقين معا.

وليس كذلك لو كان في حبس ظالم لغلبة عدم التمكن من استيفاء الحق معه ، ولو فرض إمكانه ، وجب تسلمه ، كما أنه لو فرض عدم إمكانه في الأول لم يجب تسلمه وإن كان في حبس عادل كما هو واضح.

المسألة الثانية : إذا كان المكفول عنه غائبا في مكان معلوم ومتجاوز مسافة القصر وكانت الكفالة حالة وطلبه منه المكفول له انظر بمقدار ما يمكنه الذهاب إليه والعود به ، وكذا لو كانت مؤجله وطلبه منه أخر بعد حلولها وطلبه منه بمقدار ذلك بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، بل عن التذكرة عليه عامة أهل العلم ، ضرورة اقتضاء وجوب الإحضار الذي هو مقتضى الكفالة ذلك ، وإلا كان تكليفا بغير المقدور.

نعم في المسالك ومحكي التذكرة ومجمع البرهان إنما يجب عليه الإحضار عند إمكانه ، أما إذا لم يمكن كما إذا غاب غيبة منقطعة لا يعرف له موضع ولا خبر ، لم يكلف إحضاره لعدم الإمكان ولا شي‌ء عليه ، لأنه لم يكلف المال ، بل قيل : إنه ظاهر الباقين أيضا لكن في القواعد لو هرب المكفول أو غاب غيبة منقطعة فالأقرب التزام الكفيل بالمال أو إحضاره ، مع احتمال براءته ، ويحتمل الصبر.

وعن جامع المقاصد أن الأول أصح ، لأن مقتضى الكفالة إحضار الغريم أو أداء ما عليه من المال ، والأصل بقاء ذلك إلى أن يحصل المبرئ ، وهو المسقط للحق أو موت المكفول ، وأن الكفيل وثيقة على الحق كالرهن ، فإذا تعذر استيفاء الحق من جهة من عليه ، استوفى من الوثيقة ، وهذا وإن كان مبنيا على اقتضائها التخيير مطلقا الذي قد عرفت البحث فيه أو أداء المال عند تعذر الإحضار الذي قد ذكروه في رجوع الكفيل على المكفول إذا أدى. لكن قد يقال : على القول بانحصار مقتضاها في الإحضار ، بعدم اعتبار إمكانه له ، بعد أن كان في حد ذاته من الممكنات ، لأنه هو‌

٢٠١

الذي أوقع نفسه في ذلك فيكلف به ويحبس عليه ، ولو لأن يفدى نفسه بأداء ما عليه ، ليتخلص من ذلك كما هو مقتضى النصوص في حبسه ، ومن ذلك يظهر الحال فيما لو فرط الكفيل في إحضاره بعد مطالبة المكفول له ، وكان متمكنا منه فهرب أو غاب غيبة منقطعة على وجه تعذر إحضاره ، أو هربه هو ، ضرورة أولوية لزومه المال.

وإن حكي عن التذكرة وجوب المال إن أوجبناه بها ، وإلا فإشكال ، ونحوه في جامع المقاصد ، ولو كان غائبا حين كفل ، فالحكم في إحضاره كما لو غاب بعد الكفالة.

وعن جامع المقاصد لو وقع في بلاد الكفر بحيث لا يقدر عليه ، أو في حبس ظالم لا يمكن تخليصه ، وجب الصبر إلى زمان إمكان إحضاره ، ولو رجى تخليصه بوجه وجب عليه السعي فيه ، ولو احتاج إلى بذلك مال فإشكال ، وكأنه مناف لما سمعته منه سابقا ، والتحقيق في ذلك كله ما عرفت.

المسألة الثالثة : ذكر غير واحد من الأصحاب بل لا أجد فيه خلافا انه إذا تكفل بتسليمه مطلقا ، انصرف إلى بلد العقد وهو إن سلم ، ففيما إذا كان العقد في بلد المكفول له أو بلد قراره ، أما إذا كان في برية أو بلد غربة قصدهما مفارقته سريعا بحيث تدل القرائن على عدم إرادته ، ففي المسالك أشكل انصراف الإطلاق إليه ، وقد تقدم الكلام على نظيره في السلم ، إلا أنهم لم يذكروا هنا خلافا ، وفيه : أن ذلك ليس محل شك ، ولا يحتمل إرادتهم ، إذ الفرض حضور القرائن الدالة على عدم ارادته.

نعم قد يشك فيما إذا لم تكن قرينة ، حتى إذا كان بلد العاقد وقد تقدم الكلام سابقا على نحو ذلك في كتاب السلم وغيره وعلى كل حال فلا إشكال ولا خلاف في أنه إن عين موضعا لزمه لقاعدة المؤمنون وغيرها وحينئذ فـ ـ ( لو دفعه في غيره لم يبرء ) إذا لم يتسلمه المكفول له برضى منه ، لعدم كونه تسليما تاما وقيل والقائل الشيخ والقاضي كما عرفت إذا لم يكن في نقله كلفة ولا في تسلمه ضرر ، وجب تسلمه وفيه تردد بل منع إلا على ما سمعته في الأجل فيما إذا فرض كون مصلحة الشرط للكفيل ، وقد أسقطها.

٢٠٢

المسألة الرابعة : لو اتفقا أي الكفيل والمكفول له على وقوع الكفالة ولكن قال الكفيل : لا حق لك الآن عليه لأداء أو إبراء أو غيرهما ، كان القول قول المكفول له بيمينه ، لأصالة بقاء الحق ، وكذا لو قال له : لا حق لك حال الكفالة كان القول أيضا قول المكفول له بلا خلاف أجده فيه لأن الاعتراف من الكفيل بوقوع الكفالة تستدعي ثبوت حق فيكون هو مدعى الفساد ، والمكفول له مدعى الصحة ، ولا ريب في أن القول قول مدعى الصحة لأصالتها بل عن مجمع البرهان أن القول قوله بلا يمين ، وإن كان هو خلاف ما صرح به غيره من دون خلاف ، بل خلاف‌ قوله (١) « البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر » وعلى هذا فإذا حلف المكفول له وتعذر على الكفيل إحضار الغريم فهل يجب عليه أداء المال من غير بينة؟ احتمله في المسالك ومحكي التذكرة ، ولكنه واضح الفساد ، ضرورة أعمية ثبوت صحة الكفالة من ثبوت الحق على المكفول.

