جواهر الكلام - ج ٢٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

دراهم بحنطة حتى حضر الأجل لم يكن عنده طعام ، ووجد عنده دوابا ورقيقا ومتاعا أيحل له أن يأخذ من عروضه تلك بطعامه؟ قال : نعم يسمى كذا وكذا بكذا وكذا صاعا» ‌بناء على ان المراد بذلك كله خصوصا الأخير البيع لا الوفاء بدونه ، وقصورها سندا أو دلالة منجبر بالشهرة المحكية والمحصلة ، كما أن اختصاص مواردها بالبيع على من له عليه غير قادح بعد تتميمه بما في الرياض من انه لا قائل بالفرق بين الطائفة.

وان كان قد يناقش بما في التنقيح من الإجماع على صحة بيع السلم بعد حلوله قبل قبضه على من هو عليه ، اما على غيره ففيه خلاف ، قال الشيخ يصح ، ومنعه ابن إدريس وهو كذلك ، لأنه في السرائر في باب السلم بعد ان حكى عن الشيخ الجواز مطلقا قال : قد حررنا القول في بيع الدين وقلنا : انه لا يجوز الا على من هو عليه ، وشرحناه وأوضحناه في باب الديون بما لا طائل في إعادته ، فجعل ما نحن فيه من جزئيات تلك المسألة وكيف كان ففي الرياض انه قد خالف في ذلك الشيخ في التهذيب حيث منع من البيع بالدراهم إذا كان الثمن الأول كذلك ، لخبر على بن جعفر (١) قال « سألته عن الرجل له على الأخر تمر أو شعير أو حنطة يأخذ بقيمته دراهم قال : إذا قومه دراهم فسد ، لأن الأصل الذي اشترى به دراهم فلا يصلح دراهم بدراهم » ‌قال : وضعف سنده يمنع من العمل به مع احتماله. ككلام التهذيب الحمل على صورة التفاوت بالزيادة والنقيصة ، كما فهمه الجماعة ، ولذا لم ينسبوا اليه القول الأول بالمرة ، بل نسبوه الى هذا القول وله فيه موافق من الطائفة ، كالاسكافى والعماني والقاضي وابن حمزة والحلبي وابن زهرة ، وادعى في الدروس انه مذهب الأكثر ، وعن الحلبي دعوى الإجماع عليه ، وهو ظاهر الغنية. واختاره جمع من تأخر.

قلت : بل هو مال إليه في الرياض للإجماع المحكي والنصوص المستفيضة‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب السلف ـ الحديث ـ ١٢.

٣٢١

كصحيح محمد بن قيس (١) عن أبى جعفر عليه‌السلام « قال : قال : أمير المؤمنين عليه‌السلام من اشترى طعاما أو علفا إلى أجل ، فان لم يجد شرطه وأخذ ورقا لا محالة قبل أن يأخذ شرطه فلا يأخذ إلا رأس ماله لا يظلمون ولا يظلمون » ‌و‌صحيحه الآخر (٢) عنه أيضا « قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل أعطى رجلا ورقا في وصيف إلى أجل مسمى ، فقال له صاحبه : لا أجد لك وصيفا خذ منى قيمته وصيفك اليوم ورقا فقال : لا يأخذ الا وصيفه أو ورقه الذي أعطاه أول مرة ولا يزداد عليه شيئا ».

و‌صحيح الحلبي (٣) عن الصادق عليه‌السلام « انه سئل عن الرجل يسلف في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك الى أجل مسمى قال : لا بأس ان لم يقدر الذي عليه الغنم على جميع ما عليه يأخذ صاحب الغنم نصفها أو ثلثها أو ثلثيها ويأخذ رأس ماله ما بقي من الغنم دراهم » ‌و‌صحيح يعقوب بن شعيب (٤) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يسلف في الحنطة والتمر بماءة درهم فيأتي صاحبه حين يحل الذي له فيقول : والله ما عندي إلا نصف الذي لك فخذ منى ان شئت بنصف الذي لك حنطة وبنصفه ورقا فقال : لا بأس إذا أخذ منه الورق كما أعطاه ».

وفيه ان الإجماع المحكي موهون بمصير أكثر المتأخرين إلى خلافه ، بل ادعى جماعة كما قيل عليه الشهرة مع ان الموجود في الغنية « فإذا حل جاز بيعه من المسلم اليه بمثل ما نقد فيه وبأكثر منه من غير جنسه ، ومن غير المسلم اليه بمثل ذلك. وأكثر منه من جنسه وغيره بدليل إجماع الطائفة ، وظاهر القرآن ، ودلالة الأصل الا ان يكون المسلم فيه طعاما فان بيعه قبل قبضه لا يجوز إجماعا على ما قدمناه ».

