جواهر الكلام

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ولو كان له منفعة كالركوب والدر فالمشهور جواز الانتفاع بهما ، ويكون بإزاء النفقة ، وهو في رواية أبي ولاد والسكوني وفي النهاية « إن انتفع ، وإلا رجع بالنفقة ».

ومنع ابن إدريس من الانتفاع ، فإن انتفع تقاصا وعليه المتأخرون ، والروايتان ليستا بصريحتين في المقابلة ، ولا مانعتين من المقاصة ، نعم تدلان على جواز ذلك وهو حسن ، لئلا تضيع المنفعة على المالك نعم يجب استيذانه إن أمكن وإلا فالحاكم ».

وفيه مضافا إلى ما عرفت أن ضياع المنفعة على المالك إن لم يستوفها لا يجوز الاستيفاء لأنه أعم من الإذن من المالك والاستناد فيه إلى الخبرين يقضى بالعمل بما فيهما من المقابلة أو المقاصة التي إن لم تكن صريحهما فهي ظاهرهما ، وهو حجة كالصريح ، فلا مناص حينئذ عن طرح الخبرين بالنسبة إلى ذلك كله في مقابلة ما عرفت ، أو حملهما على الإذن ونحوه أو على توقف الحفظ على الانتفاع المزبور ، فإن بعض الدواب يفسده عدم الركوب ، وعدم الحلب وشرب اللبن ، لانه مما يفسده البقاء ، فضمانه بالقيمة كبيعه من غيره ، من الإحسان في حفظ الأمانة ، والفرض أن حمل الخبرين على ذلك ونحوه أولى من العمل بهما ، ومع فرض عدم قبولهما لشي‌ء من ذلك فطرحهما متجه كما هو واضح.

ثم إن المصنف وغيره قد أطلق جواز الإنفاق ، ولا بد من تقييده بعدم التمكن من إنفاق المالك لامتناع وعدم إمكان جبر ، ولا توصل إلى ماله ، أو لغيبة كذلك ، ضرورة كون النفقة عليه لا على المرتهن ، بل قد يظهر من جماعة تقييده أيضا بعدم التمكن من الحاكم ، وإلا وجب الرجوع إليه والاستيذان منه ، وهو في محله ، لأنه ولي الممتنع والغائب في نحو ذلك ، بل ربما ظهر من بعضهم اعتبار الإشهاد في الرجوع بما أنفقه عند تعذر المالك والحاكم وإن كان واضح المنع ، ضرورة تعسره أو تعذره ، فهو مصدق بمقدار ما أنفقه ، وفي دعوى نية الرجوع ، لأنه أمين شرعي على ذلك ، ومع التهمة عليه اليمين ، بل ربما ظهر من بعض هنا عدم اعتبار الحاكم ، بل يشهد له بعض كلماتهم في باب الوديعة واللقطة ، بل عن المهذب البارع ، أن من عدا الشهيد لم‌

١٨١

يشترطه ، قال : اشترط الشهيد في جواز الرجوع بالنفقة إذن المالك أو الحاكم ، فإن تعذر فالإشهاد ، ولم يشترط الباقون إذن الحاكم ، وهو أولى ، وان كان فيه أنه اشترطه الفاضل في التذكرة ، بل هو في معقد ما تسمعه من شهرة المسالك وغيرها.

وعلى كل حال فلعل وجه عدم اشتراط الحاكم أن المرتهن باستيمان المالك قائم مقامه عند تعذره أو امتناعه ، فلا حاجة إلى رجوعه إلى الحاكم ، خصوصا مع اندراجه في المحسنين ، وتعلق غرضه بالإنفاق ، باعتبار توقف بقاء الرهن الموضوع وثيقة له على دينه عليه ، بل قد يقال لذلك بالاكتفاء في جواز رجوعه بما أنفقه عدم إنفاق المالك ، لا امتناعه مع عدم إمكان جبره أو غيبة ونحوهما ، وإن كان ينافيه ظاهر كلامهم ، وأصالة براءة الذمة ، وأصالة عدم قيام الغير مقامه في شغل ذمته من غير اذنه. بل لا يبعد اندراجه في هذا الحال في سلك المتبرعين الذين لا حرمة لأموالهم.

ولا يكفي نية الرجوع بعد أن كان الخطاب بالإنفاق لغيره ، الذي يمكن أن يكون عدم بذله النفقة منه لغفلة ، أو ظن وجودها أو نحو ذلك ، فلا بد من مطالبته بها أولا ، فإن بذل وإلا أجبر ، فإن لم يمكن أنفق بإذن الحاكم أو بدونه على البحث السابق.

وفي المسالك وغيرها أن المرتهن إن أمره الراهن بالنفقة رجع بما غرم ، وإلا استأذنه ، فإن امتنع أو غاب رفع أمره إلى الحاكم ، فإن تعذر أنفق هو بنية الرجوع ، وأشهد عليه ليثبت له استحقاقه. وكيف كان فلا بد من تقييد إطلاق المصنف الإنفاق بما عرفت ، كما أنه لا بد من تقييده المقاصة باجتماع شرائطها ، ويمكن قراءة عبارة المصنف أو تقاضى بالضاد المعجمة كما عن بعض النسخ ، إلا أنه يبعده وقوع هذه اللفظة في غيرها من عبارات الأصحاب ، والأمر سهل بعد وضوح المقصود والله أعلم.

والمشهور بين الأصحاب بل لم أجد فيه خلافا بينهم أنه يجوز للمرتهن أن يستوفي دينه مما في يده وإن لم يكن وصيا عن الراهن على البيع إن علم وإن ظن بل وإن خاف جحود الوارث للدين أو للرهانة وكانت التركة قاصرة مع اعترافه بالرهن ولم تكن عنده بينة مقبولة ، وفي الرياض « قد صرح به‌

١٨٢

الأصحاب من غير خلاف يعرف ». بل عن شرح الإرشاد « الإجماع على أن للمرتهن الاستيفاء من الرهن وإن لم يكن وكيلا في البيع ، أو انفسخت وكالته بموت الراهن ، إن خاف جحود الراهن ، أو الورثة للحق ، ولم يمكن إثباته عند الحاكم ، لعدم البينة ، أو غيره من العوارض » وعن مجمع البرهان « الإجماع أيضا إن لم تكن له بينة مقبولة أو لم يمكن إثباته عند الحاكم ».

والأصل في ذلك ـ مضافا إلى الحرج ، والضرر ، وما دل على المقاصة ، وفائدة الرهن وغير ذلك مكاتبة المروزي (١) لأبي الحسن عليه‌السلام « في رجل مات وله ورثة ، فجاء رجل فادعى عليه مالا ، وأن عنده رهنا ، فكتب عليه‌السلام إن كان له على الميت مال ، ولا بينة له ، فليأخذ ماله مما في يده ، ويرد الباقي على ورثته ، ومتى أقر بما عنده ، أخذ به وطولب بالبينة على دعواه ، وأوفي حقه بعد اليمين ، ومتى لم يقم البينة والورثة ينكرون ، فله عليهم يمين علم ، يحلفون بالله ما يعلمون له علي ميتهم حقا » والمناقشة في سندها بعد الانجبار بما سمعت لا وجه لها.

