عمّار بن ياسر

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه

عمّار بن ياسر

المؤلف:

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه


الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٤٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

يؤذونه (١)

إن هذه المواقف من شيخ مكة وعميدها كانت تمهد للرسول المصطفى ( ص ) طريق دعوته وتشد من عزائم المؤمنين ، وتزيد من صبرهم على المكاره ، كما كانت في المقابل تؤجج نار الحقد في قلوب مشركي مكة من القرشيين وغيرهم ، فهم لا يستطيعون النيل من محمدٍ بشخصه في تلك الفترة تحامياً لسطوات بني هاشم ، وهيبةً لهم ولعميدهم أبي طالب ، لذلك عمدوا إلى الإِنتقام من أتباع محمد ممن كانوا تحت قبضتهم وسلطتهم ، فوثب كل واحدٍ منهم إلى أحلافه وعبيده من المسلمين منزلين بهم أشد العقوبات ، وأقسى ألوان التعذيب ، طمعاً في ردهم عن دينهم الجديد ، وانتقاماً من محمد ( ص ) في آنٍ واحد .

وعلى سبيل المثال لا الحصر ، وثب لبلال بن رباح أمية بن خلف الجمحي (٢) فكان يخرجه إذا حميت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة توضع على صدره ، ويقول أمية : لا يزال بلالٌ على ذلك حتى يموت ، أو يكفر بمحمد !

فيقول بلال : أحدٌ أحد (٣) . .

وخباب بن الأرت ، كان يُعرّىٰ ويُلْصَقُ ظهره بالرمضاء ، ثم الرضف ـ الحجارة المحماة بالنار ـ ويلوون رأسه ، وهو لا يجيبهم إلى شيء مما أرادوه منه ، وقد قال يوماً لعمر بن الخطاب انظر إلى ظهري ! فنظر ، فقال : ما رأيت كاليوم ! قال خباب : لقد أوقدت لي نارٌ وسحبت عليها ، فما أطفأها إلا ودك ظهري (٤) .

__________________

(١) اليعقوبي : ٢ / ٢٤ ـ ٢٦ .

(٢) أمية بن خلف كان من طواغيت مكة وكان شديد العداء لمحمد ، وقد قتل في غزوة بدر بعد أن أسره بلال

(٣) الإصابة : ج ١ ـ ١٦٥ .

(٤) سفينة البحار : ١ ـ ٣٧٢ وكذلك الإِصابة .

٤١
 &

وأبو فكيهة ، كان عبداً لصفوان بن أمية الجمحي ، أسلم مع بلال ، فأخذه أمية بن خلف وربط في رجله حبلاً ، وأمر به فجُرَّ ، ثم ألقاه في الرمضاء ، ومرَّ به جُعَلْ ـ خنفساء ـ فقال له أمية : أليس هذا ربك ؟! فقال : الله ربي وربك ورب هذا . فخنقه خنقاً شديداً ، ومعه أخوه أبيّ بن خلف يقول : زده عذاباً حتى يأتي محمدٌ فيخلصه بسحره !

وكانوا يضعون الصخرة على صدره حتى يدلع لسانه ، ولم يرجع عن دينه ، ولم يزل على تلك الحال حتى ظنوا أنه قد مات (١) .

ولم يقتصر الأمر على الرجال فقط ، بل شمل النساء حتى العواجز منهن ، فكانت سميّة ـ أم عمار ـ وزنَّيرة ، ولبيبة ، وغيرهن ممن عذبن في الله .

أما زنيرة : فكانت امرأةً وقوراً أدبها الفقر ، وأعزها الإِسلام ، وكانت أمةً لبني عدي ، وكان يشترك في تعذيبها كل من أبي جهل وعمر حتى عميت ، فقال لها : إن اللات والعزى فعلا بك ذلك ! قالت : وما يدري اللات والعزى من يعبدهما ؟! ولكن هذا أمر من السماء ، وربي قادرٌ على رد بصري . فأصبحت من الغد وقد ردَّ الله بصرها . فقالت قريش : هذا من سحر محمد (٢) !!

ومثلها لبيبة ، جارية بني مؤمل ، أسلمت قبل إسلام عمر ، وكان عمر يعذبها حتى تفتن ، ثم يدعها ويقول : إني لم أدعك إلا سآمة . فتقول : كذلك يفعل الله بك إن لم تسلم (٣) !! وكذلك أم عبيس جارية بني زهرة ، والنهدية مولاة بني نهد واضرابهن ممن واجهن المحنة في سبيل الإِسلام .