وهو صريح في التفصيل بين بيعه على من هو عليه ، وعلى غيره كظاهر ما سمعته سابقا من الوسيلة ، والمحكي من عبارة أبي الصلاح في المختلف خال عن الإجماع ،

__________________

(١) و (٢) و (٣) و (٤) الباب ـ ١١ ـ من أبواب السلف الحديث ١٥ ـ ٩ ـ ١ ـ ١٦

٣٢٢

وظاهر في غير المنقول عنه ، قال : العقد يقتضي تسليم المعجل وتأخير المؤجل ، وتسليمه عند حلول أجله سواء كان التأخير مشروطا في البيع أو الثمن فإذا حل ولم يكن عنده عين ما عقد عليه ، فعليه إحضاره ، ويصح اقام العروض عنه من غير جنسه ، ولا يجوز له ابتياعه من مستحقه بمثل ما باعه منه في الجنس ولا بزيادة عليه نقدا ، ولا نسيئة ولا نقله الى سلف آخر ، ويجوز له ابتياعه بغير ما قبضه منه نقدا ، وهو كما ترى ظاهر في المنع حتى بالمماثل.

نعم حكاه عنه في المختلف أيضا أنه قال بعد كلام طويل : ولا يجوز لمن أسلم في متاع أن يبيعه من مستسلمه ولا غيره قبل أجله ، فإذا حل أجله جاز بيعه منه بمثل ما نقد ، وأكثر منه من غير جنسه ، ومن غير المستسلم بمثل ذلك وأكثر منه من جنسه وغيره ، وهو كالغنية والوسيلة ، ولعل حجته على التقدير الأول خبر على بن جعفر (١) السابق فإنه قد اعترف في المختلف بدلالته على ذلك. فكان نسبة هذا القول إليه أولى مما في الرياض من نسبته الى تهذيب الشيخ كما سمعت ، مع أن المحكي من عبارة التهذيب في المختلف صريحة في خلافه ، ولذا لم ينسبه اليه فيه ، بل جعله من القائلين بالمنع من الزيادة فلاحظ وتأمل جيدا.

نعم قد حكى عن مبسوطة في المختلف أنه قال إذا حل عليه طعام بعقد السلم فدفع الى المسلم دراهم نظر ، فان قال : خذها بدله الطعام لم يجز ، لان بيع المسلم قبل القبض غير جائز ، سواء باعه من المسلم اليه أو من الأجنبي إجماعا ، وحكى عنه أيضا أنه لو كان له طعام من سلف وعليه مثله من سلف آخر فأحاله بما عليه لا يجوز ، لان بيع السلم لا يجوز قبل القبض إجماعا ، وظاهره عدم الجواز قبل القبض مطلقا ، وحينئذ تكون الأقوال ستة أو سبعة ، والصحيح منها ما ذكرناه.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب السلف الحديث ـ ١٢.

٣٢٣

والمراد من خبر محمد بن قيس (١) بعد الإغضاء عن الاضطراب في متنه على ما في التهذيب وغيره أن المسلم إذا لم يوجد شرطه لآفة في المسلم فيه أو لعدم مطالبته به الا بعد انقطاعه ، ولم يرد الانتظار الى زمن حصول شرطه بل أراد الورق ، فليس له أن يأخذ إلا رأس ماله ، لا يظلم ولا يظلم ، فيفسخ العقد حينئذ ويسترد الثمن ، لا أن المراد بيعه عليه برأس ماله وكذا صحيحة الأخر ، ومما يؤيد ذلك أن الخصم لا يعين ذلك عليه في مفروض البحث ، إذ يجوز له عنده بيعه بغير الجنس بما يساوى الثمن أضعافا مضاعفة ، من أن الخبر قد تضمن أنه ليس له الا ذلك كما هو واضح.

وأما صحيح الحلبي (٢) فلا دلالة فيه أصلا ضرورة عدم البأس فيما تضمنه بعد التراضي منهما ، مع أنه لم يعلم أن رأس مال المسلم فيه دراهم ، ولا تعرض فيه للزيادة والنقيصة وبالجملة هو غير ظاهر في إرادة البيع وصحيح يعقوب (٣) يمكن حمله على ارادة السؤال عن جواز الفسخ في البعض ولو مع التراضي ، فأجابه عليه‌السلام بأنه لا بأس به إذا أخذ منه كما أعطاه حتى لا يترتب عليه الربا ، لا أن المراد أن بيعه عليه بذلك ، إذ لا يتصور ترتب الربا عليه بعد أن كان في ذمة المسلم إليه الحنطة والتمر أو غير ربوي كالإبل ونحوها ، لا الدراهم التي هي ثمنهما.

ومنه يعلم أنه لا وجه للإشارة بآية الربا الى ذلك في الخبر الأول ، وأنه لا بد من حمله على ما قلنا ، وبذلك يظهر لك ضعف هذه عن الأدلة المعارضة لها من الأصل والعمومات ، وخصوص النصوص السابقة التي قد يناقش فيها بأن ما فيها من الوفاء لا البيع ، فلا تدل على المطلوب فيها أيضا ، لكن لا يخفى بعد إمكان منع هذه المناقشة فيها بظهورها سيما بعضها في غير ذلك أن الأصول والعمومات كافية في الصحة ، فميل الفاضل في الرياض الى القول بعدم الجواز في البيع بالجنس مع الزيادة في غير محله قطعا.