كما أن منها يعلم الوجه فيما ذكره المصنف بقوله أما لو اعترف بالرهن ، وادعى دينا ، لم يحكم له ، وكلف البينة وله إحلاف الوارث إن ادعى عليه العلم بل لم يشترط في الخبر دعوى العلم ، بل ظاهره توجه اليمين عليهم بمجرد الدعوى بالدين ، وإن كان يمينهم على نفى العلم ، لأنه لنفي فعل الغير وعلى كل حال فالخبر ظاهر في الحكم المزبور ، وشموله لصورة عدم خوف الجحود غير قادح ، بعد معلومية عدم ارادتها ، لوجوب الاقتصار فيما خالف أصل عدم جواز التصرف في مال الغير بغير اذنه على المتيقن.

ومنه يعلم الوجه في اعتبار عدم البينة كما ذكرناه ، ونص عليه في الخبر ، وفاقا لجماعة ، وإن أطلق المصنف بل وغيره ، بل عن مجمع البرهان التصريح بأنه لا يشترط عدم البينة ، ولا عدم إمكان الإثبات عند الحاكم ، بل قال : و « الرواية غير صريحة بالاشتراط ، وإنما فيها إشعار يمكن أن يكون قد خرج مخرج الغالب »

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٠ من أبواب أحكام الرهن الحديث ـ ١.

١٨٣

وإن كان فيه ما لا يخفى بعد ما عرفت الذي منه يعلم ضعف ما عن بعضهم من إلحاق الحاجة إلى اليمين بخوف الجحود ، ولذا نفي الاعتماد عنه في المسالك وغيرها.

بل لولا ظهور إلغاء الخصوصية ولو بضميمة ما سمعته من الإجماع من شرح الإرشاد لأمكن التوقف في إلحاق خوف جحود الراهن ، لما عرفت من عدم كون الحكم على القاعدة ، ضرورة أنه ليس من المقاصة المشروطة بامتناع من عليه الحق ، ولا يكفي فيها الخوف ، إلا أنه لا مناص عن الحاقه بعد الإجماع المزبور ، المعتضد بتصريح جماعة ، وبظهور عدم الخصوصية للوارث ، بل لا بأس بإلحاق خوف عدم قبول البينة أو جرحها أو نحو ذلك وعلى كل حال فالمعتبر في الجواز الخوف ، لا طلاق الخبر المزبور ، وما في القواعد من اعتبار العلم لا يخلو من نظر ، كاعتبار غيره الظن والله أعلم.

ولو وطئ المرتهن الأمة مكرها لها على ذلك من غير إذن الراهن كان عليه عشر قيمتها أو نصف العشر ، وقيل : عليه مهر أمثالها ، ولو طاوعته ، لم يكن عليه شي‌ء كما تقدم تحقيق ذلك كله وتحقيق أرش البكارة في بيع الحيوان فلاحظ وتأمل ، إذا المسألة من واد واحد ولا خصوصية للمرتهن عن غيره ، هذا. وقد عرفت فيما تقدم صحة اشتراط وضع الرهن ابتداء واستدامة أو استدامة خاصة على يد عدل فصاعدا مطلقا ، أو معين ، أو غيرهما مطلقا أو معين ، وإن لم يكن عدلا أو نحو ذلك من الشرائط السائغة التي تلزم بعموم « المؤمنون » و ( أَوْفُوا ) من غير خلاف أجده فيه بيننا ، بل عن التذكرة نسبة اشتراط وضع الرهن على يد عدل إلى علمائنا ، بل عن الخلاف دعوى الإجماع عليه صريحا ، بل قال : منا ومن جميع الفقهاء إلا ابن أبى ليلى.

نعم في القواعد « يشترط فيه كونه ممن يجوز توكيله ، وهو الجائز التصرف وإن كان كافرا ، أو فاسقا ، أو مكاتبا لكن بجعل ، لا صبيا ولا عبدا إلا بإذن مولاه » ولعله لأنه وكيل عن المرتهن نائبا عنه في القبض ، كما عن التذكرة ، وإن كان قد يناقش فيه بمنع الوكالة ، ثم إذا كان المشترط من الوضع استدامته التي لا مدخلية لها في‌

١٨٤

صحة الرهن ، ولا لزومه ، بل وفي الابتداء بناء على أنه كذلك فلا بأس حينئذ بتراضيهما على وضعه في يد صبي ، خصوصا إذا كان مأمونا رشيدا ، وكان اعتبار الجعل في المكاتب لحجر التصرف عليه في منافعه بغير الاكتساب ، بل اعتبر بعضهم فيه كونه بأجرة المثل فصاعدا.

نعم ينبغي تقييده بما إذا لم يأذن مولاه ، وإلا فلا يعتبر الجعل ، لأن الحق لهما ، فلا بأس إذا أسقطاه ، والظاهر عدم اعتبار تعيين الموضوع عنده في صحة الشرط لعموم الدليل ، وعدم إفضاء جهالته هنا إلى الجهالة فيما يشترط عدمها في صحته ، كالبيع والإجارة ، فإن اتفقا حينئذ عليه فلا بأس ، والا قطع نزاعهما الحاكم بالتعيين كما إذا لم يشترطا ، وليس لأحدهما ولا للحاكم عزله من دون داع بعد تعيينه في العقد أو الاتفاق عليه بعد اشتراط كليه فيه ، الذي يكون بالاتفاق كمشترط الخصوصية.

نعم لو كان الشرط العدل فخرج عن العدالة فطلب أحدهما نقله أجيب إليه ، فإن اتفقا على غيره ، وإلا وضعه الحاكم عند ثقة ، وكذا لو تغير حاله بمرض ، أو كبر أو نحوهما بحيث لا يقدر على الحفظ معه ، بل وكذا لو حدثت له عداوة دنيوية مع أحدهما وإن لم يخرج بها عن العدالة ، إذ لا يؤمن أن يرتكب بعض الحيل التي يترتب عليها الضرر ، ولذا لم يأمن العدو عدوه ، فهو حينئذ غير مراد من الشرط ، كما أنهما إذا اتفقا على عزله جاز أيضا ، وإن لم يتغير حاله ، لأن الحق لهما ، ولو اختلفا في التغيير عمل الحاكم على ما يظهر له بعد البحث ، ولو مات العدل نقلاه إلى من يتفقان عليه ، فان اختلفا نقله الحاكم ، ولو كان الوضع على يد عدل بالاتفاق من دون الشرط فأراد أحدهما عزله دون الآخر رجع الأمر إلى الحاكم في إقراره أو نقله ، هذا كله مع القول بعدم استحقاق المرتهن استدامة القبض حال الإطلاق ، وإلا اتجه قبض المرتهن له في بعض هذه الأحوال والله العالم.