نعم لو أقام المدعي البينة بالحق كان له إغرام الكفيل على الوجه الذي تقدم سابقا ، لكن لا يرجع به هنا على المكفول ، لاعترافه بعدم كونه كفيلا شرعا عنه ، وأنه مظلوم ، ولكن إذا لم يعلم فساد دعوى المكفول له أمكن الرجوع بما أغرمه على ما في ذمة المكفول مقاصة ، لأنه قد صار عوضا عما أداه ، أما لو علم فسادها فلا رجوع له عليه قطعا ، كما هو واضح.

المسألة الخامسة : إذا تكفل رجلان مثلا دفعة أو مرتبا برجل فسلمه أحدهما لم يبرء الآخر عند الشيخ ، وابن حمزة ، والقاضي فيما حكي عنهم ، فإذا هرب منه حينئذ كان له الرجوع على الثاني ، للأصل ، وكون الكفيلين كالرهنين اللذين إذا فك أحدهما لم يفك الآخر ولكن لو قيل : بالبراءة لكان حسنا بل في القواعد وغيرها من كتب الجماعة أنه الأقرب ، لأن المقصود تسلمه وقد حصل ، حتى لو سلم نفسه أو سلمه أجنبي برأ ، لحصول الغرض ، والظاهر أن محل البحث‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم والقضاء الحديث ـ ١ ـ ٥ ـ لكن فيه واليمين على من ادعى عليه.

٢٠٣

في التسليم عن نفسه ، أما لو قصد التسليم عن صاحبه فلا إشكال في براءة صاحبه ، وإن بقي هو عند الشيخ.

وعلى كل حال فما ذكره المصنف والجماعة جيد ، إن كان المراد من كفالتهما الإحضار الواحد ولو على وجه يكونان معا كفيلا ، فإنه لا إشكال في براءة كل منهما بأدائهما معا دفعة ، وبأداء كل واحد منهما ، أما إذا كان المراد من كفالة كل واحد منهما الاستقلال على وجه لو أسقط المكفول له حق الكفالة من أحدهما بإقالة ونحوها لم يسقط عن الآخر. فلا يخلو كلام الشيخ من قوة حينئذ ، إلا إذا قصد تسليمه عن صاحبه ، فإنه يبرأ صاحبه ، ولكن هو لا يبرأ كما عرفته سابقا ، والظاهر تعدد الحق بتعدد الكفيل إذا لم تكن قرينة على إرادة الأول ، ودعوى اتحاد حق الإحضار لا يقتضي عدم تعدد استحقاقه من وجوه عديدة ولو تكفل لرجلين برجل ثم سلمه إلى أحدها لم يبرأ من الآخر بلا خلاف ولا إشكال ، بل قيل : إنه كذلك عند العامة فضلا عن الخاصة.

المسألة السادسة : إذا مات المكفول برأ الكفيل على المشهور كما عن التنقيح بل في الرياض نفي الخلاف فيه ، بل في محكي التذكرة بطلت الكفالة ، ولم يلزم الكفيل شي‌ء عند علمائنا ، بل عن الغنية الإجماع عليه ، قيل : لأنه تكفل ببدنه على أن يحضره ، وقد فات بالموت ، ولأنه قد سقط الحضور عن المكفول فيبرأ الكفيل وفيهما ما لا يخفى.

نعم قد يقال : ان المتبادر إنما هو الإحضار حال الحياة وإن ذلك هو المتعارف بين الناس ، فيحمل الإطلاق عليه ، أو لمعلومية كون المراد من الكفالة الإحضار مقدمة لتحصيل الحق المعلوم انتفاؤه بالموت ، بل قد يدعى بناء شرعيتها في مثل ذلك على ذلك ، بحيث لو صرح بخلافه لم تصح ، ومن ذلك يحتمل إلحاق غير الموت به ، إذا كان بحيث يخرج عن قابلية تحصيل الحق منه بجنون ونحوه هذا.

ولكن في المسالك « يمكن الفرق بين أن يكون قد قال : في عقد الكفالة كفلت لكن حضور بدنه ، أو حضور نفسه أو حضوره فيجب في الأول إحضاره ميتا إن طلبه‌

٢٠٤

منه ، وإلا فلا ، ويبنى الثاني على أن الإنسان ما هو فإن كان الهيكل المحسوس فكذلك ، وإلا فلا » وفيه ما لا يخفى بعد ما عرفت من بناء شرعية الكفالة في تحصيل الحق على ذلك ، فلا مدخلية للعبارة حينئذ.

نعم لو كان المراد منها الشهادة على عينه وصورته ، اتجه حينئذ صحتها والإلزام بإحضاره ميتا ، بناء على صحة الكفالة في ذلك كما سمعته سابقا من الفاضل في القواعد ، ولعله لذا قيد الحكم المزبور هنا في القواعد بغير الشهادة على عينه ، بل في المسالك تبعا للمحقق الثاني عدم الفرق في ذلك بين كونه قد دفن أو لا ، لأن ذلك مستثنى من حرمة نبشه ، سواء قلنا بجوازه للمال وعدمه ، ولو فرض تغيره على وجه لا يمكن الشهادة عنه لم يجز إحضاره لانتفاء الغرض حينئذ.

وبذلك يظهر لك النظر فيما في القواعد من خروج الكفيل على إحضاره للشهادة على عينه عن العهدة ، بالدفن إن حرمنا النبش لأخذ المال ، ضرورة عدم تفريع ذلك عليه ، فان الشهادة على عينه من مستثنيات النبش ، سواء قلنا بجوازه لأخذ المال وعدمه ، وقد تقدم في كتاب الجنائز البحث عن هذه المسائل ، ولو أنه بناه على جواز نبشه للشهادة على عينه كان أولى ، كما أنه لا يخفى عليك النظر في أصل صحة الكفالة في ذلك ، للشك في تناول أدلتها لمثله ، ولو كان موته بعد مماطلة الكفيل بإحضاره ، فقد يظهر من إطلاقهم اتحاده في الحكم ، لكن لا يخلو من نظر ، بل لولا الإجماع المزبور لم يخل أصل الحكم من نظر ، بناء على اقتضاء الكفالة التخيير بين الإحضار والمال ، فإنه إذا تعذر الأول يبقى الآخر فتأمل جيدا ، هذا كله في موت المكفول.

أما موت الكفيل فلا إشكال في بطلان الكفالة حينئذ بخلاف موت المكفول له. فإن الحق ينتقل إلى وارثه ، لعموم أدلة الإرث ، بعد أصالة بقاء الحق ، بل قد ذكرنا سابقا في الحوالة احتمال انتقال حق الكفالة بانتقال الدين ببيع أو حوالة ونحوهما ، وإن صرح الفاضل في القواعد وبعض شراح كلامه بعدم انتقاله كما ذكرنا ذلك سابقا.