__________________

(١) و (٢) و (٣) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب السلف الحديث ـ ١٥ ـ ١ ـ ١٦

٣٢٤

وأما البيع بغير الجنس زاد أو نقص فلا خلاف في جوازه ، وفي المختلف أنهم قد أجمعوا عليه ، وفي الرياض « أنه لا ريب فيه وفي البيع بالجنس مع عدم الزيادة فتوى ورواية » قلت : قد سمعت كلام أبى الصلاح وان كان لا ريب في ضعفه ، وعلى كل حال فقد ظهر لك قوة القول بالجواز مطلقا ، كما أنه قد ظهر لك بمقتضى إطلاق الأدلة وخصوص بعضها عدم الفرق في ذلك بين كون المسلم فيه مكيلا وموزونا وبين غيرهما ، ولا بين كونه طعاما وغيره ، فما سمعته من الغنية هنا من الإجماع على عدم الجواز في الطعام في غير محله ، ولعل مبناه ما تقدم سابقا في مبحث القبض من قول بعضهم بالمنع عن بيع المبيع إذا كان مكيلا أو موزونا قبل قبضه ، ومن آخرين منهم ابن زهرة في خصوص الطعام منهما.

لكن قد تقدم لك هناك ضعفهما وضعف غيرهما ، مع أنه يمكن القول به هنا وان لم نقل به هناك ، للأدلة الخاصة الحاكمة على غيرها ، وخصوص مواردها بمن عليه غير قادح بعد عدم الدليل الصالح للفرق ، بل لو لا التسامح في دليل الكراهة لأمكن المناقشة في ثبوتها في الطعام ، فضلا عن مطلق المكيل والموزون ، وفضلا عن غيرهما كما هو مقتضى إطلاق قوله في المتن على كراهة لعدم الدليل.

بل لعل ظاهر أدلة المقام عدمها في المبيع على من هو عليه ، لكن للتسامح فيها يمكن القول بها ، ولو لاحتمال الاندراج فيما تقدم في ذلك المقام ، وللخروج عن شبهة الخلاف في الطعام ، والإجماع المدعى عليه هنا ، ولغير ذلك وعلى كل حال فقد اتضح بذلك كله أنه يجوز بيعه قبل قبضه بأزيد من رأس المال أو انقص.

وكذا يجوز بيع بعضه كذلك وتوليته وتولية بعضه والشركة فيه وفي بعضه لعدم الفرق بين الجميع في مقتضى بعض الأدلة السابقة ، خلافا للمحكي عن الشافعي فلم يجوز للمسلم أن يشرك غيره في السلم. فيقول له شاركني في نصفه بنصف الثمن ولا أن يوليه ، فيقول ولني جميعه بجميع الثمن ، ونصفه بنصف الثمن لأنها معاوضة في المسلم فيه‌

٣٢٥

قبل قبضه ، فلم يجز كما لو كانت بلفظ البيع ، وهو كما ترى ، لا يقال ان إطلاق الأصحاب هنا الجواز مبنى على ما ذكروه في باب القبض من منع بيع المبيع قبل قبضه إذا كان مكيلا أو موزونا أو إذا كان طعاما خاصة ، أو إذا لم يكن البيع تولية على اختلاف الأقوال السابقة وكان الإطلاق هنا لرفع المنع من حيث كونه دينا ، لا مطلقا ، فيبقى المنع من حيث كونه مبيعا قبل قبضه على البحث السابق فيه ، كما هو صريح الكركي وثاني الشهيدين.

لأنا نقول : أولا قد بان لك في ذلك المبحث ضعف الجميع ، وان الأقوى القول بالجواز مع الكراهة هناك ، وثانيا أنه يمكن الفرق بين المسألتين باعتبار الأدلة الخاصة هنا كما جزم به المحدث البحراني في حدائقه فقال بالمنع هناك وبالجواز هنا ، محتجا باختلاف موضوع المسألتين في نصوص المقامين لاتفاقها هنا على البيع على من عليه وهناك على البيع على غيره.

قلت وربما يؤيده ملاحظة بعض كلماتهم في المقامين ، ولو لا خوف الاطناب ـ وأنه لا فائدة مهمة في ذلك ، إذ الظاهر الجواز على التقديرين : أى سواء قلنا بكون المسألتين من سنخ واحد من حيث البيع قبل القبض ، أو مختلفين في ذلك على معنى اختصاص المنع على القول به في غير السلم دونه ـ لنقلنا جملة منها فلاحظ وتأمل ، والأمر سهل وكيف كان ف لو قبضه ثم باعه زالت الكراهة وهو واضح والله أعلم.

المسألة الثانية لا خلاف في أنه إذا دفع المسلم اليه المسلم فيه دون الصفة أو المقدار المشترطين فيه لا يجب على المسلم قبوله ، وان كان أجود من وجه آخر لانه ليس نفس حقه مع تضرره به ولو رضى المسلم به صح وبري‌ء المسلم اليه مما كانت ذمته مشغولة به سواء شرط المسلم اليه ذلك لأجل التعجيل إذا كان قد دفعه قبل الأجل أو لم يشترط بل في الغنية يجوز التراضي على تقديم الحق عن أجله بشرط النقص منه ، بدليل الإجماع و‌قال : أبو بصير (١) « سألت‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب السلف الحديث ـ ٢.