وكيف كان ف إذا وضعاه على يد عدل مثلا فللعدل المتطوع رده عليهما قطعا لعدم لزوم ذلك عليه ، أو تسليمه إلى من يرتضيانه لما‌

١٨٥

عرفت من أن الحق لهما ولا يجوز له تسليمه مع وجودهما وعدم معلومية امتناعهما إلى الحاكم الذي لا ولاية له عليهما في هذا الحال ، للأصل وغيره ولا إلى أمين غير الحاكم وغيرهما من غير إذنهما لعدم جواز الإيداع للودعي من غير إذن وحينئذ ف لو سلمه إلى من لا يجوز تسليمه ضمن هو ومن تسلمه ، وإن كان له الرجوع على العدل مع الغرور.

وفي القواعد « لو لم يمتنعا من القبض فدفعه إلى عدل بغير إذنهما ضمن ، ولو أذن له الحاكم ضمن أيضا ، لانتفاء ولايته عن غير الممتنع ، ويضمن القابض » لكن ينبغي تقييد ضمان الحاكم إذا كان مرادا من الضمير بما إذا كان عامدا ، والا كان من الخطأ فتأمل ، فإنه قد يمنع ضمان الحاكم ابتداء ، وإن رجع عليه ، قال في جامع المقاصد : أي ضمن الدافع وإن اغتر بإذن الحاكم ، لكن في هذه الحالة يرجع على الحاكم إن تعمد ، وإلا فهو من خطأ الحاكم » انتهى وإن كان لا يخلو من بحث في الجملة والله العالم.

وكذا يضمن العدل لو سلمه إلى أحدهما من دون إذن الآخر ، هو ، ومن تسلمه حتى لو كان الراهن على معنى أنه لو تلف في يده تعلق الرهن بقيمته أو مثله ، وما عن الأردبيلي ـ من جواز تسليمه إلى الراهن ، لأنه مالك ولاستصحاب جواز تسلمه ـ غريب ، ضرورة عدم اقتضائهما ذلك ، بعد تعلق حق المرتهن الذي هو أولى منه في ذلك ، ولذا قيل : إنه لو احتمل جواز التسليم إليه كان له وجه ، وإن كان فيه أنه لو سلم اقتضاء إطلاق الرهانة التسليم إلى المرتهن ، إلا أن مفروض المقام اشتراط وضعه على يد عدل ، الظاهر في عدم ذلك.

نعم لو كان وضعه على يده اتفاقا منهما من غير شرط اتجه ذلك ، بناء على الاقتضاء المزبور ، لكن الذي يظهر من ثاني الشهيدين في المسالك عدم اقتضاء عقد الرهانة مع الإطلاق ذلك ، بل يظهر منه انه مفروغ منه ، وهو إن لم يكن إجماعيا محل نظر ، وقد ذكرنا في مبحث القبض ما يستفاد منه عدم الإجماع ، وما يستفاد منه استحقاق المرتهن الوضع عنده ، إلا أن يشترط خلافه فلاحظ وتأمل.

١٨٦

ولو استترا عن قبضه من العدل بعد أن طلب منهما أقبضه الحاكم الذي هو ولى الممتنع ولو كانا غائبين وأراد تسليمه إلى الحاكم ، أو عدل آخر من غير ضرورة ، لم يجز ويضمن لو سلم هو ومن تسلمه وكذا لو كان أحدهما غائبا لوجوب الصبر عليه إلى الحضور من الغيبة التي لا تقصير معها ، والأصل عدم ولاية الحاكم في مثل ذلك ، وإطلاق ولايته عن الغائب في بعض المقامات إنما يراد منه مع الحاجة والمصلحة ونحوهما ، لا نحو ذلك ، ضرورة عدم جواز استيلاء الحاكم على أموال الغائبين بمجرد غيبتهم ، بل في المسالك « أن من القواعد المقررة في بابها أن الودعي ليس له دفع الوديعة إلى الحاكم مع إمكان المالك ، ولا مع غيبته إلا مع الضرورة » وما نحن فيه من ذلك ، وبه بان الفرق بين ولاية المالك والحاكم.

نعم إن كان هناك عذر كسفر ومرض ونحوهما سلمه إلى الحاكم أو من يأذن له ، لثبوت ولايته حينئذ ومن هنا لو دفعه إلى غيره حينئذ من غير إذن الحاكم ضمن ولو كان ثقة ، أما لو تعذر الحاكم وافتقر إلى الإيداع أودع من ثقة وأشهد ولا ضمان ، والظاهر جواز دفعه من أحدهما في هذا الحال إذا كان ثقة ، بل لعله أولى ، لكن في القواعد « لو امتنعا لم يضمن بالدفع إلى العدل مع الحاجة وتعذر الحاكم ، فإن امتنع أحدهما فدفعه إلى الآخر ضمن ، والفرق أن العدل يقبض لهما ، والآخر يقبض لنفسه » وفيه أن العدالة تنفي ذلك فتأمل والله أعلم.

ولو وضعاه على يد عدلين جاز إجماعا ، محكيا عن التذكرة إن لم يكن محصلا ، لكن لم ينفرد به أحدهما عن الآخر ولو أذن له الآخر إذا كانا قد صرحا لهما بإرادة الاجتماع ، أو أطلقا ، بناء على انصرافه إلى ذلك ، باعتبار ظهور اختيار الاثنين في عدم الإكتفاء بحفظ أحدهما ، نعم لو حصلت قرينة على عدم إرادة الاجتماع كان لأحدهما الانفراد بحفظه ، كما أن له تسليمه إليهما من دون إذن الآخر في حالي اعتبار الاجتماع وعدمه ، ضرورة كون المراد الاجتماع في الحفظ ، وإلا فالمال لهما ، فإذا أرادا تسليمه وجب فورا على كل منهما ، فما عن بعضهم ـ من‌

١٨٧

عدم جواز تسليم أحدهما مع اعتبار الاجتماع إلا بإذن الأخر ـ واضح الفساد.

وكيف كان فلو سلم أحد العدلين إلى الآخر ضمن كل منهما الكل ، لحصول سببه من كل منهما بالتفريط من الدافع ، والتعدي باستقلال اليد من المتسلم ، فللمالك الرجوع على كل منهما ، الواجب عليه حفظه جميعه ، منضما مع الآخر ، والتساوي في ثبوت سبب الضمان مع اتحاد العوض المضمون ، لا يقتضي التقسيط ، بعد أن كان كل منهما سببا ، فهو كالأيدي المتعاقبة المعلوم عدم التقسيط فيها ، وإن تساوت في ذلك واتحد العوض ، ودعوى أنهما بمنزلة أمين واحد ، ممنوعة ، ضرورة إن كل واحد أمين مستقل على الجميع ، غاية ما في الباب أنه قد شرط عليه انضمام الآخر اليه ، فما عساه يظهر من الفاضل من الميل إلى التنصيف ، فيه ما لا يخفى.

