جواهر الكلام - ج ٢٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

به إجماعا ، فيكون الضمان هنا ضم ذمة إلى ذمة أخرى ، وهو ليس من أصولنا.

ومن الغريب ما عن التذكرة من أن ضمان المال ناقل عندنا ، وفي ضمان الأعيان والعهدة اشكال ، أقربه عندي جواز مطالبة كل من الضامن والمضمون عنه ، إذ هو كما ترى كالمتناقض ، هذا كله في ضمانها بالنسبة إلى ردها.

وأما ضمان قيمتها أو مثلها فهو بعد تلفها فضمانها قيل حصول السبب ضمان ما لم يجب ومن هنا كان خيرة ثاني الشهيدين والمحققين وفخر الإسلام على ما حكي عنهما عدم الجواز ، ودعوى صدق كونها ما لا قد اشتغلت ذمة من في يده بها ، واضحة الفساد ، ضرورة معلومية إرادة شغل الذمة بالرد ما دامت موجودة ، والقيمة والمثل مع التلف من هذا الإطلاق ، ومثله غير كاف في الضمان الذي هو نقل المال من ذمة إلى أخرى ، كما عرفت من تعريفه ، ومن دعوى الإجماع على اشتراط أن يكون مالا في الذمة في الحق المضمون ، لا أقل من الشك ، والأصل عدم ترتب الأثر في مثل هذا الضمان.

وعلى كل حال فلا اشكال ولا خلاف في أنه لو ضمن ما هو أمانة ، كالمضاربة والوديعة ، لم يصح ، لأنها ليست مضمونة في الأصل أي وقت الضمان لا ردا ولا عوضا على تقدير تلفها. نعم لو طرأ لها الضمان بتعد أو تفريط مثلا ففي صحة ضمانها حينئذ وعدمها البحث السابق ، وهو واضح.

كما أنه لا خلاف ولا إشكال في جواز التسلسل في الضمان بناء على مذهبنا فـ ( لو ضمن ضامن ثم ضمن عنه آخر وهكذا إلى عدة ضمناء ، كان جائزا ) لتحقق شرط الضمان الذي هو ثبوت المال في الذمة ، ويرجع كل واحد منهم على من ضمن عنه ، إذا كان بإذنه ، على الأصل الذي يرجع اليه الضامن الأول إذا كان باذنه ، بل ولا إشكال في جواز الدور أيضا.

خلافا للمحكي عن الشيخ في المبسوط ، فمنعه لصيرورة الفرع فيه أصلا وبالعكس ، ولعدم الفائدة فيه ، إذ به يرجع الحق على ما كان ، وفيه : أن ذلك لا يصلح للمانعية ، على أن الفائدة بالإعسار ، وباختلاف الضمان بالحلول والتأجيل متحققة كما تقدم‌

١٤١

ذلك سابقا ولا يشترط العلم بكمية المال حال الضمان ( فلو ضمن ما في ذمته صح على الأشبه ) بأصول المذهب من العمومات وغيرها ، والأشهر بل المشهور بل عن الغنية الإجماع عليه ، بل عن كشف الرموز أنه روى الأصحاب جواز ذلك ، فلو عملنا بهذا نكون عملنا بقول الصادق عليه‌السلام (١) « خذ ما اشتهر بين أصحابك » ولعله أراد الروايات المطلقة في الضمان ، خصوصا ضمان علي بن الحسين عليهما‌السلام (٢) لدين عبد الله بن الحسن ، وضمانه (٣) لدين محمد بن أسامة ، بل قيل إنهما ظاهران بل صريحان في عدم معلومية الدين ، وقدره وقت الضمان.

بل ربما استفيد أيضا من‌ خبر عطا (٤) عن الصادق عليه‌السلام « قلت له : جعلت فداك إن علي دينا إذا ذكرته فسد على ما أنا فيه ، فقال : سبحان الله أو ما بلغك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول في خطبته : من ترك ضياعا فعلى ضياعه ، ومن ترك دينا فعلي دينه ، ومن ترك مالا فهو لوارثه ، وكفالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ميتا ككفالته حيا وكفالته حيا ككفالته ميتا ، فقال الرجل نفست عني جعلني الله فداك » بل ولقوله تعالى (٥) ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) مضافا إلى‌ قوله (٦) « الزعيم غارم ».

ولكن قد يناقش بعدم ثبوت الأخير من طرقنا ، بل لعل الثابت منها تكذيبه ، وبأن الآية ليست مما نحن فيه ، كما أن الخبر ليس من الضمان المصطلح ، إلا أنه فيما قدمنا كفاية لإثبات المطلوب ، خصوصا مع عدم المعارض إلا دعوى (٧) « نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الغرر » والثابت منه البيع أو مطلق المعاوضة و (٨) « الضرر » لاحتمال كون المضمون‌

__________________

(١) المستدرك ج ٣ ص ١٨٥ عن الباقر عليه‌السلام.

(٢) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ـ ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ـ ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب الدين الحديث ـ ٥.

(٥) سورة يوسف الآية ـ ٧٢.

(٦) المستدرك ج ٢ ص ٤٨٩.

(٧) الوسائل الباب ـ ٤٠ من أبواب آداب التجارة الحديث ٣.

(٨) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الخيار الحديث ٣ و ٤.

١٤٢

مما لا يحتمله ، وهو قد أدخله على نفسه ، على أنه يمكن فرضه خاليا عن ذلك ، وحينئذ فما عن الشيخ في مبسوطة وخلافه والقاضي في مهذبه ، وابن إدريس في سرائره من عدم الجواز واضح الضعف ، هذا.

ولكن في المسالك ومحكي التذكرة وغيرها « أن الصحة فيما إذا كان يمكن العلم به بعد ذلك ، كقوله أنا ضامن للدين الذي لك عليه ، أما ما لا يمكن فيه العلم كضمنت لك شيئا مما في ذمته فلا يصح قولا واحدا ، لصدق الشي‌ء على القليل والكثير ، واحتمال لزوم أقل ما يتناوله الشي‌ء كالإقرار يندفع بأنه ليس هو المضمون وإن كان بعض أفراده » وهو جيد إن كان المراد عدم إمكان العلم في الواقع ، للإبهام ونحوه كما عساه يومي اليه قوله « يندفع » إلى آخره؟ وإلا كان محلا للنظر ، ضرورة أن مقتضى الأدلة التي ذكرناها عدم الفرق بين الجميع ، فيصح ضمان ما في الذمة عن ميت أوحي وان كان لا يمكن العلم به في الظاهر ، إلا أنه في الواقع متشخص كما هو واضح.

