عمّار بن ياسر

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه

عمّار بن ياسر

المؤلف:

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه


الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٤٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

الناس فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أما بعد ، فإنه كانت لعليّ بن أبي طالب يدان يمينان ، قُطعت إحداهما يوم صفين ، وهو عمار بن ياسر ، وقُطِعت الأخرى اليوم وهو مالك الأشتر .

وحين بلغ أمير المؤمنين استشهاده ، كتب إلى محمد بن أبي بكر : « إن الرجل الذي كنتُ وليته مصر كان لنا نصيحاً ، وعلى عدونا شديداً ، وقد استكمَل أيامَه ، ولاقىٰ حِمامه ، ونحن عنه راضون فرضي الله عنه ، وضاعف له الثواب وأحسن له المآب » .

وقد جزع على فقده أمير المؤمنين جزعاً شديداً ، فقد قال حين بلغه موته : « إنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين ، اللهم إني احتسبه عندك ، فإن موته من مصائب الدهر ، ثم قال : رحم الله مالكاً فقد كان وفىٰ بعهده ، وقضى نحبه ، ولقيَ ربَّه ، مع أنّا قد وطنّا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبة بعد مُصابنا برسول الله ( ص ) فإنها من أعظم المصائب » .

قال المغيرة الضُبّي : لم يزل أمر علي شديداً حتى مات الأشتر .

وعن جماعة من أشياخ النخع قالوا : دخلنا على علي أمير المؤمنين حين بلغه موت الأشتر ، فوجدناه يتلهف ويتأسف عليه ، ثم قال : للهِ درُّ مالِك ، وما مالِك ؟ لو كان من جبلٍ لكان فِنْداً . ولو كان من حجر لكان صلداً ، أما والله ليهدّن موتُك عالماً ، وليُفرحن عالماً ، على مثل مالِك فليبكِ البواكي ، وهل موجودٌ كمالِك ؟ !

وقال علقمة بن قيس النخعي : فما زال عليٌّ يتلهفُ ويتأسف حتى ظننا أنه المصابُ دوننا وعُرف ذلك في وجهه أياماً (١) . رحمة الله وسلامه عليه .

__________________

(١) الغدير ٩ / ٤٠ .

١٢١
 &

خلافة الإِمام علي ( ع )

لقد آمن علي بحقه في الخلافة ، ولكن أراده حقاً يطلبه الناس ، ولا يسبقهم إلى طلبه . فخبر حقيقة أمرهم بأن رفض البيعة لنفسه معلناً لهم أنه لا حاجة له في هذا الأمر ، وأنه سيكون في جانب من يختاره المسلمون ، وبذلك أعطاهم الحرية الكاملة والكافية في الإِختيار وتقرير المصير .

لكن المسلمين كانوا يتوافدون نحوه ، فيجتمعون على باب داره مثل الجبال ، كتلاً بشريةً هائلةً يدفعها التفاؤل ويقودها الوثوق ، كل الوثوق بالرجل الذي سيتولى قيادة الأمة في أخطر وأدق مرحلةٍ من مراحل الدولة الإِسلامية .

يجتمعون على باب داره يريدون مبايعته ، وهو مع ذلك معتصم لا يجيبهم إلى شيء لأنه يريدها بيعةً حرةً صادقة تتجسد فيها آمال المسلمين ، غير أنهم ألحّوا عليه بإصرارٍ معلنين رفضهم لكل من يتقدم إلى هذا المنصب سواه ، وقد وضعوه بين اثنتين لا مناص لمسؤول عنهما ولا مهرب له منهما .

الأولى : أن المسلمين أمسوا لا إمام لهم !

الثانية : أنهم لا يرون أحداً أحق بالخلافة منه ، وكلا الأمرين يفرضان على الإِمام أن يتحمل مسؤولياته .

١٢٢
 &

ويسرد لنا ابن الأثير القصة مختصرةً ، فيقول : « اجتمع أصحابُ رسول الله من المهاجرين والأنصار ، وفيهم طلحة والزبير وأتوا علياً فقالوا له : إنه لا بد للناس من إمام !

قال : لا حاجةَ لي في أمركم ، فمن اخترتم رضيتُ به . فقالوا : ما نختارُ غيرك ! وترددوا إليه مراراً وقالوا له في آخر ذلك : إنا لا نعلمُ أحداً أحقّ بها منك ، ولا أقدم سابقةً ، ولا أقرب قرابةً من رسول الله ( ص ) .

قال : أكون وزيراً خيراً من أن أكون أميراً . قالوا : واللهِ ما نحن بفاعلين حتى نبايعك » (١) .

وكانت مبايعته نمطاً جديداً في الخلافة لم يسبق لأحد ممن كان قبله ، فإن بعضهم يصف البيعة فيقول : « خرجتُ في أثره والناسُ حوله يبايعونه ، فدخل حائطاً ـ بستاناً ـ من حيطان بني مازن فألجأوه إلى نخلة ، وحالوا بيني وبينه ، فنظرت إليهم وقد أخذت أيدي الناس ذراعه تختلف أيديهم على يده ! (٢) .

والإِمام يصف ذلك المشهد بنفسه فيقول : فما راعني إلا والناسُ كعُرفِ الضبع إليَّ ، ينثالون علي من كل جانب ، حتى لقد وُطىءَ الحسنان ، وشُقَّ عِطفاي مجتمعين حولي كربيضةِ الغَنَمَ . . » (٣) .

وكان أول من بايعه وصفق على يده طلحةُ بن عبيد الله .

فقام الأشتر وقال : أبايعك يا أمير المؤمنين على أن عليَّ بيعة أهل الكوفة .