والظاهر أن قرار الضمان على من ضمنه المالك منهما ، لو تلف بآفة سماوية ، إن لم يثبت إجماع على قاعدة « قرار الضمان على من تلف في يده المال » كما عساه يظهر منهم في باب الغصب. لكن في المقام حكي عن فخر المحققين وابن المتوج أن الأصح استقراره على من ضمنه المالك ، واحتمله في المسالك ، واستشكل فيه في القواعد ، وهو يومي إلى عدم الإجماع المزبور بحيث يشمل المقام ، وحينئذ يتجه ما قلناه ضرورة عدم الدليل على رجوعه على الآخر بعد أن كان رجوع المالك عليه بحق ، ولم يكن منه غرور له.

ودعوى ـ أن المتعدي أقوى من المفرط فيساوي المباشر حينئذ ، كما أن الثاني يساوي السبب ، فيكون أولى في قرار الضمان ـ لا ترجع إلى محصل يعتمد عليه شرعا.

وأضعف منها التعليل بأن الضمان وإثبات اليد وجوديان ، وتارك الحفظ عدمي وسببية الوجودي للوجودي أقوى وأولى من سببية العدمي ، وبأن اليد العادية سبب بسببية التضمين بالتسليم ، مع كونها علة تامة في التضمين ، فكانت أقوى وأولى مع أن مقتضى ذلك خصوصا الأولين عدم جواز رجوع المالك على الدافع أصلا ، لا أن القرار خاصة على المتسلم ، كما أن مقتضى تعليل رجوع المالك على الدافع بأنه‌

١٨٨

مضيع بتسليمه والمتسلم حافظ قد عمل بمقتضى الاستيمان ، عدم جواز الرجوع على المتسلم أصلا ، فضلا عن كون القرار على الدافع ، والجميع كما ترى خصوصا بعد جزم من تعرض لهذا الفرع بجواز رجوع المالك على من شاء منهما ، وإنما الكلام في قرار الضمان.

فالتحقيق فيه أنه على من ضمنه المالك إن لم يثبت الإجماع المزبور ، فتأمل. فإن المقام ربما حصل فيه خبط من بعضهم ، لكن ستسمع في كتاب الغصب ما يقتضي جريان قولهم قرار الضمان على من تلف المال في يده ، على القواعد الشاملة للمقام ، إن لم يكن هو من موضوع ما ذكروه في كتاب الغصب ، وحينئذ يتجه القرار على الآخر الذي تلف المال في يده دون العكس ، فلاحظ وتأمل والله أعلم.

ولو باع المرتهن الرهن حيث يجوز له ذلك أو العدل ودفع الثمن إلى المرتهن وفاء أو وثيقة إذا كان له ذلك ثم ظهر فيه أي المبيع عيب لم يكن للمشترى الرجوع على المرتهن الذي قبض الثمن المملوك للراهن ، وفاء أو وثيقة ، إذا الفسخ بالعيب إنما هو من حينه بلا خلاف أجده بين من تعرض له.

لكن قد يشكل ـ إذا كان وثيقة ، بأن رهانته فرع رهانة المبيع والفرض رده بالعيب ، فترد وصف الرهانة معه ، فتبطل بإبدالهما ، لعدم اجتماع البدل والمبدل منه.

ـ ويدفع أولا : بمنع فرعية رهانيته عليه ، ضرورة عدم انتقاله رهنا ، بل لا بد من استحقاق رهن الثمن من سبب جديد ، من اشتراط ونحوه ، فضلا عن الارتهان الجديد.

وثانيا : بعد التسليم بمنع اقتضاء الرد بالعيب ، رجوع وصف الرهانة التي بطلت في المبيع بالبيع ، وانتقل إلى الثمن بمجرد دخوله في ملك الراهن فلا يبطله الفسخ الطاري ، لكن قد يقال : مقتضى ذلك أنه لو كان العيب بالثمن إما أن لا يكون للراهن الرد من دون إذن المرتهن ، وإنما يتعين له الأرش ، لتعلق وصف الرهانة به ، فيكون كالتصرف المسقط له ، أو أن له ذلك ، ولا تعود الرهانة ، لعدم رجوعها‌

١٨٩

بالرد بالعيب ، وكلاهما محل بحث ، لعدم صدق التصرف على التعلق المزبور ، حتى يتعين الأرش ، كعدم عود الرهانة ، إذ لا أقل من أن يكون الفسخ بالعيب كالإتلاف المقتضي تعلق الرهانة بالقيمة التي هي بدله.

وقد يقال في الفرض أن له رد المبيع بالعيب في الثمن من دون رد الثمن نفسه ، باعتبار تعلق حق الرهانة به ، المانع من رده ، وإن لم يصدق عليه أنه تصرف منه ، كي يتعين له الأرش فيرد حينئذ عوض الثمن. نحو ما احتمل فيما لو اشترى من ينعتق عليه فبان أنه معيب.

أما إذا رد الثمن بإذن المرتهن فلا إشكال في عود الرهانة في المبيع ، بناء على ظهور إذنه في عود المبيع رهنا ، وحينئذ لم يثبت إجماع على عدم فسخ الرهانة في الثمن برد المشتري المبيع ، كان فيه نوع تأمل بناء على اقتضاء أدلة الفسخ رجوع كل ملك إلى صاحبه.

لكن قد يقال : بتعارض أدلة الفسخ مع ما دل على لزوم الرهن من الاستصحاب وغيره ، وترجيحها عليه محل منع ، بل العكس هو المتجه ، كما في نظائره ولعله لذا لم يتوقف أحد من الأصحاب في بقاء الرهانة لو رد المشتري المبيع ، ولا بأس بالتزام تعين الأرش فيما فرضنا نحن من حصول العيب بالثمن ، وتسمع في الإذن في بيع الرهن زيادة تحقيق لذلك ، فلا محيص عنه خصوصا بعد اتفاق الأصحاب ظاهرا عليه. نعم قد يتجه عود المبيع رهنا فيما لو فرض كون البيع لحفظ الرهن ، باعتبار عروض فساد له قبل الأجل ، فإن رهن الثمن حينئذ يثبت كون المبيع رهنا ، فمع فرض الفسخ المزبور يعود المبيع على ما كان عليه من وصف الرهانة ، تحقيقا لمعنى البدلية كما هو واضح بأدنى تأمل. والله العالم.