وكذا يبرء الكفيل لو جاء المكفول وسلم نفسه للمكفول له عن‌

٢٠٥

الكفيل تسليما تاما أو سلمه أجنبي عنه كذلك ، وقبل المكفول له لذلك ، لحصول الغرض ، وعدم الدليل على اعتبار كون ذلك من الكفيل ، إذ ليس هذا الحق أعظم من الدين ، بل لا يبعد وجوب القبول لنحو ما سمعته منا في دفع الدين مع المتبرع كما عن الأردبيلي التصريح به هنا.

بل لعله ظاهر المتن وغيره عدا الفاضل في محكي التذكرة ، وبعض من تبعه فإنه صرح بعدم وجوب القبول عليه ، إلا أن يكون عن إذن الكفيل ، لعدم وجوب قبض الحق إلا ممن عليه ، وفيه نظر ولو سلم نفسه أو الأجنبي لا عن الكفيل ففي موضع من محكي التذكرة عدم البراءة ، وعن موضع آخر منها إطلاق البراءة ، واستجوده في المسالك ولكن لا يخلو من إشكال كما عرفته سابقا في كفالة الاثنين.

فرع : لو قال الكفيل : أبرأت المكفول ، فأنكر المكفول له كان القول قوله مع يمينه لأصالة بقاء الحق بعد اعترافه بثبوته سابقا ، كما هو مقتضى دعوى الإبراء فلو رد اليمين على الكفيل ، فحلف برء من حق الكفالة لكن لم يبرأ المكفول من المال بيمين غيره ، فالدعوى بينه وبين المكفول مستقلة ، فله اليمين على المكفول له لو ادعى عليه الإبراء ، ولا يكتفى باليمين التي حلفها للكفيل ، كما أن له رد اليمين على المكفول ، فإذا حلف برء حينئذ.

نعم لو فرض سبق دعوى الإبراء من المكفول فحلف اليمين المردودة برء هو وكفيله ، وإن كان قد حلف المستحق أولا للكفيل على عدم الإبراء لسقوط الحق بيمين المكفول فتسقط الكفالة ، كما لو أدى الحق وعدم بناء أحد منهم الحكم في شي‌ء من ذلك هنا ، على كون اليمين المردودة كالبينة أو الإقرار يقتضي كونها أصلا برأسه.

المسألة السابعة : لو كفل الكفيل آخر وترامت الكفلاء ، جاز الكفالات وصح بلا خلاف ولا إشكال ، لوجود مقتضي الكفالة ، ولو أقال المستحق الكفيل الأول برؤا أجمع ، وكذا لو أحضر الأول منهم المكفول لأنهم فروعه ، ولو أقال أحدهم برء هو ومن بعده دون من قبله ، كما أنه لو مات يبرء من كان فرعا له ، ولو مات الأول برؤا أجمع ، وليس للمكفول له مطالبة ورثة الكفيل الأول ، وإن احتمل ، لكنه في غير‌

٢٠٦

محله ، ولو مات المكفول برؤا أجمع أيضا ولا يتوهم من صحة تراميها صحة دورها كما في الضمان والحوالة ، لأن حضور المكفول الأول يوجب براءة من كفله ، وإن تعذر فلا معنى لمطالبته بإحضار من كفله كما هو واضح.

المسألة الثامنة : لا تصح كفالة المكاتب المشروط عند الشيخ بناء على أصله المتكرر من عدم لزوم مال الكتابة عليه ، لجواز تعجيزه نفسه ، وفيه ما عرفت من منع ذلك أولا. ومن عدم اقتضائه الفساد ثانيا ، ولذا قال المصنف على تردد بل في المسالك « ونزيد هنا أنه إما عبد أو مديون وكلاهما مجوز للكفالة ، وموجب للإحضار » وهو مبني على ما سمعته سابقا من الفاضل من جواز كفالة العبد. إلا أنك قد عرفت تقييده له بالآبق ، بل ظاهر المحكي عن غيره اعتبار اعتياد الإباق وقد عرفت النظر في أصل صحة الكفالة في ذلك ، وإن كان لا يخلو من وجه باعتبار كونه مكلفا مستحقا عليه الحضور ، بخلاف الدابة ونحوها من الأموال.

المسألة التاسعة : لو كفل برأسه أو بدنه أو بوجهه أو نحو ذلك صح لأنه قد يعبر بذلك عن الجملة عرفا بلا خلاف أجده إلا من ثاني الشهيدين تبعا لمحتمل المحقق الثاني ، قال : « لأن العضوين المذكورين وإن كانا قد يطلقان على الجملة ، إلا أن إطلاقهما على أنفسهما خاصة شائع متعارف إن لم يكن أشهر ، وحمل اللفظ المحتمل لمعنيين على الوجه المصحح مع الشك في حصول الشرط ، وأصالة البراءة من لوازم العقد غير واضح ، نعم لو صرح بإرادة الجملة من الجزئين اتجهت الصحة كما أنه لو قصد الجزء بعينه لم يكن الحكم كالجملة قطعا ، بل كالجزء الذي لا يمكن الحياة بدونه ، وبالجملة فالكلام عند الإطلاق وعدم قرينة تدل على أحدهما فعند ذلك لا يصح التعليل بأنه قد يعبر بذلك عن الجملة ».

وفيه أن المراد من التعليل المزبور بيان صحة الإطلاق المزبور المراد منه ذلك قطعا في عقد الكفالة ، ولو باعتبار تعارف التعبير به مريدا به الجملة فيها ، أو بيان الاكتفاء في الحمل على الوجه الصحيح ، لأصالة الصحة وغيرها بقابلية اللفظ لذلك بخلاف ما إذا لم يكن قابلا ، وعلى هذا أو الأول يحمل كلام الأصحاب.

