جواهر الكلام - ج ٢٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وكيف كان فـ ( لا يشترط علمه ) أى الضامن باسم المضمون له ونسبه ولا المضمون عنه كذلك كما في الخلاف والغنية ، والتحرير ، والإرشاد ، والمختلف ، وجامع المقاصد ، والمسالك ، والروضة ، والكفاية ، والمفاتيح ، والرياض على ما حكي عن بعضها ، بل نسبه بعضهم إلى الأكثر ، بل في محكي التذكرة لو ضمن الضامن عمن لا يعرفه صح ضمانه عند علمائنا.

وقيل والقائل الشيخ في المحكي عن مبسوطة وتبعه المقداد في المحكي عن تنقيحه يشترط علمه بذلك ، لحصول المعاملة بين الضامن وبينه ، فافتقر الى معرفته للحاجة ، وللغرر والضرر بدون ذلك ، ولينظر هل يستحق ذلك عليه أو لا ، ولأنه إحسان ولا بد من معرفة محله ، وإلا لجاز وضعه في غير أهله فلا يستفيد إلا محمدة اللئام.

ولا ريب في أن الأول أشبه بأصول المذهب وقواعده التي منها العمومات السالمة عن معارضة ما يقتضي ذلك ، ضرورة عدم اقتضاء المعاملة بينهما المعرفة المزبورة ، كالبيع ، والإجارة ، وغيرهما ، ولا نهي عن الغرر المزبور الذي قد أقدم عليه الضامن ، والنظر في استحقاق ذلك لو سلمنا اعتباره ، لا يقتضي اعتبار المعرفة المزبورة على أنه يمكن معلوميته بدونها ، والأخير لا يستأهل جوابا ، كل ذلك مضافا إلى‌ المنقول من « ضمان أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) الدرهمين عن ميت امتنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الصلاة عليه » ، وضمان قتادة (٢) الدينارين عن آخر كذلك.

لكن لا بد أن يمتاز المضمون عنه عند الضامن بما يصح معه القصد إلى الضمان عنه بلا خلاف ولا إشكال ، ضرورة عدم العبرة بالقصد إلى ضمان المبهم المتردد في الواقع ، لعدم الدليل عليه ، بل ظاهر الأدلة خلافه ، بل لعله من المقطوع به إلا أنه أشكله في المسالك بمنع توقف القصد على ذلك ، فإن المعتبر القصد الى الضمان وهو التزام المال الذي يذكره المضمون له مثلا في الذمة ، وذلك غير متوقف على معرفة من عليه الدين ، فالدليل إنما دل على اعتبار القصد في العقد ، لا فيمن كان عليه‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ٣.

١٢١

الدين ، فلو قال لشخص مثلا إني أستحق في ذمة شخص مأة درهم فقال له آخر : ضمنتها لك كان قاصدا إلى عقد الضمان ، عن أى من كان عليه الدين ، ولا دليل على اعتبار ما زاد عن ذلك.

وفيه : انك قد عرفت بكون المراد الامتياز عند الضامن على وجه لا يكون مبهما بحيث لا يصح معه القصد إلى الضمان ، كما لو قال : ضمنت لك أحد دينيك مثلا ، فلا يرد المثال الذي ذكره ، لأنه من الممتاز على وجه يصح للضامن قصده ، وإن لم يكن معلوما له بعينه.

نعم لو أراد الضامن الضمان عمن هو متشخص عنده لم يكتف بذلك قطعا ، وإلى ما ذكرنا يرجع ما عن التذكرة حيث قال : « وهل يشترط معرفة ما يميزه عن غيره ، الأقرب العدم ، بل لو قال : ضمنت لك الدين الذي لك على من كان من الناس جاز ، نعم لا بد من معرفة المضمون عنه بوصف يميزه عند الضامن بما يمكن معه القصد إلى الضمان عنه ، لو لم يقصد الضمان عن أي من كان ».

فمن الغريب ما في المسالك من دعوى موافقة هذا الكلام من التذكرة لما اختاره لا لما ذكره المصنف وهو عند التأمل الصادق عين ما في المتن.

وأغرب من ذلك ما وقع من بعضهم من أنه بناء على اعتبار القبول لفظا ـ كما عليه الأكثر وإن لم يصرحوا به ، لمكان تصريحهم بأنه عقد لازم ـ اقتضى ذلك تمييزه لا أزيد من ذلك ، وإن لم نعتبره كما يدل عليه واقعة الميت المديون (١) الذي امتنع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الصلاة عليه حتى ضمنه علي عليه‌السلام لم يعتبر علمه بوجه ، وهذا هو الظاهر من عبارة المصنف حيث اعتبر رضاه ولم يعتبر فيه عقدا ولا قبولا مخصوصا ، ولا امتيازه هنا مع اعتباره امتياز المضمون عنه ، إذ لا يخفى عليك أنه لا إشكال في اعتبار القبول فيه ، لأنه لا إشكال في كونه من العقود ، ولكن ذلك لا يقتضي المعرفة المزبورة فيصح حينئذ ضمانه له وإن لم يشخصه ، وإن حصل القبول منه.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ـ ٢.

١٢٢

نعم لا بد من الامتياز الذي ذكرناه المقابل بالإبهام ، ولعل اقتصار المصنف على ذكره في المضمون عنه للاكتفاء عنه في المضمون له بذكره سابقا أنه من العقود ، ولا ريب في اقتضائها ذلك قطعا في أركانها التي منها المضمون له ، وبما يذكره الآن من اعتبار رضاه المحتمل ، أو المظنون ، أو المقطوع إرادة القبول منه المتوقف على التمييز المزبور قطعا.

بل لا بد فيه من نظم العقد حينئذ بالاتصال والعربية بل والماضوية والصراحة الوضعية ، بناء على اعتبارهما وغير ذلك مما يعتبر في العقد اللازم ، وإن كان الذي قدمناه سابقا التوسعة عندنا لفظا إيجابه وقبوله ، وأنه يكفى كل ما دل على ذلك على حسب غيره من الخطابات ، من غير فرق بين الحقيقة والمجاز والماضوية وغيرها وقد أشبعنا الكلام فيه والمقام أحد أفراده وبذلك كله بان الكلام في جميع أطراف المسألة وإن ذكر في الرياض أن فيها أقوالا أربعة :

وفي اعتبار العلم بالمضمون عنه والمضمون له بالوصف والنسب ، كما عن المبسوط أو بما يتميزان به عن الغير خاصة كما في اللمعة أو العدم مطلقا كما عن الخلاف ، وفي الغنية وهو ظاهر العبارة ، وصريح الشرائع والفاضل فيما عدا المختلف والمسالك والروضة ، أو يعتبر معرفة الأول بما يتميز خاصة دون الثاني كما في المختلف ـ أقوال أربعة أجودها ثالثها.