وعلى كل حال فـ ( يلزمه ) مع وقوع الضمان على الوجه المزبور ما تقوم به البينة ، أنه كان ثابتا في ذمته وقت الضمان لا ما يتجدد ولا ما يوجد في كتاب مما هو ليس طريقا مثبتا لما في الذمة ولا ما يقر به المضمون عنه بعد الضمان الذي يكون إقرارا في حق الغير ، خلافا للمحكي عن أبى الصلاح وأبى المكارم ولعلهما يريدان ما أقر به سابقا قبل الضمان ولا ما يحلف عليه المضمون له برد اليمين الذي هو كالإقرار ، أو كالبينة في حق المتخاصمين لا مطلقا ، أو أصل برأسه كذلك أيضا ، خلافا للمحكي عن المقنعة ، فالزمه به ، ويمكن أن يريد ما عن النهاية والقاضي من أنه إذا كان الرد برضى الضامن ، « قال : فإن حلف أى المضمون له على ما يدعيه واختار هو ذلك وجب عليه الخروج منه ، لصيرورة الخصومة حينئذ معه أيضا ، فيكون اليمين حجة في حقه ».

وفي المسالك « بناء على كون اليمين المردودة كالبينة ، يتجه وجوب الأداء عليه ، لعدم الفرق فيها بين كون الخصم الضامن ، أو المضمون عنه ، لأن الحق يثبت بها مطلقا ، بخلاف الإقرار » وفيه : أن حكم البينة كذلك ، إلا أن الكلام في كونه‌

١٤٣

مثلها في ذلك كما هو واضح ، هذا كله إذا ضمن ما في ذمته.

أما لو ضمن ما يشهد به عليه لم يصح ، لانه لا يعلم ثبوته في الذمة كما في القواعد ومحكي التحرير والإرشاد والمختلف حكما وتعليلا ، وكذا المبسوط والسرائر ، بل هو المحكي عن المفيد والتقي ، وفسر في المسالك تبعا لجامع المقاصد بأنه لما علم اشتراط صحة الضمان بثبوت الدين في الذمة حاله ، فضمانه حينئذ بالصيغة المزبورة شامل لما إذا كان كذلك ، ولما يتجدد فلا يصح ، إذ لا يدل على ضمان المتقدم ، لان العالم لا يدل على الخاص.

قال : « فعلى هذا لو صرح بقوله ما يشهد عليه أنه كان ثابتا في ذمته وقت الضمان فلا مانع من الصحة ، كما لو ضمن ما في ذمته ولزمه ما تقوم به البينة أنه كان ثابتا ، وحينئذ فتعليل المصنف لا يخلو من قصور ، لاقتضائه أنه لو ضمن بهذه الصورة وثبت كون المشهود به كان في الذمة وقت الضمان صح ، والحال أن مثل ذلك لا يصح ، لعدم وقوع حقيقة الضمان موقعها كما قد عرفت ، فلا بد من تنزيل التعليل على عدم العلم بإرادة الثابت من الصيغة ».

وفيه : أن المتجه ـ مع فرض إرادة العموم من الصيغة لاقتضاء لفظ « ما » ذلك ـ الصحة في الثابت بها وقت الضمان والبطلان في المتجدد لا الفساد في الجميع ، مضافا إلى إباء ظاهر جميع العبارات المشتملة على التعليل المزبور ما ذكراه من التفسير المزبور الذي قد اعترفاهما أيضا بذلك ، وان ما ذكراه فيه تنزيل وتخريج.

ولعل الأولى تفسير ذلك بإرادة بيان عدم صحة ضمان ما يثبت بالبينة من حيث كونه كذلك ، لأنه حينئذ من ضمان ما لم يجب ، ضرورة عدم جعل عنوان الضمان ، ما في ذمته والبينة طريق لمعرفته ، بل كان العنوان ما يثبت بها ، والفرض وقوعه قبل ثبوته بها.

ومن هنا أردف التعليل المزبور في المختلف بقوله : فلا يصح ، لأنه ضمان ما لم يجب ، ولا ريب في أن مراده أن الثبوت بها قبل حصوله ليس ثبوتا حال الضمان ، وإن كان مضمون الشهادة الاشتغال حال الضمان ، لكن ثبوت ذلك الذي هو عنوان‌

١٤٤

الضمان إنما هو حال الشهادة المفروض سبق الضمان لها.

وكذا لو جعل عنوان الضمان ما يقر به المضمون عنه ، أو ما يحكم به الحاكم أو نحو ذلك مما هو بعد لم يحصل ، وحينئذ يتجه هذه العبارات ولا يحتاج إلى التخريج المزبور الذي قد عرفت فساده في نفسه.

وكان السبب الداعي للمصنف وغيره في ذكر الحكم المزبور أولا : هو الفرق بين جعل العنوان للضمان ما في الذمة ثم يتعرف بالبينة ، وبين جعله ما يثبت بها ، وثانيا : التعريض بخلاف الشيخ في المحكي من نهايته حيث قال : « ولو قال : أنا أضمن ما يثبت لك عليه إن لم آت به في وقت كذا ، ثم لم يحضره وجب عليه ما قامت به البينة للمضمون عنه ، وهو الذي حكاه في محكي المبسوط عن قوم من أصحابنا ، وقال : إنى لم أعرف به نصا.

واعترضه في السرائر بأنه إذا لم يعرف به نصا كيف أورده في نهايته ، ثم إنه أساء الأدب ، ولكن انتصر الله تعالى له على لسان الفاضل في المختلف ، فرد ذلك عليه ثم قال : لا شك في عدم تحصيل هذا الرجل.

وعلى كل حال فمراد المصنف وغيره ، التعريض بما سمعته من النهاية ، ولكن المحكي عنها أن ذلك موجود في بعض نسخها ، والا فالأصل « ما ثبت لك عليه » بالفعل ولا شك حينئذ في صحته ، ضرورة كونه ضمانا للثابت بها ، لا بما يثبت بها ، بل يمكن أن يريد الشيخ من نسخة يثبت ضمان ما في الذمة الذي طريق معرفته الثبوت بها ، وان كان خلاف ظاهر العبارة ، وقد ظهر لك مما ذكرنا الكلام في جميع أطراف المسألة والحمد لله رب العالمين.