٢٠٧

نعم الحق بهما الفاضل في محكي التحرير والتذكرة الكبد والقلب ونحوهما من الأعضاء التي لا يمكن الحياة بدونها والجزء المشاع كالثلث والربع وغيرهما ، ونظر فيه في القواعد من عدم السريان كالبيع ، ومن عدم إمكان إحضار الجزء إلا بالجملة فيسري ، وفي جامع المقاصد « لقائل أن يقول : إن إحضاره وإن كان غير ممكن بدون إحضار الجميع لا يقتضي الصحة ، لأن الإحضار فرع الكفالة ، والمطلوب إنما هو صحة الكفالة ، وإحضار ذلك العضو ، وحيث أن صحتها إنما تكون بكفالة المجموع لم تصح هنا ، إذا المتكفل به ليس هو المجموع ، ولا ما يستلزمه ، وإن كان حكم الكفالة وهو إحضار ذلك العضو غير ممكن إلا بإحضار المجموع ، والعقود أسباب متلقاة من الشارع فلا بد في صحتها من النص ، مع أن التعبير بذلك عن الجملة غير متعارف » وتبعه على ذلك في المسالك ، بل قال : « وحينئذ فعدم الصحة أوضح ».

وفيه أن المراد بالاكتفاء في موضوع الكفالة الذي هو المجموع ملاحظته ولو بعنوان المقدمة لما هو المذكور في عقدها ، ولا يبعد الاكتفاء به ، لإطلاق الأدلة بل لو كان المقصود من ذلك إرادة الجملة صح ، وإن لم يتعارف التعبير به عنها ، لعدم اشتراط نحو ذلك في متعلق العقد ، بل يكفي فيه إرادته من اللفظ بالعربية ، وإن لم يجر على قانون اللغة ، ولكن مقتضى ذلك أنه لا يتم قول المصنف ولو تكفل بيده أو رجله واقتصر ، لم يصح ، إذ لا يمكن إحضار ما شرط مجردا ولا يسرى إلى الجملة بل هو المحكي عن المبسوط ومن تأخر عن المصنف.

نعم في القواعد وجهان وفي المسالك لا يبعد القول بالصحة ممن يقول بها فيما سبق ، اللهم إلا أن يقال : إن الوجه في ذلك عدم معلومية ملاحظة الجملة ، ولو بعنوان المقدمة ضرورة إمكان انفصالهما مع بقاء الحياة ، فلا يتيقن إرادة موضوع الكفالة ، لعدم القرينة بخلاف الأول الذي لا يمكن التعيش بدونه ، إذ احتمال الإتيان بهما بعد موته مناف لأصل موضوع الكفالة المفروض ملاحظتهما إياه ، فلو فرض حصول قرينة في محل البحث على ملاحظة الإتيان بالجملة مقدمة لذلك ، أمكن الإكتفاء فيها بذلك لنحو ما عرفت ، أو يقال : إن الوجه في فرق الأصحاب بينه وبين الأول هو صحة التعبير‌

٢٠٨

بالأول عن الجملة ، فيكفي أصل الصحة حينئذ في الحكم بإرادتها منه ، بعد فرض عدم صحة التعبير لها عن الجملة بل لا بد من التصريح بذلك ، أو بقرينة اخرى ، فيكفي حينئذ ، وإن كان غلطا لما عرفت والله العالم والمؤيد والموفق والمسدد. وقد تم والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

٢٠٩

كتاب الصلح

الذي قد دل على شرعيته بالخصوص ، الكتاب والسنة والإجماع من المسلمين قال الله تعالى (١) ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) وقوله (٢) ( فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ) وقوله (٣) ( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما ) وقوله (٤) ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) وقوله (٥) ( فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ ) وقوله (٦) ( أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ ) وإن كان في دلالة ما عدا الأول على الصلح العقدي الذي عند الأصحاب تأمل ، بل قيل : والأول ، وفي النبوي المروي في طرق العامة ومرسلا في الفقيه (٧) « الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا ».

وفي خبر حفص بن البختري (٨) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « الصلح جائز بين المسلمين ».

وفي آخر عنه (٩) عليه‌السلام أيضا « في الرجل يكون عليه الشي‌ء فيصالح فقال : إذا كان بطيبة نفس من صاحبه فلا بأس ».

__________________

(١) سورة النساء الآية ـ ١٢٨ ـ.

(٢) سورة الأنفال الآية ـ ٨ ـ.

(٣) سورة النساء الآية ـ ٣٥ ـ.

(٤) سورة الحجرات الآية ـ ٤٩ ـ.

(٥) سورة الحجرات الآية ـ ٤٩ ـ.

(٦) سورة النساء الآية ـ ١٤ ـ.

(٧) الوسائل الباب ٣ ـ من أبواب أحكام الصلح الحديث ـ ٢ ـ.

(٨) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الصلح الحديث ـ ١ ـ.

(٩) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الصلح الحديث ـ ٣ ـ.

٢١٠

وفي ثالث (١) عنه عليه‌السلام أيضا « سألناه عن الرجل يكون عنده مال لأيتام فلا يعطيهم حتى يهلكوا ، فيأتيه وارثهم ووكيلهم فيصالحه على أن يأخذ بعضا ويدع بعضا ويبرأه مما كان عليه أيبرأ منه؟ قال : نعم » إلى غير ذلك من النصوص الدالة على كونه عقدا مستقلا بنفسه ، لا يتوقف على سبق خصومة ، مثل البيع وغيره من العقود.

وإن كان هو في الأصل عقد شرع لقطع التجاذب والتنازع بين المتخاصمين إلا أن ذلك فيه من الحكم التي لا يجب اطرادها مثل المشقة في حكمة القصر ، ونقصان القيمة في الرد بالعيب ، واستبراء الرحم للعدة ، وغيرها من الحكم التي لا تقتضي تخصيصا أو تقييدا لعموم الدليل أو إطلاقه المقتضى ثبوت الحكم في غير محلها ، فضلا عن خصوص الأدلة من السنة المستفيضة أو المتواترة والإجماع بقسميه ، كما هو واضح.

وإن أطنب فيه في المسالك وغيرها ، حتى أن بعضهم التجأ إلى دعوى أنه وإن كان شرع في قطع الخصومة ، إلا أنه لا دليل على اشتراطها فيه ، بل الأصل عدم ذلك. وآخر إلى غير ذلك مما لا حاجة إليه بعد ما عرفت ولا إلى ما قيل : ـ من أنه ربما يشعر لفظ الصلح بتحقق منازعة ، لكن لا يتعين كونها سابقه ، بل يصح إطلاقه بالإضافة إلى دفع منازعة متوقعة محتملة ، وإن لم تكن سابقه ، كما يفصح عنه آية النشوز (٢) فاشتراط السبق في مفهومه غفلة واضحة.