لكن لا يخفى عليك ما فيه ، بل وما في مختاره بعد الإحاطة بما ذكرناه ، كما أنه لا يخفى ما في حكايته عن المختلف بعد ملاحظة آخر كلامه ، بل ولا ما في تحريره الخلاف المزبور على الوجه المذكور ، بل لو لا شهرة حكاية الخلاف عن المبسوط لأمكن حمله بقرينة تعليله على إرادة معلومية الحق ، وهو غير ما نحن فيه.

وكيف كان فلا إشكال بناء على ما عرفت في أنه يشترط رضا المضمون له في صحة الضمان ، بل لا خلاف معتد به أجده فيه ، بل في محكي التحرير والغنية الإجماع عليه ، وهو الحجة بعد الأصول المقتصر في الخروج عنهما على الضمان‌

١٢٣

برضا المضمون له ، وصحيح ابن سنان (١) عن الصادق عليه‌السلام « في الرجل يموت وعليه دين فيضمنه ضامن للغرماء؟ فقال : إذا رضى به الغرماء فقد برءت ذمة الميت » وفي الفقه المنسوب الى مولانا الرضا عليه‌السلام (٢) « وإن كان لك على رجل مال وضمنه رجل عند موته ، وقبلت ضمانه فالميت قد برأ ، وقد لزم الضامن رده » مضافا إلى ما في انتقال الدين من ذمة المديون إلى أخرى بدون رضى الديان من الفساد ، وضياع حقوق الناس المعلوم ضرورة من الشريعة خلافه ، وإلى ما يشعر به ما تسمعه من خبر عبد الله بن الحسن (٣) وغير ذلك ، فما عساه يظهر مما عن الخلاف ـ من أن اعتبار رضاه أولى من الخلاف في ذلك ـ واضح الفساد.

وأغرب من ذلك الاحتجاج له بضمان أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) وأبي قتادة (٥) الدين عن الميت ، ولم يسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن رضى المضمون له ـ الذي هو بعد الغض عن سند روايته ـ لا دلالة فيه على ذلك ، بل لعله دال على خلافه ، ضرورة اشتماله على وقوع الضمان الذي هو عبارة عن الإيجاب والقبول من المضمون له ، والإيجاب وحده ليس بضمان ، فلا حاجة حينئذ إلى الجواب بأنها واقعة لا عموم فيها ، وبأن ذلك إنما يدل على عدم البطلان قبل علمه ورده ، ونحن نقول بموجبه ، لأنه صحيح ، ولكن لا يلزم إلا برضى المضمون له ، وبأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قبل ، لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وبحصول إذن الفحوى من المضمون له ، وبغير ذلك مما لا يخفى عليك ما فيه بعد معلومية امتناع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الصلاة عليه من جهة شغل ذمته ، وأنها برءت بالضمان ، فصلى والضمان الفضولي لا يفيده براءة فعلية ، وأن ولاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غير قبول العقود ، والفحوى لا تكفي في تحقق البراءة فعلا فالتحقيق حينئذ في الجواب ما عرفت.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الدين والقرض الحديث ـ ١.

(٢) المستدرك ج ـ ٢ ـ ص ٤٩١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ـ ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ٢.

(٥) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ٣.

١٢٤

وأغرب من ذلك الاستدلال له بموثق « إسحاق بن عمار (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يكون عليه دين فحضره الموت فيقول وليه : علي دينك؟ قال : يبرؤه ذلك وإن لم يوفه وليه من بعده ، وقال : أرجو أن لا يأثم وإنما إثمه على الذي يحبسه » الذي هو مطلق محمول على المقيد ، وب‌ موثق الحسن بن الجهم (٢) « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل مات وله علي دين وخلف ولدا رجالا ونساء وصبيانا فجاء رجل منهم فقال : أنت في حل مما لإخوتي وأخواتي وأنا ضامن لرضاهم عنك ، قال تكون في سعة من ذلك وحل ، قلت : وإن لم يعطهم قال : ذلك كان في عنقه ، قلت : فإن رجع الورثة علي فقالوا : أعطنا حقنا فقال : لهم ذلك في الحكم الظاهر ، فأما بينك وبين الله فأنت في حل منها إذا كان الرجل أحلك يضمن رضاهم ، قلت : فما تقول في الصبي ، لأمه أن تحلل؟ قال : نعم إذا كان لها ما ترضيه وتعطيه ، قلت : فإن لم يكن لها مال قال : فلا ، قلت : فقد سمعتك تقول أنه يجوز تحليلها ، فقال : إنما أعني بذلك إذا كان لها مال ».

وصحيح حبيب الخثعمي (٣) عن أبى عبد الله عليه‌السلام « قلت له : الرجل يكون عنده المال وديعة يأخذ منه بغير إذن صاحبه؟ قال : لا يأخذ إلا أن يكون له وفاء قال : قلت : أرأيت إن وجد من يضمنه ولم يكن له وفاء وأشهد على نفسه الذي يضمنه يأخذ منه؟ قال : نعم ».

الذي لا يخفى عليك مخالفة ظاهر الأول للإجماع ، باعتبار اشتماله على الإبراء من دون إذنهم ، وإنما ضمن رضاهم ، وهو ليس من الضمان المصطلح ، وتأويله بالضمان من دون رضاهم ليس بأولى من ضمانه برضاهم ، ولكن لا بينة له على ذلك ، فكان في الحكم الظاهر لهم مطالبته مع إنكارهم لذلك.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب أحكام الدين والقرض الحديث ـ ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ـ ١ ـ باختلاف يسير.

(٣) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب أحكام الوديعة ـ الحديث ١.

١٢٥

وأما الثاني فليس دالا إلا على جواز الأخذ من الوديعة إذا لم يكن له مال ، وكان قد تعهد له شخص بوفاء ذلك عنه ، ولا ريب أنه خارج عما نحن فيه ، ومحمول على إذن المودع بذلك.

فمن الغريب وسوسة بعض متأخري المتأخرين في الحكم المزبور لذلك ، مما هو غير صالح لمعارضة بعض ما عرفت ، خصوصا بعد كون المسألة من قطعيات الفقه وضرورياته ، بل لعل الوسوسة فيها جهل بمذاق الفن ومذاق الشرع ، بل قد عرفت أنه لا بد من رضى المضمون له بعنوان القبول الذي يتم به العقد ، لما عرفت من المفروغية عن كون الضمان عقدا محتاجا إلى الإيجاب والقبول ، بل لا بد فيهما من جميع ما هو معتبر في العقود اللازمة من الاتصال والعربية وغيرهما.