ثم قام طلحة والزبير فقالا : نبايعك يا أمير المؤمنين على أن علينا بيعة المهاجرين .

__________________

(١) الكامل ٣ / ١٩٠ ـ ١٩١ .

(٢) الإمامة والسياسة ١ / ٤٧ .

(٣) نهج البلاغة ١ / ٣١ .

١٢٣
 &

ثم قام أبو الهيثم بن التيهان ، وعقبة بن عمرو ، وأبو أيوب فقالوا : نبايعك على أن علينا بيعة الأنصار .

وقام قومٌ من الأنصار فتكلموا ، وكان أول من تكلم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ، وكان خطيب الأنصار ، فقال : والله يا أمير المؤمنين ، لئن كانوا تقدموك في الولاية ، فما تقدموك في الدِّين ! ولئن كانوا سبقوك أمسِ فقد لحقتهم اليوم ، ولقد كانوا وكنتَ ، ولا يخفى موضعُكَ ، ولا يُجهل مكانك ، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون ، وما احتجتَ إلى أحدٍ مع علمك .

ثم قام خزيمة بن ثابت الأنصاري ، وهو ذو الشهادتين ، فقال : يا أمير المؤمنين ؛ ما أصبنا لأمرنا هذا غيركَ ، ولا كان المنقلبَ إلا إليك ، ولئن صدقنا أنفسنا منك فلأنتَ أقدم الناس إيماناً ، وأعلم الناس بالله ، وأولى المؤمنين برسول الله ، لكَ ما لهم ، وليس لهم ما لكَ .

وقام صعْصَعَة بن صوحان فقال : والله يا أمير المؤمنين ، لقد زيّنت الخلافة وما زانتكَ ، ورفعتها وما رفعتكَ ، ولهي إليك أحوجُ منك إليها .

ثم قام مالك الأشتر فقال : أيها الناس ، هذا وصيُّ الأوصياء ، ووارثُ علم الأنبياء ، العظيمُ البلاء ، الحسنُ الغناء ، الذي شهد له كتاب الله بالإِيمان ، ورسوله بجنة الرضوان ، من كملت فيه الفضائل ، ولم يشكَّ في سابقته وعلمه وفضله الأواخرُ ولا الأوائل .

ثم قام عقبة بن عمرو فقال : من له يومٌ كيوم العقَبةَ ، وبيعةٌ كبيعة الرضوان ، والإِمام الأهدى الذي لا يخاف جوره ، والعالم الذي لا يخاف جهله (١) .

قال اليعقوبي : وبايع الناس إلا ثلاثة نفر من قريش ، هم : مروان بن الحكم وسعيدُ بن العاص ، والوليد به عقبة ، وكان لسانَ القوم ، فقال : يا

__________________

(١) اليعقوبي ٢ / ١٧٨ ـ ١٨٠ .

١٢٤
 &

هذا ، إنك قد وترتنا جميعاً ، أما أنا ، فقتلتَ أبي صبراً يوم بدر ، وأما سعيد فقتلتَ أباه يوم بدر ، وكان أبوه من نور قريش ، وأما مروان فشتمتَ أباه وعبت على عثمان حين ضمّه إليه . . . فتبايعنا على أن تضع عنا ما أصبنا ، وتعفي لنا عما في أيدينا ، وتقتل قتلةَ صاحبنا !

فغضب عليٌّ وقال : أما ما ذكرتَ من وتري أياكم ، فالحقُّ وَتَركم . وأما وضعي عنكم ما أصبتُمْ فليس لي أن أضعَ حقَّ الله تعالى . وأما إعفائي عمّا في أيديكم ، فما كان للهِ وللمسلمين فالعدلُ يَسعُكم ، وأما قتلي قتلة عثمان ، فلو لزمني قتلهم اليوم لزمني قتالهم غداً . ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنّة نبيه ، فمن ضاق عليه الحقُّ ، فالباطلُ عليه أضيق ، وان شئتم فالحقوا بملاحقكم .

فقال مروان : بل نبايعك ، ونقيمُ معكَ فترىٰ ونرى .

موقف عمار بن ياسر

لقد كان عمّارٌ من أبرز الوجوه التي ناصرت علياً في جميع الأدوار ، فهو تلميذُ علي والابنُ الروحي البار ، والجنديُّ المخلص ، فهو ينظر إلى عليّ والخلافة نظرته إلى الرجل المناسب في المكان المناسب لا يخامره في ذلك أدنى شك ، ولم يؤثر عنه آنذاك أنه أبدىٰ مشاعر الفرحِ والسرور لاستخلاف علي شأن من يريد التزلّفَ للخليفة طمعاً في ولايةٍ أو إمرة ، لأنه تعامل منذ اليوم الأول مع الخلفاء بنظرة الجد والمسؤولية للهم الكبير الذي يشترك في تحمله المسلمون جميعاً ، وهو نشر الرسالة المباركة وإكمال الدعوة إليها ، نعم كان لا يكتم استغرابه من المتخلّفين عن بيعة علي ( ع ) ولا يألوا جهداً في حثهم على مبايعته والإِلتزام بخطه .

فقد نُمي إليه أنَّ المغيرة بن شعبة لم يبايع علياً وأنه إعتزل الأمر ، فأقبل نحوه وقال : معاذ الله يا مغيرة تقعدُ أعمى بعد أن كنتَ بصيرا ، يغلبك من

١٢٥
 &

غلبته ، ويسبقك من سبقته ، انظر ما ترى وما تفعل ، فأما أنا فلا أكون إلا في الرعيل الأول .