١٤٥

البحث الثالث في اللواحق

وفيه مسائل‌ الأولى : إذا ضمن ضامن للمشترى بالمعنى الأخص عهدة الثمن التي هي ضمان بالمعنى الأعم ، أي الثمن الذي هو في عهدة البائع له لزمه دركه في كل موضع يثبت فيه بطلان البيع من رأس بظهور استحقاق المبيع مع عدم إجازة البيع ، أو قبض الثمن أي مع عدم اجازة قبض الثمن وإن أجاز البيع فيه ، أو فقد شرط من شروط الصحة أو نحو ذلك ، بلا خلاف أجده فيه في الأول ، بل في محكي التذكرة وكذا مجمع البرهان نسبته إلى إطباق الناس عليه في جميع الأعصار ، وفي المسالك « ظاهرهم الإطباق عليه ».

كما أن صريح غير واحد عدم الفرق بين الأول والثاني ، بل هو من معقد ما سمعته من المسالك ، وعن جامع المقاصد إطباق الناس على ضمان العهدة ، وحينئذ إن تم ذلك يكون هذا الفرد بقسميه خارجا عن بحث ضمان الأعيان ، وإن كان هو منها.

أما لو تجدد الفسخ بالتقايل أو الخيار أو تلف المبيع قبل القبض ، لم يلزم الضامن ورجع المشتري على البائع لما عرفت من اعتبار ثبوت الحق وقت الضمان في صحته ، من غير فرق بين ضمان العهدة وغيره ، ولا ريب في حصوله مع قبض البائع له في الأول ، بخلاف الثاني الذي هو فسخ متجدد ، فضمانه به حينئذ من ضمان ما لم يجب ، بل ظاهر المسالك ذلك حتى لو قلنا أن التلف قبل القبض موجب للفسخ من الأصل لا من حينه ، فإنه بعد أن حكى عن العلامة بناء ما نحن فيه على كون التلف فاسخا من الحين أو الأصل ، فيندرج في ضمان العهدة على الثاني دون الأول.

قال : « وفيه نظر ، لانه حكم لاحق للضمان ، فإن المبيع حالته كان ملكا للمشترى ظاهرا ، وفي نفس الأمر ، فلا يتناول الضمان الثمن ، لانه لم يكن لازما للبائع مطلقا ، وإنما التلف الطاري كان سببا في حكم الله بعود الملك الى صاحبه من أصله » وإن كان‌

١٤٦

هو كما ترى مرجعه إلى التناقض ، ضرورة اقتضائه كون المال في آن واحد ملكا لشخص وليس ملكا له ، بل ملك لآخر ، ونظير هذا وإن احتملناه في إجازة الفضولي ، إلا أنه قلنا بكونه ملكا لشخص ، وبحكم الملك لآخر ، فإنه لا يمتنع الوضع من الشارع والتسبب كذلك ، ويمكن تنزيل كلام الشهيد على هذا.

ولكن يبقى المطالبة بدليله أولا ، ومناف لفرضه ثانيا ، إذ من أحكام الملك ضمانه على من في يده ، فيتجه كلام العلامة حينئذ ، ومن ذلك يعلم إرادة المصنف وغيره من ترك التقييد بالقبض ما صرح به الأكثر من التقييد به ، ضرورة عدم دخوله في عهدة البائع الذي هو المضمون عنه إلا بقبضه.

اللهم إلا أن يقال بكفاية السبب الذي هو العقد حينه وإن تعقب القبض الضمان نحو ما تسمعه من احتمال الضمان بالفسخ بعيب سابق ، وضمان درك ما يحدث من بناء وغرس لكن ضعف الاحتمال المزبور يبعد حمل الإطلاق المذكور على ذلك ، خصوصا من المصنف المصرح بخلاف الاحتمال المزبور في المسألتين والله العالم.

وكذا لا يدخل في ضمان العهدة لو فسخ المشتري بعيب لا حق للضمان كما لو وقع قبل القبض ، أو في الثلاثة قولا واحدا كما في المسالك وغيرها ، بل وسابق وفاقا للمشهور ، لأن الفسخ به إنما أبطل العقد من حينه لا من أصله ، فلم يكن حالة الضمان مضمونا ، بل لو صرح بضمانه كان فاسدا ، لأنه ضمان ما لم يجب ، فما في القواعد ومحكي التذكرة من الاشكال فيه ـ مما عرفت ، ومن وجود سبب الفسخ حال البيع ، بل عن فخر المحققين الجزم بالدخول فيه للحاجة ـ واضح الضعف ، ولعله لذا استقر عدم اندراجه بعد أسطر من الاشكال ، بل جزم به بعد ذلك.

أما لو طالب بالأرش رجع على الضامن كما في القواعد وغيرها لان استحقاقه ثابت عند العقد فيتحقق شرط الضمان ، بل هو أولى من غيره ، لان الأرش جزء من الثمن باق في ذمة المشتري ولكن مع ذلك فيه تردد بل عن التحرير الجزم بالعدم لان الاستحقاق له إنما حصل له بعد العلم بالعيب ، واختيار أخذ الأرش والعيب‌

١٤٧

الموجود حالة العقد لم يقتض تعيين الأرش ، بل التخيير بينه وبين الرد ، فلم يتعين الأرش إلا باختياره.

ولو قيل ـ إنه أحد الفردين الثابتين على وجه التخيير ، فيكون كأفراد الواجب المخير ، حيث يوصف بالوجوب قبل اختياره ، فيوصف هذا بالثبوت قبل اختياره ـ ففي المسالك « لزم مثله في الثمن ، لأنه قسيمه في ذلك » وفيه : أن الرد غير الثمن ، وإن ترتب عليه استحقاق الثمن الذي لم يجب الا بالفسخ ، بخلاف الأرش الثابت بالأصل ، لكونه عوض جزء فائت ، وإن كان للمشتري ارتفاق آخر ، وهو الفسخ والرجوع الى الثمن ، ودعوى ـ عدم ثبوته إلا مع العلم والمطالبة به حتى أنه لو لم يعلم أو لم يطالب لم تشتغل ذمة البائع بشي‌ء ـ مخالفة لظاهر الأدلة ، وقد تقدم الكلام في ذلك في محله فلاحظ وتأمل.