نعم يقوى عندنا فيه وفي غيره من العقود اللازمة عدم اعتبار لفظ مخصوص ولا هيئة مخصوصة ، بل كلما أفاد إنشاء ذلك ولو بالجملة الاسمية ، أو بالمجاز أو نحو ذلك ، كما أوضحناه في البيع وغيره.

ومنه يعلم حينئذ تحقق عقد الضمان بنحو « على دين زيد » أو عندي أو نحوهما مما يقصد به إنشاء التعهد بذلك ، وقرنه القبول من المضمون له ، فما عن الإيضاح والمقدس الأردبيلي ـ من اعتبار الرضا دون القبول العقدي ، لأنه التزام أو إعانة للمضمون عنه ، وتوثيق للمضمون له ، وليس هو على قواعد المعاملات ـ واضح الضعف كقول العلامة في القواعد « وفي اشتراط قبوله احتمال » إذ الجميع كما ترى ، ضرورة عدم منافاة التوثيق ونحوه للعقدية ، إذ هو حينئذ كالرهن ، بل أولى لما فيه من انتقال المال من ذمة إلى ذمة أخرى ، على أن الأصل عدم ترتب شي‌ء عليه ، إذا لم يكن بصورة العقد.

نعم لا عبرة برضا المضمون عنه بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه لأن الضمان كالقضاء للدين المعلوم عدم اعتبار الرضا فيه ، ولإطلاق الأدلة وعمومها ، ولما سمعته من واقعة ضمان أمير المؤمنين عليه‌السلام وغيره عن الميت ، بل لو أنكر وأبى بعد الضمان لم يبطل ، على الأصح للأصل وغيره من الأدلة‌

١٢٦

التي سمعتها ، خلافا لما في النهاية قال : « ومتى تبرع الضامن من غير مسألة المضمون عنه ، وقبل المضمون له فقد برأ المضمون عنه ، إلا أن ينكر ذلك ويأباه ، فيبطل ضمان المتبرع ، ويكون الحق على أصله لم ينتقل عنه بالضمان ».

وربما تبعه عليه غيره ، لكن لم نجد له دليلا ، بل ظاهر الأدلة خلافه ، وأنه لا عبرة برضاه ، ولا رده وإباؤه مانع ، سواء كان ذلك قبل الضمان أو بعده ، ومما سمعته من النهاية يعلم إرادة ما فسرناه من الإنكار في عبارة المتن ، لا جحود ضمان الضامن الذي قد يفرض اعترافه بالضمان ، على أنه لا وجه لاحتمال بطلان الضمان بذلك.

وكيف كان فـ ( مع تحقق الضمان ) الجامع لشرائط الصحة ينتقل المال إلى ذمة الضامن ويبرأ المضمون عنه وحينئذ تسقط المطالبة من المضمون له عنه لعدم الحق له في ذمته ، بلا خلاف في شي‌ء من ذلك عندنا ولا إشكال ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل لعله من ضروريات الفقه.

نعم قد عرفت مخالفة الجمهور ـ في ذلك ، باعتبار أن الضمان عندهم ضم ذمة إلى ذمة أخرى وبطلانه ، وحينئذ فـ ( لو أبرأ المضمون له المضمون عنه لم يبرأ الضامن ) من هذه الحيثية على قول مشهور لنا بل مجمع عليه بيننا ، ضرورة عدم المحل للبراءة المزبورة بعد ما عرفت من براءة ذمته بالضمان عندنا ، وإنما محلها حينئذ ذمة الضامن ، فإذا أبرأه برءا معا ، وإن كان الضمان بالإذن ، لعدم استحقاق الرجوع عليه إلا بالأداء الذي قد انتفى محله بالإبراء ، فينتفي الحق عنه للضامن الذي قد فرضنا براءة ذمته من المضمون له.

نعم قد يقال باستفادة براءة ذمة الضامن من براءة ذمة المضمون عنه ، وإن لم يكن لها محل ، باعتبار ظهور ذلك في إرادة رفع اليد عمن هو عليه ، وإن كان متعلقها المضمون عنه ، إلا أن ذلك لو سلم فهو خروج عما نحن فيه ، ضرورة كون المراد من الحيثية المزبورة ، لا من حيث دعوى دلالة العرف على إرادة البراءة للضامن أيضا ، مع أنها واضحة المنع على مدعيها مع عدم القرائن ، وكل ذلك تفريع على مذهبنا.

أما على مذهب الجمهور فلا إشكال في صحة البراءة المزبورة ، لأن الحق باق‌

١٢٧

عندهم. بل المحكي عنهم ان براءة ذمة الضامن لا يقتضي براءة ذمة المضمون عنه ، بخلاف العكس ، لأنها من قبيل الوثيقة عند الديان ، فتلفها لا يقتضي سقوط الحق بخلاف براءة ذمة المضمون عنه فإنها تقتضي براءة ذمة الضامن التي هي وثيقة على ذمة المضمون عنه ، المفروض براءتها ، فتفك حينئذ الوثيقة ، وهي كما ترى قياس واستحسان وتحدس لا يوافق أصول الشريعة وقواعدها ، ولعل قول المصنف على قول مشهور لنا إشارة إلى ما ذكرناه من الاحتمال ، لا لوجود خلاف في المسألة ، إذ قد عرفت أنها من قطعيات فقه الشيعة أو ضرورياته.

وكيف كان فلا خلاف عندنا في أنه يشترط فيه أي في لزوم الضمان الملاءة أو العلم من المضمون له بالإعسار والرضا به ، بل عن ظاهر الغنية الإجماع ، والسرائر نسبته إلى أصحابنا وجامع المقاصد ظاهرهم أن هذا الحكم موضع وفاق ، ولعل ذلك ـ مضافا إلى قاعدة الضرر ، وبناء الضمان على الارتفاق ، وإرادة الأداء وما عساه يشعر به ذيل خبر ابن الجهم (١) المتقدم ، وما تسمعه من النصوص (٢) في الحوالة الدالة على ذلك ، وهي أخت الضمان ـ دليل الحكم المزبور ، وحينئذ فإذا كان الضامن مليا أو معلوم الإعسار عند المضمون له لزم بالضمان بلا خلاف ولا إشكال.