٣٢٦

أبا عبد الله عليه‌السلام عن السلم في الحيوان قال : ليس به بأس قلت : أرأيت ان أسلم في أسنان معلومة ، أو شي‌ء معلوم من الرقيق فأعطاه دون شرطه أو فوقه بطيبة النفس قال : لا بأس » ‌و‌معاوية (١) « سألته أيضا عن الرجل أسلف في وصفاء أسنان معلومة وغير معلومة ، ثم يعطى دون شرطه فقال : إذا كان بطيبة نفس منك ومنه فلا بأس ». و‌الحلبي (٢) « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يسلم في وصفاء بأسنان معلومة ولون معلوم ثم يعطى دون شرطه أو فوقه؟ فقال : إذا كان عن طيبة نفس منك ومنه فلا بأس » ‌و‌سأل يعقوب بن شعيب (٣) أبا جعفر أو أبا عبد الله عليهما‌السلام « عن الرجل يكون لي عليه جلة من بسر فأخذ منه جلة من رطب مكانها : وهي أقل منها قال : لا بأس قال : قلت : فيكون لي عليه جلة من بسر فأخذ مكانها جلة من تمر وهي أكثر منها قال : لا بأس إذا كان معروفا بينكما » ‌الى غير ذلك من النصوص الدالة على الجواز مع التراضي المؤيدة بأنه لا بأس في إسقاط حقه من الوصف ومن المقدار وغيرهما مما اشترطه.

ومن هنا صرح غير واحد بعدم البأس مع التراضي لو دفع له غير الجنس أيضا وهو جيد الا أن الظاهر كون الفرق تحقق الوفاء بنفس المدفوع الفاقد للوصف الذي اشترط في المسلم فيه ، زائدا على ما ارتفع به الجهالة من الوصف ، بل وكذا ما ارتفع بها منه ، لانه بعد إسقاط الحق من الوصف المشترط يصدق المسلم فيه حينئذ على المدفوع ، بخلاف ما إذا كان المدفوع من غير الجنس ، فان تحقق الوفاء به كالمعاوضة وقد يحتمل قويا كون الجميع كذلك ، خصوصا إذا كان الوصف مما ارتفع به الجهالة ، والاتحاد في الجنس غير كاف ، ضرورة عدم صدق المسلم فيه على الجارية السوداء المدفوعة عوض البيضاء التي هي المسلم فيها ، وانما هو تراض على المعاوضة بذلك فتأمل جيدا فإنه قد تترتب ثمرات على ذلك.

__________________

(١) و (٢) و (٣) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب السلف ـ الحديث ـ ٤ ـ ١ ـ ٧

٣٢٧

منها ـ وجوب الدفع مع رضا صاحب الحق بما هو دون الوصف على الأول ، بخلاف الثاني ، وربما يفرق بين الأوصاف ، فلا يجب فيما كان منوعا منها دون غيره الذي يراد منه ثبوت الاستحقاق لذي الوصف ، ثم على تقدير الوجوب في الأول الظاهر بقاء استحقاقه المطالبة أيضا بالفرد الأول ، ومجرد رضاه بدون قبض لا يسقط استحقاقه الأول ، إذ هو ليس كحق الخيار والشفعة. وحينئذ فيكون مراد المصنف وغيره بالبراءة مع الرضا في صورة ما لو قبضه راضيا به عوض الحق ، لا المراد سقوط حقه بمجرد الرضا. وان رجع قبل القبض مع احتماله وان كان بعيدا وان أتى المسلم اليه بـ المسلم فيه على مثل صفته التي اشترطت وجب على المسلم مع عدم العذر قبضه أو إبراء المسلم اليه مما اشتغلت ذمته كما تقدم الكلام في ذلك وفي أنه لو أبى المسلم عنهما قبضه الحاكم إذا سأل المسلم اليه ذلك مفصلا في بحث النقد والنسيئة فلاحظ وتأمل وأما لو دفع فوق الصفة بمعنى الجامع للأوصاف المشترطة عليه مع زيادة أو الفرد الأعلى من مصداق الصفة وجب قبوله بلا خلاف معتد به ولا اشكال لتحقق المسلم فيه بذلك ، ضرورة عدم منافاة الزيادة فهو حينئذ من المسألة السابقة.

واشتراط طيب النفس منهما في النصوص السابقة لدفع دون الشرط أو فوقه ، يراد منه التوزيع لغلبة عدم رضا المسلم اليه بالفوق والمسلم بالدون فبين عليه‌السلام « أنه لا بأس بكل منهما مع الرضا من كل منهما » نعم لو دفع ذا الصفة الحسنة عوض ذي الصفة الردية المشترطة من النوع الواحد ولعله غير المراد هنا من العبارة ـ اتجه عدم الوجوب ، كما عن الأردبيلي للأصل ولانه قد يتعلق له الغرض بما اشترطه ، وللمنة إذ الفرض استحقاق الردى لا غير ، ولغير ذلك ، لكن هذا إذا لم يكن المراد من عبارة الشرط أن المسلم فيه هذا فما فوقه ، لا انه هو لا غير ، فإنه يجب القبول حينئذ وعليه بنوا وجوب قبول الجيد المدفوع عن الأردى كما سمعته فيما تقدم.

