جواهر الكلام - ج ٢٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

على رجلين ألف ولرجل عليه ألف ، فأحاله بها على الرجلين وقبل الحوالة كان جائزا ، فإن كان كل واحد منهما ضامنا عن صاحبه فأحاله عليهما لم تصح الحوالة ، لأنه يستفيد بها مطالبة الاثنين كل واحد منهما بالألف ، وهذا زيادة في حق المطالبة بالحوالة ، وذلك لا يجوز ثم قال ـ وقيل : يجوز له أن يطالب كل واحد منهما بالألف ، فإذا أخذه بري‌ء الآخر وهذا قريب » وأورد عليه في المختلف بأن الضمان عندنا ناقل ، فإذا ضمن كل واحد منهما نصف الألف عن صاحبه فلا يخلو المضمون له ، إما إن يرضى بضمانهما معا أو بضمان أحدهما خاصة ، أو لا يرضى بشي‌ء منهما ، فإن رضي بهما معا أو لم يرض بشي‌ء منهما ، لم يكن له مطالبة كل واحد منهما بأكثر من النصف ، أما على تقدير عدم الرضا فظاهر ، وأما على تقديره فلانتقال ما في ذمة كل منهما إلى الآخر ، فيبقى كما لو لم يكن ضمان ، وليس له على تقدير الرضا مطالبة كل واحد منهما بالألف ، لأن الضمان عندنا ناقل ، وإنما يتأتى المطالبة على قول المخالفين ، لأن الضمان عندهم غير ناقل ، وأما إذا رضي بضمان أحدهما خاصة ، فإنه يطالبه بالألف خاصة ، وليس له على الآخر سبيل ».

قلت : يمكن حمل كلام الشيخ على إرادة الكفالة من الضمان ولعله إلى ذلك أشار المصنف بقوله إذا كان له دين على اثنين ، وكل منهما كفيل لصاحبه ، وعليه لآخر مثل ذلك ، فأحاله عليهما صح ، وإن حصل الرفق في المطالبة على معنى انتقال حق الكفالة بالحوالة ، ولا يقدح اقتضاؤها حينئذ حقا لم يكن في الدين الذي على المحيل ، لإطلاق أدلتها ، وحينئذ للمحتال المطالبة بحق الكفالة الذي قد يؤول بتعذر المكفول مثلا إلى المطالبة بالدين ، كما ستعرف إنشاء الله.

ومن الغريب ما في المسالك ، فإنه بعد أن ذكر نحو ما سمعته من المختلف مقدمة للمسألة : قال « الشيخ ذكر هذه المسألة في المبسوط ، وحكم فيها بعدم الصحة ، معللا بزيادة الارتفاق ، وهذا لا يتم إلا على القول إن الضمان بمعنى الضم ، كما قد بيناه ، إذ على تقدير النقل لم يستفد زيادة ارتفاق ، بل يبقى الحكم كما كان ، ومع ذلك فهو موضع نظر ، لأن هذا الارتفاق لا يصلح للمانعية ، والمعروف من مذهبنا هو‌

١٨١

النقل ، فالبحث كله ساقط ، والمصنف وافق الشيخ على تصوير المسألة التي لا تتم إلا على القول بالضم ، وهو لا يقول به ، وخالفه في الحكم ، وحكم بالصحة فيها منبها على أن الرفق المذكور غير مانع ، بقوله وإن حصل الرفق في المطالبة ».

والظاهر أن المصنف لم يذكر المسألة إلا على وجه التفريع ، والتنبيه على أن ما حكم به الشيخ لا يتم وإن بنى على ذلك الأصل ، نظرا إلى أن زيادة الرفق لا تمنع كما لو أحال على من هو أكثر ملاءة ، وأما ما ذكر الشيخ لها ، فيشعر بذهابه إلى كونه الضم ، إذ لا يتم إلا عليه ، والمصنف قد لوح في المسألة الخلاف في موضعين ، أحدهما قوله « على قول مشهور لنا » والآخر « على القول بانتقال المال » كما نبهنا عليه في الموضعين إذ هو كما ترى لا ينبغي صدوره منه ، فإن حمل كلام المصنف على ما ذكر مع عدم إشعار في شي‌ء من كلامه بذلك ، أشبه شي‌ء بالمعمى بل أعظم ، كما أن حمل كلام الشيخ على كون ذلك مذهبا له ـ وأن المصنف أشار الى ذلك بما سمعت ـ من الذي ينبغي الاستغفار منه ، على أن المذكور في كلام المصنف لفظ الكفالة التي لا داعي إلى إرادة الضمان. منها ، خصوصا بعد ما أومأ إلى وجه المنع ، بأن الحوالة لم يثبت من الشرع مقتضى لها إلا نقل المال إلى المحتال لا غير ، فترتب تعدد المطالبة لانتقال حق الكفالة بها مع أنه لم تنقل الا الدين الخالي عن ذلك ـ مما يمكن الشك فيه ، بل منعه ، ضرورة مساواته للمنع من تغيير جنس الدين ووصفه بها ، كما سمعته سابقا في اشتراط المساواة بل لعل المقام أولى باعتبار أن الكفالة قد كانت من حيث كون الأول صاحب الدين ، والغرض حصول الوفاء بالحوالة ، فترتفع الكفالة لا أنها تنتقل إلى آخر وكذا لو كان عليه رهن.

ولعله لذا جزم في القواعد ومحكي التذكرة والحواشي وجامع المقاصد بعدم انتقال حق الكفالة لو انتقل الحق عن المستحق ببيع أو إحالة وغيرها ، بخلاف الإرث وإن كان هو لا يخلو من نظر ، خصوصا مع التصريح بذلك ، وفرض رضى الكفيل ولعل ذلك كاف في تصوير مسألة المتن ، وإن كان الأصح خلافه ، لأن ذلك من موانع الدين الذي نقل بالحوالة ، لا من آثارها ومقتضياتها ، بل لعل الرهانة أيضا‌

١٨٢

كذلك للأصل وغيره والله العالم.

المسألة الثالثة : إذا أحال المشتري البائع مثلا بالثمن كله أو ببعضه ثم رد المبيع بالعيب السابق أو اللاحق في الثلاثة مثلا أو بالإقالة أو غير ذلك مما يقتضي الفسخ من حينه بطلت الحوالة عند الشيخ في المحكي عن المبسوط قيل : وإليه يرجع ما في الإيضاح ، وجامع المقاصد ، وعن مجمع البرهان أنه أقوى لأنها تتبع البيع في ذلك.

وفي القواعد بطلت إن قلنا أنها استيفاء ، فإذا بطل الأصل بطلت هيئة الإرفاق كما لو اشترى بدراهم مكسرة فأعطاه صحاحا ثم فسخ ـ فإنه يرجع بالصحاح ، وإن قلنا أنها اعتياض لم تبطل ، كما لو استبدل عن الثمن ثوبا ثم رد بالعيب ، فإنه يرجع بالثمن لا الثوب.