أما لو ضمن ثم بان إعساره ، كان للمضمون له فسخ الضمان ، والعود على المضمون عنه قيل : وليس هو كالبيع إلى أجل مثلا فبان إعساره ، للفرق الواضح بينهما بالنسبة إلى الأداء ، لكن ذلك إذا كان معسرا حال الضمان ، أما إذ تجدد فلا خيار لأصالة اللزوم ، بل قد يقوى عدم الخيار أيضا لو كان معسرا حال الضمان ولم يعلم به حتى تجدد يساره ، للأصل أيضا ، ولا ينافي الخيار المزبور سبق رضى المضمون له لضمانه حال عدم العلم بإعساره ، كما أنه لا فرق في ثبوته بين إعسار المضمون عنه ، وعدمه ، لإطلاق الفتوى المقتضي أيضا عدم الخيار مع الملاءة وإن لم يكن وفيا بل ظاهرهم عدم ثبوته بغير ذلك من وجوه الضرر ، أو تعسر الاستيفاء ، ولكنه لا يخلو من‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الضمان.

١٢٨

نظر ، بل ظاهرهم أن الإعسار كاف في ثبوت الخيار المزبور وإن كان الضمان مؤجلا وأن اليسار حين الضمان كاف في لزومه وإن أعسر عند الأجل.

كل ذلك مع عدم العلم به كما عرفت ، وإلا فمع العلم به أو الرضا به على كل حال فلا إشكال ، (١) « وقد احتضر عبد الله بن الحسن فاجتمع عليه غرماؤه وطالبوه بدين لهم ، فقال لهم : لا مال عندي فأعطيكم ، ولكن ارضوا بمن شئتم من ابني عمى ، علي بن الحسين عليهما‌السلام أو عبد الله بن جعفر ، فقال الغرماء : عبد الله بن جعفر ملي مطول ، وعلي بن الحسين عليهما‌السلام رجل لا مال له صدوق وهو أحبهما إلينا ، فأرسل إليه فأخبره الخبر ، فقال أضمن لكم المال إلى غلة ولم تكن له غلة فقال القوم : قد رضينا وضمنه فلما أتت الغلة أتاح الله له المال فأداه » ثم إن هذا الخيار على الفور أو التراخي؟ وجهان ذكرناهما في نظائره ، وقلنا : إن الأصل يقتضي الثاني منهما كما اعترف به غير واحد.

وكيف كان فـ ( الضمان المؤجل ) للدين الحال جائز بلا خلاف أجده كما اعترف به بعضهم بل إجماعا كما في المسالك ومحكي التنقيح وإيضاح النافع ، وغيرها ، للعمومات السالمة عن المعارض ، إذ هو تأجيل للدين ، لا تعليق للضمان إلى الأجل ، واحتمال كون الضمان نقل الدين على ما هو عليه بحيث لا يختلف في حلول وتأجيل لا قائل به ، ولا شاهد عليه ، بل مقتضى العمومات خلافه.

نعم هل يكون هذا الأجل للدين ، أو هو أجل للضمان؟ وتظهر الثمرة فيما لو أدى الضامن من قبل الأجل ، فإنه لا يستحق الرجوع على الأول ، بخلاف الثاني الذي لا يخلو من قوة ، بل هو صريح المسالك وغيرها في المسائل الآتية ، وأما ضمانه للدين المؤجل بأزيد من أجله أو مساويه أو أنقص فلا أجد فيه خلافا محققا كذلك ، بل ظاهر المتن أنه من معقد الإجماع عليه ، بل يمكن دعوى الإجماع عليه ، بل عن فخر الإسلام أن ضمان المؤجل بمثل أجله يصح إجماعا وعن الشيخ وإيضاح النافع أن ضمان المؤجل بأزيد من أجله يصح إجماعا مضافا إلى انه مقتضى العمومات أيضا.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ـ ١.

١٢٩

نعم ربما ظهر من تعليل المنع في المسألة الآتية المنع في المساوي ، باعتبار عدم الإرفاق فيه ، كما أنه يستفاد المنع فيما لو كان الأجل أنقص مما تسمعه من تعليل فخر الإسلام والكركي المنع في بعض الصور الآتية ، بأنه ضمان ما لم يجب ، إلا أن الجميع ستعرف ضعفه ، على أنه لا معنى لإثبات الخلاف من أمثال هذه التعليلات بالتي نذكر دليلا للمخالف من غيره ، ومنه يعلم الجواز حينئذ في جميع صور المقام من غير فرق بين الضمان بالإذن والتبرع.

وفي الضمان الحال ، تردد وخلاف ، ففي محكي المقنعة والنهاية لا يصح ضمان نفس أو مال إلا بأجل ، وفي محكي الوسيلة إنما يصح الضمان بتعيين أجل المال وعد في محكي الغنية من شروط صحته أن يكون إلى أجل معلوم ، ثم عد شرطين آخرين ، وادعى الإجماع.

وظاهر هذه العبارات اعتبار الأجل في الضمان على نحو اعتباره في السلم ، وهو الذي أشار إليه في المتن بقوله تردد ، ولكن أظهره الجواز وفاقا لغير من عرفت من الأصحاب ، حتى من الشيخ في المحكي عن المبسوط ، للعمومات السالمة عن معارضة ما يقتضي اعتبار الأجل فيه كالسلم ، وإجماع الغنية ـ بناء على شموله للفرض مع عدم الشاهد له ، ومصير من عرفت من الأصحاب إلى خلافه ـ يضعف الظن به.

بل في محكي السرائر « وقد يوجد في بعض الكتب لأصحابنا ، ولا يصح ضمان مال ولا نفس إلا بأجل ، والمراد بذلك إذا اتفقا على التأخير والأجل فلا بد من ذلك ولا يصح إلا بأجل محروس فأما إذا اتفقا على التعجيل فيصح الضمان من دون أجل ، وكذا إذا أطلقا العقد ، وإلى هذا القول ذهب شيخنا في مبسوطة ، وهو حق اليقين ، لأنه لا يمنع منه مانع ، ومن ادعى خلافه يحتاج إلى دليل ولم نجده.

ومقتضى ذلك خروج المسألة عن الخلاف ، إذ هو منحصر فيما سمعت من العبارات المحتمل فيها ذلك ، مؤيدا بعدم العثور على دليل يدل على اعتبار الأجل فيه ، نحو اعتباره في التسليم ، وحينئذ يكون وجه الخلاف في المسألة اعتبار الأجل في الضمان وعدمه ، وهذا هو الظاهر من العبارة من غير مدخلية لحلول الدين وأجله ،

١٣٠

فالمؤجل حينئذ جائز إجماعا ـ من هذه الجهة ، سواء كان الدين حالا أو مؤجلا ، وسواء اتفاقا في الأجل أو اختلفا ، والحال فيه خلاف ، سواء كان الدين ، حالا أو مؤجلا.