المسألة الثانية قد عرفت انه إذا خرج المبيع جميعه مستحقا رجع المشتري على الضامن ، أما لو خرج بعضه مستحقا رجع على الضامن بما قابل المستحق بلا خلاف ولا إشكال وكان في الباقي بالخيار لتبعض الصفقة فإن فسخ رجع بما قابله على البائع خاصة وفاقا للمشهور لعدم اندراجه في ضمان الضامن بل لا يصح ضمانه له لو صرح به ، لانه من ضمان ما لم يجب ، خلافا للمحكي عن الشيخ فجوز الرجوع على الضامن بالجميع ، لوجود سبب الاستحقاق حال العقد كالعيب ، وفيه : أن ذلك لا يقتضي دخوله في عهدة البائع له حتى يصح ضمانه عنه كما عرفت الحال في المشبه به فضلا عن المشبه وهو واضح.

المسألة الثالثة : إذا ضمن ضامن للمشترى درك ما يحدثه من بناء أو غرس مثلا في الأرض المشتراة لو خرجت مستحقة وقلع المالك بناءه وغرسه ، أي تفاوت ما بين قيمته ثابتا ومقلوعا لم يصح لانه ضمان ما لم يجب حال الضمان ضرورة عدم استحقاقه ذلك على البائع قبل البناء والغرس ، بل ولا بعده ، وإنما يستحقه عليه بعد القلع ، نعم سبب ذلك وهو استحقاق الأرض موجود حال الضمان لكن قد عرفت‌

١٤٨

أن الأصح عدم الاكتفاء بذلك ، خلافا للشهيد في اللمعة فجوزه لذلك وللحاجة إليه وكأنه مال اليه أو قال به في الروضة.

بل قيل والقائل الشيخ في محكي المبسوط والفاضل وولده وثاني المحققين والشهيدين وكذا لا يجوز لو ضمنه البائع له فضلا عن الأجنبي لأن ثبوت ذلك عليه بحكم الشرع لو وقع ، لا يقتضي صحة عقد الضمان المشروط بتحقق الحق حال الضمان ، لكن في القواعد إشكال ، وعن التذكرة أنه قرب الصحة ، وقال : « نمنع كون المضمون عنه غير واجب ».

وفي المتن الوجه الجواز لانه لازم بنفس العقد إلا أنه نظر فيه في المسالك بأنه لا يلزم من ضمانه لكونه بائعا مسلطا له على الانتفاع مجانا ، ضمانه بعقد الضمان مع عدم اجتماع شرائطه التي من جملتها كونه ثابتا حال الضمان ، فعدم الصحة أقوى ، وقد تبع بذلك المحقق الثاني ، حيث أنه أنكر على اشكال الفاضل في القواعد ، بأنه إن كان في ثبوت ذلك على البائع ، فلا وجه له ، لان ذلك واجب ، وإن كان في اقتضاء هذا الضمان ثبوته أيضا ليكون مؤكدا فلا وجه له ، أيضا لأنه ضمان ما لم يجب بعد.

وإلى هذا أشار في المسالك بقوله « فالخلاف ليس في ثبوت ذلك على البائع أم لا ، فإنه ثابت بغير اشكال ، بل في ثبوته بسبب الضمان ، وتظهر الفائدة فيما لو أسقط المشتري عنه حق الرجوع بسبب البيع ، يبقى له الرجوع عليه بسبب الضمان لو قلنا بصحته ، كما لو كان له خياران فأسقط أحدهما ، فإنه يفسخ بالخيار الآخر إن شاء ، وفيما لو كان قد شرط على البائع ضمانا بوجه صحيح ، فإن صححنا هذا كفى في الوفاء بالشرط ، وان لم يحصل للمشترى نفع جديد ، فقد ظهر ان هذا الضمان قد يفيد فائدة أخرى غير التأكيد لو قلنا بصحته ، وبه يظهر ضعف تعليل جوازه بكونه ثابتا ، ضمن أم لم يضمن ، لان هذه الفوائد الأخر لم تكن ثابتة لو لم يضمن ».

قلت : يمكن ارادة المصنف بما ذكره من أن الوجه الجواز ، اشتراط ضمان‌

١٤٩

ذلك على البائع في عقد البيع ، تعريضا بما وقع في محكي المبسوط الذي أشار إليه المصنف بلفظ القليل ، من أنه إن شرطا ذلك في نفس البيع بطل البيع ، بل قد عثرنا على نسختين من الشرائع « وقيل وكذا لو ضمنه البائع ، ولو شرطه في نفس العقد » والوجه حينئذ فيما ذكره المصنف واضح ، لان المشروط لازم للبائع بنفس العقد ، فلا مانع من اشتراطه ليترتب عليه ما ذكره في المسالك من الفائدة الاولى ، ولا تقدح جهالته بعد ان كان لازما له ، نحو ما قيل في اشتراط خيار المجلس ، وإن كان لا يخلو من بحث عندنا.

وعلى كل حال فالمراد ذلك ، لا الضمان المصطلح ، إذ هو غير معقول ، ضرورة أنه لا وجه لان يضمن الإنسان عن نفسه ، فمن الغريب اشتباه هؤلاء الأفاضل في ذلك ، وكيف كان فهذا كله في ضمان عهدة الثمن للمشترى عن البائع.

وأما العكس وهو ضمان عهدة الثمن للبائع عن المشتري فلا إشكال فيه ، إذا كان دينا ، بمعنى نقل ما في ذمة المشتري اليه ، وكذا ضمانه لو خرج مستحقا ، فيما إذا كان الثمن كليا في ذمة المشتري الذي مرجعه إلى الأول أيضا أو إلى أرشه إن كان معيبا كما إذا كان شخصيا فإن ضمان عهدته عن المشتري حينئذ ذلك ، وليس هو من ضمان الأعيان كما أشرنا إليه سابقا ، بل هو ضمان ما في الذمة فتأمل جيدا وكذا ضمان نقصان الصنجة التي يزن بها الثمن أو المثمن للبائع أو المشتري كما صرح به غير واحد ، لكنه لا يندرج في إطلاق ضمان العهدة ، ومثله ضمان رداءة الجنس فيهما أيضا.