نعم لا تساعد الأخبار المتقدمة على الدلالة على المشروعية حيث لا منازعة سابقه ولا متوقعة ولكن يمكن الذب عنه بعدم القائل بالفرق بين الأمة فكل من قال : بالمشروعية لدفع منازعة وإن لم تكن سابقه كما دل عليها إطلاق الاخبار المذكورة قال بها في الصورة المزبورة التي لم تكن فيها منازعة سابقه ولا متوقعة ، ـ إذ فيه أن المراد بلفظ الصلح الواقع في إيجاب العقد إنشاء الرضا بما توافقا واصطلحا وتسالما عليه فيما بينهما ، لا أن المراد به خصوص الصلح المتعقب للخصومة مثلا كما هو واضح.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب أحكام الصلح الحديث ـ ١ ـ.

(٢) سورة النساء الآية ١٢٨.

٢١١

وعلى كل حال فـ ( ليس ) هو عندنا فرعا على غيره من العقود وان أفاد فائدته بل في التذكرة وعن السرائر الإجماع عليه ، وهو الحجة ، مضافا إلى ظهور الأدلة السابقة أو صريحها في عدم فرعيته بل بعض موارده المصرح بها في بعض النصوص لا يصلح لأن يكون موضوعا لغيره ، على أن إفادة عقد مفاد آخر لا يقتضي الاتحاد معه على وجه تلحقه أحكامه ، وإلا لاقتضى اتحاد الهبة مثلا بعوض معلوم مع البيع ، وهو واضح البطلان ، فإن الأحكام الشرعية تتبع عناوينها ، فكل حكم ثبت لموضوع خاص منها لا يثبت لغيره من تلك الحيثية.

نعم لا بأس بثبوته من دليل آخر ، فما عن الشيخ ـ تارة أنه بيع مطلق ، وأخرى ما عن الشافعي ، من أنه فرع له إذا أفاد نقل العين بعوض معلوم ، وللإجارة إذا وقع على منفعة معلومة بعوض معلوم ، وللعارية إذا تضمن التسلط على منفعة بغير عوض ، وللهبة إذا تضمن ملك العين بغير عوض ، وللإبراء إذا تضمن إسقاط دين ـ لا وجه له ضرورة فرض عدم القصد به شيئا منها ، وإلا كان باطلا لعدم وقوع البيع والهبة مثلا بلفظ الصلح ، ولا دليل على ثبوت أحكامها له إذا أفاد فائدتهما ، على أنه لا يتم فيما ثبت بالنصوص من موضوع الصلح الذي لا يندرج في شي‌ء من المذكورات كما لا يخفى على من لاحظها ، بل الاتفاق فتوى ورواية هنا على عدم اشتراط المعلومية في المصالح عليه في الجملة ، بخلاف البيع.

وكيف كان فلا خلاف بيننا في أنه يصح مع الإقرار والإنكار بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى العمومات. نعم المراد من الصحة ـ مع الإنكار ـ الظاهرية بمعنى أنه يجرى عليه حكم الصحة ظاهرا لا في نفس الأمر ، فإن المدعي ـ دينا أو عينا أو منفعة مثلا وأنكره المدعى عليه ـ إن كان محقا لم يصح للمنكر ما بقي له من مال المدعي ، ـ سواء كان من الجنس أو لا ، وسواء عرف المالك قدر الحق أولا ، وسواء ابتدأ هو بطلب الصلح عن حقه أم لا ، لأنه ربما كان توصلا إلى أخذ بعض حقه ، بل لو فرض أنه صالحه عن العين مثلا بمال فهي بأجمعها حرام ، ولا يستثنى له منها مقدار ما دفع إليه من العوض ، لفساد المعاوضة في نفس الأمر ، إلا أن يفرض‌

٢١٢

رضا المدعي باطنا بالصلح عن جميع ماله في الواقع بذلك ـ وإن كان مبطلا لم يحل له ما دفعه إليه المنكر ، رفعا لدعواه الكاذبة وللضرر عن نفسه ونحو ذلك مما لا يتحقق معه التراضي المبيح لأكل مال الغير إلا مع فرض الرضا المزبور ، وإنما الحكم بالصحة بحسب ظاهر الشرع ، لاشتباه المحق من المبطل ، قال على بن أبي حمزة (١) « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : رجل يهودي أو نصراني كان له عندي أربعة آلاف درهم ، فهلك ، أيجوز لي أن أصالح ورثته ولا أعلمهم كم كان؟ فقال : لا يجوز حتى تخبرهم » وفي صحيح عمر بن يزيد (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إذا كان للرجل على الرجل دين فمطله حتى مات ، ثم صالح ورثته على شي‌ء ، فالذي أخذه الورثة لهم ، وما بقي فهو للميت يستوفيه منه في الآخرة ، فإن لم يصالحهم على شي‌ء حتى مات ولم يقض عنه فهو كله للميت يأخذه به ».

نعم في المسالك « لو كانت الدعوى مستندة إلى قرينة تجوزها ، كما لو وجد المدعي بخط مورثه أن له حقا على أحد أو يشهد له من لا يثبت بشهادته الحق ، ولم يكن المدعي عالما بالحال ، وتوجهت له اليمين على المنكر فصالحه على إسقاطها بمال أو على قطع المنازعة فالمتجه صحة الصلح في نفس الأمر ، لأن اليمين حق يصح الصلح على إسقاطها ، ومثله ما لو توجهت الدعوى بالتهمة ، حيث يتوجه اليمين على المنكر ولا يمكن ردها ».

لكن في جامع المقاصد في مفروض المسألة « ليس بعيدا من الصواب صحته ظاهرا وما في نفس الأمر تابع لصحة الدعوى وعدمها ، ويحتمل الصحة مطلقا ، لأن اليمين حق فيصح الصلح لاسقاطها ».

قلت : قد يناقش في الصحة ظاهرا في الأول بأنها غير متصورة بعد القطع بكون أحدهما مبطلا سواء كان المدعى أو المنكر ، والفرض كفايته في الفساد في نفس الأمر فكيف يجامع الحكم بالصحة في ظاهر الشرع ، اللهم الا أن يدعى أن مبنى شرعية‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الصلح الحديث ٢ ـ ٤ مع اختلاف يسير.

(٢) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الصلح الحديث ـ ٢ ـ ٤ ـ مع اختلاف يسير.