فقال له المغيرة ، يا أبا اليقظان ، إياك أن تكون كقاطع السلسلة فرَّ من الضحل فوقع في الرمضاء .

فقال عليٌّ ( ع ) لعمّار : دعه ، فانه لن يأخذ من الآخرة إلا ما خالطته الدنيا ، أما والله يا مغيرة إنها المثوبة المؤدية تؤدي من قام فيها إلى الجنة (١) .

موقف عائشة من علي

وكانت عائشة بمكة خرجت قبل أن يُقتل عثمان ، فلما قضت حِجّها انصرفت راجعةً ، فلما صارت في بعض الطريق لقِيهَا ابنُ أمّ كلاب ، فقالت له : ما فعل عثمان ؟ قال : قُتل . قالت : بُعداً وسحقا ! قالت : فمن بايع الناسُ ؟ قال : طلحة . قالت : إيهاً ذو الإِصبع .

وحين بلغها مبايعة الناس لعلي قالت : ما كنتُ أبالي أن تقع السماء على الأرض ، قُتِل ـ يعني عثمان ـ والله مظلوماً وأنا طالبة بدمه (٢) .

فقال لها عبيد : إن أول من طعن عليه واطمع الناس فيه لأنت ، ولقد قلت : اقتلوا نعثلاً فقد فجر ! فقالت عائشة : قد والله قلتُ وقال الناسُ ، وآخر قولي خير منه .

فقال عبيد : عذرٌ والله ضعيفٌ يا أم المؤمنين ، ثم قال :

مِنكِ البداءُ ومنكِ الغِيَرْ

ومِنكِ الرياح ومنكِ المَطَر

وأنتِ أمرتِ بقتلِ الإِمام

وقلتِ لنا إنه قد فجَر

فهبنا أطعناك في قتله

وقاتلُهُ عندنا من أَمر

وخرجت باكية تقول : قتل عثمان رحمه الله . فقال لها عمار : بالأمس

__________________

(١) الإمامة والسياسة / ٥٠ .

(٢) اليعقوبي ٢ / ١٨٠ .

١٢٦
 &

تحرّضين الناسَ عليه واليوم تبكينه (١) ! .

« نكث البيعة »

وأقام علي أياماً ، ثم أتاه طلحة والزبير فقالا : إنا نريد العمرَة ! فروي أنه قال لبعض أصحابه : والله ما أرادا العُمرَة ، ولكنهما أرادا الغدرة (٢) .

فخرج الزبير وطلحة إلى مكة ، وخرج معهما عبد الله بن عامر ـ ابن خال عثمان ـ فجعل يقول لهما : أبشرا فقد نلتما حاجتكما ، والله لأمدّنّكما بمائة ألف سيف .

وقدموا مكة وبها يومئذٍ عائشة ، وحرّضوها على الطلب بدم عثمان ، وكان معها جماعةٌ من بني أمية ، فلما علمت بقدوم طلحة والزبير فرحت بذلك واستبشرت وعزَمت على ما أرادت من أمرها (٣) وأمرت فعُمِلَ لها هودجٌ من حديد وجُعل فيه موضع عينيها ، ثم خرجت ومعها الزبير وطلحة وعبد الله بن الزبير ، ومحمد بن طلحة (٤) .

وقدم يعلى بن منبه من اليمن ـ وقد كان عاملاً عليها من قِبَل عثمان ـ وأعطى عائشة وطلحة والزبير أربعمائة ألف درهم وكراعاً وسلاحاً ، وبعث إلى عائشة بالجمل المسمى عسكراً (٥) .

وأرادوا الشام ، فصدّهم ابنُ عامر وقال : إن به معاوية ولا يَنقَادُ إليكم ولا يُطيعكم ، ولكن هذه البصرة لي بها صنائعُ وعُدد ، فجهّزهم بألف ألف درهم ومائة من الإِبل وغير ذلك (٦) .

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٥١ ـ ٥٢ ـ ١٤٧ .

(٢) الإمامة والسياسة ١٤٧ .

(٣) اليعقوبي ٢ / ١٨٠ .

(٤) و (٥) الفتوح ٢ / ٢٧٦ ـ ٢٧٩ .

(٦) مروج الذهب ٢ / ٣٥٧ .

١٢٧
 &

« بين عائشة وأم سلمة »

وأقبلت عائشة حتى دخلت على أم سَلَمة زوج النبي ( ص ) وهي يومئذٍ بمكة وطلبت منها الذهاب معها إلى البصرة .

فقالت أم سلمة : يا بنت أبي بكر ، بدم عثمان تطلبين ؟! والله لقد كنتِ من أشد الناس عليه ، وما كنتِ تسميه إلا نعثلاً ، فما لَكِ ودم عثمان ؛ وعثمانُ رجل من عبد مناف وأنت امرأة من بني تميم بن مرة !؟ ويحك يا عائشة ، أعلىٰ عليّ ، وابن عم رسول الله ( ص ) تخرجين وقد بايعه المهاجرون والأنصار ؟؟!

ثم جعلت تذكرها فضائل علي . وعبد الله بن الزبير على الباب يسمع ذلك كله فصاح بأم سلمة وقال : يا بنت أبي أمية ، إنا قد عرفنا عداوتك لآلِ الزبير . فقالت أم سلمة : والله لتوردنّها ثم لا تصدرنّها أنتَ ولا أبوك ، أتطمع أن يرضىٰ المهاجرون والأنصار بأبيك الزبير وصاحبه طلحة ، وعليُّ بن أبي طالب حيٌّ ، وهو وليّ كل مؤمنٍ ومؤمنة !؟

فقال عبد الله : ما سمعنا هذا من رسول الله ( ص ) ساعةً قط .