ولعله للتردد في ذلك قال المصنف وفيه تردد كما عن الإرشاد ، بل قيل : وكذا التحرير والتذكرة وغاية المراد وغيرها ، حيث لا ترجيح فيها لكن قد يقال : إن أصالة اللزوم وعقدها واستصحابه يقتضي عدم البطلان ، وهي من توابع البيع ، بمعنى أنها اقتضت الحوالة بالثمن الذي هو أحد أركانه ، لا من توابعه في البطلان ، إذ هي عقد مستقل برأسه ، وإن قلنا أنها استيفاء لكنه بعقد لازم ، فلا ينفسخ بانفساخ العقد ، بخلاف ما لو كان بدفع ونحوه ، من حيث إنه ليس عقدا مبنيا على اللزوم ، بل هو من توابع التملك بالبيع المفروض انفساخه ، فيتبعه ، بخلاف المفروض الذي قد حصل الملك به للدين بسبب آخر غير البيع ، وهو الحوالة فلا وجه لانفساخها بانفساخه بل دعوى كونها من التوابع بالمعنى المزبور من المصادرة حينئذ ، بل لا فرق في ذلك بين قبض المحتال ما أحيل به وعدمه ، وإن جعل النظر والاشكال في محكي التحرير فيما إذا رد قبل القبض ، وحينئذ فللمشتري الرجوع على البائع خاصة ، بل لو كان قابضا لا يتعين له المقبوض ، بل الظاهر أن للمشترى الرجوع على البائع ، وإن لم يقبض ، لأنها بحكم الوفاء بالنسبة إلى ذلك.

وإن استشكل فيه الفاضل في القواعد من أن الحوالة كالقبض ، ولهذا لا يحبس‌

١٨٣

البائع بعدها السلعة ، ومن أن التغريم للمقبوض ، ولم تحصل حقيقة ، بل قال فيها أيضا : فإن منعنا الرجوع فجعل له مطالبته بتحصيل الحوالة؟ إشكال من توقف مطالبته بحقه على ذلك ، ومن أن المال مال غيره ، والناس مسلطون على أموالهم ، وهذا حاصل ما أطنبوا في وجهه.

ولكن مقتضى أحد طرفي الإشكال الأول والثاني تعطيل حق المشتري إذا فرض توقف رجوعه على القبض الذي للبائع تأخيره وعدم المطالبة به لتسلط الناس على حقوقها ومن ذلك يعلم ان المتجه ثبوت الرجوع له وإن لم يقبض ، لأنها أي الحوالة بحكم الأداء بالنسبة إلى ذلك ، وليس له مطالبة المحال عليه ، لعدم الحق له ، هذا كله على تقدير الصحة.

وأما على تقدير البطلان فان لم يكن أي البائع قبض المال فهو باق في ذمته أي المحال عليه للمشتري لأن الفرض انفساخ البيع وانفساخها ، وليس للبائع بعد ذلك قبضه ، فلو فعل لم يقع عن المشتري ، لبطلان الاذن له في ذلك ، لبطلان الحوالة ، وإن احتمل بقاء الإذن الضمني وان بطلت كالوكالة والشركة ، ولكن مع كون الحكم في المقيس عليه ممنوعا كما تعرف في محله ـ قياس مع الفارق.

وإن كان البائع قد قبضه فقد برء المحال عليه للدفع بالاذن ، ويستعيده المشتري حينئذ من البائع فليس له رده على المحال عليه ، بلا خلاف أجده بين من تعرض له ، لكن قد يناقش بأن مقتضى بطلان الحوالة عود المال إلى صاحبه ، فلا يتوجه للمشتري حينئذ المطالبة به للبائع ، هذا كله في احالة المشتري للبائع بالثمن.

أما لو أحال البائع أجنبيا له عليه دين بالثمن ، على المشتري ، ثم فسخ المشتري بالعيب السابق أو بأمر حادث يقتضي الفسخ من حينه ، لم تبطل الحوالة بلا خلاف بل عن شرح الإرشاد للفخر ، الإجماع عليه لأنها تعلقت بغير المتبايعين والأصل فيها اللزوم فهو حينئذ كما لو اشترى بالثمن ثوبا فان فسخ البيع لا يقتضي استحقاق الثوب ولا فسخ عقد شرائه ، بل له مثل ثمنه أو قيمته.

١٨٤

ولو ثبت بطلان البيع من أصله لا من حينه بطلت الحوالة في الموضعين لظهور عدم اشتغال ذمة المحال عليه وإن قلنا بجواز الحوالة على البري‌ء ، فإن الفرض ارادة الحوالة عليه من حيث ثبوت الثمن في ذمته فهي حوالة على ما في ذمته لا عليه ، كما هو واضح ، فالمال المقبوض حينئذ ، باق على ملك المشتري وله الرجوع به مع تلفه على المحتال وعلى البائع ، والله العالم.

القسم الثالث

في الكفالة بالفتح ، ولا ريب في أنها من العقود الصحيحة ، بل في محكي التذكرة أنها كذلك عند عامة أهل العلم ، ولكنها مكروهة ، بها هلكت القرون الأولى وهي خسارة ، وغرامة وندامة ، والمعروف في تعريفها أنها عقد شرع للتعهد بالنفس ، والبحث في أنها نفس العقد ، أو أثره ، وفي خصوص الألفاظ والمعاطاة فيها على نحو ما تقدم في البيع وغيره ، وكذا اعتبار المقارنة بين إيجابها وقبولها ، والعربية ونحوها مما يعتبر في العقود اللازمة.

لكن في محكي التحرير زيادة غالبا ، ولعله لصحة كفالة الأعيان المضمونة عنده ، أو الأعيان التي يراد الشهادة على عينها كذلك ، كما صرح به بعضهم ، فجوز كفالة الدابة والكتاب وغيرهما ، للشهادة على أعيانها ، بل ربما احتمل ذلك في عبارة القواعد الآتية ، ولكن لا يخلو من نظر أو منع ، ضرورة الشك في تناول الأدلة لمثله ، والأصل عدم ترتب الآثار بل الظاهر اختصاص النفس بالآدمي لا الدابة ونحوها وفي محكي التذكرة الضابط في ذلك أن نقول حاصل كفالة البدن التزام إحضار المكفول ببدنه ، فكل من يلزمه حضور مجلس الحكم عند الاستعداء يستحق إحضاره بحق الكفالة ببدنه ، ونحوه عن المبسوط ، وظاهرهما اختصاص موردها بما ذكرناه.