غير أن سمية ـ أول شهيدة في الإِسلام ـ كان لتعذيبها حتى شهادتها وجه

__________________

(١) الكامل : ٢ ـ ٦٦ وغيره .

(٢) المصدر السابق .

(٣) نفس المصدر ـ ٦٨ وكذلك الإِصابة : ٤ / ٣١٢ .

(٤) نفس المصدر : ٦٨ والإصابة .

٤٢
 &

آخر يختلف تماماً عن رفيقاتها ورفقائها ، حيث كانت تُعذَّبُ في نفسها وفي زوجها ياسر ، وفي ولدها عمار ، بل كان كل واحدٍ من هذه العائلة يلاقي نفس الدور من طاغوت مكة أبي جهل . . لقد كان نصيب آل ياسر من تلك المعاناة الحصة الكبرى والحظ الأوفر .

كانت سمية سابعة سبعةٍ في الإِسلام ، عجوزاً ضعيفةً وقعت في براثن وحش كاسر ، إلا أن نفسها كانت أصلب من الحديد ، وأقوى من السياط ، تواجه الحقد الأعمى لهباً يتمدد على جسدها الطاهر بإيمان قوي وعقيدة راسخة مما جعل طاغوت مكة أبا جهل يفقد صوابه . . لقد أراد أن يسمع منها ما يكرهه قلبها . . أن تنال من محمدٍ ودينه . . ولكنها أسمعته ما يكره ، فعمد إلى حربةٍ كانت بين يديه ، فوجأها في قلبها ، فكانت أول شهيدة في الإِسلام .

وواجه زوجها ياسر ـ الشيخ الهرم ـ عين المصير فأمسى نجماً متألقاً في سماء الشهادة .

وبين الوالد والأم كانت محنة عمّار ـ الابن ـ تتفاقم وتزداد حتى كأنه يتلقى صورة تعذيبهما نصب عينيه ونبأ استشهادهما عذاباً متجدداً عليه يضاعف آلامه ومحنه .

بالإِضافة إلى هذا فانهم لم يتركوا وسيلةً من وسائل القهر والتعذيب إلا استعملوها معه ، فتارةً يسحبونه على الرمضاء المحرقة مجرداً من ثيابه ، ثم يضعون صخرةً كبيرةً على صدره ، فان يئسوا منه لجأوا إلى تغريقه بالماء بغمس وجهه ورأسه حتى يختنق أو يشرف على الموت ، فكان لا يدري بما يقول !

قال بعضهم وقد رأى عماراً متجرداً في سراويل : نظرت إلى ظهره فيه حبط كثير ، فقلت : ما هذا ؟! قال : هذا مما كانت تعذبني به قريش في رمضاء مكة (١) .

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٣ / ٢٤٨ .

٤٣
 &

ويمر رسول الله ( ص ) بتلك الكوكبة من طلائع المسلمين وهم يواجهون المحنة ويصوغون بها الفجر الجديد في تأريخ الإِنسانية ، فيمسح جراحهم ويلملم أحزانهم معزياً ومسلياً وينظر الكل إليه بعيونٍ أتعبها ظلام العابثين والحاقدين ، فيرون في عينيه بريق أملٍ ووميض رجاء ، وينظر إليهم ( ص ) ثم يصافحهم مقوياً من عزائمهم شاداً على أيديهم . . وفي تلك اللحظات يقول له خباب بن الأرت : يا رسول الله ، أدعُ لنا ، فيدعو لهم . ثم يلتفت إليهم ويقول : إنكم لتعجلون ! لقد كان الرجل ممن كان قبلكم يمشط بأمشاط الحديد ويشق بالمنشار فلا يرده ذلك عن دينه ! والله ليتممن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله ، والذئب على عنزه (١) .

إلا أنه صلوات الله عليه حينما يمر على عائلة ياسر ينظر إليهم برحمةٍ وشفقة . . ثم ما يلبث أن يقول : صبراً يا آل ياسر ، فان موعدكم الجنة (٢) ثم يقبل على عمّار فيعزيه ويسليه ، ويجهش عمّار باكياً وهو يبث إلى رسول الله همومه وأحزانه فيقول : يا رسول الله ، بلغ منا العذاب كل مبلغ فيقول ( ص ) : صبراً يا أبا اليقظان ، اللهم لا تعذب أحداً من آل ياسر بالنار (٣) .