وكذا ليس له الرجوع على العدل مع العلم بوكالته حال البيع ، أو حال الإقباض للثمن ، أو بعدهما ، أما إذا أنكر العلم بذلك ولا بينة ، استحق الرجوع عليه إن اعترف بالعيب ، أو قامت به بينة ، ويرجع هو على الراهن إن اعترف بالعيب ، أو‌

١٩٠

كان ثابتا بالبينة ، فإن أنكره ولا بينة وكان قد اعترف به العدل ، فالقول قول الراهن كما في ظاهر جامع المقاصد ، وصريح المحكي عن التحرير لأنه منكر ، ووكالة العدل عنه لا تقتضي تصديقه في إقراره ، وإن أنكر العدل العيب على المشتري الذي لم يعترف بوكالته ، كان القول قوله بيمينه ، فإن نكل فحلف المشتري رجع على العدل ولا يرجع العدل على الراهن ، لاعترافه بالظلم ، ولكن يأخذ المبيع مقاصة ، فإن زاد دسه في مال المشتري ، وإلا قاصه من غيره مع الإمكان ، هذا كله في العيب.

أما لو استحق الرهن لغصب ونحوه استعاد المشتري الثمن منه أى المرتهن ، بل ومن العدل مع بقاء عينه في يده ، بل من كل من كان عين ماله في يده ، من غير فرق بين الراهن والعدل والمرتهن ، ولو تعذر عليه المرتهن أو العدل كان له الرجوع على الراهن ، وإن لم يكن في يده فعلا ، لأنه البائع حقيقة ، وقبض العدل أو المرتهن إنما كان عنه ، ولو تعذر عليه الراهن لم يكن له الرجوع على العدل بعد فرض كون المال في يد غيره ، فعلا ، وإن استولت عليه سابقا ، إذا كان عالما بوكالته حال البيع ، ولم يكن العدل عالما باستحقاق المبيع ، لأنه حينئذ قد اشتراه منه على أنه نائب عن غيره ، وأن يده يد غيره ، فقبضه للثمن قبض للراهن ، وإنما هو واسطة ، كناقد الثمن للمشترى عند إرادة دفعه إلى البائع ، وبعلمه بوكالته كأنه قد أذن له في تسليمه إلى غيره.

وتخيله صحة الوكالة ليس تقييدا للإذن ، بل هو داع ، فلا يشمله حينئذ عموم « على اليد » بل الظاهر أن الحكم كذلك لو لم يكن عالما بوكالته حال البيع ، ولكنه عملها حال الدفع ، لاتحاد المدرك ، وإن كان قد يظهر من جامع المقاصد عدم تأثير العلم في غير حال البيع. نعم لو علمها بعد البيع والدفع أمكن حينئذ القول بجواز الرجوع عليه ، لعدم الإذن ، وقد سلمه الثمن بعنوان كونه مضمونا عليه بالبيع ، فلم يسلم له ، فيشمله عموم « على اليد » والوكالة قد تبين فسادها في الواقع ، فيرجع عليه ، وهو يرجع على من غره.

١٩١

ولو تعذر عليه العدل والراهن كان له الرجوع على المرتهن مع استيلاء يده عليه ، وان لم يكن هو فيها حال الرجوع ، لعموم « على اليد » ويرجع هو على من غره. نعم لو كان قد دفعه المشتري إليه مع العلم بأنه وكيل عن الراهن ، وأن يده يده ، أو اشتراه منه على ذلك ، فقد يقال : بعدم الرجوع عليه ، لما سمعته في العدل ، إلا أن كلامهم في التلف ينافيه ، فإنه قد صرح الشيخ في مبسوطة ، والفاضل ، والشهيدان ، ويحيى بن سعيد ، والمحقق الثاني ، فيما لو تلف في يد العدل أو المرتهن بأنه لا يرجع على العدل مع العلم بوكالته ، كما في كل وكيل في بيع مال غيره ، فإن المشتري يرجع على الموكل لا الوكيل ، خلافا للمحكي عن أبي حنيفة وخلاف الشيخ من الرجوع على الوكيل ، وهو يرجع على الموكل ، ولا شاهد له ، بل الشواهد على خلافه ، إلا في الصورة السابقة ، وصرح بعض هؤلاء وغيره بالرجوع على المرتهن ، ومقتضاه الفرق بينه وبين العدالة كما هو ظاهر جماعة ، لكنه غير واضح الوجه.

اللهم إلا أن يقال : إن المرتهن وإن كان وكيلا عن الراهن في القبض ، لكن له يد من حيث الرهانة ، فلعل الرجوع عليه من هذه الحيثية ، وبه يتم الفرق بينه وبين العدل.

لكن فيه منع استقلال يد له ، إذ لا يد للمرتهن من حيث الرهانة على الرهن ، فليس هو في يده إلا وديعة ، وإن كان تعلق به حق الرهانة الذي لا يتوقف على كونه في يد المرتهن فتأمل جيدا فإن المقام بعد لا يخلو من بحث فيما لو تلف في يد العدل أو المرتهن ، فإنه قد يمنع الرجوع على المالك الراهن ، مع عدم استيلاء يده عليه ، وظهور فساد الوكالة. نعم للمرتهن والعدل الرجوع عليه حال الغرور خاصة ، كما أنه يمكن القول بالرجوع على العدل والمرتهن حتى مع العلم بالوكالة حال البيع ، لعموم (١) « على اليد » وظهور فساد الوكالة ، فيكون من مسألة تعاقب الأيدي فتأمل جيدا. وعلى كل حال فلا إشكال في رجوع المرتهن على الراهن ، إذا لم يكن عالما بالاستحقاق ، لكن في المسالك هل يغرمه المرتهن ، أو يرجع على الرهن نظر ، ومقتضى قواعد

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٦ ص ٩٠.

١٩٢

الغصب رجوعه مع جهله ، وعلم الراهن بالاستحقاق ، لغروره ، والكلام آت فيما لو تلف الرهن في يد المرتهن ، ثم ظهر مستحقا. وفيه أنه لا ينبغي التوقف في ذلك ، إذ حكمه حكم الغصب قطعا ، بل الظاهر عدم اعتبار علم الراهن بالاستحقاق ، لتحقق الغرور بفعله ، وإن كان جاهلا كما هو واضح في نظائر المسألة فلاحظ وتأمل.

وإذا مات المرتهن ، كان للراهن الامتناع من تسليمه إلى الوارث وإن كان وضعه في يد المرتهن بشرط في عقد ، ضرورة رجوعه إلى اشتراط الاستيداع الذي ينفسخ بموت الودعي. نعم لو قلنا إن الوضع في يد المرتهن من توابع حق الرهانة أمكن حينئذ القول بانتقاله إلى الوارث حينئذ بانتقال حق الرهانة إليه ، إلا أن الذي يظهر من بعضهم بل هو صريح المسالك هنا عدم اقتضاء الرهانة ذلك.