ولكن في القواعد « تصح حالة ومؤجلة على كل من يجب عليه الحضور ، مجلس الحكم من زوجة يدعي الغريم زوجيتها ، أو كفيل يدعى عليه الكفالة ، أو صبي أو مجنون ، إذ قد يجب إحضارهما للشهادة عليهما بالإتلاف ، وبدن المحبوس لا مكان‌

١٨٥

تسلمه بأمر من حبسه ، ثم يعيده إلى الحبس ، أو عبد آبق أو من عليه حق الآدمي من مال أو عقوبة قصاص ـ الى أن قال ـ ولا يصح على حد الله تعالى ، والأقرب صحة كفالة المكاتب ومن في يده مال مضمون ، كالغصب والمستام وضمان الأعيان المغصوبة فإن رد برء ، وإن تلف ففي إلزامه بالقيمة وجهان ، الأقرب العدم ، كموت المكفول ، دون الوديعة ، والأمانة ، وتصح كفالة من ادعى عليه ، وإن لم يقم البينة بالدين ، وإن جحد ، لاستحقاق الحضور ، والكفالة ببدن الميت ، إذ قد يستحق إحضاره للشهادة على صورته » ولكن لا يخفى عليك النظر في جملة من ذلك.

وعن فخر الإسلام « الكفالة من مذهبنا إنما تصح بشرط أن يكون على المكفول للمكفول له حق شرعي ، والحق أعم من أن يكون دينا أو عينا ، وقيل : كل من يستحق إحضاره إلى مجلس الشرع فإنه تصح كفالته ».

قلت : فعلى الأخير وهو الصحيح تصح الكفالة بمجرد الدعوى ، دون الأول. وعلى كل حال فالمتيقن من مورد الكفالة التعهد بإحضار النفس المستحق عليها بذلك بسبب حق ولو دعوى المكفول له عليها نعم لا تصح في الحدود للإجماع المحكي عن التذكرة على ذلك ، ول‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المروي من طرق الخاصة والعامة (١) « لا كفالة في حد » وربما تسمع لبعض المسائل المزبورة في المباحث الآتية تتمة إنشاء الله.

ويتم عقدها بالإيجاب من الكفيل والقبول من المكفول له ، ومن هنا لم يكن اشكال بل ولا خلاف في أنه يعتبر رضا هما أي الكفيل والمكفول له بل الإجماع بقسميه مضافا إلى معلومية عدم الالتزام بحق من دون رضى الطرفين دون المكفول الذي هو بمنزلة المضمون عنه بالنسبة إلى ذلك عند المشهور.

بل عن التذكرة نسبته إلى علمائنا ، لعموم ( أَوْفُوا ) بعد تناول إطلاق الكفالة لذلك ، ولأن غاية الكفالة هي إحضار المكفول حيث يطلب ، ومن المعلوم أنه يجب الحضور عليه متى طلبه المكفول له بنفسه ، أو وكيله ، والكفيل بمنزلة الوكيل الذي لا يشترط في وكالته رضى الموكل عليه.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ١ ـ ٢.

١٨٦

وقد يناقش بمنع تناول إطلاق الكفالة المحتمل اعتبار رضى المكفول عنه في تحقق مسماها ، كرضى المكفول له ، وما في المسالك وغيرها ـ من أنه على تقدير اعتبار رضاه ليس على حد رضى الآخرين ، بل يكفى كيف اتفق نحو ما سمعته في المحال عليه ـ مجرد دعوى لا دليل عليها ولا استبعاد في دعوى تركيب عقدها من قبول الاثنين مع الإيجاب من الكفيل ، لا أقل من الشك في تناول الإطلاق ، فلا تندرج في ( أَوْفُوا ) والأصل عدم ترتب أثر الكفالة ، ولعله لذا كان المحكي عن الشيخ والقاضي وابني حمزة وإدريس اعتبار رضاه.

بل عن الفاضل في التحرير أنه قواه ، لا ما قيل ـ من الاستدلال له بأنه إذا لم يرض بها لم يلزمه الحضور مع الكفيل ، فلم يتمكن من إحضاره فلا تصح كفالته لأنها كفالة بغير المقدور ، وهذا بخلاف الضمان ، لإمكان وفاء دينه من مال غيره بغير اذنه ولا يمكن أن ينوب عنه في الحضور ـ إذ هو كما ترى مصادرة محضة ، مع أنه رده في المسالك وغيرها بأن مداره على عدم وجوب الحضور معه بدون رضاه ، وهو ممنوع لأن المستحق متى طلبه وجب عليه الحضور ، وإن لم يكن مكفولا إجماعا ، وفائدة الكفالة راجعة إلى التزام الكفيل بالإحضار حيث يطلبه المكفول له ، فإن طلبه منه لا يقصر عن توكيله ، وإن لم يطلبه لا يجب عليه الحضور معه وإن كان برضاه.

وإن كان قد يناقش بمعلومية زيادة حق في الكفالة على الوكالة التي هي غير لازمة للكفالة ، إذ الظاهر أنه متى تعلق حق الكفالة كان له إحضاره ، لإرادة البراءة من عهدته من دون طلب المكفول له ، كما عن التذكرة ، والتحرير ، وجامع المقاصد ، وابن المتوج الجزم به ، بل عن الكركي أنه قطعي ، وكأن الذي أوقعه في ذلك ما في القواعد « يجب على المكفول الحضور مع الكفيل إن طلبه المكفول له منه ، وإلا فلا إن كان متبرعا وإلا فكالأول ، مع أن المراد منها على الظاهر وجوب الحضور مع الكفيل وإن لم يطلبه المكفول له منه إذا كانت الكفالة بالإذن ، نعم لو كانت تبرعا لم يجب عليه الحضور ، إلا مع طلبه منه » فهو موافق لما قلناه في القسم الأول.

وأما الثاني ، فقد يناقش بأنه متى صحت الكفالة تبرعا لحقه حكمها وهو‌

١٨٧

وجوب الحضور مع الكفيل لو طلبه ، ولعله لان تكفيله يقتضي تسليطه عليه بالإحضار ، أو أن ذلك من أحكامها شرعا ، ولو لأن التكليف بالإحضار يقتضي تكليف الآخر ، بالحضور ، بل ربما يدعى ظهور أدلة الكفالة في ذلك فلاحظ وتأمل.

إذا تقرر هذا انحصر وجه المسألة حينئذ في أن رضى المكفول شرط ينفى مع الشك فيه بالإطلاق ، أو أنه من أركان العقد على وجه لا يتحقق الكفالة بدونه ، ولا أقل من الشك ، والأصل عدم ترتب الأثر ، ولعل الثاني لا يخلو من قوة.

ولا ينافيه عدم اعتبار رضى المحال عليه لو قلنا به ، ولا عدم اعتبار رضى المضمون عنه ، لإمكان الفرق بتعارف الحوالة على مشغول الذمة بدون رضاه ، على وجه لا شك في صدق اسم الحوالة عليها عرفا ، وبمعلومية جواز التبرع بالوفاء عن المديون ، وليس المقام من الثاني قطعا كما لا تعارف في كفالة الغائب على وجه تندرج في الكفالة بحيث تدخل في إطلاقها فتأمل جيدا.