فقالت أم سلمة رحمة الله عليها : إن لم تكن أنت سمعتهُ ، فقد سمعتْهُ خالتُكَ عائشة . وها هي فاسألها . فقد سمعته ( ص ) يقول : عليٌّ خليفتي عليكم في حياتي ومماتي فمن عصاه فقد عصاني ، أتشهدين يا عائشة بهذا أم لا ؟ فقالت عائشة : اللهم نعم . فقالت أم سلمة : فاتق الله يا عائشة في نفسك واحذري ما حذرك الله ورسوله ( ص ) ولا تكوني صاحبة كلاب الحوأب ، ولا يغرّنّكِ الزبيرُ وطلحة ، فانهما لا يُغنيانِ عنكِ من الله شيئاً . فخرجتْ من عندها وهي حنقةٌ عليها .

وأذّن مؤذن طلحة والزبير بالمسير إلى البصرة ، فسار الناسُ وسارت معهم عائشة وهي تقول : اللهم إني لا أريد إلا الإِصلاح بين المسلمين فأصلح بيننا إنك على كل شيء قدير .

١٢٨
 &

كتاب أم سَلَمة إلى عليٍّ ( ع )

لعبد الله علي أمير المؤمنين من أم سلمة بنت أبي أميّة ، سلام عليك ورحمة الله وبركاته أما بعد : فان طلحة والزبير وعائشة وبنيها بني السوء وشيعة الضلال ، خرجوا مع ابن الجزار عبد الله بن عامر إلى البصرة يزعمون أن عثمان بن عفان قُتل مظلوماً ، وأنهم يطلبون بدمه ، واللهُ كافيكم ، وجعلَ دائرة السوءِ عليهم إن شاء الله تعالى ، وتالله لولا ما نهى الله عزَّ وجلّ عنه من خروج النساء من بيوتهن وما أوصى به رسول الله ( ص ) عند وفاته لشخصتُ معك ، لكن قد بعثتُ إليك بأحب الناس إلى النبي ( ص ) ابني عمرُ بن أبي سلمة ، والسلام .

فجاء عمر بن أبي سلمة إلى علي رضي الله عنه ، فصار معه وكان له فضل وعبادة وعقل . فانشأ رجل من أصحاب علي رضي الله عنه يمدح أم سلمة وهو يقول أبياتاً جاء فيها :

ثم قالت إذ رأتْ من أختها

ما رأتْ والخيرُ قدماً بقدرْ

لابنها إإت علياً إنه

أفضل الناس جميعاً يا عمر

وقالت امرأة من نساء بني عبد المطلب تمدحها بأبيات جاء فيها :

أطعتِ علياً ولم تنقُضي

كما نقضت أمنا عائشة

أتاها الزبير بأمنيةٍ

وطلحة بالفتنة الناهشة (١)

حين علم عليُّ ( ع ) بذلك دعا محمد ابن أبي بكر ( رضي الله عنه ) وقال له : ألا ترى إلى أختك عائشة كيف خرجت من بيتها الذي أمرها الله عزَّ وجلّ أن تقرّ فيه وأخرجت معها طلحة والزبير يريدان البصرة لشقاق وفراق ؟ .

فقال له محمد : يا أمير المؤمنين ، لا عليك فان الله معك ولن نخذلك

__________________

(١) هامش الفتوح ٢ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦ .

١٢٩
 &

والناس بعد ذلك ناصروك والله تبارك وتعالى كافيك أمرهم إن شاء الله تعالى . فعندها نادى عليٌّ رضي الله عنه في أصحابه وجمعهم ثم قال : أيها الناس ، إن الله تبارك وتعالى بعث كتاباً ناطقاً لا يهلك عنه إلا هالك ، وان المبتدعاتِ المشتبهات هنَّ المهلكات المرديات إلا من حفظ الله ، وان في سلطان الله عصمة أمركم ، فأعطوه طاعتكم ، ألا وتهيأوا لقتال الفرقة الذين يريدون تفريق جماعتكم ، فلعل الله تعالى يصلح بكم ما أفسد أهل الشقاق . . .

« ماء الحوأب »

وتقدمت عائشة فيمن معها من الناس ، حتى إذا بلغت إلى ماء الحوأب ـ وذلك وقت السحر ـ نبحت الكلاب ، فسمعت رجلاً من أهل عسكرها يسأل ويقول : أي ماءٍ هذا ؟ فقيل له هذا ماءُ الحوأب . فقالت عائشة : رُدّوني فقيل لها ولمَ ذلك ؟ فقالت لأني سمعت رسول الله ( ص ) وهو يقول : كأني بامرأةٍ من نسائي تنبح عليها كلابُ الحوأب ، فاتق الله أن تكوني أنت يا حُميراء . لكن عبد الله بن الزبير أتى بخمسين رجلاً يشهدون عندها أن هذا الماء ليس بماء الحوأب ، وانهم قد جاوزوا ماء الحوأب بليل . فكانت هذه الشهادة أول شهادة زورٍ في الإِسلام (١) .

وحين وصلوا إلى البصرة ، خرج إليهم عثمان بن حنيف فمانعهم وجرى بينهم قتال ، ثم إنهم اصطلحوا بعد ذلك على كفِّ الحرب إلى حين قدوم علي ، فلما كان في بعض الليالي بيّتوا عثمان بن حُنيف فأسروه وضربوه ونتفوا لحيته وكان أخوه سهل بن حنيف والياً على المدينة من قِبلِ علي فخافوا منه على أقربائهم إن هم قتلوه فخلوا عنه وتركوه .