٢١٣

الصلح على ذلك ، فيحكم حينئذ بالصحة عليه ظاهرا ما دام الواقع مشتبها ، ولم يعلم المبطل منهما بعينه ، فيجب على المصالح دفع ما وقع عليه الصلح من العوض ، كما أنه لا يجوز للمصالح بالكسر الدعوى بما وقع الصلح عنه ، وإن كان هذا الصلح لا يبيح للمبطل منهما الشي‌ء في نفس الأمر ، ولذا لو انكشف الحال بعد الصلح بإقرار عمل عليه ، حكم بفساد الصلح في الظاهر أيضا ، وهل البينة كالإقرار في ذلك وجهان هذا وقد تقدم في التحالف في كتاب البيع ما يستفاد منه ان القطع بالواقع في الجملة لا ينافي إجراء الحكم في الظاهر تبعا لمؤثريته ، وكذا قد يناقش في الصحة في نفس الأمر في الثاني بأن المتجه عليه حلية ذلك له ، حتى لو انكشف الحال بعد ذلك ، ولا أظن القائل يلتزمه ، ولعله لذا جعل الصحة في الواقع في جامع المقاصد تابعة لصحة الدعوى في نفس الأمر وعدمها ، وكون اليمين حقا يصح الصلح على إسقاطه ، لا ينافي اعتبار المراعاة فيه بما إذا لم ينكشف الواقع ، وإلا جرى الحكم على ما في الواقع.

نعم ما دام الواقع مشتبها في نفسه يحكم بملكيته العوض مثلا ويحل التصرف فيه ونحو ذلك ، ويمكن تنزيل مراد القائل بالصحة في نفس الأمر على ذلك ، لا أن المراد الصحة فيه مطلقا حتى لو بان الأمر بعد ذلك.

اللهم إلا أن يدعى ان ظهور الأمر بعد ذلك لا ينافي ثبوت الحق وقت الصلح الذي قد وقع على إسقاطه ، وهو كاف في الصحة في نفس الأمر وان انكشف الحال بعد ذلك.

ولكنه كما ترى ، على أنه لا يتم فيما لو فرض انكشاف الحال بصحة دعوى المدعي ، فإن المال حينئذ في يد المنكر باق على ملك المدعي الذي قد صولح على إسقاط ماله من حق اليمين ، ولم يحصل منه ما يقتضي انتقال المال إلى المنكر ، لأن الفرض عدم حصول الرضا منه بالمعاوضة عليه ، وبالجملة يمكن أن يقال : إن الصلح في قطع الدعوى كاليمين من المنكر الذي قد يدعى أنها من أقسام المعاوضة شرعا أيضا وقد ذكروا أيضا فيه أنه ليس له المقاصة باطنا ، وإن كان هو لا يبيح المال في الواقع.

نعم لو أقر بعد ذلك أخذ بإقراره خاصة ، وفي البينة خلاف ، لصحة عدم‌

٢١٤

الالتفات إليها ، فيمكن جعل الصلح القاطع للنزاع مثله في ذلك كله ، ضرورة كون المنشأ في ذلك كله إسقاط الدعوى واستيفاء المدعي عوضها اليمين ، ونحو ذلك مما يأتي مثله في الصلح فتأمل جيدا فإنه لا يخلو من نظر ، كما أنه لا يخلو حلية المال بمجرد كتابة المورث مثلا منه أيضا.

نعم قد يقال : بحلية ما دفع المتخلص من يمين التهمة باعتبار إيماء مشروعية اليمين لها بذلك ، ولو قلنا بمثله في كتابة المورث أمكن حليته لذلك.

وكيف كان فقد ظهر لك أن الصلح بين المسلمين جائز مع الإقرار والإنكار إلا ما أي صلحا أحل حراما كاسترقاق الحر واستباحة بضع المحرمات وشرب الخمر ، واللواط أو حرم حراما بأن لا يطأ حليلته ، أو لا ينتفع بماله ، أو نحو ذلك مما علم عدم جواز الصلح على اجتنابه ، وحينئذ فالاستثناء متصل ، ضرورة كون الصلح على مثل ذلك باطلا ظاهرا وباطنا ، وربما فسر أيضا بصلح المنكر على بعض المدعى به أو منفعته أو بدله مع كون أحدهما عالما ببطلان الدعوى كما سبق تحريره ، لكن الاستثناء حينئذ منقطع ، لما عرفت من الحكم بصحته ظاهرا ، وإنما هو فاسد في نفس الأمر ، والحكم بالصحة والبطلان إنما يطلق على ما هو الظاهر.

نعم بناء على ما عن الشافعي من عدم الصحة مع الإنكار يكون الاستثناء متصلا وربما كان ذلك هو الدليل له ، فإنه حينئذ محلل للحرام بالنسبة إلى الكاذب ، ومحرم للحلال بالنسبة إلى المحق ، الا أن فيه ما عرفت ، مضافا إلى عدم ظهور الخبر المزبور فيه ، بل يمكن أن يكون مراد الشافعي البطلان في نفس الأمر أيضا خاصة لا مطلقا وحينئذ يرتفع النزاع بيننا وبينه كما أنه يمكن دعوى الاتصال على ذلك أيضا ، بناء على ارادة البطلان في نفس الأمر من عدم الجواز في الخبر المزبور ، كما أنه يمكن إرادة جعل الصلح شارعا من الاستثناء ، بمعنى أن الصلح الباطل هو الذي يكون مضمونه تحليل ما حرم الله وبالعكس ، على وجه يكون به الحل والحرام ، إلى غير ذلك من الوجوه المحتملة فيه ، والله العالم.

وكذا يصح الصلح مع علم المصطلحين بما وقعت المنازعة فيه ، ومع‌

٢١٥

جهالتهما به بلا خلاف فيه في الجملة ، بل في المسالك وغيرها الإجماع عليه ، لإطلاق الأدلة وخصوص‌ الصحيح (١) عن الباقر والصادق عليهما‌السلام « أنهما قالا في رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه ، لا يدرى كل واحد منهما كم له عند صاحبه فقال كل واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ، ولي ما عندي ، فقال : لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت به أنفسهما » ، ونحوهما الموثق (٢) والمناقشة ـ باحتمال كون مضمونها الإبراء ، لا الصلح ـ يدفعها فهم الأصحاب ذلك منها ، وظهور إرادة المعاوضة فيها ، وليست حينئذ إلا الصلح ، فلا إشكال حينئذ في الدلالة على المطلوب ، على أن الحاجة ماسة إلى تحصيل البراءة مع الجهل ، ولا وجه إلا الصلح.