وكيف كان فـ ( تصح حالة ومؤجلة على الأظهر بل لا خلاف ) في الثاني ، بل في الروضة أنه موضع وفاق على معنى الكفالة إلى شهر ، فيلزمه إحضاره بعد الشهر نحو الأجل في الدين وغيره أما لو قال : كفلته شهرا بمعنى التعهد به في ضمن الشهر ، فعن التحرير صحتها ، وسماها الموقتة ، ولعله لإطلاق الأدلة ، وعلى المشهور في الأول بل عن السرائر أنه حق اليقين خلافا للمحكي عن ظاهر الشيخين في المقنعة والنهاية وابن حمزة وسلار وعن القاضي في أحد قوليه ، بل عن الآبي في كشف الرموز الجزم به.

لكن لم نعرف لهم دليلا نخرج به عن إطلاق الأدلة المقتضي عدم الاشتراط ، كما قدمنا نظيره في الضمان ، بل قد تقدم عن ابن إدريس رحمه‌الله تأويل كلامهم على وجه يرتفع الخلاف به ، وما ذلك إلا لضعف القول به ، ودعوى ـ أن الكفالة لا بد لها من فائدة ، فلو شرعت حالة لكانت خالية عن فائدة ، إذ للمكفول له أن يطلب المكفول من الكافل وقت وقوع الكفالة من غير تربص ، وذلك يكون عبثا لا حاصل لها.

وحينئذ مع الإطلاق تكون صحيحة معجلة وإذا اشترط الأجل فلا بد أن يكون معلوما على وجه لا يختلف زيادة ونقصا ، بلا خلاف نجده فيه‌

١٨٨

بيننا ، بل لعل الإجماع بقسميه عليه في المقام ، وفي غيره من العقود اللازمة حتى القائل فيها للغرر كالصلح ونحوه ، وهو الحجة مضافا إلى قاعدة الغرر ، بناء على عمومها ، لمثل المقام ، وإلا كان الأول هو الحجة ، فما عن بعض العامة من جواز الجهالة في الأجل هنا قياسا على العارية واضح الفساد ، بعد بطلان القياس ، على أنه مع الفارق بالجواز فيها واللزوم هنا.

وكيف كان فلا اشكال ولا خلاف في أن للمكفول له ، مطالبة الكفيل بالمكفول عنه عاجلا إن كانت الكفالة مطلقة أو معجلة ، وبعد الأجل إن كانت مؤجلة ، فإن سلمه تسليما تاما بحيث ، يتمكن المستحق منه فقد برء مما عليه من حق الكفالة ، وإن لم يتسلمه منه سواء تمكن من الحاكم أو لا على الأصح بل الظاهر عدم اعتبار الاشهاد في ذلك ، إلا لإرادة الإثبات لو أنكر ، وإن كان قد يتوهم ذلك من المسالك وغيرها ، لكن لا دليل عليه.

وإن امتنع الكفيل عن ذلك كان له حبسه عن الحكم بل وعقوبته عليه حتى يحضره أو يؤدي ما عليه كما عن النهاية ، والسرائر ، والنافع ، والتحرير ، والإرشاد ، والمصنف والروضة ، قال الصادق عليه‌السلام في خبر عمار (١) « أتى أمير المؤمنين عليه‌السلام برجل قد تكفل بنفس رجل وقال اطلب صاحبك » وفي خبر الأصبغ ابن نباتة (٢) « قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل تكفل بنفس رجل أن يحبس ، وقال له : أطلب صاحبك ».

وفي خبر إسحاق بن عمار (٣) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « أن عليا عليه‌السلام أتي برجل كفل برجل بعينه فأخذ بالمكفول فقال احبسوه حتى يأتي بصاحبه ».

وفي خبر عامر بن مروان (٤) عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام « أنه اتي برجل قد كفل بنفس رجل فحبسه ، فقال : أطلب صاحبك » إلا أنها كما ترى ليس في شي‌ء منها التخيير بين الإحضار والأداء كما هو ظاهر الجماعة المقتضى وجوب القبول على‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ٣.

(٤) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ٤.

١٨٩

المستحق مع بذله ، بل الأول خاصة ، ومن هنا كان المحكي عن التذكرة وغيرها عدم وجوب القبول على المكفول له إذا بذل الكفيل له الحق ، لعدم انحصار الغرض فيه ، إذ قد يكون له غرض لا يتعلق بالأداء ، أو بالأداء من الغريم لا من غيره ، فله حينئذ إلزامه بالإحضار ، خصوصا مما لا بدل له ، كحق الدعوى ، أو في ذي البدل الاضطراري كالدية عوض القتل ، ومهر المثل عوض الزوجة ، واختاره في المسالك والرياض.

ولكن قد يناقش أولا بأن مبنى الكفالة عرفا على ذلك ، بل هو المقصود بين المتعاقدين بها.

وثانيا : بظهور‌ قول الصادق عليه‌السلام في مرسل الصدوق (١) « الكفالة ، خسارة غرامة ندامة » كقوله‌ في خبر داود البرقي (٢) مكتوب في التوراة « كفالة غرامة ندامة » في اقتضائها ذلك ، بل قد يشعر بذلك في الجملة حكم من أطلق غريما ، أو القاتل عمدا لكن ينافي ذلك كله ما تسمعه من تفسير خبري البقباق الآتيين.

وثالثا : بأن الظاهر اندراج التبرع بمساوئ الحق في الوفاء الذي يجب قبوله على المستحق ، وإن كان من غير من عليه الحق ، ودعوى اعتبار تشخيص المديون ذلك وفاء تقتضي عدم احتسابه وفاء حتى مع الرضا من المديون ، وهو مخالف للمقطوع به كدعوى اختصاص ذلك في حال التراضي ، التي لا مدرك لها بالخصوص ، بل ليست إلا لصدق وفاء الحق ، ووجوب قبول ذلك من بازله من غير فرق بين المديون وغيره وحينئذ فله التبرع بالوفاء المقتضي سقوط الحق الذي تسقط الكفالة بسقوطه ، وإن لم نقل إن ذلك من مقتضياتها.

نعم إنما يتم ذلك في الدين ونحوه أما فيما لا بدل له ، أو له بدل اضطراري فلا يجب عليه القبول ، اللهم إلا أن يقال في مقام حصول الضرر بالتخليد بالحبس ونحوه ، ينقله الحاكم إليه أو الى ما يقتضي ارتفاع مثل هذا الضرر به ، كما عساه يومي إليه فحوى ما تسمعه في إطلاق القاتل.

وعلى كل حال فما ذكره المصنف والجماعة ، لا يخلو من قوة ، ثم إن الكفيل‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٧ من أبواب أحكام الضمان الحديث ٢.

(٢) الوسائل الباب ٧ من أبواب أحكام الضمان الحديث ٥.