وكاد عمّار أن يلتحق بأبويه لفرط ما واجه من ضغوط نفسية وجسدية تترك أقوى النفوس مضعضعةً مهزوزة ، وأقوى الأجساد مكلومةً ومعاقة لولا إن المشيئة الإِلهية إختارت البقاء لهذا الإِنسان كي يؤدي دوره التأريخي كاملاً أزاء الرسول محمد ( ص ) ورسالته الخالدة ، وأن يتوج حياته المباركة بأعظم المواقف التي يسجلها تأريخ أمةٍ لعظيم من عظمائها وقائدٍ من قادتها . بطلٌ من أبطال « بدر » وأمير على الكوفة ، وقائد من قوّاد علي . .

__________________

(١) اليعقوبي : ٢ / ٢٨ .

(٢) الإِصابة : ٢ / ٦٤٨ .

(٣) الإِصابة ٤ / ٣٣٤ .

٤٤
 &

لقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه فقط ، وربما كان ذلك من فرط التعذيب الذي وصفه المؤرخون بقولهم : « كان يعذب حتى لا يدري ما يقول . . » (١) .

ربما قال ما قال وهو في حالة غيبوبة أو شبه غيبوبة ، فحينما سأله النبي ( ص ) ما وراءك ؟ قال : شرٌّ يا رسول الله ، والله ما تركت حتى نلت منك يا رسول الله ، وذكرت آلهتهم بخير . قال : فكيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئنٌ بالإِيمان . قال : فان عادوا عُدْ . وفي ذلك نزلت الآية الكريمة : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) (٢) .

أجل ، أعطاهم بلسانه ما أرادوا ، وأما قلبه فظل كما هو مطمئناً بالإِيمان مفعماً بحب محمدٍ وآل محمد ، مشرقاً بنور الهداية وآلاء الله سبحانه .

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ٢ / ٢٤٨ .

(٢) الطبقات الكبرى : ٣ / ٢٤٩ .

٤٥
 &

الهجرة إلى بلاد الحبشة

إزداد المسلمون عدداً فازدادت قريش حنقاً واستمرت في محاربتها لهم آملةً من وراء تنكيلها بهم القضاء عليهم أو إنهاء قدرتهم على التحرك ، فافتتن من افتتن وثبت من ثبت وعصمه الله . ورأى رسول الله ( ص ) ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله وعمه أبي طالب ، وأنه لا يقدر أن يمنع أصحابه مما هم فيه من القهر والمطاردة ، فأشار عليهم أن يتفرقوا في الأرض .

قالوا : إلى أين نذهب ؟

قال ( ص ) : لو خرجتم إلى أرض الحبشة ، فإن بها ملكاً لا يُظلم أحدٌ عنده ، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه (١) .

والحبشة بلاد تقع في شمال افريقيا ، وهي هضبةٌ مرتفعة ، تعلوها جبالٌ شامخة كثيرة الوعورة ، صعبة المسالك ، بها أنهار كثيرة أشهرها النيل الأزرق بالإِضافة إلى أن الطقس فيها جيد صحي في الجبال لكنه حار مضر في المنخفضات أما أهلها فيعتنقون الديانة المسيحية والمذهب القبطي بالذات

__________________

(١) الطبري ٢ / ٣٢٨ .

٤٦
 &

وكان هذا الدين قد دخل تلك البلاد في القرن الرابع الميلادي (١) .

وهكذا خرج المسلمون قاصدين تلك الأرض مخافة الفتنة وفراراً إلى الله بدينهم فلحقهم الطلب لولا أن يسّر الله لهم سفينةً تنقلهم وتنقذهم ، وكانوا إثني عشر رجلاً من بينهم عمّار بن ياسر (٢) .

لقد كانت أرض الحبشة متجراً لقريش يجدون فيها سعةً من الرزق وأمناً ، وكان بينهم وبين زعمائها علاقات ودّ وصداقة لذلك طمعوا في إرجاع أولئك النفر المسلمين بأن أوعزوا إلى عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد المخزومي أن يحملا معهما الهدايا للملك وحاشيته وأن يسألاه تسليمهم إياهم والرجوع بهم إلى مكة .

سار عمرو وعمارة حتى وصلا إلى الحبشة ، فلما استقرت بهم الدار طلبا من بعض المقربين للملك أن يكونوا عوناً لهم على ما جاؤوا لأجله فوعدوهم بذلك ، ثم لما اجتمعا بالملك قالا له :

أيها الملك ؛ إن ناساً من سفهائنا فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم ولقد أرسلنا أشراف قومهم لتردهم إليهم .