نعم لو كان أحدهما عالما به دون الآخر لم يصح الصلح في نفس الأمر بل لا بد من الإعلام بالقدر إن كان الجاهل المستحق ، كما سمعته في خبر أبي حمزة ، (٣) أو كان المصالح به قدر حقه مع فرض عدم تعينه ، ومع ذلك فالعبرة بوصول الحق لا بالصلح.

نعم لو فرض الرضا الباطني على كل حال صح كما عرفته فيما تقدم ، وإن كان العالم ، المستحق ، لم يصح الصلح بزيادة عن الحق بل بقدره فما دون عكس الأول إلا مع فرض الرضا المزبور الذي يمكن استفادة حكمه ـ مضافا إلى (٤) عموم « تسلط الناس على أموالهم ـ » من‌ الصحيح (٥) عن الصادق عليه‌السلام « في الرجل يكون عليه الشي‌ء فيصالح؟ فقال : إذا كان بطيبة نفس من صاحبه فلا بأس » وغيره بناء على إرادة الصلح بالأنقص كما هو الغالب ، مع عدم اعلامه بالحال ، والحكم في ذلك كله واضح ، بل الظاهر عدم اعتبار المنازعة في ذلك ، إذ الحكم المزبور يأتي في مطلق التصالح وإن لم تكن منازعة مع علمهما وجهلهما كوارث تعذر علمه بمقدار حصته ، وشريك امتزج ماله بمال الآخر بحيث لا يتميز ولا يعلمان قدر ما لكل منهما ونحو ذلك ، بل في المسالك‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الصلح الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الصلح الحديث ٣.

(٣) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الصلح الحديث ٢.

(٤) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ من الطبعة الحديثة.

(٥) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الصلح الحديث ـ ٣.

٢١٦

« ولو كان جهلهما بالقدر لتعذر المكيال والميزان ومست الحاجة إلى نقل الملك فالأقرب الجواز وهو خيرة الدروس ».

قلت : بل في التذكرة : لا يشترط العلم بما يقع الصلح عنه لا قدرا ولا جنسا بل يصح الصلح سواء علما قدر ما تنازعا عليه وجنسه أو جهلاه دينا كان أو عينا وسواء كان إرثا أو غيره عند علمائنا أجمع » إطلاقه ـ كما في المتن وغيره ، بل والنصوص كما اعترف به في الرياض ـ يقتضي عدم الفرق في الصحة بين كون المصالح عنه مما يتعذر معرفتهما له مطلقا أو لا ، أمكن معرفته في الحال أم لا ، لعدم مكيال أو ميزان ونحوهما من أسباب المعرفة بل لا خلاف في الأولى على ما قيل ، لاتفاق الأدلة نصا وفتوى عليها ، مضافا إلى أن إبراء الذمة أمر مطلوب ، والحاجة إليه ماسة ، ولا طريق إليه إلا الصلح ، فلا إشكال فيها ، وكذا في الثالثة عند جماعة كالشهيدين والفاضل المقداد لتعذر العلم به في الحال مع اقتضاء الضرورة ومساس الحاجة لوقوعه ، والضرر بتأخيره وانحصار الطريق في نقله فيه مع تناول الأدلة السابقة له ، ومن هذا القبيل أيضا الصلح على نصيب من ميراث أو عين يتعذر العلم بقدره في الحال ، مع إمكان الرجوع في وقت آخر إلى عالم به ، مع مسيس الحاجة إلى نقله في الحال.

نعم والرياض يشكل في الثانية من عموم الأدلة بالجواز المعتضدة بإطلاقات عبائر كثير من الأصحاب ، ومن حصول الجهل والغرر فيها الموجبين للضرر بالزيادة والنقيصة مع إمكان التحرز عنهما ، ولذا قيد في المسالك وغيرها الصحة بما إذا تعذر تحصيل العلم بالحق والمعرفة بالكلية ، ثم قال : وهو حسن ، إما لترجيح عموم أدلة النهي عن الغرر أو لتعارضهما مع عموم جواز أدلة الصلح مع عدم مرجح للثانية ، فلا بد من المصير حينئذ إلى حكم الأصل ، وهو الفساد وعدم الصحة ، مضافا إلى إمكان ترجيح أدلة النهي عن الغرر باعتضادها بالاعتبار ، ورجحانها عند الأصحاب على أدلة الصحة في كثير من المعاملات المختلفة كالبيع والإجارة ونحوهما من المعاملات المختلفة.

وفيه أولا : منع العموم في المعتبر من أدلة النهي عن الغرر ، فضلا عن ترجيحه أو معارضته لعموم الصلح والرجوع إلى أصالة الفساد إذ لم نعثر في المعتبر منها إلا‌

٢١٧

على النهي عن الغرر (١) في البيع الملحق به الإجارة بالإجماع.

على أن إطلاق النصوص السابقة ـ ومعقد إجماع التذكرة المعتضد بإطلاق المتن وغيره من عبارات الأصحاب كما اعترف هو بذلك كله ـ كاف في تخصيص أدلة الغرر ، بل‌ قوله (٢) في الصحيحين « إذا تراضيا بذلك وطابت أنفسهما » ظاهر إن لم يكن صريحا في أن المدار في الصحة على ذلك ، ولو مع الجهل الذي يمكن زواله ، كظهور الحكم بالصحة في الصورتين الأوليين في ذلك أيضا عند التأمل ، خصوصا الثانية منهما ، ضرورة عدم صلاحية التعذر في الحال مع مسيس الحاجة إلى النقل الممكن بالهبة المعوضة ونحوها لارتفاع حكم الشرطية أو المانعية بعد فرض عدم الدليل بالخصوص ، والا لاقتضى ذلك في البيع ، وهو واضح الفساد ، على أن ترجيح أدلة الغرر بما سمعت يقتضي كون مدخليته هنا نحو ما في البيع والإجارة الذي لا فرق في مانعيته فيهما بين التعذر مطلقا وفي الحال وعدمه ، ومسيس الحاجة مع عدم رجوعه إلى نفي الحرج في الدين لا يؤثر أثرا ، ودعوى إرادة ذلك منه ممنوعة ، ولو سلمت لم تقتض اختصاص الصلح بذلك ، بعد الإغضاء عن أصل جريان نفي الحرج في المقام ، فالأقوى حينئذ الصحة مطلقا ، إلا الجهالة التي لا تؤل إلى علم ، للإبهام ، بل الظاهر عدم الفرق في ذلك بين المصالح به ، والمصالح عنه ، كما هو مقتضى الصحيحين السابقين وغيرهما من الأدلة السابقة ، فما عن الشافعي ـ من عدم جواز الصلح على المجهول مطلقا بل ظاهره المفروغية من اعتبار العلم بالمصالح به ، ولذا احتج به على اعتباره في المصالح عنه أيضا بالقياس عليه ـ واضح الفساد ، وكذا ما في الدروس « من أن الأصح اشتراط العلم في العوضين إذا أمكن ، إلى أن قال : ولو تعذر العلم بما صولح عليه جاز كما في وارث يتعذر علمه بحصته ، وكما إذا امتزج مالاهما بحيث لا يتميز ولا تضر الجهالة ، ورواية منصور بن حازم (٣) تدل عليه ، ولو كان تعذر العلم لعدم المكيال‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب آداب التجارة الحديث ـ ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الصلح الحديث ـ ١ ـ وذيله.