١٩٠

يرجع على المكفول بما أداه إن كان الأداء عنه باذنه وإن كانت الكفالة بغير إذنه بناء على مشروعيتها ، والفرق بينها وبين الضمان بغير إذنه مع كون الأداء بإذنه أن الكفالة لم يتعلق بالمال بالذات ، فيكون حكم الكفيل بالنسبة إليه حكم الأجنبي فإذا أداه بإذن من عليه فله الرجوع ، بخلاف الضمان المقتضى انتقال المال إلى ذمة الضامن فلا ينفعه بعد ذلك الإذن في الأداء ، لأنه كإذن الأجنبي للمديون في أداء دينه ، إلا أن يراد منها الوكالة في الأداء عنه ، وإن كان الدين على المؤدي المأذون ولا يرجع عليه مع عدم الإذن في الأداء ، وإن كان كفل بإذنه ، إذا أمكن مراجعته وإحضاره للمكفول له ، ضرورة كونه متبرعا بالوفاء حينئذ ، لعدم اقتضاء الكفالة الإذن في ذلك على الحال المفروض.

نعم إذا أدى مع فرض تعذر الإحضار ، ففي المسالك « له الرجوع وإن لم يأذن له في الأداء ، لأن ذلك من لوازم الكفالة ، فالإذن فيها إذن في لوازمها » وفيه : أنه مناف لما سمعته منه وغيره سابقا من انها لا تقتضي إلا الإحضار ، ولذا لا يجب على المكفول له القبول إذا بذل الكفيل ، ومع فرض أن ذلك من لوازمها يجب عليه القبول ، ضرورة كونه حينئذ كالوكيل عن المديون في ذلك.

نعم قد يكون له الرجوع مما ذكرناه من قاعدة لا ضرر ولا ضرار من حيث لزوم التخليد في الحبس ونحوه المفروض كون المكفول سببا له بالإذن في الكفالة بل لعل قاعدة احترام مال المسلم تقتضي به أيضا لعدم صدق التبرع عليه بذلك ، أو بغير ذلك مما لا يقتضي كونه من لوازم الكفالة ، إن لم نقل أن من مقتضياتها دفع المال عن المكفول ولو في حال تعذر الإحضار ، وإلا اتجه له الرجوع حينئذ كما ذكره ، فتأمل جيدا والله العالم.

ولو قال : إن لم أحضره كان على كذا لم يلزمه إلا إحضاره دون المال ولو قال علي كذا إلى كذا إن لم أحضره وجب عليه ما شرط من المال كما في القواعد ومحكي الإرشاد لكن يمكن أن يكون المراد إن لم يحضره كما في النافع ، ومحكي النهاية والسرائر ، والتحرير ، والتذكرة ، وحواشي القواعد ، واللمعة ، والمهذب البارع ،

١٩١

وكشف الرموز ، والتنقيح ، بل هو المحكي عن القاضي وابن حمزة بل في الأخيرين والمحكي عن إيضاح النافع نسبة ذلك إلى الأصحاب ، بل في المهذب في شرح عبارة النافع أن المسألة إجماعية ، وفي جامع المقاصد في شرح عبارة القواعد هذا مروي من طرق الأصحاب ، وقد أطبقوا على العمل به ، وفيه أيضا ومحكي الحواشي وغاية المرام أن الفارق بين المسألتين الإجماع والنص.

ولكن مع ذلك كله نظر فيه في المسالك بعد ان حكاه عن ابن فهد ، والكركي قال : لمنع الإجماع في موضع النزاع فإن أحدا من الأصحاب لم يدعه ، والموجود كلامهم في المسألة ، جماعة يسيرة ، والباقون لا يعرف حكمهم فيها ، ومع ذلك فقد ذكر العلامة في المختلف كلام الشيخ ومن تبعه ، ثم قال : وعندي في هذه المسألة نظر ثم نقل فيها عن ابن الجنيد حكما مخالفا لما ذكره الشيخ والجماعة ، وقال : إن كلام ابن الجنيد أنسب ، وقد عرفت أن للمصنف وحده فيها قولين هنا وفي النافع ، وللعلامة وحده فيها أربعة مذاهب فدعوى الإجماع بمثل ذلك عجيب ».

وفيه ما لا يخفى عليك من عدم منافاة ذلك لحكاية الإجماع ، وإن كان هو كما ذكر محلا للنظر ، لكن ليس لذلك ، بل لما ستعرفه إنشاء الله على أن ترك القيد من المصنف والفاضل في بعض كتبهما مع احتمال إرادتهما له بقرينة ذكرهما له في البعض الأخر ، لا ينافي الإجماع على أصل المسألة ، وقول الفاضل أن قول ابن الجنيد أنسب ليس قولا في المسألة ، وكذا الاحتمال المذكور عنه في الجمع ، بجعل المال في أحد الشقين على المال المكفول ، وفي الآخر على مال غير ذلك التزم به الكفيل ان لم يحضره.

وكذا مناقشته في سند الخبرين اللذين هما الأصل في هذه المسألة.

أحدهما : خبر البقباق (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام « سألته عن الرجل تكفل بنفس الرجل إلى أجل فإن لم يأت به فعليه كذا وكذا درهما ، قال : إن جاء به إلى الأجل فليس عليه مال ، وهو كفيل بنفسه أبدا إلا أن يبدأ بالدراهم فإن بدأ بالدراهم‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٠ من أبواب أحكام الضمان الحديث ـ ٢.

١٩٢

فهو له ضامن ، إن لم يأت به إلى الأجل الذي أجله » وهو إما صحيح أو موثق.

والثاني : خبره الآخر (١) أيضا « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل تكفل لرجل بنفس رجل وقال : إن جئت به وإلا فعلي خمسمائة درهم ( كما في التهذيب ) وفي الكافي ( إن جئت به وإلا فعليك خمسمائة درهم ) ، وفيهما معا قال : عليه نفسه ، ولا شي‌ء عليه من الدراهم ، فإن قال : علي خمسمائة درهم إن لم أدفعه اليه قال : يلزمه الدراهم إن لم يدفعه إليه » وهو موثق أيضا بل في سنده أبان الذي هو من أصحاب الإجماع وبذلك اكتفى جماعة من الأصحاب على الفرق بين المسألتين قائلين أن كثيرا من المسائل حكم فيها بما يخالف القواعد بأقل من ذلك.

إلا أن الانصاف استبعاد التعبد في أمثال هذه المسائل ، خصوصا لما في المقام الذي ليس فيه إلا تأخير الشرط وتقديمه ، مع أنه إن أخر لفظا فهو مقدم معنى ، بعد الإغضاء عن اقتضاء التعليق البطلان ، وعن عدم صلاحية مثل اللفظ المزبور في المتن وغيره ، لحصول عقد الكفالة أو الضمان به.