فلو أطلقها لم يستحق المرتهن استدامة الوضع عنده ، بل يتفقان هو والراهن على من يضعانه عنده ، وإن اختلفا ، قطع اختلافهما الحاكم بالوضع على يد عدل ونحوه ، وإن لم يثبت إجماع عليه كان للنظر فيه مجال ، وإن لم يكن استدامة القبض من شرائط صحة الرهانة ، أو لزومها ، إلا أن ظاهر أدلة الرهن خصوصا الآية استحقاق استدامة القبض عنده ، بل هو معنى الاستيثاق ، إلا أن يشترط عليه وضعه على غير يده ، كما أومأنا إليه في بحث القبض ، بل لعل ما تقدم منهم آنفا من تضمين المرتهن دون العدل مبني على أن قبض المرتهن ليس بالوكالة عن الراهن ، بل قبضه من حيث حق الرهانة ، فيصح حينئذ الرجوع عليه ، بخلاف العدل الذي هو وكيل قطعا ، فتأمل جيدا ، وعلى الأول فمن الواضح أن له الامتناع كما أن لورثته الامتناع من بقائه في يد المرتهن لو مات.

وحينئذ فإن اتفقا على أمين ، وإلا سلمه الحاكم إلى من يرتضيه وكذا لو خان العدل الموضوع عنده نقله الحاكم إلى أمين غيره : إن اختلف المرتهن والمالك فطلب أحدهما نقله منه ، وإلا بقي عنده ، لأن الحق لهما ، فإذا رضيا بإبقائه لم يكن لأحد الاعتراض عليهما ، ولو كان المرتهن اثنين ولم يأذن لكل منهما بالانفراد فمات أحدهما ، ضم الحاكم إلى الأخر عدلا للحفظ ، إلا إذا رضي الراهن‌

١٩٣

بالبقاء في يد الباقي منفردا إلى غير ذلك مما يعرف مما هنا ، وما قدمناه سابقا فلا حاجة إلى الإطناب.

ولو تلف العبد مثلا في يد المشتري ثم بان مستحقا قبل أداء الثمن أو بعده ، رجع المالك على من شاء من الغاصب والعدل والمرتهن القابض والمشتري ، لعموم « على اليد » ولكن يستقر الضمان على المشتري مع علمه ، لأن التلف في يده التي هي يد ضمان ، أما مع الجهل ففي القواعد « أنه يستقر الضمان على الغاصب » وهو لا يخلو من إشكال إن أراد به ما يشمل مقدار الثمن الذي قد أقدم على بذله ولم يدخل عليه ضرر بظهور كون المالك غير البائع بالنسبة إليه.

نعم هو متجه في الزائد عليه ، لقاعدة الغرور ، مع أنه ربما قيل بالعدم فيه أيضا ، لإقدامه على كون العين مضمونة في يده ، كما تقدم تحقيق ذلك وغيره في محله ، فإن ما هنا أحد جزئياته ، ولا خصوصية له فلاحظ وتأمل.

ولو ادعى العدل دفع الثمن إلى المرتهن ، قبل قوله في حق الراهن إذا كان وكيلا عنه في ذلك ، لكن في القواعد « على إشكال » ولعله للأصل ولا ريب في ضعفه ، نعم لا يقبل في حق المرتهن ، لأنه وكيله في الحفظ خاصة ، فلا يقبل في غيره ، كما لو وكل رجلا في قضاء دين ، فادعى تسليمه إلى صاحب الدين ، وفي القواعد « يحتمل قبوله على المرتهن في إسقاط الضمان عن نفسه ، لا عن غيره » ، فعلى هذا لو حلف العدل سقط الضمان عنه ، ولم يثبت على المرتهن أنه قبضه ، وعلى الأول يحلف المرتهن ، فيرجع على من شاء ، فإن رجع على العدل لم يرجع العدل على الراهن ، لاعترافه بالظلم ، وإن رجع على الراهن لم يرجع على العدل إن كان دفعه بحضرته ، أو ببينة غابت أو ماتت ، لعدم التفريط في القضاء حينئذ وإلا رجع.

وفي القواعد « على إشكال منشأه التفريط وكونه أمينا له اليمين عليه ، إن كذبه » وفيه ما لا يخفى ، فتأمل جيدا ، ولو غصب المرتهن الرهن من يد العدل ثم أعاده إليه زال الضمان عنه ، لأنه قد أداه إلى من يده يد المالك ، وهو واضح كوضوح غيره من الفروع التي ذكرها في القواعد وأطنب فيها شراحها تبعا لها ، مع أن جملة‌

١٩٤

منها لا تخص المقام كما أومأنا إلى بعضها فيما تقدم والله أعلم.

الفصل السادس

من الفصول التي استدعاها كتاب الرهن في اللواحق وفيه مقاصد الأول :في أحكام متعلقة بالراهن : لا يجوز له أي الراهن التصرف في الرهن باستخدام ولا سكنى ولا إجارة ولا بيع ولا غير ذلك من التصرفات الناقل للعين ، أو المنفعة أو المستوفي لها بلا خلاف أجده فيه. كما في الرياض ، بل ولا شك فيه كما عن غاية المرام ، بل في السرائر ، والمفاتيح ، الإجماع على أن ليس لأحدهما التصرف مستثنيا الأخير منهما ما يعود نفعه إليه ، وعن الخلاف « الإجماع على أنه ليس له أن يكري داره المرهونة أو يسكنها غيره » وعن المبسوط « ليس له استخدام العبد وركوب الدابة ، وزراعة الأرض ، وسكنى الدار ، إن ذلك كله غير جائز عندنا ، ويجوز عند المخالفين » وفي المحكي عنهما معا « الإجماع على أنه لا يجوز له وطى الأمة المرهونة » وعن الجواهر « لا خلاف فيه » وفي كشف الرموز « إن العمل منعقد على خلاف الرواية الدالة على الجواز » وفي النافع والدروس « متروكة » وفي التنقيح ومحكي إيضاح النافع « هجرها الأصحاب » إلى غير ذلك من كلمات الأصحاب الصريحة في الإجماع المزبور ، والظاهرة فيه ، والمشعرة به ، بل لا بأس بدعوى تحصيل الإجماع ، مضافا إلى النبوي الذي استدل به غير واحد من الأصحاب بل عن إيضاح النافع « أنه مشهور النقل » بل عن صريح التنقيح أو ظاهره الاعتماد عليه (١) « الراهن والمرتهن ممنوعان من التصرف » وإلى ما يمكن استفادته من مفهوم الرهن الذي قد عرفت أنه الحبس الذي به يتم معنى الاستيثاق الذي استفاضت به النصوص ، وإليه أومى في الدروس في تعليله المنع ، بأن الغرض من الرهن الوثيقة ، ولا وثيقة مع تسلط المالك على البيع والوطي أو غيره من المنافع الموجبة للنقص أو الإتلاف.

كما أن إليه يرجع ما في التذكرة والمسالك من أنه لما كان الرهن وثيقة لدين

__________________

(١) المستدرك ج ـ ٢ ص ٤٩٦.