المسألة الرابعة إذا كان له على رجلين مثلا مال فضمن كل واحد منهما ما على صاحبه باذنه دفعة واحدة ، ورضي المضمون له بذلك ، وتساوى المالان من جميع الوجوه تحول ما كان على كل واحد منهما إلى صاحبه بلا خلاف ولا إشكال ، لاجتماع شرائط صحة الضمان في كل منهما ، وكان فائدة هذا الضمان صيرورة كل واحد منهما بضمانه فرعا ، وبمضمونيته أصلا ، فيتعاكسان ، وافتكاك الرهن إن كان عليهما ، أو على أحدهما لأن الضمان أداء ، وغير ذلك ، كما أن فائدته مع اختلاف‌

١٥٠

الذين قلة وكثرة ، وحلولا وتأجيلا ، والضمان كذلك واضحة ، بل في الفرض لو شرط أحدهما الضمان في مال بعينه ، وقلنا بصحته وحجر عليه لفلس قبل الأداء أخذ المضمون له حقه من المال مقدما على الغرماء ، لسبق تعلق حقه ، إلا أن المفلس قد استحق على المضمون عنه ، مع فرض كون الضمان باذنه ، ويتعلق به حينئذ حق الغرماء ، فإذا كان قد أدى الأخر عنه قبل الحجر عليه ، ضرب مع الغرماء ولا يتساقط معه ، لتعلق حق الغير بما عليه ، بل يكون له حصته ويبقى الباقي في ذمة المفلس كما هو واضح.

ولو قبل المضمون له ضمان أحدهما دون الأخر كان الجميع عليه ، فإن دفع النصف مثلا انصرف إلى ما قصد ، ويقبل قوله مع اليمين ، فإن أطلق قسط في وجه قوي ، تقدم نظيره في الرهن ، ويحتمل صرفه إلى من شاء بعد ذلك ، أو القرعة.

نعم لو أبرء تعين ما قصده ، فإن أطلق فالتقسيط مع احتمال القرعة أيضا بناء على أنها للأعم من المشتبه موضوعا في الواقع ، ولو ادعى الأصيل قصده في الإبراء ففي القواعد في توجه اليمين عليه أى المضمون له أو على الضامن اشكال ، من عدم توجه اليمين لحق الغير ، وخفاء القصد.

وعن المحقق الثاني أنه استوجه القرعة ، ولعل الظاهر أن الدعوى بين الضامن والمضمون عنه ، دون المضمون له ، وحينئذ فإن صدقه المضمون له ، كان القول قوله ، كما أن القول قول الضامن إن صدقه ، وإن لم يمكن الرجوع اليه لموت ونحوه فقد يقوى القرعة حينئذ ، بعد اتفاقهما على أنه قد قصد مخصوصا ، وقلنا بعدم شغل ذمة المضمون عنه إلا بالأداء ، لعدم أصل يرجع إليه حينئذ ، أما مع عدم العلم فالحمل على الإطلاق متجه ، ولو ادعى أحدهما على الأخر العلم كان له اليمين على نفيه والله العالم.

ولو قضى أحدهما ما ضمنه عن صاحبه برء من ضمانه وبقي على الأخر ما ضمنه عنه وكذا لو أبرأ الغريم أحدهما برء هو مما ضمنه‌

١٥١

دون ما ضمنه شريكه بل قد يقال : بعدم الرجوع له عليه ، وإن أدى سابقا ، بل وان لم يؤد الآخر ، بأن أبرأه الغريم مما عليه مثلا ، لحصول التهاتر بينهما قهرا بمجرد ضمان كل منهما باذن الأخر ، لكنه كما ترى بعيد عن مذاق الفقه ، ويمكن أن يقال : انه وإن قلنا باشتغال ذمة المضمون عنه للضامن إذا كان قد أذن له في ضمان وإن لم يجز له الرجوع عليه حتى يؤدى ، إلا أن الظاهر كون ذلك على جهة المراعاة فإن لم يؤد لإبراء ونحوه ينكشف عدم اشتغالها ، وإن أدى تبين اشتغالها ، فلا تهاتر حينئذ في الفرض ، وكذا لو قلنا بكون السبب لاشتغالها العقد المأذون فيه مع الأداء فتأمل جيدا. فإن المسألة غير محررة في كلامهم ، وسيأتي عن قريب بعض الكلام فيها إنشاء الله ، هذا كله في ضمان كل منهما على الأخر.

أما لو ضمن اثنان عن واحد ، فإن كان على التعاقب فالضامن من رضي المضمون له بضمانه بل لو أطلق الرضا بهما كان الضامن هو السابق ، وإن كان ضمانهما دفعة ، فالضامن من رضي به منهما ، وإن رضى بهما كذلك ، ففي الصحة ـ مع التقسيط بالنصف في الفرض والثلث إن كانوا ثلاثة وهكذا ، أو الصحة مع التخيير ومطالبة من شاء منهما ، ومطالبتهما معا كما عن ابن حمزة في الوسيلة وسماه بضمان الانفراد ، وعكسه وهو ضمان الواحد عن جماعة ضمان الاشتراك ، بل قيل : إنهم جزموا به في باب الديات فيما إذا قال : الق متاعك ، وعلى كل واحد منا ضمانه ، بل عن الفاضل في درسه توجيهه بوقوع مثله في العبادات كالواجب على الكفاية ، وفي الأموال كالايدى المتعاقبة على المغصوب ، أو بطلان الضمان من أصله كما عن المختلف وجامع المقاصد ـ أقوال.

ومن هنا قال في القواعد : إشكال ، ولكن لا يخفى على من أحاط خبرا بنظائر المسألة قوة الأخير منها ، وما ذكره الفاضل من وجود النظير لو سلم أنه مثله لا يصلح دليلا للمسألة ، مع أنه قد تقدم منا في المباحث السابقة ما يستفاد منه وضوح الفرق بين ذلك وبين الأيدي المتعاقبة والله العالم.