فمن الغريب ما في المسالك حيث أنه بعد أن ذكر الصور الاثنا عشر المتصورة في المقام التي هي الضمان حالا ومؤجلا ، عن حال ومؤجل متساويين في الأجل أو متفاوتين ، فهذه ستة ، وهي إما أن تكون عن تبرع أو سؤال المضمون عنه ، فيكون اثنا عشر ، قال : وكلها جائز على الأقوى ، إلا أن موضع الخلاف فيها غير محرر ، إذ قد عرفت تحريره على الوجه المزبور ، وأن التعليل للمنع بالإرفاق في المختلف وغيره لا ينبغي أن يتصيد منه خلاف في المسألة.

نعم في ضمان المؤجل حالا أو أنقص من أجله خلاف من بعض المتأخرين كالفخر ، والكركي ، بل تستمع التردد فيه من المصنف في المسألة الثامنة ، لأنه ضمان ما لم يجب ، ولأن الفرع لا يرجع على الأصل ، ولأن مشروعية الضمان على نقل الدين على ما هو عليه.

وفيه أن المضمون المال والأجل إنما هو من التوابع والحقوق ، فمع الرضا بإسقاطه من الطرفين يسقط ، ويلزم سقوطه إذا كان بعقد لازم ، وهو واجب ، غايته أنه موسع وذلك لا يخرجه عن أصل الوجوب ، خصوصا بعد التراضي بإسقاط حق الأجل الذي هو كما يثبت للحال بعقد يسقط أيضا عن المؤجل به ، وقاعدة عدم رجحان الفرع على أصله لا دليل عليها على وجه تجدي في المقام ، كدعوى أن مشروعية الضمان على نقل الحق بوضعه إلى ذمة الضامن ، والحلول صفة مغيرة له ، فلا يشرع فيه الضمان ، وفرق بين ضمان الحال مؤجلا وبالعكس ، لعدم تشخيص المال بالحلول الذي هو عدم الأجل بخلاف العكس ، إذ هي كما ترى لا حاصل لها ، ومرجعهما معا إلى شرط في عقد الضمان مندرج تحت‌ « المؤمنون » (١) و ( أَوْفُوا ) (٢) وغيرهما من غير‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ـ ٤ ـ.

(٢) سورة المائدة الآية ـ ١ ـ.

١٣١

فرق بين اقتضائه تأجيل الحال وبالعكس ، وبذلك كله ظهر لك التحقيق في المسألة وتحرير موضع الخلاف فيها.

وأما احتمال المنع في ضمان الحال حالا والمؤجل بمثل أجله أو أنقص الناشي من تعليل المنع للضمان الحال في المختلف بالإرفاق ، فليس خلافا في المسألة ، وعلى تقديره فهو واضح الضعف ، ضرورة عدم ثبوت اعتبار الإرفاق فيه على وجه يقتضي ذلك ، خصوصا بعد عدم انحصار الفائدة فيه بذلك ، كما هو واضح.

بقي الكلام في أنه لو ضمن المؤجل حالا أو أنقص بإذن المضمون عنه كذلك ، أو مطلقا فهل يكون الدين على المضمون عنه كذلك أو فرق بين الإطلاق والتصريح فيحل ما عليه بالثاني ، لا الأول ، أو لا رجوع للضامن عليه وإن أدى إلا بعد انقضاء الأجل الأصلي للدين وجوه بل أقوال فثاني الشهيدين والفاضل في المحكي عن مختلفه ، وظاهر تحريره بل قيل إنه الذي استقر عليه رأيه في التذكرة على الأخير منها ، لعدم المقتضي لسقوطه ، إذ الإذن للضامن بالضمان حالا فضلا عن الإطلاق أعم من ذلك ، بل أقصاه الحلول بالنسبة إلى ذمة الضامن ، دون ما في ذمته للضامن.

وفي محكي التنقيح الأول ، لأن الضامن في حكم الأداء ومتى أذن المديون لغيره في قضاء دينه معجلا فقضاه استحق مطالبته ، ولأن الضمان بالسؤال موجب لاستحقاق الرجوع على وفق الإذن ، وأما مع الإطلاق فلتناوله التعجيل الذي قد عرفت اقتضاءه ذلك.

وعن ظاهر بعض المتأخرين الثاني ، ولعله الأقوى ، ضرورة عدم اقتضاء الاذن في الإطلاق التعجيل ، فلا دلالة فيه عليه ، فيكون كالتبرع به حينئذ ولعله لذا جزم بعضهم بعدم الرجوع في الإطلاق ، وجعل الإشكال في التصريح ، بل هو المحكي عن التذكرة.

نعم لو فرض إرادة ذلك منه ولو بالقرائن اتجه حينئذ الرجوع به عليه ، لأنه كالتصريح بالنسبة إلى ذلك ، ولعله لذا جزم به في محكي الإيضاح بالرجوع مع التصريح ، وجعل الإشكال في الإطلاق ، من احتمال اقتضائه الاذن في التعجيل ، وعدمه‌

١٣٢

وقد عرفت عدم اقتضائه ذلك ، كما أنك قد عرفت عدم الإشكال في الرجوع مع التصريح خصوصا إذا ضم إليه مع ذلك الرجوع عليه فعلا.

وكيف كان فقد ظهر لك مما ذكرنا مكررا أنه لو كان المال حالا ، فضمنه مؤجلا ، جاز وسقطت مطالبة المضمون عنه ، ولم يطالب الضامن إلا بعد الأجل بلا خلاف فيه عندنا ولا إشكال.

نعم قد عرفت أن هذا الأجل للضمان ، لا للدين فـ ( لو مات الضامن ، حل وأخذ من تركته ) ورجع الورثة على المضمون عنه ، وكذا لو دفع الضامن معجلا باختياره ، لإسقاط حقه ، بخلاف ما لو كان الدين مؤجلا عن المضمون عنه فضمنه الضامن كذلك ، فإنه بحلوله بموته مثلا لا يحل على المضمون عنه لأن الحلول عليه لا يستدعي الحلول على الأخر.