١٩٥

المرتهن إما في عينه أو بدله لم يتم الوثيقة إلا بالحجر على الراهن ، وقطع سلطنته ليتحرك إلى الأداء ، وفي الأخير « فمن ثم منع الراهن من التصرف في الرهن ، سواء أزال الملك كالبيع أم المنفعة كالإجارة ، أم انتقص المرهون وقلل الرغبة فيه كالتزويج ، أم زاحم المرتهن في مقصوده ، كالرهن لغيره ، أم أوجب انتفاعا وإن لم يضر بالرهن ، كالاستخدام والسكنى إلى غير ذلك من تعليلاتهم التي مرجعها إلى ما ذكرناه.

لكن ومع ذلك كله قد وسوس بعض متأخري المتأخرين في بعض أفراد التصرف ، خصوصا ما تضمنه حسن الحلبي (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل رهن جارية عند قوم أيحل له أن يطأها قال : إن الذين ارتهنوها يحيلون بينه وبينها ، قلت : أرايت إن قدر عليها خاليا قال : نعم لا أرى هذا عليه حراما » وصحيح محمد بن مسلم (٢) الذي هو مثله ، وكذا مالا ضرر فيه على المرتهن من التصرف كتقبيل الجارية والاستخدام ، وليس الثوب ومسكن الدار وركوب الدابة ونحو ذلك إذا كان بحيث لا ضرر فيه بنقص للمرهون ونحوه.

ولا يخفى عليك ما فيه ، بعد ما عرفت ، بل هو كأنه اجتهاد في مقابلة النص والخبران وإن صح سندهما إلا أنك قد سمعت دعوى هجرهما وتركهما ، من غير واحد من الأصحاب على وجه يلحقهما بالشاذ الذي قد أمرنا بالإعراض عنه ، مضافا إلى موافقتهما للعامة التي جعل الله الرشد في خلافها ، بل لعل في عدم ملائمة قوله : « إن الذين ارتهنوها » إلى آخره للسؤال عن الجواز إيماء إلى ذلك ، بل يمكن حملهما على إرادة عدم الحرمة الموجبة لحد الزنا ، وعلى غيره مما لا بأس به في نحو المقام ، فالحكم حينئذ من الواضحات.

بل قد يظهر من بعض الأفاضل التأمل في جواز ما فيه نفع للرهن من التصرف كمداواة المريض ، ولو بما لا خطر عليه فيه ، ورعي الحيوان وتأبير النخل ، وخفض الجارية ، وختن العبد ، والفصد ، والحجامة ، ونحو ذلك ، وإن صرح به الفاضل ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الرهن الحديث ـ ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الرهن الحديث ـ ١.

١٩٦

والشهيدان وغيرهم من المتأخرين ، بل عن المبسوط التصريح بعدم المنع من الثلاثة الأخيرة أيضا لإطلاق دليل المنع ، ودعوى حصول الإذن في ذلك خروج عن المبحث.

لكن فيه أن مقتضى الأصول الجواز ، ولا يعارضها الإطلاق المزبور ، بعد الشك في إرادة ذلك منه ، خصوصا بعد فتوى الجماعة به ، بل لعل المنساق منه غيره ، بل لا ينبغي التأمل في سقي الأشجار ورعي الدواب وعلفها ونحو ذلك ، مما يكون سببا لحفظ المال ، بل قد يشك في إرادة مطلق التصرف منه ، وإن لم يتضمن انتفاعا بحيث يكون كمال الغير الذي يحرم لمسه وحمله ونحوهما.

نعم عن السرائر لا يجوز ضرب الجارية للتأديب ، كما أن في القواعد وغيره منعه من قطع السلع ، ولعل المراد ما لا يؤمن السلامة معه منهما ، وإلا كان محلا للنظر.

بل في المحكي عن الخلاف ، إذا زوج الراهن عبده المرهون أو جاريته المرهونة كان تزويجه صحيحا كالمحكي عن المبسوط إلا أنه قال : لا يسلم إلى الزوجة إلا بعد الفك ، وفي الدروس وهو قريب ، وفي المختلف بعد أن جعل المعتمد عدم الجواز ، قال : لو قيل :له العقد دون التمكين والتسليم ، كان وجها.

قلت : هو كذلك لا لإطلاق قوله تعالى ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى ) إلى آخره ـ المتعارض بما سمعت مما هو مقيد له ، ضرورة كون المراد من إطلاق الآية الأمر بالنكاح من حيث هو نكاح ، لا الشامل لما تعلق به حق الغير ، ومنه يظهر عدم كون المعارضة من وجه بحيث يحتاج إلى مرجح ، وإلا لجرى في غير النكاح من خصوص كل تصرف ، ولا لأن محل الرهن غير محل التزويج ، لما عرفت من المنع من الانتفاع بالرهن المستلزم للتصرف فيه ـ بل للشك في إرادة مثل هذا التصرف الذي ليناف حق الرهانة بوجه ، ولا فيه تصرف فعلا بالعين ، وانتفاع بها ، إذ الغرض عدم التسليم إلا بعد الفك.

ومنه ينقدح حينئذ صحة تدبير العبد المرهون كما جزم به في المختلف ، خلافا للشيخ ، لأنه وصية لا تنفذ إلا بعد وفاء الدين ، بل الظاهر جواز غير التدبير من الوصية لذلك ، كما يشهد له في الجملة ما صرح به الفاضل والكركي في المفلس الممنوع‌

١٩٧

من التصرف في المال ، إلا أنه غير ممنوع منها لذلك ، اللهم إلا أن يفرق بينهما ، بتعلق حق الراهن في خصوص العين المرهونة ، بخلاف دين المفلس المتعلق بمقدار ما يقابله من الأعيان دون الزائد ، فتنفذ الوصية حينئذ بالموصى به حال الموت ، مع فرض زيادته عن الدين ، بخلاف الرهن فتأمل جيدا.

بل عن الشيخ جواز إنزاء الحيوان المرهون ، والإنزاء عليه ، ولكن جزم بعدمه في الدروس وهو الأولى ، للإطلاق ، كما أنه جزم بأنه ليس له غرس الأرض ، لأنه ينقصها ، بل قال : ليس له الزرع وإن لم ينقص الأرض ، حسما للمادة ، وهو كذلك إذ هو كسكنى الدار أو إجارتها مدة تنقضي قبل حلول الدين من غير حصول نقص في العين ، ثم قال : فلو فعل قلعا عند الحاجة إلى البيع ، ولو حمل السيل نوى مباحا فنبت ، فليس له إلزامه بإزالته قبل حلول الدين لعدم تعديه ، فلو احتيج إلى البيع قلع ، إن التمسه المرتهن ، وكأنه عرض بذلك إلى ما عن المبسوط « من أنه لو رهن أرضا بيضاء فسال إليها نواة ونبت أو أنبت الراهن فيها نخلا أو شجرا لم يجبر الراهن على إزالته » وفي المختلف « الوجه الوجوب ، لتعلق حق المرتهن بأرض بيضاء ».