المسألة الخامسة : إذا رضي المضمون له من الضامن ببعض المال ، أو أبرأه من بعضه‌

١٥٢

لم يرجع على المضمون عنه المفروض إذنه بالضمان إلا بما أداه لما عرفت سابقا من أنه ليس له إلا ذلك نصا وفتوى ، بل هو مشروط بما إذا لم يزد عن الحق ، وإلا رجع بالحق خاصة ، فالضابط حينئذ الرجوع بأقل الأمرين مما أداه ومن الحق في كل موضع له الرجوع ، وكأن المصنف أشار بما ذكره إلى خلاف بعض العامة الذي جوز الرجوع مع الإبراء عن الكل أو البعض ، لأنه هبة له خاصة من رب الدين ، وهو باطل عندنا ، لما عرفت نعم لو قبض منه الجميع ثم وهبه بعضه أو جميعه جاز له الرجوع لصدق الأداء ، بل لعله كذلك إذا احتسبه من حق زكاة عليه مثلا ولو دفع عوضا عن مال الضمان رجع بأقل الأمرين من القيمة والدين ، من غير فرق بين أن يكون قد رضي المضمون له به عنه بغير عقد ، وبين ما لو صالحه عنه بالدين.

نعم لو صالحه عليه بما يتساوى الدين في ذمته وقاصه به اتجه رجوعه به ، لثبوتها له في ذمته وأدائها عن الدين مع احتمال الرجوع بالقيمة خاصة ، لأن وضع الضمان على الارتفاق ، ولعله لذا توقف فيه الفاضل في المحكي من التذكرة والله العالم.

المسألة السادسة : إذا ضمن عنه دينارا مثلا باذنه فدفعه المضمون عنه الى الضامن فقد قضى ما عليه بناء على اشتغال ذمته له بضمانه عنه المأذون حصوله باذنه ، فيقتضي شغل ذمة المضمون عنه فيصح حينئذ الدفع له ، وفاء كما يصح للضامن إبراء ذمة المضمون عنه ، قبل الأداء وهذا كله لا ينافي عدم استحقاق المطالبة له إلا بالأداء ، للدليل.

نعم قد يقال : إن الدفع وفاء مثلا وكذا الإبراء مراعى بحصول الأداء منه ، فإن حصل استقر ذلك وإلا انفسخ ، ورجع المال إلى المضمون عنه ، أو يقال إن ذلك على الكشف بمعنى أنه بحصول الأداء ينكشف وقوعه في محله ، وإلا انكشف عدم شغل ذمته من الأصل.

١٥٣

لكن ذلك ونحوه لا نرى أحدا مصرحا به من الأصحاب ، بل في المسالك والمحكي من غيرها ما يقتضي خلافه ، وأنه لا تشتغل ذمة المضمون عنه ، إلا حين أداء الضامن ولعله للأصل مع عدم ثبوت كون الضمان أداء بالنسبة إلى ذلك ، وإن كان هو كالأداء بالنسبة إلى براءة ذمة المضمون عنه ، فلا سبب حينئذ لشغل ذمة المضمون عنه إلا الأداء المأذون فيه بالاذن بالضمان ، لقاعدة احترام مال المسلم ، وحينئذ فالنصوص (١) الدالة على عدم الرجوع الا به ، وإلا بمقدار ما أدى كاشفة عن ذلك ، لا أنها مخصصة لقاعدة تسلط من له الدين على من عليه ، ولا أنها مفيدة لاحكام آخر يصعب التزامها ، ولعل هذا هو الأقوى ، وحينئذ لا يكون ما يدفعه المضمون عنه قضاء بل هو مدفوع ليكون وفاء له إذا أدى.

بل في المسالك « لا يبعد كونه مضمونا عليه ، لقاعدة على اليد ، وكونه كالمقبوض بالسوم » ، واستشكل فيه في التذكرة بعد أن حكم به. نعم لو قال المضمون عنه للضامن : اقض به ما ضمنت عني ، فهو وكيل والمال في يده أمانة ، والفرق بينه وبين ما سبق واضح ، لأنه دفعه ـ في السابق ـ إليه إما مطلقا ، أو أنه الحق المضمون ، وعلى التقديرين ليس مستحقا عليه للضامن ، بخلاف قوله اقض به ما ضمنت ، فإنه وكالة في قبضه ودفعه.

قلت : قد يقال : إن مرجع الأول إلى الأمانة أيضا ، ضرورة عدم كونه وفاء فعلا قبل الاشتغال ، فليس هو إلا على ملك المضمون عنه ، بل لا بد من التزام التوكيل للضامن في قبضه وفاء بعد الأداء ، فلا ضمان حينئذ ، والقياس على المقبوض بالسوم ليس من مذهبنا ، وقاعدة على اليد مخصصة بالأمانة ، ولعله استشكل فيه في التذكرة ، وهو في محله ، نعم لو دفعه له بعنوان القرض له مقدمة لحصول التهاتر بعد الأداء أمكن ، لكنه غير المفروض.

وكيف كان فـ ( لو قال ) أي الضامن على ما في المسالك للمضمون عنه ادفعه أنت إلى المضمون له ، فدفعه فقد برئا أما الضامن فلوفاء دينه ، وأما المضمون عنه فلأن الضامن لم يغرم ، فلا يرجع عليه ، ويمكن اعتبار التقاص القهري‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام الضمان.

١٥٤

لثبوت ما دفعه المديون في ذمة الضامن ، لانه المديون وقد أذن في وفائه ، وثبوت مثله في ذمة المضمون عنه لأدائه ، فيتقاصان.

وفيه : أن أداء دين الضامن المأذون بمال المضمون عنه باذن الضامن لا يقتضي اشتغال ذمة الضامن بمثله ، إذ ليس هو قد صار بذلك قرضا عليه مع عدم قصده ، وعدم توقف وفاء الدين على كونه مملوكا للمديون كما أنه لا يستحق رجوعا على المضمون عنه ، لعدم حصول الأداء منه فلا تقاص حينئذ ، لعدم ثبوت المالين في ذمة كل منهما فتأمل ، ولو فسرت العبارة بإرجاع ضمير قال إلى المضمون عنه ، أي قال للضامن ادفعه إلى المضمون له ، فقد برئا معا كان ممكنا ، والوجه فيه حينئذ واضح لما عرفت.