٣٢٨

وعلى كل حال لو دفع المسلم إليه أكثر من المقدار المطلوب منه لم يجب قبول الزيادة للأصل وللمنة التي لا يخفى ما في تحملها من المشقة ، لعدم استحقاق الزيادة ، وبذلك افتراق هذا عن السابق الذي هو من أفراد المسلم فيه وان لم يكن للمسلم الإلزام به ، و‌صحيح الحلبي (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام « أنه سئل عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك الى أجل مسمى قال : لا بأس ان لم يقدر الذي عليه الغنم على جميع ما عليه ان يأخذ صاحب الغنم نصفها أو ثلثها أو ثلثيها ويأخذ رأس ما بقي من الغنم دراهم ، ويأخذون دون شرطهم ولا يأخذون فوق شرطهم ، قال : والأكسية أيضا مثل الحنطة والشعير والزعفران والغنم » ‌مع احتمال إرادة رأس المال من الشرط فيه الذي لو أخذ الجاهل الفوق منه ربما ضمه الى رأس المال فيقع في الربا بخلاف الدون ، واضطراب متنه بإسقاط الدون في بعض النسخ ولعله أصوب.

يراد منه انه ليس لهم ما فوق لا انه لا يجب عليهم القبول لو كان مما فرضناه ، فما عن ابن الجنيد من مساواة زيادة الصفة لزيادة العين في عدم وجوب القبول ومال اليه المحدث البحراني وتبعه فاضل الرياض واضح الضعف كما عرفت ، هذا كله إذا كان المدفوع من الجنس اما لو دفع من غير جنسه لم يبرأ إلا بالتراضي مع التمكن من الجنس قطعا ، لأنه معاوضة موقوفة عليه كما هو واضح والله أعلم.

المسألة الثالثة قد تقدم البحث في أنه إذا اشترى كرا من طعام مثلا مؤجلا بماءة درهم واشترط تأجيل خمسين بطل في الجميع على قول وانه يحتمل البطلان فيها خاصة وكذا لو دفع خمسين وشرط الباقي من دين له على المسلم اليه صح فيما دفع قطعا وبطل فيما قابل الدين في‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب السلف الحديث ـ ١.

٣٢٩

قول وفيه تردد أشبهه عند المصنف الكراهة كما عرفت بل وتقدم ما يستفاد منه حكم.

المسألة الرابعة وهي لو شرطا موضعا للتسليم فتراضيا بقبضه في غيره جاز ضرورة أنه لهما إسقاط حقهما من الشرط ، وان كان الموضع المشترط ما انصرف اليه العقد شرعا نعم ان امتنع أحدهما لم يجبر عليه لقوله عليه‌السلام (١) ‌« المؤمنون عند شروطهم » ‌بل وتقدم في باب الصرف ما يستفاد منه حكم.

المسألة الخامسة وهي إذا قبضه اى المسلم المسلم فيه فقد تعين وبري‌ء المسلم إليه فإن وجد به عيبا كان له الرد بالعيب ف إذا رده زال ملكه عنه ، وعاد الحق إلى الذمة سليما من العيب. لكن في المسالك هنا انه لا أرش له ، لم يتعين للحق بل وقع عوضا عن الحق الكلي مملوكا له ملكا متزلزلا يتخير معه بين الرضا به مجانا فيستقر ملكه عليه ، وبين أن يرده فيرجع الحق إلى ذمة المسلم اليه سليما ، بعد أن كان قد خرج عنها خروجا متزلزلا. ونبه بقوله عاد على ذلك ، حيث ان العود يقتضي الخروج بعد أن لم يكن ، فإنه مصير الشي‌ء الى ما كان عليه بعد خروجه ، وتظهر الفائدة في النماء المنفصل المتردد بين القبض والرد ، فإنه يكون للقابض ، لانه نماء ملكه كنظائره من النماء المتجدد زمن الخيار ، أما المتصل فيتبع العين ، ويتفرع عليه أيضا ما لو تجدد عنده عيب قبل الرد ، فإنه يمنع من الرد لكونه مضمونا عليه ، ولم يمكنه بعده رد العين كما قبضها.

وبه قطع في التذكرة وزاد أن له حينئذ أخذ أرش العيب السابق وان لم يكن ثابتا لو لا الطاري ، فان المنع منه انما كان لعدم انحصار الحق فيه ، حيث أنه أمر كلي والعيب غير تام في جملة أفراد الحق. فلما طرء العيب المانع من الرد تعين قبوله ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ـ ٤.

٣٣٠

فصار كالمبيع المعين إذا كان معيبا فإنه يجوز أخذ أرشه ، ويتعين عند مانع من رده ، وربما قيل بجواز رده هنا ، لعدم تعيينه ابتداء والعيب الطاري لم يوجب تعينه. غاية ما في الباب أن يلزم بأرشه.