قلت : قد يفرق بين ما كان من فعله ، وعدمه ، بالنسبة إلى إلزامه ، وعدمه ، بل قد يتأمل في أصل جواز القطع للمرتهن ، بل قد يقال : في غرس الراهن أنه يلزم بالأجرة رهنا ، وإن كان الأقوى إلزامه بذلك ، لاندراجه في قوله (١) « لا حق لعرق ظالم ».

وكيف كان فلو بادر الراهن إلى التصرف من غير إذن المرتهن فإن كان بانتفاع منه ، أو ممن سلطه ولو بعقد لم تتعقبه إجازة لم يصح ، وفعل محرما ، بل في المسالك « إن قلنا أن النماء المتجدد يتبع الرهن ، ثبت أجرة المثل إن كان مما له أجرة عادة وكانت رهنا ، وإلا لم يلزمه شي‌ء عن مثله ».

قلت : قد يقال بذلك على الأول أيضا ، بناء على تخصيص النماء التابع في الرهنية بما يكون يصح رهنها ، كالصوف والثمرة والشعر ونحوها ، لا مثل ذلك الذي

__________________

(١) المستدرك ج ٣ ص ١٤٩ لكن فيه ( وليس لعرق ظالم حق ).

١٩٨

هو معدوم في الحقيقة ، والأجرة عوض عن الانتفاع الذي لا يعقل ارتهانه ، والإثم على الراهن في استيفائه ، لا من حيث كونه رهنا ، بل لاستلزامه التصرف في العين ، وإلا فلو فرض إمكان انتفاع من دون تصرف في العين ، لم يبعد القول بجوازه ، وفي المسالك قد حكي عن الشيخ أنه أطلق لو أجره ، فالأجرة له ، ويمكن إرجاعه إلى ما ذكرنا ، وإن كان فيه تكلف ، كما أنه يمكن تأييده بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) « له غنمه ، وعليه غرمه » ، فتأمل وإن كان التصرف مجرد عقد لم يكن إثما في ذلك ، لعدم النهي عن مثله في الأجنبي فضلا عنه.

نعم لو باع أو وهب مثلا وقف على إجازة المرتهن فإن حصلت حكم بصحته وإلا فلا ، إذ هو إن لم يكن فضوليا فمثله في ذلك ، ومن هنا بنى الكركي الكلام هنا في كون الإجازة فيه كاشفة أو ناقلة عليه هناك ، لكن في حواشي الشهيد على القواعد ، في شرح قول الفاضل في مفروض المتن لم يكن باطلا ، بل موقوفا ، قال :الفرق بين المراعاة والموقوف ، أن الأول يكون كاشفا عما هو صحيح في نفس الأمر ، والثاني ما يتوقف عليه الحكم بالصحة ، فيكون جزء سبب ، وظاهره أنه قد فهم منه الثاني هنا حيث عبر بالوقف كالمتن ، فيكون حينئذ مخالفا للفضولي ، بناء على الكشف فيه من هذه الحيثية.

وربما يؤيده أن الإجازة من المرتهن الذي هو غير مالك ، ليست إلا على معنى إسقاط حق الرهانة التي له فسخه ، وهو غير متصور في الزمن السابق الذي تحقق فيه الحق أو مضى ، فإسقاطه لا معنى له ، بل مختص بالزمن الحال ، فلا تكون الإجازة فيه كاشفة ، ولعل الفرق بينه وبين إجازة المالك تصور رضي الثاني آن دخول ملكه في ملك غيره في الزمن السابق ، بخلاف الأول.

لكن فيه ـ مع أنه مخالف لما يظهر منهم من أن الإجازة كإجازة الفضولي بل هو صريح جامع المقاصد ، يمكن منع عدم تصور ذلك ، ضرورة كون السقوط بعقد لبيع ، فمع فرض إجازة المرتهن يترتب عليه أثره من حين وقوعه ، وهو انتقال الملك

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٤٩٥.

١٩٩

المقتضي لسقوط الرهانة.

ودعوى ـ أن إجازة المرتهن ليست للعقد ، لعدم كونه مالكا ، وإنما له إسقاط حق رهانته ، فيؤثر العقد حينئذ أثره لارتفاع المانع والمقتضي تام الاقتضاء.

يدفعها ظهور كلمات الأصحاب بل هو صريح بعضهم كالفاضل في التحرير وثاني الشهيدين وغيرهم ، في أن للمرتهن اجازة العقد ، وله فسخه ، وأن الشارع قد جعل له هذه السلطنة بارتهانه ، لا أن المنع من التصرف فيه شرعي بحت بحيث لا مدخلية للمرتهن في ذلك ، وإنما له إسقاط حقه من الرهانة خاصة ، وإلا لاقتضى ذلك عدم فسخ العقد له ، ضرورة عدم السلطنة له على ذلك ، وأن الشارع قد جعل الارتهان مانعا من نفوذ التصرف ، فمتى ارتفع هذا لمانع بإسقاط من المرتهن أو بفك للرهن ، كما ستعرف أثر المقتضي أثره ، وليس ذا من التعليق الممنوع ، بل هو من قبيل اعتبار الشارع التقابض في تأثير عقد الصرف ، والقبض في عقد الهبة ، والقبض في المجلس في عقد السلم ، مع أن كلامهم صريح في خلافه ، وأن له الرد كما أن له الإجازة.

ويرشد إليه في الجملة اعتبار إذنه في الانتفاع بالرهن على وجه لا تنتقل عينه كركوب الدابة وسكنى الدار ونحوهما ، مما لا يقتضي الإذن فيه إبطال الرهانة ، مع أنها معتبرة ، ولا يجوز التصرف بدونهما ، وهو يومي إلى أن له سلطنة على ذلك لا أنها مخصوصة بإسقاط حق الرهانة ، وإلا فالمنع شرعي ، وإن كان لا يخلو من وجه بل ظاهرهم في حجر المفلس ذلك ، بناء على صحة تصرفاته ، وأنها تكون موقوفة ، وإن لم يرض الغرماء بها ، كما تسمعه في محله ، اللهم إلا أن يفرق بين تعلق حق الرهانة وتعلق حق الغرماء بالتحجير ، كما هو ظاهر الأصحاب في المقام ، إلا أنه لا يخلو من بحث.

وعلى كل حال فظهر من ذلك كله أن إجازته تكون على حسب اجازة المالك إنما هي للعقد نفسه ، فيؤثر حينئذ أثره ، وليس هذا من إسقاط حق الرهانة أو لا وبالذات في الزمن السابق ، كي يقال : أنه غير متصور ، بل هو من آثار العقد الذي‌

٢٠٠