ووفقاً للخطة أشار أصحاب النجاشي عليه بتسليم المسلمين إليهم ، فغضب من ذلك وقال : لا والله ، لا أسلم قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم وأسألهم عمّا يقول هذان ، فان كانا صادقين سلمتهم إليهما ، وإن كانوا على غير ما يذكر هذان منعتهم واحسنت جوارهم . ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب النبي ( ص ) فدعاهم ، فحضروا وقد أجمعوا على صدقه فيما ساءه وسرّه ، وكان المتكلم عنهم جعفر بن أبي طالب .

__________________

(١) دائرة معارف القرن العشرين / حرف الحاء .

(٢) كما يظهر من بعض النصوص .

٤٧
 &

فقال لهم النجاشي : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ؟ ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحدٍ من الملل !؟

فقال جعفر : أيها الملك ، كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا لتوحيد الله وأن لا نشرك به شيئاً ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام ، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم ، وأمرنا بالصلاة والصيام ، فأمنا به وصدقناه ، وحرمنا ما حرم علينا ، وحللنا ما أحلَّ لنا ، فتعدى قومنا علينا ، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك .

فقال النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله شيء ؟ قال : نعم ، فقرأ عليه سطراً من سورة مريم ، فبكى النجاشي وأساقفته وقال : إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاةٍ واحدة . إنطلقا ، والله لا أسلمهم إليكما أبداً !

فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص : والله لآتينه غداً بما يبيد خضراءهم .

فلما كان الغد قال للنجاشي : أيها الملك ، إن هؤلاء يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً ! فأرسل النجاشي فسألهم عن قولهم في المسيح . فقال جعفر : نقول فيه الذي جاءنا به نبينا : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول .

فأخذ النجاشي عوداً من الأرض وقال : ما عدا عيسى ما قلت هذا العود ، فاستاءت بطارقته ، فقال : وإن أنكرتم . ثم قال للمسلمين إذهبوا فأنتم أمنون ، ما أحب أن لي جبلاً من ذهب وانني أذيت رجلاً منكم . ورد

٤٨
 &

هدية قريش وقال : ما أخذ الله الرشوة مني حتى أخذها منكم ، ولا اطاع الناس فيّ حتى أطيعهم فيه (١) .

__________________

(١) راجع الكامل : ٢ / ٨٠ ـ ٨١ .

٤٩
 &

الحصار في الشعب

حيث يئس المشركون من الوصول إلى محمد ( ص ) لقيام أبي طالب دونه ، أجمعوا على أن يكتبوا بينهم وبين بني هاشم صحيفة مقاطعة يتعاقدون فيها على أن لا يناكحوهم ولا يبايعونهم ولا يجالسوهم ! فكتبوها وعلقوها في جوف الكعبة تأكيداً على أنفسهم فلما فعلوا ذلك إنحاز بنو هاشم وبنوا المطلب فانضموا كلهم إلى أبي طالب ودخلوا معه الشعب فاجتمعوا إليه ما عدا أبي لهب فانه خرج إلى قريش وظاهرها على قومه .

إستمر الحصار مضروباً زهاء ثلاث سنوات مما أضر ببني هاشم فضاق عليهم الأمر حتى أنهم عدموا القوت إلا ما كان يحمل إليهم سراً وخفيةً ، وأخافتهم قريش حتى لم يكن يظهر منهم أحد ولا يدخل إليهم أحد وكان ذلك أشد ما لاقاه رسول الله ( ص ) في دعوته في مكة . حتى أن حكيم بن حزام حمل قمحاً لعمته خديجة فلقيه أبو جهل وأراد منعه من ذلك وقال له : أتحمل الطعام إلى بني هاشم ، والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك في مكة : فأقبل العاص بن هشام فقال : ما لك وإياه ؟ قال : إنه يحمل الطعام إلى بني هاشم ! فقال العاص : يا هذا إن طعاماً كان لعمته عنده بعثته إليه فيه ، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها ؟ خلّ سبيل الرجل ! فأبى أبو جهل حتى نال كلٌّ منهما من صاحبه ، فأخذ العاص لحى بعير فضربه به فشجه ووطأه وطأً شديداً

٥٠
 &

فانصرف وهو يكره أن يعلم رسول الله وبنو هاشم بذلك فيشمتوا .

وهيأ الله سبحانه الأسباب لإِبطال الصحيفة وفك الحصار ، وذلك : أن هشام بن عمرو بن الحارث كان ذا شرف في قومه ، فكان يأتي بالبعير ليلاً وقد أوقره طعاماً وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب فيدخل به إليهم ثم يعود ويأتي مرةً أخرى وقد أوقره تمراً ، وفي ذات يوم أقبل إلى زهير بن أمية المخزومي فقال : يا زهير ، أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وتلبس الثياب . . وأخوالك حيث قد علمت ! يبتاعون ولا يبتاع منهم ولا يواصلون ولا يزارون ، أما اني أحلف لو كان أخوال أبي الحكم ودعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك أبداً !