ولو كان الدين مؤجلا إلى أجل ، فضمنه إلى أزيد من ذلك الأجل ، جاز بلا خلاف ولا إشكال ، لكن إن أدى قبل حلول أجل الأصل ، لم يكن له مطالبة المضمون عنه إلا بعده ، وإن أدى بعد حلوله عليه وقبل حلول أجل نفسه ، فله المطالبة ، لأنه قد صار الأصل حالا ، والفرض أداء الضامن وإسقاط حق نفسه من الأجل الزائد ، وكذا القول لو مات وأدى وارثه ، نعم لو قلنا بأن الأجل للضمان أجل للدين ، اتجه حينئذ مراعاته للمضمون عنه وإن حل على الضامن ، أو أسقطه كما هو واضح.

ويرجع الضامن على المضمون عنه ، بما أداه إن ضمن باذنه ، ولو أدى بغير اذنه بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، وفي الخبر (١) « سألته عن قول الناس الزعيم غارم؟ فقال : ليس على الضامن غرم ، الغرم على من أكل المال » وفي آخر (٢) « عن رجل ضمن ضمانا ثم صالح عليه؟ قال : ليس له إلا الذي صالح‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ـ ١ ـ المستدرك ج ٢ ص ٤٩٧ وفيه قول الناس الضامن غارم.

(٢) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب أحكام الضمان الحديث ـ ١ ـ.

١٣٣

عليه » كل ذلك مضافا إلى أصالة احترام مال المسلم ، وضمانه إلا إذا بذله على جهة التبرع به ، والتأدية ، وإن كانت بغير إذنه ، إلا أن الضمان الذي هو سبب في وجوبها قد كان بإذنه ، بل في الحقيقة الإذن فيه إذن فيها.

ولا يرجع إذا ضمن بغير اذنه ولو أدى بإذنه بلا خلاف فيه أيضا بل الإجماع بقسميه كذلك عليه ، والخبران منزلان على ما إذا أذن نعم قد يقال بالرجوع لو أدى بإذنه المصرح فيها بالرجوع عليه ، لقاعدة الاحترام المزبورة ، ولا ينافيها وقوع الضمان بغير إذنه ، فإنه لا ينافي تبرع المضمون عنه بالوفاء ، فقوله حينئذ أد عني وارجع به علي كقوله لأجنبي أد عن الضامن المتبرع وارجع به على ، فمع فرض تأدية الضامن بعنوان امتثال أمر المضمون عنه ، وبقصد الرجوع عليه ، يتجه حينئذ رجوعه ، وإن كان أداء عن نفسه ، لكن من المتبرع به عنه ، فما عن بعض الناس من الإشكال ـ في الرجوع أيضا في الصورة المزبورة التي مرجعها إلى الوعد ، لعدم دليل على الرجوع عليه بالقول المزبور ـ لا يخلو من نظر أو منع ، بعد ما عرفت والله العالم.

وعلى كل حال فلا خلاف أجده في أنه ينعقد الضمان بكتابة الضامن أو المضمون عنه مع عجزهما عن النطق منضمة إلى القرينة الدالة على قصد إنشاء ذلك لا مجردة عن ذلك لاحتمالها حينئذ العبثية وغيرها بل ظاهرهم ذلك وإن تمكن من التوكيل ، بل الظاهر عدم الفرق بينها وبين غيرها من الإشارات المفهمة ، لعدم ما يدل على اختصاصها بذلك ، بل العمدة في الاكتفاء بها ـ بعد عدم الخلاف فيه ـ فحوى الاكتفاء بإشارة الأخرس التي لا فرق فيها بين الكتابة وغيرها ، وقد تقدم في البيع ما يستفاد منه الاكتفاء بالكتابة مثلا مع الإكراه على السكوت ظلما وغير ذلك فلاحظ وتأمل.

١٣٤

البحث ( الثاني في الحق المضمون )

وهو كل مال ثابت في الذمة ومرجعه الى ما في القواعد من أن شرطه المالية والثبوت في الذمة وإن كان متزلزلا كالثمن في مدة الخيار ، والمهر قبل الدخول ، بل قيل : ان على الأول الإجماع ، معلوم ومحكي في ظاهر الغنية وغيرها ، بل فيها وغيرها أيضا الإجماع صريحا على الثاني وفي محكي التذكرة لو قال لغيره : مهما أعطيت فلانا فهو علي لم يصح إجماعا ، هذا ولكن لم أجد تصريحا في اندراج العمل في الذمة في المال وعدمه.

نعم في اللمعة أن ضابطه ما جاز عقد الرهن عليه ، وربما يستظهر منه اندراجه فيه ، لكن عن التذكرة أن يكون مما يصح تملكه وبيعه ، وهو كالصريح في عدمه ، ولا ريب أن العمومات تشهد للأول ، بل هو من المال قطعا لو كان منفعة دابة ، كلية مثلا أو عبد كذلك ، بل لعل جميعه من المال ، بدليل جواز جعله عوضا في البيع والنكاح والخلع وغيرها مما يعتبر فيها المال ، كما أني لم أجد من تعرض للجمع بين ذكر الشرط المزبور والتصريح بضمان الأعيان والعهدة والصنجة وغير ذلك مما تسمعه إنشاء الله ، بل في المتن وغيره هنا ما ينافي ذلك ، فإنه قال بعد ما سمعت :

سواء كان أي المال في الذمة مستقرا كالبيع بعد القبض وانقضاء الخيار أو معرضا للبطلان كالثمن في مدة الخيار بعد قبض الثمن ولو كان قبله ، لم يصح ضمانه عن البائع عينا ولا عهدة ، لعدم دخوله تحت يده ، أما بعده فيصح ضمانه عن البائع عهدة لو ظهر المبيع مستحقا مثلا.

وهو كما ترى لا يجامع الضابط المزبور ، ضرورة عدم كون المضمون في هذا الحال مالا في الذمة ، بل هو من ضمان الأعيان.

نعم لو ضمن الثمن عن المشتري للبائع ، كان ضمانا لمال في الذمة ، بل وكذا لو ضمن عنه عهدته لو خرج مستحقا للغير إذا كان الثمن غير معين ، وإلا بطل البيع فلا ضمان حينئذ ،

١٣٥

بخلاف ما إذا لم يكن معينا ، فإن الضمان حينئذ صحيح ، لأنه في الحقيقة لمال في الذمة ، وهو الثمن الكلي ، وكذا لو كان معينا مثلا وكان المضمون عن المشتري أرشه الذي هو أيضا مال كلي في الذمة ، وبذلك يظهر لك أن ضمان العهدة هو من ضمان العين أو من ضمان المال في الذمة وليس هو شي‌ء مستقل لكن في المسالك « ان الفرق بين ضمان العهدة والمال نفسه يظهر في اللفظ والمعنى ، أما اللفظ فالعبارة عن ضمان الثمن « ضمنت لك الثمن الذي في ذمة زيد » مثلا ونحوه ، وضمان العهدة « ضمنت لك عهدته أو دركه » أو نحو ذلك ، واما المعنى فظاهر ، إذ ضمانه نفسه يفيد انتقاله إلى ذمة الضامن ، وبراءة المضمون عنه منه ، وضمان العهدة ليس كذلك ، بل إنما يفيد ضمان دركه على بعض التقديرات ، ولا يخفى عليك ما فيه بعد عدم دليل مخصوص على اعتبار اللفظ المزبور ، بل ظاهر الأدلة ، خلافه.