(٣) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الصلح في ذيل الحديث ـ ١.

٢١٨

والميزان في الحال ومساس الحاجة إلى الانتقال فالأقرب الجواز » فإنه لا يخفي عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه ، كما أنه لا يخفي عليك اقتضاء ما ذكرناه عدم الفرق في الصحة بين العلم في الجملة بالوصف أو المشاهدة وعدمه أصلا ، فما عن الأردبيلي من الموافقة على عدم اعتبار ما يعتبر في البيع من المعلومية ، ولكن يعتبر فيه العلم في الجملة ، إما بالوصف أو المشاهدة ـ محل للنظر أيضا بل المنع ، نعم قد يقال : بالمنع مع الجهل الذي لا يؤول إلى علم ، لإبهامه كما ستعرف إنشاء الله ، لعدم صلاحيته للنقل والانتقال.

وكيف كان فـ ( هو ) أي عقد الصلح بناء على ما قلناه من كونه أصلا برأسه لازم من الطرفين مع استكمال شرائطه بلا خلاف ، لعموم ( أَوْفُوا ) (١) وغيره من أدلة اللزوم التي سمعتها في غيره من العقود نعم يجي‌ء ملحق به على قول الشيخ الجواز في بعض موارده ، كما إذا كان فرع العارية أو الهبة على بعض الوجوه ، بناء على أن مراده لحوقه حكم ما أفاد فائدته ، أما على المختار فليس إلا على اللزوم ، إلا أن يتفقا على فسخه بالإقالة الشامل دليلها له ولغيره ، كما عرفته هناك والله العالم.

وإذا اصطلح الشريكان عند انتهاء الشركة ، وإرادة فسخها أو مطلقا ، على ما ستعرف على أن يكون الربح والخسران على أحدهما ، وللآخر رأس ماله صح بلا خلاف في الجملة فيه ، للمعلومات ، وخصوص المعتبرة منها‌ الصحيح (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في رجلين اشتركا في مال فربحا فيه ربحا وكان من المال دين وعليهما دين فقال أحدهما لصاحبه أعطني رأس المال ولك الربح وعليك التوى ، فقال : لا بأس إذا اشترطا ، فإذا كان شرطا يخالف كتاب الله عز وجل فهو رد إلى كتاب الله عز وجل » ونحوه‌ الآخر (٣) عنه أيضا إلا أنه قال : « كان من المال دين وعين » ولم يقل وعليهما دين. وكذا‌ الثالث (٤) إلا أنه قال : « وكان المال دينا » ولم يذكر العين ولا « عليهما دين » والرابع (٥) إلا أنه قال : « كان المال دينا وعينا ».

__________________

(١) سورة المائدة الآية ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الصلح الحديث ـ ١ ـ وذيله.

(٣) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الصلح الحديث ـ ١ ـ وذيله.

(٤) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الصلح الحديث ـ ١ ـ وذيله.

(٥) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الصلح الحديث ـ ١ ـ وذيله.

٢١٩

قيل : وليس في شي‌ء منها كالعبارة وما ضاهاها من عبائر الجماعة عموم الحكم بالصحة لصورة اشتراط ذلك في عقد الشركة أو بعده ، وإن لم يرد القسمة لظهور سياق الرواية فيما قيدنا به العبارة من تعقب القول بأن الربح والخسران لأحدهما ورأس المال للآخر للشركة وحصوله بعدها ، وبعد إرادة القسمة لقوله « فربحا فيه ربحا » و « أعطني رأس المال » وليس‌ في قوله « إذا اشترطا » منافاة لذلك ، لاحتمال أن يكون المراد منه إذا تراضيا رضا يتعقب اللزوم بوقوعه في عقد لازم ، كعقد صلح ونحوه ، وليس المراد إذا اشترطا في عقد الشركة كما توهم ، لاختصاصه حينئذ بنفي البأس في صورة وقوع الشرط فيه ، بل دلالته بمفهوم الشرط على ثبوته مع وقوعه في غيره ظاهرة ، ولا قائل بهما فتعين كون المراد ما ذكرنا ، ووجه اشتراطه « عليه‌السلام » ذلك خلو السؤال عن بيان رضا الآخر ، وإنما غايته الدلالة على صدور القول من أحدهما ، ونحوها العبارة في عدم العموم للصورة المذكورة ، لأن اشتراط ذلك فيها لا يسمى صلحا ، بل اشتراطا.

قلت : أول من تنبه لذلك الشهيد في الدروس فقال : « لو اصطلح الشريكان عند إرادة الفسخ على أن يأخذ أحدهما رأس ماله ، والأخر الباقي ، ربح أو توى جاز ، للرواية الصحيحة ، ولو جعل ذلك في ابتداء الشركة فالأقرب المنع ، لمنافاته موضوعها والرواية لم تدل عليه » ثم تبعه ثاني المحققين وثاني الشهيدين ، إلا أن الأخير منهما صرح بأن إطلاق العبارة يقتضي التعميم ، كما أن المحدث البحراني صرح بظهور النصوص في وقوع ذلك في أثناء الشركة وإن بقيت مستمرة ، بل جعل ذلك ظاهر إطلاق العبارات.

والتحقيق في المسألة أن يقال : إنه إن كان المراد مما في النص والفتوى كون هذا الصلح جاريا على مقتضى عموم ما دل على مشروعيته ، وغير محتاج إلى دليل بالخصوص ، وإنما النصوص المخصوصة مؤكدة لذلك ـ كما يومي اليه استدلال الفاضل في التذكرة عليه أولا بالعموم ، ضرورة صحة الصلح من أحد الشريكين عما يستحقه في الأعيان المشتركة بالمقدار المساوي لرأس ماله في ذمة الشريك الأخر ، وحينئذ‌

٢٢٠