فقال : ويحك يا هشام ، فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد ، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقض هذه الصحيفة القاطعة . قال : قد وجدتَ رجلاً . قال : من هو ؟ قال : أنا . قال زهير : ابغنا ثالثاً . فذهب زهير إلى المطعم بن عدي فقال : يا مطعم ، أرأيت أن يهلك بطنان من عبد مناف جوعاً وجهداً وأنت شاهد على ذلك . موافق لقريش فيه !؟ أما والله لئن أمكنتموهم من هذا لتجدّن قريش إلى مساءتكم في غيره سريعة . قال : ويحك ، ماذا أصنع ، إنما أنا رجل واحد ! قال : وجدت ثانياً ، قال : من هو ؟ قال : زهير بن أمية . فصاروا ثلاثة . فقال له المطعم : ابغنا رابعاً . فذهب إلى أبي البختري بن هشام وقال له مثلما قال للمطعم ، قال : هل من أحد يعين ؟ قال نعم ثم عدد له الأسماء ، فقال له : فابغنا خامساً . فمضى إلى زمعة بن الأسود بن المطلب فكلمه فقال : وهل يعين على ذلك أحد ؟ قال : نعم ، ثم عدد له القوم وسماهم ، فاتفقوا أن يلتقوا في مكان يقال له حطم الحجون ليلاً بأعلى مكة فأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها .

قال زهير : أنا أبدأكم وأكون أولكم يتكلم ، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير بن أبي أمية وعليه حلّة له ، فطاف بالبيت سبعاً ، ثم أقبل

٥١
 &

على الناس فقال : يا أهل مكة ، أنأكل الطعام ونشرب الشراب ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكىٰ !! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة ، وكان أبو جهل في ناحية المسجد ، فقال : كذبت والله لا تُشق . فقال زمعة بن الأسود لأبي جهل : والله أنت أكذب ، ما رضينا بها والله حين كُتبت ، فقال أبو البختري معه : صدق والله وكذب من قال غير ذلك ، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها ، وقال هشام بن عمرو مثل قولهم . فقال أبو جهل : هذا أمر قُضي بليل .

وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة وشقها فوجد الأرضة (١) قد أكلتها إلا ما كان من « باسمك اللهم » .

أما كاتبها منصور بن عكرمة فشلت يده (٢) . وبذلك فرّج الله سبحانه عن رسوله وعن الهاشميين فعادوا إلى ديارهم ومنازلهم لولا أن الأمور لم تقف عند هذا الحد كما سيأتي .

لقد كان هدف قريش من الحصار هو إخضاع محمدٍ ومن معه لمشيئتهم وإرادتهم ، والحد من نشاطهم وبالتالي تحجيمهم والقضاء عليهم ، وانتهى الحصار وانتهت معه تلك الأحلام اليائسة ، غير أن ذلك لم يمنعهم من مواصلة التفكير في إيجاد خطة تسمح لهم بالقضاء على محمدٍ دون ضجة ، وبالفعل فقد وجدوا الوسيلة لتحقيق ذلك لولا أن الله سبحانه أراد غير ما أرادوا .

فقد اجتمعوا فيما بينهم واستقر رأيهم على أن يختاروا من كل قبيلة فتىً من فتيانها الأشداء مزوداً بسلاحه الكامل يجتمعون ثم يقتحمون على النبي داره فيضربونه وهو على فراشه ضربة رجلٍ واحد ، وبذلك يضيع دمه بين القبائل وينتهي كل شيء وعندها يكون بنو هاشم أمام خيارين إما مقاتلة كل

__________________

(١) الأرضة : بإصطلاح العامة العِثْ .

(٢) شرح النهج : ٢ / ٣١٣ .

٥٢
 &

العرب ، أو الإِستسلام للأمر الواقع والسكوت على ما يحصل ، ولا شك أنهم سيختارون الثاني .

واستعد القوم لتنفيذ الخطة ، وأحاطوا بالدار ، وأعلم الله نبيه بذلك فأمر علياً أن ينام في فراشه ويتشح ببرده الأخضر وأمره أن يؤدي ما عنده من وديعة وأمانة وغير ذلك ، ثم خرج ( ص ) من أمامهم وهم لا يرونه وهو يتلو قوله تعالى : ( وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ) (١) .