قلت : ونحوه يأتي أيضا في التلف فيلزم بالقيمة لو أراد الرجوع بالبدل ، وفيه أن ذلك مناف لما سمعته منهم في باب الصرف ، كما انه مناف لمقتضى الحكم بالرد ضرورة أنه لا دليل على الرد الا الاندراج فيما دل عليه في المبيع ، بتقريب انه بالدفع والقبض صار كأنه مورد العقد ، الا انه لا يقتضي رده فسخ العقد ، كما اقتضاه لو كان المبيع معينا ، باعتبار توقف عوده الى ملك مالكه الذي هو المراد من الرد على انفساخ العقد : بخلافه في الفرض ، إذ عوده الى ملك المالك انما يقتضي فسخ مقتضى القبض الذي هو السبب في ملك هذا الشخص فيبقى مقتضى العقد على حاله ، وحيث كان مبنى الرد الاندراج المزبور اتجه حينئذ ان له الرجوع بالأرش ، لإطلاق ما دل عليه في المبيع.

اللهم الا ان يقال انه مخالف لمقتضى الأصل فيقتصر فيه على المتيقن ، وهو إذا لم يمكن تحصيل المبيع سالما كما إذا كان معينا أما إذا أمكن كما في الفرض لان له الرد والابدال فلا يتجه الرجوع بالأرش.

نعم لو تعيب عنده أو تلف مثلا فتعذر الرد على حسب ما أخذه كان له الأرش كما سمعته من التذكرة ، وإلزامه بالأرش المعيب الحادث ، أو القيمة لو أراد الإبدال ليس بأولى من إلزام البائع بالأرش ، بل هو أولى ، ولذا تعين في المبيع المعين ، لكن فيه انه مخالف لما سمعته منهم في باب الصرف ، بل لم يعرف فيه خلاف هناك.

نعم حكى هناك عن الشيخ وغيره أن له فسخ العقد أيضا ، مضافا الى الابدال والأرش ، وناقشه الفاضل فيه كما سمعته هناك مفصلا ، فلاحظ وتأمل ، حتى تعرف قوة القول بالخيار هنا بين الرد والابدال ، وبين الأرش ، بل وتعرف أيضا فساد ما قيل هنا‌

٣٣١

على العبارة وما شابهها ، من ان زوال الملك عند رده انما يكون بعد ثبوته ، والمعيب ليس من المسلم فيه ، فلا ينتقل عن المسلم اليه وان عود الحق انما يكون بعد زواله ، وهو مستلزم لأحد محذورين.

اما الحكم بالشي‌ء مع وجود نقيضه ، أو إثبات الحقيقة من دون لوازمها ، وذلك لان الحكم بالبراءة ان كان صادقا لزم الأول ، والا لزم الثاني ، إذ لا بأس بالتزام كون المقبوض المعيب صالحا للأداء عن الحق إذا رضى به المستحق ، لانه من جنس الحق ومن افراد المسلم فيه ، وعيبه ينجبر بالخيار ، فيتم الزوال والعود ، ولا بعد في تحقق الملك متزلزلا لمكان العيب ، ومعلومية إرادة الصحيح لا تقتضي كون المسلم فيه الموصوف بالصحة كما هو واضح ، فالنماء المتخلل حينئذ بين القبض الى حال الرد للقابض.

ومن ذلك يظهر ما في جواب الشهيد عن ذلك في حواشيه بان الحكم بالزوال والعود مبنى على الظاهر حيث كان المدفوع من جنس الحق ، وصالحا لان يكون من جملة أفراده قبل العلم بالعيب ، فإذا علم بالعيب زال ذلك الملك الذي حصل ظاهرا وان لم يزل في نفس الأمر ، فصح إطلاق الزوال والعود بهذا الاعتبار إذ قد عرفت ان الملك حاصل ظاهرا وباطنا ، غاية امره التزلزل وهو غير مانع كنظائره ، وقد تقدم لنا في باب الصرف ما له نفع تام في المقام بل منه يستفاد كثير من أحكام.

المسألة السادسة وهي إذا وجد برأس المال المعين عيبا فان كان من غير جنسه بان كان فضة فبان نحاسا مثلا بطل العقد من أصله ان كان الجميع كذلك ، والا فبالنسبة وله حينئذ خيار التبعيض ، ولو كان العقد بكلي أبدلت إذا لم يتفرق المجلس والا بطل أيضا وان كان العيب في المعين من جنسه كالخشونة واضطراب السكة رجع بالأرش إنشاء قبل التفرق قطعا ، وبعده على الأصح ، ويحتمل انفساخ العقد فيما قابله وان اختار الرد كان له كما في غيره من الثمن المعيب‌

٣٣٢

وينفسخ العقد ، ضرورة توقف الرد الى ملك الأول عليه. وان كان كليا فله الأرش بناء على المختار ، وله الرد ولكن لا ينفسخ العقد ، لما عرفت من انه انما يقتضي فسخ مقتضى القبض.