ولو لا ما سمعته من الإجماع المزبور لأمكن القول بأن المراد من الروايتين بيان الفرق في عقد الكفالة من الاقتصار عليه فقط ، وبين اشتراط أداء المال فيه ، مع عدم الإحضار ، ففي الأول لا يكلف إلا النفس أبدا وفي الثاني يغرم المال إن لم يحضر فيراد من قوله « إلا أن يبدأ » إظهار اشتراط الدراهم من ، بدا الأمر بدوا ، أى ظهر كما في الصحاح أو من ، بادى فلان بالعداوة ، أي جاهر بها كما فيه أيضا ، أي الكفيل إنما يكلف بإحضار النفس أبدا إلا أن يظهر أو يجهر باشتراط الدراهم إن لم يأت به فحينئذ يكلف بها إن لم يحضره.

والتصرف في كتابة يبدأ بما يقتضي الأولية إنما هو من النساخ مع أنه يمكن عليها أيضا إرادة هذا المعنى لا التقدم والتأخر ، وقوله فإن لم يأت به في الخبر الأول على جهة الاستفهام من السائل فأجابه بذلك ، والخبر الثاني على ما في الكافي ، وبعض نسخ التهذيب منطبق أيضا على ذلك ضرورة أن اشتراط الخمسمائة فيه الأول إنما كان‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ـ ١.

١٩٣

من المكفول له لا من الكفيل ، ومن المعلوم عدم التزامه بذلك إذا لم يكن ذلك من الكفيل نفسه في عقد الكفالة ، ولذا قال في جوابه إنه إن قال هو علي خمسمائة درهم إن لم آت به لزم ذلك.

نعم إنما جاء الاشتباه في رواية بعض نسخ التهذيب ، والظاهر أنه اشتباه من النساخ ، فإن ما في الكافي. أضبط ، خصوصا مع اعتضاده ببعض نسخ التهذيب ، وشهادة الرواية الأولى له ، وهذا معنى جيد في الخبرين ، ويشهد له ما تقدم من النصوص ، الظاهرة في عدم تكليف الكفيل إلا بالإحضار ، وأنه يحبس على ذلك ، وهو معنى قوله هنا « وهو كفيل بنفسه أبدا ».

كما أن الخبرين ظاهران أو صريحان في وجود عقد الكفالة بغير هذا اللفظ ، وإنما ذكره على سبيل الاشتراط الذي يشمله عموم‌ « المؤمنون عند شروطهم » (١) وليس هو بمعنى التعليق المقتضي لبطلان العقد ، وبذلك يصح بالشرط المزبور الالتزام بالمال المذكور ، وإن لم يكن هو على المكفول ، وإن كان المنساق إلى الذهن ارادة اشتراط ما على المكفول.

ولعل هذا أولى من المحكي عن الكركي من بيان الفرق بين المسألتين بأنه إذا قدم براءة الذمة المضمون عنه. بقوله علي كذا امتنعت الكفالة حينئذ ، لعدم حق له حينئذ عليه ، فلا يلزم إلا بالمال ، بخلاف ما إذا قدم الكفالة ، فإنه يكون الضمان ـ المتعقب لها لكونه معلقا على شرط ـ باطلا ، ولمنافاة الضمان صحة الكفالة.

إذ هو كما ترى مناف لما عرفته ، من النص والإجماع المحكي وغيره من تقييد لزوم المال في صورة تقديم الضمان بعدم الإحضار ، وأنه مراد المصنف هنا وان ترك ذكره ، ومناف أيضا للتعليق المقتضي لبطلان الضمان ، بل ولعدم براءة المضمون عنه التي ذكرها ، وبنى عليها بطلان الكفالة.

بل ومناف لما هو ظاهر الخبرين أو صريحهما من حصول عقد الكفالة أولا بغير اللفظ المزبور ، بل لا يتم أيضا بناء على أن المسألة أعم من كون المكفول على مال ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ـ ٤ ـ.

١٩٤

وغيره من قتل وزوجية وغيرهما مما لا يقبل الضمان ، وعلى تقديره فما جعله الضامن عليه من كذا في الأولى. وخمسمائة في الثانية ومطلقا في كلام الجماعة أعم من كونه مساويا للحق الذي على المكفول وزائدا وناقصا ومماثلا له في الحبس ومخالفا ، والضمان المدعى لا يتم إلا في قليل من هذه المسائل ، بل فيه أيضا أنه ليس في العبارة المذكورة في المتن وغيره من كتب الجماعة لفظ يدل على كفالة صحيحة شرعا ، وإنما الموجود فيها ضمان معلق على شرط تقدم أو تأخر ، وأما الكفالة فهي مجعولة شرطا ومجرد ذلك لا يكفي في عقد الكفالة ، ولو قيل أنه أتى قبل ذلك بلفظ يدل عليها ، فتقدير مثل ذلك مبطل ، للفرق الذي ادعاه بين المسألتين إلى غير ذلك مما لا يخفى.

وأولى أيضا مما حكاه فخر الدين عن والده من حمل الرواية على أنه التزم في الصورة الأولى بما ليس عليه كما لو كان عليه دينار فقال : إن لم أحضره فعلي عشرة دنانير ، فإنه لا يلزمه المال إجماعا ، لأنه التزام بما ليس عليه ، أما الثانية ، فإنه التزام بما عليه وهو الدينار مثلا ، فكأنه قال : علي الدينار الذي عليه إن لم أحضره.

إذ لا يخفى عليك ما فيه من المنافاة لإطلاق المال في الصورتين المتقاربتين ، بل مقتضى تعريف الدراهم في قوله « إلا أن » إلى آخره كون المراد الدراهم الأولى ، لانسباق العهد منه كما في نظائره ، على أن الرواية الثانية قد اتحد فيها لفظ الخمسمائة في الصورتين.

وأولى أيضا مما ذكره المقداد مستحسنا له قائلا أنه لم يذكره أحد من الأصحاب وهو أن المراد من الأولى الإتيان بصيغة الكفالة وتعقيبها بالتزامه بالمال ان لم يأت به ، وذلك يقتضي صحة الكفالة لتصريحه بها ، وما بعدها من المال أمر لازم للكفالة ، لما تقدم من أن مقتضاها لزوم المال للكفيل إن لم يأت به وأما الثانية فإنها تشتمل على ضمان معلق على شرط والشرط متأخر. فهي إما مبنية على جواز الضمان المعلق على شرط ، أو أن الضمان تم بقوله على كذا ، والشرط بعد مناف له. فلا يلتفت إليه. لأنه كتعقيب الإقرار بالمنافي.

إذ لا يخفى عليك ما فيه أيضا ، فإنه مع ابتنائه على إرادة خصوص ما على المكفول‌

١٩٥

من المال ، لا وجه للحكم بصحة الضمان المعلق عندنا ، كما أنه لا وجه لقياس ذلك على تعقيب الإقرار بالمنافي.