بعد ذلك أرادوا بيت المال في البصرة ليأخذوا ما فيه فمانعهم الخُزّان والموكلون به ـ وهم السبابجة (٢) ـ فقتل منهم سبعون رجلاً ، خمسون منهم

__________________

(١) راجع الفتوح ٢ / ٢٨٧ .

(٢) السبابجة ، قوم من السند كانوا بالبصرة جلاوزةُ وحراس السجن ـ لسان العرب ٢ / سبج ٢٩٤ .

١٣٠
 &

قتلوا صبراً حيث ضُربت أعناقهم بعد ما أُسروا ، وهؤلاء أولُ من قتل ظلماً وصبراً في الإِسلام ، عدا من جُرِح منهم . وقَتَلوا حَكم بن جَبَلة العبدي ـ وكان من سادات عبد القيس وزهّاد ربيعة ونسّاكها .

وتنازع طلحة والزبير في الصلاة بالناس ، ثم اتفقوا أن يصلي بالناس عبد الله بن الزبير يوماً ومحمد بن طلحة يوماً .

« مسير علي ( ع ) إلى العراق »

أما علي ( ع ) فقد سار من المدينة في سبعمائة راكب ، أربعمائة من المهاجرين والأنصار فيهم سبعون بدرياً ، والباقي من عامة الصحابة . وقد كان استخلف على المدينة سهل بن حنيف أخا عثمان ، وكان همة علي وأصحابه اللحاق بطلحة والزبير ففاتوه إلى العراق ، فتابع مسيره في طلبهم ، ولحق به من أهل المدينة جماعة من الأنصار فيهم خزيمة بن ثابت ( ذو الشهادتين ) وأتاه من قبيلة طي ستمائة راكب .

وكاتب علي من الربذة أبا موسى الأشعري ليستنفر الناس ـ وكان على الكوفة ـ فثبطهم أبو موسى وقال : إنما هي فتنةٌ . ونُمي ذلك إلى علي ( ع ) فولى على الكوفة قرضة بن كعب الأنصاري وكتب إلى أبي موسى : إعتزل عملنا يا بن الحائك مذموماً مدحورا ، فما هذا أول يومنا منك ، وان لك فينا لهنات وهينات !

وسار علي ( ع ) بمن معه حتى نزل بذي قار ، وبعث بابنه الحسن وعمار بن ياسر إلى الكوفة يستنفران الناس .

« بين عمّار وأبي موسى الأشعري »

وكان أبو موسى الأشعري والياً على الكوفة من قِبل علي ( ع ) ، ولكنه على ما يبدو كان ميّالاً مع عائشة وطلحة والزبير في خروجهم على عليّ . فحينما دخل الحسنُ وعمارٌ الكوفة وجعلا يستنفران الناس لنصرة الإِمام قام أبو موسى ليعارضهم في ذلك ، فغضب عمّار بن ياسر منه وأسكته . فقام رجل

١٣١
 &

من بني تميم إلى عمّار فقال : اسكت أيها الرجل الأجدع (١) بالأمس كنت مع غوغاء مصر على عثمان واليوم تسكت أميرنا ! .

فوثب زيد بن صوحان وأصحابه من شيعة علي بالسيوف وقالوا : من لم يطع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فما له عندنا إلا السيف .

فقال أبو موسى : أيها الناس ! اسكتوا واسمعوا كلامي ، هذا كتاب عائشة إلي تأمرني فيه أن أقرَّ الناس في منازلهم إلى أن يأتيهم ما يُحبّون من صلاح أمر المسلمين .

فقال له عمار بن ياسر : يا أبا موسى ! إن عائشة أُمِرَتْ بأمرٍ وأُمِرنا بغيره ، أُمِرتْ أن تقرَّ في بيتها ، وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة ، فأمرتنا هي بمَا أُمرتْ ، وركبتْ ما أُمِرنا به ، وكثُرَ الكلام يومئذٍ . وتكلم زيد بن صوحان العبدي فقال : أيها الناس ، سيروا إلى أمير المؤمنين وانفروا إليه أجمعين تصيبوا الحق راشدين .

ثم وثب عمار بن ياسر فقال : أيها الناس ، إنه لا بد لهذا الأمر ولهؤلاء الناس من والٍ يدفع المظالم ويعين المظلوم ، وهذا ابن عم رسول الله ( ص ) يستنفركم إلى زوجة رسول الله ( ص ) وإلى طلحة والزبير ، فاخرجوا وانظروا في الحق فمن كان الحق معه فاتبعوه .

وخرج الحسن ( ع ) وعمار من الكوفة ومعهما سبعة آلاف .

واجتمع الناس بذي قار مع علي بن أبي طالب . ستة آلاف من أهل المدينة ومصر والحجاز ، وتسعة آلاف من أهل الكوفة ، وجعل الناس يجتمعون حتى صاروا تسعة عشر ألف رجل ما بين فارس وراجل ، وسار علي رضي الله عنه عن ذي قار يريد البصرة في جميع أصحابه والناس يتلاحقون به من كل أوب .

__________________

(١) تطلق على مقطوع الأنف أو مقطوع الأذن ، وكان عمار قد قُطعت أذنه في حرب اليمامة .

١٣٢
 &

في وصف جيش علي ( ع )

« ونزوله البصرة »

كان الطابع الغالب على جيش علي تميزه عن غيره باشتماله على عدد كبير من المهاجرين والأنصار وأصحاب رسول الله ( ص ) ممن شهد بدراً واحداً والخندق وكثيراً من حروبه وغزواته ( ص ) .