ويكون هذا كما لو دفع المضمون عنه إلى المضمون له بغير اذن الضامن فإنه لا إشكال ولا خلاف في أنه إذا كان كذلك برء الضامن والمضمون عنه بلا رجوع من الضامن على المضمون عنه لعدم الأداء منه عنه ، كما هو واضح ، ولو تبرع متبرع بالضمان ، ثم سأل آخر الضمان عنه فضمن وأدى رجع عليه دون الأصل ، ولو أنكر المضمون عنه الإذن في الضمان ، أو أنكر الدين كان القول قوله ، ولو أنكر الضامن الضمان فاستوفى الحق منه بالبينة ، لم يرجع على المضمون عنه ، إذا كان قد أنكر أصل الدين ، أو أصل الإذن بالأداء عنه في ضمن الضمان وغيره ، ضرورة علمه بفراغ ذمة المضمون عنه ، وعدم استحقاق الرجوع عليه ، وأنه قد أخذ منه ظلما بالبينة لمخطئة.

نعم لو لم ينكر أصل الدين ولا أصل الإذن بالأداء عنه ، ولا المضمون عنه أصل لإذن له أو ثبت ذلك بحجة شرعية كان له الرجوع على المضمون عنه مقاصة ظاهرا عدم منافاة إنكار الضمان لذلك ، ضرورة كونه أخص من استحقاق الرجوع الذي يمكن أن يكون بالإذن بالأداء من دون ضمان ، فله المطالبة حينئذ ، بأن يقول إني أديت عنك دينك على وجه أستحق به الرجوع عليك ، ويقيم البينة على الإذن إن كانت ، وإن كان وجه الاستحقاق هو الضمان بالإذن ، لأن التوصل إلى الحق بطريق‌

١٥٥

لا يكون مشتملا على محذور جائز.

والظاهر أنه يسوغ للبينة الشهادة بالإذن من دون تعيين الضمان الذي أنكره حتى لو طلب المضمون عنه التقييد بواحد منهما لم يلزم ، وعلى كل حال فله الرجوع ظاهرا ، نعم له المقاصة باطنا إذا كان كاذبا في إنكاره الضمان بالإذن ، إلا أن يعترف له المضمون عنه بذلك ، ولو أذن له بأداء دينه من دون ضمان فادعاه المأذون ، وأنكره الأذن كان القول قول المأذون ، لأنه وكيله وأمينه ، من غير فرق بين تصديق المستحق وعدمه.

نعم لو قيد الاذن إذنه بالإشهاد فتركه المأذون لم يكن له الرجوع عليه ، ولو أن صدقه المستحق ، إذ يمكن أن يكون تصديقه معاطاة ، وليس الغرض سقوط المطالبة الحاصل بذلك ، بل براءة الذمة في الواقع ، ولم يحصل ما يدل عليها ، اللهم إلا أن يجعل إقراره بذلك طريقا لها أيضا ، على أن الفرض التقييد بالإشهاد ولم يحصل.

نعم لو لم يقيد بذلك وأطلق الإذن أمكن الاكتفاء بإقراره ، وإن قلنا بتقصيره بترك الاشهاد على وجه لا يستحق الرجوع معه ، إلا أن من المعلوم كون ذلك لإرادة سقوط المطالبة والبراءة ، والفرض حصولهما بالإقرار ، وكذا لو كان الدفع بحضور الأصيل.

ومن التأمل فيما ذكرنا يظهر لك مواقع النظر فيما ذكره الفاضل في القواعد ، بل قد يظهر من بعض كلماته فرض المسألة في الضمان ، ومن المعلوم عدم جريان جملة من الفروع فيه ، ولذا فرضناها في المأذون بالأداء بدونه ، وقد عرفت الكلام سابقا في الضمان فلاحظ وتأمل ، وقد تقدم لنا سابقا ويأتي في باب الوكالة وغيرها ما يستفاد منه أيضا وجه النظر في جملة من ذلك فلاحظ وتأمل جيدا والله العالم.

المسألة السابعة : إذا ضمن باذن المضمون عنه ، ثم دفع ما ضمن ، وأنكر المضمون له القبض ، كان القول قوله مع يمينه لأصالة عدم القبض ، وفي المسالك « وحينئذ فلا يرجع الضامن على المضمون عنه بشي‌ء ، لعدم تحقق غرمه المشروط‌

١٥٦

به استحقاق الرجوع » قلت : وهو كذلك وان توجهت المخاصمة بينهما ويتوجه له اليمين عليه ، ولو رد المضمون له اليمين على الضامن في الأول ، فحلف ففي استحقاق الرجوع على المضمون عنه بذلك وعدمه وجهان ، أقواهما العدم ، بل وكذا في استحقاقه بتصادق الضامن والمضمون له.

وعلى كل حال ففي مفروض المتن ان شهد المضمون عنه للضامن ، قبلت شهادته وإن كان الضمان بالإذن ، لأنه حينئذ شهادة على نفسه باستحقاق الرجوع ، وشهادة على غيره. نعم هي مقبولة كغيرها من الشهادات مع انتفاء التهمة ، واليه يرجع ما عن الفخر من أن شهادة المضمون عنه للضمان ترد إجماعا ، ونوقش بالاكتفاء في ذلك باعتراف الضامن بالأداء إن أثرت في البراءة ، فكالضمان على التأمل عندهم ، وفرضت التهمة فيما إذا كان أداء الضامن بالصلح أو بأقل من الحق بالضمان ، وبإعسار الضامن مع عدم علم المضمون له ، وبتجدد الحجر عليه لفلس ، وكان للمضمون عنه عليه دين وبغير ذلك ، مما يمكن فرضه ، إذ الفرض أنها شهادة مقبولة في نفسها ، إلا إذا اقترنت بما يمنعها من جر نفع ، أو خصومة أو غير ذلك ، لا أنها مردودة في نفسها لكونها مما يجر نفعا باعتبار كون الدين دينه ، لأنه بالضمان قد برء عندنا ، وصار كالأجنبي بالنسبة إلى ذلك ، هذا كله على مذهبنا من القول باقتضاء الضمان انتقال المال.

اما على مذهب مخالفينا من كونه ضم ذمة إلى أخرى فلا إشكال في عدم قبول شهادته كما هو واضح ولو لم يكن المضمون مقبولا لجر نفع أو فسق أو خصومة أو غير ذلك فحلف المضمون له كان له مطالبة الضامن مرة ثانية على زعم الضامن.