نعم قد يقال به في المقام لا لذلك ، بل لاستلزامه عدم قبض الثمن قبل التفرق وفيه ان المقبوض المعيب ثمن ، فيكفي قبضه قبل التفرق في الصحة ، وان تعقبه فسخ مقتضى القبض بعد التفرق ، بل لا يبعد لذلك عدم وجوب قبض البدل في مجلس الرد ، للأصل بعد ظهور الأدلة في غيره ، كما انه لا يجب قبض الأرش في مجلس اختياره ، باعتباره انه كالجزء من الثمن.

وقد تقدم تحقيق كثير من هذه المطالب في باب الصرف فلاحظ وتأمل كي تعرف الحكم في جملة أقسام المسألة ، إذ العيب اما ان يكون من الجنس أو من غيره ، ثم اما ان يكون في جملة الثمن أو في بعضه ، ثم اما ان يظهر قبل التفرق أو بعده ، ثم اما ان يكون الثمن معينا أو كليا فالأقسام ستة عشر والله أعلم.

المسألة السابعة إذا اختلفا المسلم والمسلم إليه في القبض للثمن هل كان قبل التفرق أو بعده ، فالقول قول من يدعى الصحة لأصالتها فيه بعد اعترافهما معا بحصوله ، إذ هو أيضا مما يقع على وجهين.

فالأصل فيه الصحة كباقي أفعال المسلمين وأقوالهم التي تقع على وجهين ، وقد رتب الشارع أثرا على أحدهما دون الأخر ، وبذلك يظهر أنه لا حاجة ، أو لا وجه الى تقرير ذلك بأنه لما تعارض أصالة عدم القبض قبل التفرق مع أصالة عدم التفرق قبل القبض تساقطا ، فيحكم باستمرار العقد ، وفي الحقيقة لا نزاع بينهما في أصل الصحة ، وانما النزاع في طرو المفسد ، والأصل عدمه ، ان لم يرجع الى ما ذكرنا الذي من الواضح الفرق بينه وبين ما لو اختلفا في أصل قبض الثمن ، فان القول قول منكر القبض فيه وان تفرقا ، واستلزم بطلان العقد ، لأن الأصل عدمه فلا يجري أصل الصحة المتوقف‌

٣٣٣

على ثبوت الموضوع ذي الوجهين ، ويقع الشك في صحته ، وأصالة صحة العقل لا تقضى بثبوت ما كان مقتضى الأصل عدمه من الشرائط المتأخرة ، وأصالة عدم طرو المفسد معارضة بأصالة عدم وجود المصحح.

ونحو ذلك تجري في قبض الصرف ، إذ المسألة من واد واحد ، إلا إذا قلنا هنا بأن التفرق قبل القبض مانع ، لا أن القبض قبله شرط ، بخلافه في الصرف فإنه يتم حينئذ التمسك باستصحاب أثر العقد ما لم يعلم المانع فتأمل جيدا ، ولو اقام كل منهما في مفروض المتن بينة بنى على تقديم بينة الداخل هو هنا مدعى الصحة أو الخارج لكن الفاضل هنا قدم الأول لقوة جانبه بأصالة عدم طرو المفسد ، ولان دعواه مثبتة والأخرى نافية ، وبينة الإثبات مقدمة ، وهو كما ترى ، خصوصا الأخير ضرورة كون البطلان إثباتا أيضا كما هو واضح.

وكيف كان فقد ظهر لك مما ذكرنا أنه لو قال البائع قبضته اى الثمن ثم رددته إليك قبل التفرق وأنكر المشتري ذلك بمعنى عدم القبض أصلا فضلا عن الرد كان القول قوله أي المشتري مع يمينه لا البائع كما في القواعد والدروس مراعاة لجانب الصحة التي قد عرفت احتياج جريان أصلها إلى وجود الموضوع المدعى عدمه ، كما هو مقتضى الأصل ، بل هذا عين المسألة السابقة التي قد ذكرناها ، وقلنا فيها ان القول قول منكر القبض أصلا ، ولو فرض كون الإنكار لما قبل التفرق خاصة ، على معنى الاعتراف بقبضه والرد لكن بعد التفرق ، كان عين المذكور في المتن سابقا ، ولا ثمرة معتد بها لا عادته ، كما انه لا وجه لفرض الإنكار فيه للرد خاصة ضرورة ان القول قوله فيه لا البائع ، فضلا عن تعليله بمراعاة الصحة وحينئذ فما في المسالك في شرح العبارة لم يظهر لنا وجهه قال : « المراد انها اتفقا الان على كون الثمن في ذمة المشتري أو عنده ، ولكن اختلفا في كون ذلك على وجه مفسد للعقد بأن لا يكون تقابضا أصلا أو على وجه مصحح بأن يكون البائع‌

٣٣٤

قبضه ثم رده اليه والمصنف هنا قدم قدم قول البائع ترجيحا لجانب الصحة ، مع ان الأصل عدم القبض أيضا ، وتحقق صحة العقد سابقا كما مر ويمكن ان يقال حينئذ تعارض الأصلان ، فيحصل الشك في طرو المفسد والأصل عدمه فيتمسك بأصل الصحة لذلك.