فكان يُخَيّل للناظر آنذاك أنه في مشهد من مشاهد الفتح إبان حياة الرسول الأعظم ، سيما وأن قادة الجيش وحملة الألوية هم جلّةُ الصحابة وعظماؤهم ، يقدِمُهم القائد المظفر خليفة رسول الله ووصيّه عليّ بن أبي طالب ( ع ) .

ويصف المنذر بن الجارود ذلك فيقول : لما قدِم عليٌّ رضي الله عنه البصرة دخل مما يلي الطف ، فأتى الزاوية (١) فخرجت أنظر إليه . فورد موكبٌ في نحو ألف فارس يتقدمهم فارس على فرسٍ أشهب عليه قلنسوةٌ وثيابٌ بيض ، متقلد سيفاً ومعه راية ، وإذا تيجان القوم الأغلبُ عليها البياضُ والصفرة مدجّجين في الحديد والسلاح ، فقلت : من هذا ؟ فقيل : هذا أبو أيوب الأنصاري صاحبُ رسول الله ( ص ) ، وهؤلاء الأنصار وغيرهم .

ثم تلاهم فارسٌ آخر عليه عمامةٌ صفراء وثياب بيض ، متقلد سيفاً

__________________

(١) اسم مكان .

١٣٣
 &

متنكب قوساً ، مع راية ، على فرس أشقر ، فقلت : من هذا ؟ فقيل : هذا خزيمةُ بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين !

ثم مرّ بنا فارس آخر على فرسٍ كُمَيتٍ معتم بعمامة صفراء من تحتها قلنسوة بيضاء ، وعليه قباء أبيض مصقولٌ ، متقلد سيفاً متنكِّبٌ قوساً في نحو ألف فارس من الناس ومعه راية ، فقلت : من هذا ؟ فقيل لي : أبو قتادة بن ربعي .

ثم مرّ بنا فارسٌ آخر على فرس أشهبٍ عليه ثياب بيضٌ وعَمَامة سوداء قد سدَلَهَا من بين يديه ومن خلفه ، شديد الأدمة ، عليه سكينةٌ ووقار ، رافع صوته بقراءة القرآن ، متقلد سيفاً ، متنكّبٌ قوساً ، معه راية بيضاء في ألف من الناس مختلفي التيجان ، حوله مشيخةٌ وكهولٌ وشباب كأنما قد أوقفوا للحساب ، أثرُ السجود قد أثرَ في جباههم ، فقلت من هذا ؟ فقيل عمّار بن ياسر في عدة من الصحابة من المهاجرين والأنصار وأبنائهم .

ثم مرّ بنا فارس على فرس أشقر ، عليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء وعمامة صفراء ، متنكب قوساً متقلد سيفاً ، تخط رجلاه في الأرض في ألفٍ من الناس ، الغالب على تيجانهم الصفرةُ والبياضُ ، معه رايةٌ صفراء . قلت : من هذا ؟ قيل : هذا قيسُ بن سعد بن عبادة في عدةٍ من الأنصار وأبنائهم وغيرهم من قحطان .

ثم مرّ بنا فارس على فرسٍ أشهل ما رأينا أحسنَ منه ، عليه ثياب بيضٌ وعمامة سوداء قد سدَلَهَا من بين يديه بلواء ، قلت : من هذا ؟ قيل : هو عبد الله بن العباس في وفدِهِ وعدةٍ من أصحاب رسول الله ( ص ) .

ثم تلاه موكب آخر فيه فارس أشبه الناس بالأولين . قلت : من هذا ؟ قيل قثمُ بن العباس أو معبد بن العباس .

ثم أقبلت المواكب والرايات يقدم بعضها بعضاً ، واشتبكت الرماح .

ثم ورد موكب فيه خلق من الناس عليهم السلاح والحديد ، مختلفوا

١٣٤
 &

الرايات في أوله راية كبيرةٌ ، يقدمهم رجل كأنما كُسِرَ وجُبِر (١) كأنما على رؤوسهم الطير ، وعن يمينه شاب حسن الوجه ، وعن يساره شاب حسن الوجه ، وبين يديه شاب مثلهما ، قلت : من هؤلاء ؟

قيل : هذا علي ابن أبي طالب ، وهذان الحسنُ والحسينُ عن يمينه وشماله وهذا محمد بن الحنفِيّة بين يديه معه الرايةُ العظمى ، وهذا الذي خلفه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وهؤلاء وِلدُ عقيل وغيرهم من فتيان بني هاشم ، وهؤلاء المشائخ هم أهل بدر من المهاجرين والأنصار .

فساروا حتى نزلوا الموضع المعروف بالزاوية ، فصلى ( ع ) أربع ركعات ، وعفّرَ خديه على التراب وقد خالط ذلك دموعه ، ثم رفع يديه يدعو : اللهم ربَّ السموات وما أظلّتْ ، والأرضينَ وما أقلّت ، وربَّ العرش العظيم ، هذه البصرةُ أسألك من خيرها ، وأعوذ بك من شرّها ، اللهم انزلنا فيها خير منزلٍ وأنت خير المنزلين ، اللهم ان هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي وبغوا علي ، ونكثوا بيعتي ، اللهم احقن دماء المسلمين (٢) .

__________________

(١) صفة رجل شديد الساعدين . نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى فوق .

(٢) مروج الذهب ٢ / ٣٥٩ ـ ٣٦١ .

١٣٥
 &

جيش أهل البصرة

وكان عدد الجيش الذي قاده طلحة والزبير وعائشة ثلاثون ألف مقاتل ، فنزلوا في موقع يقال له « زابوقة » .