وعلى كل حال ضمانه يقتضي انتقال الثمن لو كان في ذمة المشتري إلى ذمة الضامن ، إلا أنه لما كان في الظاهر فراغها بالدفع المزبور لم يحكم به ، فإذا تبين فساد الدفع بكونه مستحقا للغير مثلا حكم بمصادفة الضمان المزبور لمحله ، فيترتب عليه حكمه من الانتقال إلى ذمة الضامن ، وفراغ ذمة المضمون عنه ، وهذا معنى ضمان دركه ، وإلا فلا دليل على مشروعيته مستقلا على وجه يكون غير الضمان بالمعنى المزبور كما هو واضح.

وبذلك كله يظهر لك ما في المتن والمسالك ، ولعل عبارة الفاضل في القواعد السابقة أحسن من عبارة المتن ، لاقتصارها على بيان صحة الضمان للمال الثابت في الذمة مستقرا أو متزلزلا ، كالثمن في مدة الخيار ، والمهر قبل الدخول.

ولا ريب في ظهور إرادة ضمانه عن المشتري للبائع ، وهو الذي ذكره الشيخ في المحكي عن مبسوطة حيث نفى الخلاف فيه ، وظاهره بين المسلمين عن صحة ضمان الثمن في البيع بعد تسليم المبيع ، والمهر بعد الدخول ، والأجرة بعد دخول المدة ، وعن صحة ضمان الثمن قبل التسليم ، والأجرة قبل انقضاء الإجارة ، والمهر قبل الدخول ، قال : فهذه الحقوق لازمة غير مستقرة ، فيصح ضمانها أيضا بلا خلاف ، وأما ضمان‌

١٣٦

العهدة فهي مسألة مستقلة ، سيذكرها المصنف في اللواحق ، لا مدخل لها فيما نحن فيه فلاحظ وتدبر.

وكذا يصح ضمان ما ليس بلازم ولكن يؤول إلى اللزوم ، كمال الجعالة قبل فعل ما شرط عليه من العمل وكمال السبق والرماية وفاقا للمحكي عن المبسوط ، والتحرير ، والمختلف ، ومجمع البرهان ، والتذكرة ، إلا أنه قال : إذا شرع في العمل ، بل لعله المراد مما عن الخلاف والغنية « يصح ضمان مال الجعالة إذا فعل ما شرط الجعالة به » بناء على إرادة الكشف من الشرط المزبور ، بقرينة استدلالهم عليه بقوله تعالى (١) ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) وقوله عليه‌السلام (٢) « الزعيم غارم » ومرجع الثاني إلى العمومات التي هي العمدة ، مضافا إلى ما عن المختلف من الاستدلال عليه بمسيس الحاجة إليه ، فجاز ضمانه وكقوله الق متاعك وعلى ضمانه ، والى ما عن التذكرة من وجود سبب الوجود وانتهاء الأمر فيه إلى اللزوم كالثمن في مدة الخيار.

ولكن مع ذلك كله قال المصنف على تردد ينشأ من احتمال عدم سببية عقد الجعالة لثبوت المال في الذمة ، وانما هو جزء السبب الذي هو مع العمل ، فتكون الضمان حينئذ قبل تمامه ضمان ما لم يجب ، والآية الشريفة محمولة على ارادة التعهد العرفي لا العقدي ، ضرورة عدم قبول مضمون له يثبت له حق في ذمة الجاعل ، أو على ارادة بيان كون الجعل منه على ذلك ، لا على الملك أو على غير ذلك.

والعمومات بعد فرض ما عرفت من كون الضمان نقل ما في ذمة إلى أخرى عندنا لا يشمل المفروض الذي لم يثبت بعد في الذمة ، ولا حاجة ماسة إلى ذلك على وجه يستدل بها على مشروعيته ، كما لا سبب للوجوب قبل إتمام العمل ، وانتهاء الأمر إلى اللزوم بعد عدم الثبوت فعلا لا يجدى.

نعم قلنا ان عقد الجعالة سبب تام في الثبوت في الذمة ، وإن عرض له البطلان‌

__________________

(١) سورة يوسف الآية ـ ٧٢.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٤٨٩.

١٣٧

بعدم إتمام العمل ، أو بالفسخ أو نحو ذلك ، اتجه حينئذ ضمانه للثبوت في الذمة حينئذ فعلا وإن كان معرضا للبطلان ، لأنه لا ينافي صحة الضمان.

وكذا يصح لو قلنا بأن العمل من الشرائط الكاشفة ، لكن بتمام العمل ينكشف صحة الضمان ، وبعدمه ينكشف بطلانه ، ولعل ذلك لا يخلو من قوة ، وقد سمعت إمكان إرادته من الشيخ وابن زهرة ، ومما ذكرنا ظهر لك أن التردد في الحكم من المصنف للتردد في أصل ثبوت مال الجعالة في الذمة لا للتردد في صحة الضمان ، وان لم نقل بثبوته فيها كما عساه يوهمه ما سمعته من المختلف والتذكرة ، والتحقيق ما عرفت في مال الجعالة ، ومثله يجري في مال السبق والرماية ، ويأتي إنشاء الله في بابيهما تمام الكلام في ذلك ، هذا كله قبل العمل.

أما بعده فلا إشكال ولا خلاف في صحة الضمان وهل يصح ضمان مال الكتابة قيل والقائل الشيخ في المحكي من مبسوطة لا يصح لأنه ليس بلازم ، ولا يؤول إلى اللزوم أما الأول فلانه لا يلزم العبد في الحال ، لأن للمكاتب إسقاطه بفسخ الكتابة ، للعجز فلا يلزم العبد في الحال ، وأما الثاني فلأنه إذا أداه عتق ، وإذا عتق خرج عن ان يكون مكاتبا ، فلا يتصور أن يلزم في ذمته مال الكتابة بحيث لا يكون له الامتناع من أدائه ثم قال : فهذا المال لا يصح ضمانه ، لأن الضمان إثبات مال في الذمة ، والتزام لأدائه ، وهو فرع للمضمون عنه ، فلا يجوز أن يكون ذلك المال في الأصل غير لازم ، ويكون في الفرع لازما ، فلهذا منعنا عن صحة ضمانه ، وهذا لا خلاف فيه.