واندفع الفتية نحو البيت سالّين سيوفهم وإقتحموا المكان الذي ينام فيه النبي ( ص ) إلا أنهم فوجئوا بعليٍّ يتمدد على الفراش وقد اشتمل ببرد النبي . . وأسقط ما في أيديهم وتراجعوا ببرودٍ وتخاذل ، وأنزل الله سبحانه في تلك المناسبة ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (٢) .

تابع النبي ( ص ) سيره ، وتابعت قريش كيدها فجعلت لمن يأتي به مائة ناقة . وكان معه أبو بكر ، فاستأجرا عبد الله بن أرقد من بني الديل يدلهما على الطريق فتبعهم سراقة بن مالك بن جشعم المدلجي فلحقهم وهم في أرضٍ صلبة ، فقال أبو بكر : يا رسول الله أدركنا الطلب ! فقال : لا تحزن إن الله معنا ، ودعا عليه رسول الله ( ص ) فارتطمت فرسه إلى بطنها وثار من تحتها مثل الدخان ، فقال : ادعُ لي يا محمد ليخلصني الله ولك علي أن أرد عنك الطلب ! فدعا له ، فتخلص . فعاد يتبعهم ، فدعا عليه الثانية ، فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأولى ، فقال : يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك علي ، فادعُ لي ولك عهد الله أن أرد عنك الطلب .

فدعا له فخلص ، وقرب من النبي ( ص ) وقال له : يا رسول الله ، خذ

__________________

(١) يس : ٩ .

(٢) الأنفال : ٣٠ .

٥٣
 &

سهماً من كنانتي وان إبلي بمكان كذا فخذ منها ما أحببت ، فقال : لا حاجة لي في إبلك . فلما أراد سراقة أن يعود قال له رسول الله ( ص ) : كيف بك يا سراقة إذا سوّرت بسواري كسرى ؟! قال : كسرى بن هرمز ؟ قال : نعم ، فعاد سراقة فكان لا يلقى أحداً يريد الطلب إلا قال : كفيتم . ما ههنا ! ولا يلقى أحداً إلا ردّه (١) .

فلما رجع إلى مكة أخبرهم بما جرى فكذبوه ، وكان أشدهم له تكذيباً أبو جهل فقال سراقة :

أبا حكمٍ والله لو كنت شاهداً

لأمر جوادي حيث ساخت قوائمه

علمتَ ولم تشكك بأن محمداً

رسول وبرهان فمن ذا يكاتمه (٢)

وهكذا تابع النبي ( ص ) سيره نحو المدينة حتى وصل إلى قباء لاثنتي عشرة ليلةً خلت من شهر ربيع الأول (٣) حيث ولد في هذا العالم تأريخ جديد إسمه الهجرة .

مسجد المدينة

في المدينة كانت بداية الإِنتقال من الدعوة إلى الدولة ، فكان لا بد من وضع الأسس لبناء تلك الدولة الحديثة التي قدر الله لها أن تكون المنارة الروحية والفكرية للإِنسان عبر العصور ، ومصدر إشعاع وخير لكل الأجيال في كل الأزمان ، وأول مؤسسة إجتماعية أقيمت في جسم تلك الدولة هي « المسجد » ففيه تقام العبادة ، وفيه تنشر الرسالة ، يجتمع فيه المؤمنون لآداء واجباتهم الدينية بين يدي ربهم متعبدين له سبحانه وتعالى وحده ، ومن ثم يستمعون إلى ما أوحي للنبي الكريم ( ص ) ولما يأمرهم وينهاهم ، ولا ننس أن كل لقاءٍ بين النبي وأصحابه في أي مكانٍ لا يخلو من تلك التوجيهات

__________________

(١) الكامل : ٢ / ١٠٥ .

(٢) اليعقوبي : ٢ / ٤٠ .

(٣) الكامل : ٢ / ١٠٦ .

٥٤
 &

والإِرشادات ، إلا أن للمسجد ميزة خاصة هي كونه « جامعة » لا تستثني أحداً من طلابها صغاراً كانوا أم كباراً ، فالثقافة للمجتمع والعبادة لله .

لذلك أمر رسول الله ( ص ) ببناء مسجده في المكان الذي بركت فيه ناقته ويقال له « المربد » وكان لغلامين يتيمين من الأنصار ، فدعا رسول الله ( ص ) بالغلامين فساومهما عليه ، فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله ، فأبى رسول الله إلا أن يدفع لهما الثمن ، ثم أمر المسلمين بأن يقطعوا جذوع النخل من مكانٍ يقال له الحديقة وأمر باللبن فضُرب ، وكان في المربد قبور جاهلية ، فأمر بها فنبشت ، وأمر بالعظام أن تغيّبْ ، وجعل طوله مائة ذراع وعرضه كذلك . وقيل أقل من ذلك (١) .