واستشار علي ( رضي الله عنه ) أصحابه حين بلغه تعبئة أهل البصرة لقتاله قائلاً ماذا عندكم من الرأي ؟ فقال له رفاعة بن شداد البجلي : يا أمير المؤمنين ، تعبيَةٌ لتعبية ، وحق يدفع باطلاً ، هذا ما كنا نريد ، فأبشر وقرْ عيناً فسترى منا ما تحب .

ودنا عليٍّ في أصحابه من البصرة ، فقال طلحة بن عبيد الله لأصحابه : إعلموا أيها الناس ، إن علياً وأصحابه قد أضرَّ بهم السفر وتعب الطريق ، فهل لكم أن نأتيهم الليلة فنضع فيهم السيف ؟

فقال مروان بن الحكم : والله لقد استبطأتُ هذه منك أبا محمدٍ ! وليس الرأي إلا ما رأيت . فضحك الزبير من ذلك ثم قال : أمن علي تُصاب الفرصة وهو من قد عرفتم ؟ أما علمتم أنه رجل ما لقيه أحد قط إلا ثكلته أمه ؟

وقام علي في الناس خطيباً فقال : إني قد مُنيتُ بثلاث مرجعهن على العباد من كتاب الله ، أحدهما : البغي ، ثم النكث والمكر ، قال الله تعالى : يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم . ثم قال فمن نكث فإنما ينكث على

١٣٦
 &

نفسه ثم قال ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله .

والله لقد مُنيت بأربع لن يمْنَ بمثلهن أحد بعد النبي ( ص ) ، منيتُ بأشجع الناس الزبير بن العوام ، وبأخدعِ الناس طلحة بن عبيد الله ، وبأطوع الناس في الناس ، عائشة بنت أبي بكر ، وبمن أعان عليَّ بأنواع الدنانير يعلي بن مُنية ، والله لئن أمكنني الله منه لأجعلنَّ ماله وولده فيئاً للمسلمين .

وزحف علي رضي الله عنه حتى نزل قبالة القوم ، وكان معه من أصحابه وأعوانه عشرون ألفاً .

« ما قبل القتال »

ولم يكن في نية عليٍّ مواجهة القوم وقتالهم على ما يبدو بل كان يتحيّن الفرص طمعاً في رجوعهم عما اجتمعوا عليه حقناً لدماء المسلمين ، لذلك راسل عائشة أكثر من مرة مستنكراً عليها خروجها وداعياً إياها إلى التوبة ، كما راسل طلحة والزبير في ذلك ، ولكن دون جدوى إذ كانت همتهم القضاء عليه أو نقض بيعته وتجريده من الخلافة .

« كتابه لعائشة »

جاء في كتاب علي لعائشة : « أما بعدُ ، فإِنك قد خرجتِ من بيتك عاصيةً لله تعالى ولرسوله محمد ( ص ) تطلبينَ أمراً كان عنكِ موضوعاً ، ثم تزعمينَ أنك تريدين الإصلاح بين المسلمين ، فأخبريني ما للنساء وقودِ العساكر والإصلاح بين الناس ، فطلبتِ ! زعمتِ بدم عثمان ، وعثمانُ رجل من بني أمية ، وأنتِ امرأة من بني تميم بن مرّة ، ولعمري أن الذي عرضك للبلاء وحملَك على المعصية لأعظم إليك ذنباً من قتلة عثمان ! وما غضبت حتى أغضبت ، ولا هجتِ حتى هيّجتِ ، فاتق الله يا عائشة وارجعي إلى منزلك ، واسبلي عليك سترِكِ والسلام .

ومرةً ثانية أرسل علي يزيد بن صوحان وعبد الله بن عباس إلى عائشة بأن يقولا لها : ألم يأمركِ اللهُ تبارك وتعالى أن تَقرّي في بيتك ؟ فخَدَعتِ

١٣٧
 &

وانخدعتِ ، واستنفرتِ فنفرتِ ، فاتقي الله الذي إليه مرجعك ومعادك وتوبي إليه فإنه يقبل التوبة عن عباده ، ولا يحملنّكِ قرابةُ طلحة وحبَّ عبد الله بن الزبير على الأعمال التي تسعى بك إلى النار .

وكان جواب عائشة لهما : ما أنا برادّةٍ عليكم شيئاً ، فإني أعلم أني لا طاقة لي بحُجَج عليّ بن أبي طالب .

« كتابه إلى طلحة والزبير »

ثم كتب علي إلى طلحة والزبير : أما بعد ، فقد علمتم أني لم أردِ الناسَ حتى أرادوني ، ولم أبايعهم حتى أكرهوني ، وأنتم ممن أرادوا بيعتي ، ولم تبايعوا لسلطانٍ غالب ، ولا لغرضٍ حاضر ، فإن كنتم قد بايعتم مكرهين فقد جعلتم إليَّ السبيل عليكم بإظهاركم الطاعة وكتمانكم المعصية . وأنت يا زبير فارس قريش ، وأنت يا طلحة شيخ المهاجرين ، ودفعُكُم هذا الأمر قبل أن تدخلوا فيه كان أوسعَ لكم من خروجكم منه بعد إقراركم ، وأما قولكم أني قتلت عثمان ، فبيني وبينكم من يحلفُ عني وعنكم من أهل المدينة . إلى أن قال : وبعدُ . فما أنتم وعثمان ، قُتِل مظلوماً كما تقولان ؟ أنتما رجلان من المهاجرين وقد بايعتموني ونقضتم بيعتي وأخرجتم أمُكمْ من بيتها الذي أمرها الله تعالى أن تقرَّ فيه ، والله حسبُكم والسلام .