وأولى أيضا مما في المسالك فإنه بعد أن أطنب في ذكر وجوه الفرق وإفسادها. قال : « إذا تقرر ذلك فنقول : الذي يقتضيه ظاهر الرواية أن الكفالة وقعت بصيغة تامة في الموضعين ، وتعقبها ما ذكر في اشتراط ، بدليل قوله « رجل تكفل بنفس رجل » ثم قسمها إلى القسمين ، فإن التكفل إذا أطلق يحمل على معناه الشرعي ، وإنما يتم بذكر لفظ يوجبه ، وقوله بعد « فإن لم » إلى آخره إما أن يحمل على كون المكنى عنه هو الحق المكفول لأجله ، عملا بقرينة مقتضيات الكفالة وحينئذ فلا إشكال في الأولى ، لأنه يصير كفيلا ، وما ذكر بعد الكفالة غير مناف ، ثم إن عملنا بمفهوم الشرط فهو ضامن للمال أيضا إن لم يأت به إلى الأجل ، وحينئذ فلا فرق بين الصيغتين ، لاتحاد الحكم فيهما ، ويكون الاستثناء منقطعا إذ لم يحصل به إخراج ، فكأنه بين أن الحكم كذا ، إن قدم الدراهم أو أخرها ، وبقي قوله في الرواية الثانية « عليه نفسه ولا شي‌ء عليه من الدراهم » ناظرا إلى نفس حكم الكفالة ، لا إلى ما يترتب عليها عند الإخلال بالإحضار ، وإن لم نعمل بمفهوم الشرط أشكل الفرق بين المقامين بما تقدم وإما أن يحمل المال الملتزم على ما هو أعم من الحق ، فيكون على سبيل الجعالة فيلزمه ما التزمه إن لم يأت به في الموضعين ، بإعمال مفهوم الشرط في الأولى ، وللتصريح في الثانية ، ويناسب هذا الحمل كون الكفالة قد لا يكون غايتها المال كالقصاص والزوجية ثم على تقدير كون المال مجانسا ، للمكفول لأجله ، ينبغي الحكم باحتسابه ، نظرا إلى اقتضاء الكفالة ذلك ، ولو كان مخالفا احتمل رده إليه بالقيمة أيضا ، وإن لم تكن الكفالة لأجل مال ، فهو التزام وتبرع محض ، وإطلاق الرواية يقتضي صحته وعلى ما قررناه فمخالفة الرواية للأصول ليست كثيرة عند إطلاقها ، ولو خصصناها بالمال المقصود حصل المقصود ، وإن بقي في عبارة الرواية قصور في البلاغة حيث اتحد الحكم في المسألتين مع كونه قد ردد بينهما ، إلا أنه أسهل من مخالفة الأصول بغير موجب ، ومع هذا فإثبات الاحكام الخارجة على تقدير العمل بإطلاقها لا يخلو من بعد ، لقصور الرواية‌

١٩٦

عن إثبات مثل هذه الاحكام ، ولقد كنا في سعة من هذا الاختلاف لو أطرحنا أمثال هذه الروايات التي من شواذ الآحاد » انتهى.

إلا أنه كما ترى من غرائب الكلام ، بل لا يستأهل ردا ولعل الذي أوقعه في ذلك إسائته الأدب في هذه المسألة مع الشيخ الذي به حفظ الحلال والحرام ، وما كنا لنؤثر أن يقع هذا منه أو ذلك من مثله ، والله الموفق والمؤيد والمسدد.

وقد ظهر لك في جميع ما ذكرنا أن نظر الجميع في هذا الحكم إلى الخبرين المزبورين اللذين يغلب الظن بإرادة ما ذكرناه منهما ، ويتبعه حينئذ الظن بضعف الفتوى بخلافه المعلوم كون منشؤها الفهم من البدأة المذكورة في الخبر ، بيان الفرق بالتقدم والتأخر والاختلال في الخبر المروي في التهذيب ، ومن ذلك يضعف الظن بصواب الإجماع المحكي المحتمل ، لإرادة اتفاق المتعرضين لهذا الحكم من الأصحاب الذين يجوز الوهم عليهم في الخبرين المزبورين ، فصار منشأ الحكم المزبور المستبعد بناؤه على التعبد المحض فلاحظ وتأمل هذا.

وفي المختلف بعد أن حكى عن الشيخ والجماعة ما سمعت قال : « وعندي في هذه المسألة نظر » ثم حكي عن ابن الجنيد أنه إذا قال الكفيل لطالب الحق : مالك على فلان فهو علي دونه إلى يوم كذا وأنا كفيل لك بنفسه ، صح الضمان على الكفيل بالنفس والمال إن لم يؤده المطلوب إلى الطالب إلى ذلك الأجل ، وسواء قال له عند الضمان : إن لم يأتك به ، أو لم يقل له ذلك ، فإن قدم الكفالة بالنفس ، وقال : أنا كفيل لك بنفس فلان إلى يوم كذا ، فإن جائك بما لك عليه ، وهو ألف درهم وإلا فانا ضامن للألف صحت الكفالة بالنفس ، وبطل الضمان للمال. لأن ذلك كالقمار والمخاطرة ، وهو كقول القائل إن طلعت الشمس فمالك على فلان غريمك وهو ألف درهم علي الذي قد أجمع على أن الضمان لذلك باطل ، ثم قال : وقول ابن الجنيد انسب ، ولكن لا يخفى عليك انه قريب أيضا من قول الجماعة عند التأمل.

ومن أطلق غريما من يد صاحب الحق أو وكيله قهرا ، ضمن إحضاره أو أداء ما عليه كما صرح به غير واحد بل في الرياض نفى الخلاف فيه على الظاهر ،

١٩٧

بل عن الصيمري الإجماع عليه ، لقاعدة‌ « لا ضرر ولا ضرار » وفحوى ما تسمعه في القاتل ولما في المسالك ومحكي التذكرة وغيرها من أنه غصب اليد المستولية المستحقة من صاحبها فكان عليه إعادتها أو أداء الحق الذي بسببه ثبتت اليد عليه وإن كان هو كما ترى ، إن لم يرجع إلى ما ذكرنا أو إلى وجهه أو إلى دعوى شمول‌ « على اليد ما أخذت حتى تؤدى » (١) لمثل ذلك.

ولكن لا يخفى عليك أن مدرك الحكم إن كان ذلك ونحوه ، ينبغي عدم الفرق فيه بين الصبي والمجنون وغيرهما ، ولعل ذلك هو مقتضى ما في المتن وغيره من التعبير بمن أطلق الشامل لذلك نحو غيره من خطاب الأسباب.

إلا أن الانصاف عدم تنقيح في كلامهم لمثل ذلك ، كعدمه بالنسبة إلى غير ذلك من تفويت استيفاء الحق بتخويف ونحوه ، وينبغي الاقتصار على محل اليقين ، أو ما كان في حكمه ولو بظاهر الدليل المعتبر فيما خالف أصل البراءة وغيرها.