ولكن يرجع الضامن على المضمون عنه بما أداه أولا على الوجه الذي عرفته سابقا لا الأخير الذي هو ظالم بزعمهما فيه ولو لم يشهد المضمون عنه اى لم يصدق الضامن بدعواه رجع الضامن عليه بما أداه أخيرا لعدم‌

١٥٧

ثبوت أداء سواه.

نعم الظاهر توجه الخصومة بينهما كما أشرنا إليه سابقا ، كما أن الظاهر تقييد ذلك بما إذا لم يزد المدفوع أخيرا على الأول ولا على الحق ، وإلا رجع بالأقل من الثلاثة ، لأنه إن كان هو ما غرمه أولا فلاعترافه بعدم استحقاق ما سواه ، وإن كان ما دفعه أخيرا فلما عرفت من عدم ثبوت غيره ، وان كان هو الحق فلما عرفت من ان الرجوع انما هو في الأقل منه والمدفوع ، ولذا قال في بعض نسخ المتن ولو قيل يرجع بأقل الأمرين مما أداه أولا وأخيرا كان حسنا والله العالم.

المسألة الثامنة : إذا ضمن المريض تبرعا في مرضه ومات فيه خرج ما ضمنه من ثلث تركته على الأصح من كون المنجزات منه لا من الأصل ، إذ لا إشكال في كون الفرض منها. نعم لو ضمن بسؤال ففي المسالك « هو كما لو باع بثمن المثل نسيئة ، فالوجه حينئذ أنه متى أمكن الرجوع على المضمون عنه فهو من الأصل وإن لم يمكن لإعساره ونحوه فهو من الثلث ، ولو أمكن الرجوع بالبعض فهو كبيع المحاباة يتوقف ما يفوت منه على الثلث » ولكن لا يخلو من نظر ضرورة كونه كالقرض ونحوه لعدم التبرع فيه بشي‌ء.

المسألة التاسعة : إذا كان الدين مؤجلا فضمنه حالا باذن المضمون عنه في ذلك وعدمه ففي المحكي عن المبسوط لم يصح ، وكذا لو كان إلى شهرين فضمنه إلى شهر لان الفرع لا يرجح على الأصل ووافقه على ذلك فخر الإسلام والكركي ، بل عن المختلف أنه استحسنه ، بل قد عرفت أن الاولى مقتضى ظاهر من اعتبر الأجل في الضمان ، وإن كان ذلك حيثية أخرى غير ما نحن فيها ، ولذا منع منها هنا من لم يعتبر الأجل فيه.

ولكن مع ذلك كله فيه تردد بل منع لما سمعته سابقا من عدم الدليل على اشتراط الأجل فيه ، بل ظاهر الأدلة خلافه ، كما أنه لم يثبت مانعية زيادة الفرع على الأصل ، ودعوى اعتبار مشروعية الضمان على المساواة ممنوعة ، كدعوى‌

١٥٨

أن ذلك من ضمان ما لم يجب ، باعتبار أن الحلول زيادة في الحق ، وكذا نقصان الأجل ولذا تختلف الأثمان باختلافه ، ضرورة أن المضمون المال ، والأجل إنما هو من التوابع ومن الحقوق للمديون التي يجوز له التبرع بإسقاطها ، وفي وجه إن كان مع اذنه في الضمان دون الحلول ، لم يستحق الرجوع عليه ، إلا للأجل ، كما عرفته سابقا وكذا دعوى اعتبار الإرفاق في الضمان ، إذ لا دليل عليها ، بل ظاهر الأدلة خلافها ، على أنه مع التبرع لا ينافي الإرفاق ، كما أنه لا يختص الإرفاق بهذه الجهة ، وقد أشرنا إلى ذلك سابقا والله العالم.

١٥٩

( القسم الثاني في الحوالة )

بفتح الحاء كسحابة ، وهي مشروعة بالنص وإجماع الأمة ، كما عن المبسوط وليست بيعا ، ولا محمولة عليه عند علمائنا أجمع في محكي التذكرة.

والكلام فيها يكون في العقد ، وفي شروطه وأحكامه‌ أما الأول : فالحوالة المتفق على صحتها عقد شرع لتحويل المال من ذمة إلى ذمة مشغولة بمثله ولو باعتبار انتقال مثله إلى المحال عليه ، كما ستعرف تحقيق الحال في ذلك ، فلا ينتقض بالحوالة على البري‌ء ، وإن كان الأصح عند المصنف على ما ستسمع صحتها إلا أن فيها خلافا ، وقد حاول الفاضل إدخالها بحذف قيد الشغل ، لكنه ينتقض بالضمان.

والأمر في ذلك كله سهل بعد أن ذكرنا غير مرة أن المراد بها التمييز في الجملة ، فهي أشبه شي‌ء بالتعاريف اللغوية كسهولة الأمر في أنها عقد ، أو الأثر الحاصل منه ، بعد ما عرفت تحقيق الحال في ذلك في البيع ، وفي أن ألفاظ العقد مخصوصة ، أو يحصل بكل ما دل عليه منها ، إذا كان على طريق العرف واللغة بعد أن تقدم منا تمام الكلام أيضا في ذلك ، بل وفي حكم المعاطاة التي قد تقدم أيضا منا تمام الكلام فيها.

وكيف كان فـ ( يشترط فيها رضى المحيل والمحال عليه والمحتال ) بلا خلاف أجده في الأول والأخير ، بل الإجماع بقسميه عليها ، بل المحكي منهما مستفيض ، أو متواتر ، وهو الحجة ، مضافا إلى أصول المذهب وقواعده ، لكن في المسالك ومحكي التذكرة وغيرها أنه يستثنى من اعتبار رضى المحيل ما لو تبرع المحال عليه بالوفاء فإنه لا يعتبر رضى المحيل قطعا ، لانه كوفاء دينه وضمانه بغير اذنه ، والعبارة عنه حينئذ أن يقول المحال عليه للمحتال : أحلت بالدين الذي لك على فلان على نفسي ، فيقبل.

وزاد في المسالك « فيشترط هنا رضى المحتال والمحال عليه ، ويقومان بركن العقد ، بخلاف رضى المحال عليه فيما تقدم لقيام العقد بغيره » وفيه : إمكان منع صحة‌

١٦٠