وحينما بدأ العمل في بناء المسجد المطهر ، جعل القوم يحملون وجعل النبي ( ص ) يحمل هو وعمّار ، فجعل عمّار يرتجز ويقول :

نحن المسلمون نبتني المساجدا . .

والرسول يردد : المساجدا ! . .

وفي رواية : كان كل واحدٍ من المسلمين يحمل لبنة لبنة وحجراً حجراً وعمار يحمل حجرين ولبنتين ، فرآه النبي ( ص ) فقال : ألا تحمل كما يحمل أصحابك ؟ فقال : يا رسول الله ، أريد الأجر والثواب . فجعل رسول الله ( ص ) ينفض التراب عن رأس عمّار ويقول :

« ويحك يا عمّار تقتلك الفئة الباغية ، تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار » وكان يرتجز وهو يعمل في بناء المسجد فيقول :

لا يستوي من يعمر المساجدا

يظل فيها راكعاً وساجدا

ومن تراه عانداً معاندا

عن الغبار لا يزال حايدا (٢)

__________________

(١) راجع الطبقات ١ / ٢٣٩ .

(٢) عمار بن ياسر ص ٢٥ ، وقد ورد هذا المضمون بنصوص مختلفة فعن أبي سعيد الخدري : جعلنا نحمل لبنةً لبنة وجعل عمار يحمل لبنتين . . إلى أن قال : إن النبي جعل ينفض التراب عن رأسه ويقول : ويحك ابن سمية ، تقتلك الفئة الباغية راجع الطبقات ٣ / ٢٥١ وغيرها .

٥٥
 &

وهو يعرض ببعض الصحابة .

وفي ذات يوم اشتكى عمار من علةٍ ألمت به فقال بعض القوم : ليموتن عمّار اليوم . فسمعهم رسول الله ( ص ) وكان بيده لبنة فنفضها من يده وقال : « ويحك يا بن سمية تقتلك الفئة الباغية » .

٥٦
 &

مع النبي ( ص ) في غزواته

يخطىء من يظن أن الإِسلام انتشر بين الناس بعامل القوة ، بل على العكس من ذلك تماماً فهو دين رائده الرحمة وهدفه انقاذ الإِنسان من ظلم أخيه الإِنسان وبالتالي إيجاد مجتمع إنساني مرتبط بخالقه ، مؤمن بكل الرسالات السماوية من لدن نوح وإبراهيم . . حتى محمداً صلوات الله عليه وعلى آله .

ولعل في العرض المتقدم لما واجهه ( ص ) مع أصحابه من ضغوطات وعداوة معلنة فيها دليل كافٍ على أنه كان الطرف المعتدى عليه منذ البداية .

بيد أن أي فئةٍ من الناس أو جماعة حينما تواجه في حياتها مثل تلك المواقف العدائية من أطراف أخرى تهدد كيانها ومصيرها فانها لا تملك في هذا الحال دون أن تبادر إلى صدّ ذلك الإِعتداء بكل الوسائل المتاحة لديها صدّاً يتناسب مع جنسه ، إعلامياً كان أو إقتصادياً أو عسكرياً ، سيما لو تكررت تلك الإِعتداءات على أكثر من صعيد ، ولا شك أن سكوت الطرف المعتدى عليه لا يحتمل سوى أحد تفسيرين ، إما الجبن والخور ، وإما القلة في العدة والعدد التي لا تسمح بالمواجهة مما يضطره إلى الصبر وانتظار الفرصة للطلب بالثأر طلباً مشروعاً تقره كل النظم الإِنسانية والشرائع السماوية .

٥٧
 &

والمتتبع المنصف لتأريخ المسلمين يلمس مدى الصبر والأناة والعض على الجرح لديهم وهم يواجهون أقسى وأعتى عدوان يواجهه إنسان من خصمه وبالطبع فان ذلك لم يكن عن جبنٍ وإلا لاستسلموا وأراحوا واستراحوا ، وإنما كان عن قلة في العدد والعدة من جهة ، وانتظاراً لأمر الله تعالى من جهة أخرى فما كان لرسول الله أن يبرم أمراً دون أمر الله .

لذلك ، رأينا رسول الله ( ص ) ينتدب أصحابه موقظاً في عيونهم الثأر الذي نام طويلاً ، ليعترضوا عير قريش قائلاً لهم : عسى أن ينفلكموها الله ! وذلك في أول غزوة في الإِسلام ألا وهي غزوة « بدر الكبرى » .