ثم لا يخفى عليك أن الحكم المزبور لما كان ذلك لازم الكفالة أطلق عليه اسمها وإلا فهو ليس من الكفالة المصطلحة قطعا ، ضرورة عدم العقد فيه ، والظاهر كون التخيير المزبور على نحو ما سمعته في الكفالة ، بمعنى أن له التبرع بالأداء فداء عن الإلزام بالإحضار ، ويلزم المستحق بالقبول ، وليس له اقتراح الإحضار ، فإن الضرر ينجبر بذلك ، أو مع التراضي.

لكن في المسالك « ينبغي أن يكون الحكم هنا كما سلف في الكفيل الممتنع من تسليم المكفول ، يطالب بالتسليم مع الإمكان لا أن يفوض التخيير اليه ».

وفيه : أنه لا دليل على ذلك ، بل أصل البراءة يقتضي خلافه ، وخبر القاتل إنما هو في العمد الذي كان الحق فيه القصاص ، وقاعدة الضرر لا تقتضي أزيد من التخيير المزبور ، ومن هنا لم أجد غيره ممن تقدم عليه ذكر ذلك هنا ، حتى ممن عين الإحضار في الكفالة نعم ليس له الرجوع عليه بما أدى إذا لم يكن الأداء بإذنه ، كما صرح به غير واحد ، للأصل وغيره.

__________________

(١) المستدرك ج ـ ٢ ـ ص ٥٠٣.

١٩٨

لكن قد يقال بالرجوع إذا كان الإطلاق بالإذن ، لقاعدة لا ضرر ، واحترام مال المسلم والإحسان ، وكون الإذن في الملزوم إذنا في اللازم ، ونحو ذلك ، بل في محكي التذكرة ولو تعذر عليه استيفاء الحق من قصاص أو مال وأخذ المال من الكفيل كان للكفيل الرجوع على الغريم الذي خلصه قصاصا ، ويمكن ارادته ما ذكرنا ، ولو أطلقه من يد الكفيل الذي كان له الرجوع عليه بأدائه عنه ضمن أيضا إحضاره أو أداء ما عليه على الوجه المزبور ، بل لو أطلقه منه قبل أدائه عنه فكذلك أيضا.

ولو كان المطلق بالفتح قهرا قاتلا عمدا لزمه إحضاره أو دفع الدية مع التعذر ولو بموت بلا خلاف أجده فيه أيضا ، بل عن الصيمري الإجماع عليه‌ للصحيح أو الحسن (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألته عن رجل قتل رجلا عمدا فرفع إلى الوالي فدفعه الوالي إلى أولياء المقتول ليقتلوه ، فوثب عليهم قوم فخلصوا القاتل من أيدي الأولياء فقال : أرى أن يحبس الذين خلصوا القاتل من أيدي الأولياء حتى يأتوا بالقاتل ، قيل : فإن مات القاتل وهم في السجن قال : فإن مات فعليهم الدية يؤدونها جميعا إلى أولياء المقتول » ومنه يعلم إرادة ذلك من التخيير المزبور في المتن وغيره نعم لو كان القتل موجبا للدية على المطلق ، اتجه التخيير المزبور على الوجه الذي تقدم.

ولو هرب القاتل عمدا واستمر فأخذت الدية من المطلق ، ثم تمكن الولي منه ردها إلى صاحبها وإن لم تقتص منه ، لأن وجوبها قد كان للحيلولة المفروض زوالها ، وعدم القتل مستند إلى اختيار المستحق ، لكن في محكي التحرير « إذا حضر القاتل هل يقتل ويستعيد الدافع من الأولياء فيه إشكال ، وهل له إلزامه بما أدى على تقدير انتفاء جواز قتله فيه نظر ».

وفيه ما لا يخفى بعد فرض كون الدفع الأول للحيلولة ، لا لإسقاط الحق ، وإلا لم يكن لهم قتله. بل ولا رجوع عليه بما أدى إلا مع الاذن في الإطلاق ، فإن فيه حينئذ ما عرفت ، وإلى ذلك يرجع ما في القواعد « ولو كان قاتلا لزمه الإحضار أو الدية فإن‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ـ ١ ـ.

١٩٩

دفعها ثم حضر الغريم تسلط الوارث على قتله فيدفع ما أخذه وجوبا وإن لم يقتل » ولا يتسلط الكفيل ـ لو رضى هو والوارث بالمدفوع ـ على المكفول بدية ولا قصاص والله العالم.

ولا بد من كون المكفول معينا كما صرح به الفاضل وغيره فلو قال : كفلت أحد هذين لم يصح وكذا لو قال : كفلت بزيد أو عمرو لم يصح أيضا وكذا لو قال : كفلت بزيد فإن لم آت به فبعمرو بل في الثالث التعليق وهو مانع من صحة الكفالة لما عرفته غير مرة من منافاته للتسبيب الظاهر من الأدلة ، فإشكال الفاضل فيه في القواعد في غير محله ، وفيه أيضا اشتراط ما يعود على الكفالة بالنقض فلا إشكال في بطلانه كما لا إشكال في البطلان في السابقين مع إرادة الإبهام المانع من تعلق العقد لعدم المورد له أما الإبهام التخييري فظاهر المصنف وغيره منعه أيضا.

لكن قد يناقش بأن مقتضى الإطلاقات جوازه ، بعد عدم ما يقتضي عدم قابلية حق الكفالة لذلك فيصح حينئذ ويبرأ بتسليم أحدهما. ويحبس إلى أن يحضر أحدهما أو يؤدي عنه ، ولعله في هذا القسم توقف الأردبيلي في المحكي عنه ، وهو في محله إلا ان يثبت ما يقتضي عدم قابلية حق الكفالة لذلك ، وأنه كالملك الذي لا يقبل مثل هذا.

ويلحق بهذا الباب مسائل‌

الأولى : قال في محكي المبسوط إذا أحضر الغريم قبل الأجل وجب على المكفول له تسلمه إذا كان لا ضرر عليه وكذا غير المكان المشترط ، ونحوه عن القاضي ولكن لو قيل : لا يجب كان أشبه بأصول المذهب وقواعده المقتضية عدم وجوب غير الحق ، بل لعل مصلحة الأجل والمكان مشتركة بينهما ، واختاره الفاضل وغيره ، وهو جيد حيث يكون اشتراط الأجل والمكان حقا لهما ، أما إذا كان حقا للكفيل وأراد إسقاطه كان الأجود الأول ، كما تقدم نظيره في الدين المؤجل ، ولعله إلى ذلك نظر الشيخ ولو سلمه وكان ممنوعا من تسلمه بيد قاهرة مثلا لم يبرأ الكفيل لعدم التسليم التام الواجب عليه ، بانصراف‌

٢٠٠