ولكن لا يخفى عليك أنه لو قيل بالجواز كان حسنا وفاقا للفاضل وثاني الشهيدين والكركي وغيرهم ، لتحققه في ذمة العبد بعقد الكتابة ولو المشروطة ، فيصح حينئذ ضمانه كما لو ضمن عنه مالا غير مال الكتابة وجواز تعجيز نفسه فيعود رقا ، لا ينافي الثبوت في الذمة ، بل أقصاه عدم الاستقرار كالثمن في مدة الخيار بل أولى منه ، ضرورة أنه هنا مع الضمان عنه لينعتق ، لأنه بحكم الأداء بخلاف الثمن في مدة الخيار ، فإن ضمانه لا يرفع أصل الخيار.

١٣٨

ومن هنا أشكل جواز الضمان في الفرض على تقدير الجواز ، لأنه يؤدى إلى اللزوم قهرا على المكاتب ، لعدم اشتراط رضي المضمون عنه في صحة الضمان ، فينافي الفرض ، من بناء الكتابة على الجواز من طرف المكاتب ، وإن كان هو كما ترى إشكال هين ، وإلا لم يجز التبرع بالأداء عنه لذلك أيضا ، هذا.

ولا يخفى عليك أن ظاهر المتن وما سمعته من عبارة المبسوط بل قيل والتحرير ، والتذكرة ، والمختلف أن محل النزاع الأعم من المشروطة والمطلقة ، لكن في المسالك أن محله الأولى ، إذ لا خلاف في لزوم المطلقة والأمر سهل بعد ما عرفت وتعرف إنشاء الله في باب الكتابة على ذلك.

ويصح ضمان النفقة الماضية للزوجة بلا خلاف ولا إشكال ، لأنها من الديون في ذمة الزوج كما حررناه في محله ، بل صريح الشيخ أيضا والفاضلين والكركي وثاني الشهيدين والحلي على ما حكى عن بعضهم صحة ضمان الحاضرة لها أيضا أي الزوجة لاستقرارها وثبوتها في ذمة الزوج بصبيحة ذلك اليوم الذي أظهرت التمكين فيه دون المستقبلة التي لم يحصل سبب وجوبها الذي منه التمكين الفعلي ، وهو غير معقول في الزمان المتأخر بخلاف الحاضرة التي يظهر من أدلة النفقة الاكتفاء في وجوبها بالتمكين فعلا في صبيحة ذلك اليوم ، وإن قلنا بسقوطها بالنشوز في أثنائه ، إلا أنه لا ينافي أصل الثبوت في الذمة وهو كاف في صحة الضمان ، خصوصا بعد عدم استرداد نفقة النهار بالموت والطلاق ، وإنما الخلاف في نفقة الليل كما حررنا ذلك كله في كتاب النكاح هذا.

وفي محكي المبسوط : إنما يصح ضمان نفقة المعسر ، لأنها ثابتة على كل حال ، وأما الزيادة عليها إلى تمام نفقة الموسر فهي غير ثابتة ، لأنها تسقط بإعساره ، وتبعه على ذلك القاضي فيما حكى عنه ، وفيه أن الاعتبار حينئذ بالزوج المضمون عنه فان كان موسرا ضمن عنه نفقة الموسر ، وإلا فنفقة المعسر ، ولا يسقط الزائد على نفقة المعسر بإعسار المؤسر بعد وجوبه.

وربما كان ذلك من الشيخ والقاضي تفريعا على قول أهل الخلاف من صحة‌

١٣٩

ضمان المستقبلة ، لأن المحكي عنه اشتراط تقدير المدة ، وأن يكون المضمون نفقة المعسرين ، وإن كان المضمون عنه موسرا أو متوسطا ، لانه ربما يعسر ، فالزائد على نفقة المعسرين غير ثابت ، لأنه يسقط بالعسر ، ثم إن تقييد المصنف بالزوجة ظاهر في عدم صحة ضمانها للقريب ، وهو كذلك في الماضية ، لعدم ثبوتها في ذمته وإن قصر في دفعها ، لأنها من خطاب المواساة الذي لا يقتضي إثباتا في الذمة.

اما الحاضرة ففي القواعد والمسالك ومحكي التذكرة وغيرها صحة ضمانها ، بل لا أجد خلافا فيه بين من تعرض لذلك ، معللين له بوجوبها بطلوع الفجر ، ولكن فيه ان هذا الوجوب لا يقتضي ثبوتها في الذمة ، وإلا لوجب أيضا بعد فوات الوقت ، لعدم الدليل حينئذ على سقوطه منها بعد ثبوته فيها ، وإنما هو خطاب مواساة وبر وصلة ، ولا شي‌ء منها يقتضي الثبوت في الذمة من غير فرق بين الماضية والحاضرة ، ولعل تقييد المصنف بالزوجة لإخراج أصل الضمان لنفقة القريب ، من غير فرق بين الماضية والحاضرة والمستقبلة ، وقد حررنا في كتاب النكاح تحقيق الحال في ذلك فلاحظ وتأمل. وكيف كان ففي صحة ضمان الأعيان المضمونة بمعنى وجوب ردها أو قيمتها أو مثلها عليه مع من في يده كالغصب والمقبوض بالبيع الفاسد ونحوهما تردد وخلاف والأشبه عند المصنف والفاضل في المحكي عن تحريره ، وإرشاده ، ومحكي المبسوط الجواز للعمومات ، ولأنه ضمان مال مضمون على المضمون عنه ، وفيه أنه لا عموم يقتضي شرعية الضمان على الوجه المزبور ، حتى‌ قوله (١) « الزعيم غارم » الذي هو ليس من أخبارنا بل هو من قول الناس الذين هم مخالفونا كما سمعته في الخبر السابق الظاهر في الإنكار عليهم.

وعموم (٢) ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) انما يقتضي وجوب الوفاء بكل عقد على حسب مقتضاه ، وقد عرفت أن الضمان عندنا من النواقل ، وان شرطه ثبوت المال في الذمة ، والأعيان المضمونة إنما يجب ردها ، وهو ليس بمال في الذمة ، والغاصب مثلا مخاطب‌

__________________

(١) المستدرك ج ـ ٢ ـ ص ٤٩٧.

(٢) سورة المائدة الآية ـ ١.

١٤٠