« جوابُ طلحة والزبير »

كان جواب طلحة والزبير على كتاب عليّ : أنْ يا أبا الحسن ، قد سرتَ مسيراً له ما بعده ولستَ براجعٍ وفي نفسك منه حاجة ، ولست راضيا دون أن ندخل في طاعتك ، ونحن لا ندخل في طاعتك أبداً ، وأقضي ما أنت قاضٍ والسلام .

« كذِبٌ وبهتان »

ووثب عبد الله بن الزبير فقال : أيها الناس ، إن علي بن أبي طالب هو الذي قتل الخليفة عثمان بن عفان ، ثم إنه الآن قد جاءكم ليبيّن لكم أمركم

١٣٨
 &

فاغضبوا لخليفتكم وامنعوا حريمكم وقاتلوا على أحسابكم .

فأمر علي ( ع ) ولده الحسن أن يرد عليه ، فقام وقال :

أيها الناس ، أنه قد بلغنا مقالة عبد الله بن الزبير ، فأما زعمه أن علياً قتل عثمان ، فقد علم المهاجرون والأنصار بأن أباه الزبير بن العوام لم يزل يجتني عليه الذنوب ويرميه بفضيحات العيوب ، وطلحة بن عبيد الله راكد ، رأيته على باب بيت ماله ، وهو حي .

وأما شتيمته لعلي فهذا ما لا يضيق به الحلقوم لمن أراده ، لو أردنا أن نقولَ لفعلنا . وأما قوله إن علياً أبتر الناس أمورهم ، فإن أعظم حجة أبيه الزبير أنه زعم أنه بايعه بيده دون قلبه ، فهذا إقرار بالبيعة ، وأما تورد أهل الكوفة على أهل البصرة ، فما يعجب من أهل حقٍ وردوا على أهل باطل .

ولعمري ما نقاتل أنصار عثمان ، ولعليٍّ أنْ يقاتل أتباع الجمل والسلام .

« خطبة عمّار بن ياسر »

وقام عمار بن ياسر بين الصفين فقال : أيها الناس ، ما أنصفتم نبيّكم حين كففتم عقائلكم في الخدور ، وأبرزتم عقيلته للسيوف .

هذا وعائشة على جمل في هودج من دفوف الخشب قد ألبسوه المسوح وجلود البقر وجعلوا دونه اللبود ، وقد غُشي على ذلك بالدروع .

فدنا عمار من موضعها ، فنادى : إلى ماذا تدعين ؟ قالت : إلى الطلب بدم عثمان . فقال : قاتل الله في هذا اليوم الباغي والطالب بغير الحق . ثم قال : أيها الناس ، إنّكم لتعلمون أينا الممالىء في قتل عثمان . ثم أنشأ يقول وقد رشقوه بالنبل :

فمنكِ البكاء ومنك العويل

ومنكِ الرياحُ ومنكِ المطرْ

وأنتِ أمرتِ بقتل الإمام

وقاتله عندنا من أمَرْ

وتواتر عليه الرمي واتصل ، فحرك فرسه وزال عن موضعه ، وأتىٰ علياً فقال : ماذا تنتظر يا أمير المؤمنين ، وليس لك عند القوم إلا الحرب ؟!

١٣٩
 &

خطبة علي ( ع ) ودعاؤه على طلحة والزبير

ثم جمع علي رضي الله عنه الناس فخطبهم خطبةً بليغة وقال : أيها الناس ! إني قد ناشدت هؤلاء القوم كيما يرجعوا ويرتدعوا ، فلم يفعلوا ولم يستجيبوا ، وقد بعثوا إلي أن أبرز إلى الطعان وأثبت للجلاد ، وقد كنت وما أهدد بالحروب ولا أدعى إليها ، وقد انصف القارة من راماها ، ولعمري لئن أبرقوا وأرعدوا فقد عرفوني ورأوني ، ألا وان الموت لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب ، ومن لم يمت يقتل ، وإن أفضل الموت القتل ، والذي نفس علي بيده لألف ضربةٍ بالسيف أهون علي من موتةٍ على الفراش .

ثم رفع يده إلى السماء وهو يقول : اللهم ان طلحة بن عبيد الله أعطاني صفقةً بيمينه طائعاً ، ثم نكث بيعته ، اللهم فعاجله ولا تميّطه .

اللهم إن الزبير بن العوام قطع قرابتي ، ونكث عهدي ، وظاهر عدوي ونصب الحرب لي وهو يعلم أنه ظالم ، فاكفينيه كيف شئت وإنىٰ شئت .

« رجوع الزبير ، ومقتله »

وخرج علي رضي الله عنه ، فوقف بين الصفين ، عليه قميص ورداء ، وعلى رأسه عمامة سوداء ، وهو يومئذٍ على بغلة رسول الله ( ص ) الشهباء التي يقال لها « دُلدُل » ثم نادى بأعلى صوته : أين الزبير بن العوام ، فليخرج إليّ ! فقال الناس : يا أمير المؤمنين ، أتخرج إلى الزبير وأنت حاسر ! وهو مدجج في الحديد ؟! فقال علي رضي الله عنه : ليس علي منه بأس ، فأمسكوا .

ثم نادى الثانية : أين الزبير بن العوام ؟ فليخرج إلي .

فخرج إليه الزبير ، ونظرت عائشة فقالت : واثكل أسماء ! فقيل لها يا أم المؤمنين ! ليس على الزبير بأس ، فإن علياً بلا سلاح .

ودنا الزبير من علي حتى واقفه ، فقال له علي رضي الله عنه : يا أبا عبد الله ما حملَكَ على ما صنعت ؟

١٤٠