وربما يستشف القارىء أو السامع العدوانية في هذا الموقف من المسلمين ، ولكنه حين يلم بما سبق هذه الواقعة من أحداث فانه لا يلبث إلا أن يقر ويذعن بأن ما جرى حق مشروع ، فقريش ومن معها لم تترك للمسلمين شيئاً في مكة ولم تكتف بإخراجهم من ديارهم حتى صادرت كل ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة بالإِضافة إلى مصادرتها أعز ما يملكه إنسان في هذه الدنيا وهو الوطن ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ *‏ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ . . ) (١) .

لقد كانت أول واقعةٍ عسكرية بين المسلمين وخصومهم تسجل النصر للمسلمين نصراً ساحقاً ماحقاً إختزل حماقات قريش واعتداءاتها وبغيها على مدى سنين في ساعة ، إختزلها جثثاً لساداتها مطروحةً في قليب بدر وفوق الرمال .

ويمكننا الجزم بأن مواقف الرسول ( ص ) ومن معه في حروبه وغزواته كانت مواقف دفاعية ولم تكن عدوانية هجومية كما يتصور البعض ، ونلمس ذلك جليّاً في واقعة « أحد » و « الخندق » و « خيبر » إلى فتح مكة ، حتى ما

__________________

(١) الحج : ٣٩ ـ ٤٠ .

٥٨
 &

يوهم بدواً بأن المسلمين هم البادؤون فانه بعد التدقيق نجد أن الأمر على العكس بل إن تحركهم إنما يكون نتيجةً لما يبلغهم من نكثٍ للعهود ، أو تجميع للقوى المعادية للمسلمين مما يدفعهم للأخذ بزمام المبادرة لا أكثر .

وكان عمار بن ياسر ممن شهد مع رسول الله ( ص ) بدراً وأبلى فيها بلاءً حسناً كما ساهم في حرب « الخندق » ، وبينما المسلمون منشغلون بحفره ورسول الله يعاطيهم حتى أغبر صدره وهو يقول :

اللهم ان العيش عيش الآخرة

فاغفر للأنصار والمهاجرة

إذ يجيء عمار فيلتفت إليه النبي ( ص ) ويقول : تقتلك الفئة الباغية !! (١) وابلى في ذلك اليوم بلاء حسناً ، بل « وشهد المشاهد كلها مع رسول الله ( ص ) » (٢) شأنه في ذلك شأن النخبة من الصحابة رضوان الله عليهم الذين بذلوا وضحوا من أجل أن ينتشر هذا الدين وتتركز دعائمه وبالتالي تصبح الشريعة الإِسلامية هي القانون الذي باركته السماء لأهل الأرض ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ . . وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (٣) .

__________________

(١) الطبقات ٣ / ٢٥١ .

(٢) الإِصابة ٢ / ٤٨١ .

(٣) آل عمران ١٩ ـ و ٨٥ .

٥٩
 &

شجاعته وسخاؤه

أُثر عن أمير المؤمنين علي ( ع ) أنه قال : السخي شجاع القلب (١) . وينسب إلى بعض العظماء قوله : جنونان لا أخلاني الله منهما ، الشجاعة والكرم ! ولعل وصفه لهما بهذه الصفة يرجع إلى خروج كل منهما بصاحبه عن حدود المألوف لدى الطبع الإِنساني العام .

وهاتان الخصلتان لا تقبلان التكلف ولا المحاكاة وقد اتصف بهما معظم قادة البشر وعظمائهم وامتاز بهما الأنبياء وأوصياؤهم . . فنبي الله إبراهيم ( ع ) حين وافته الملائكة ـ بصورة الآدميين ـ لتبشره بإسحاق ، عمد إلى عجلٍ فذبحه وشواه على الصخر وقدمه إليهم ليأكلوه . . وحين غضب عليه نمرود وألقاه في النار لم يخف ولم يرتعد وواجه الأمر بشجاعة (٢) ، وهكذا ما وصلنا من سير الأنبياء من بعده لم يؤثر عنهم أنهم جبنوا ولا بخلوا . . والرسول ( ص ) ضرب أكبر مثل في الشجاعة والكرم ، ويكفي في شجاعته قول علي ( ع ) « كنا إذا حمي الوطيس لذنا برسول الله !! » ويكفي في كرمه أنه أنفق كل ما تحت يده في سبيل نشر الدين ، وفي غزوه هوازن أعطى

__________________

(١) شرح النهج ٢٠ / ٢٩٠ .

(٢) راجع قصص الأنبياء .

٦٠