وفيه ما عرفت سابقا من ان ذلك لا يستقيم على فرض كون القبض قبل التفرق شرطا ، لأن أصالة صحة العقد لا تقتضي بوجود ما يقتضي الأصل عدمه من الشرائط المتأخرة كما عرفت. نعم قد يقال : الاختلاف هنا كالاختلاف في السابقة في كون القبض قبل التفرق أو بعده ، ولكن أعادها لبيان انه لا فرق في حكم هذا الاختلاف بين كون الثمن في يد البائع أو يد المشتري ، إذ ظهور اليد في الملك بعد اعترافه هنا بوقوع القبض لكن بعد التفرق غير مجد.

وحينئذ فلا وجه لما في المسالك حيث قال بعد الكلام السابق : « ويبقى في المسألة شي‌ء ، وهو ان دعوى البائع الرد غير مقبولة كنظائرها ، إذ لا دخل له في الصحة ، وانما قدم قوله في أصل القبض مراعاة لجانبها ، وحينئذ فمع قبول قوله في القبض هل له مطالبة المشتري بالثمن ، يحتمل عدمه لما قلناه من عدم قبول قوله في الرد مع اعترافه بحصول القبض ، ويحتمل جواز المطالبة لاتفاق المتبايعين على بقاء الثمن عند المشتري الآن ، اما على دعوى البائع فظاهر ، واما على دعوى المشتري فلاعترافه بعدم القبض ، فإذا قدم قول البائع في صحة العقد ألزم المشتري بالثمن ، ويشكل بأن المشتري حينئذ لا يعترف باستحقاق الثمن في ذمته لدعواه فساد البيع فلا يبقى الا دعوى البائع ، وهي مشتملة على الاعتراف بالقبض ودعوى الرد ، وهي غير مقبولة في الثاني والمسألة موضع اشكال ولعل عدم قبول قوله في الرد أوجه » وهو من غرائب الكلام خصوصا إذا كان الثمن الذي اتفقا عليه معينا ، ويد المالك بعد استنادها فيه الى بقاء الملك السابق الذي قطعه دعوى البائع الذي فرض‌

٣٣٥

تقديمها على دعواه ، لا تجدي ، ولو كان الاختلاف في المسلم فيه أنه حنطة مثلا أو شعير تحالفا وفي قدره أو قدر الثمن أو قدر الأجل فالقول قول منكر الزيادة ، أما لو اختلفا في الحلول فالقول قول المسلم إليه لأنه منكر ، ولو اختلفا في اشتراطه فالقول قول منكره بناء على صحته حالا ، وفي القواعد ومحكي التذكرة « الأقرب أن القول قول مدعيه ان كان العقد بلفظ السلم على اشكال ، وعلى قولنا بصحة الحال فالإشكال أقوى » ، وقد أشكل على بعض الشارحين فهم هذه العبارة ، ولعله بناء منهم على عدم صحة السلم بلا أجل وان الفاضل ممن لا يقول بذلك ، وعلى ما قلناه سابقا من أن النزاع فيه فالمراد واضح ، والله أعلم.

المسألة الثامنة : إذا حل الأجل وكان المسلم فيه منقطعا لآفة ونحوها وتأخر التسليم لعارض لا لتقصير من المسلم ثم طالب به بعد انقطاعه كان بالخيار بين الفسخ والصبر بلا خلاف أجده في الأخير ، بل ولا إشكال ، لأن مورد العقد الذمة ، والأجل انما هو للتسليم ، فاحتمال الانفساخ كما عن أحد قولي الشافعي لكونه كالمبيع التالف قبل قبضه ، في غاية الضعف ، لمخالفته للأصل والنص والفتاوى كاحتمال تعين دفع قيمة عوضه ، فيلزم بها المسلم لأنها البدل عن كل متعذر ، بل هو أضعف من الأول لعدم الخطاب الان بالعين كي ينتقل إلى القيمة لتعذرها ، بل التعذر مسقط لأصل خطاب الدفع.

ودعوى أن ذلك من خطاب الوضع لا التكليف واضحة المنع ، فلا ريب حينئذ في أن له الصبر الى وجود المسلم فيه ، بل عينه الحلي عليه ، ولم يجوز له الفسخ لأصالة اللزوم ، الا أن قاعدة عدم الوفاء بالشرط كما في المختلف والشهرة بقسيمها على خلافه ، بل ربما أشعر نسبته في الدروس إلى الندرة ، وفي غيرها الى الخطاء‌

٣٣٦

بالإجماع عليه ، بل في المختلف « أنه لم يوافقه عليه احد من علمائنا ، ولا أظن أحدا افتى به.

وفيه أيضا ، ان أقوال الفقهاء متطابقة على تسليط المشتري على الفسخ ، وعموم الكتاب ، لعدم حصول التراضي إذا تعذر المسلم فيه ، والأحاديث متظافرة بذلك ».

وحاصل مراده الرد على الحلي بأن الكتاب والسنة والإجماع على ذلك و‌في موثق ابن بكير (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أسلف في شي‌ء يسلف الناس فيه من الثمار فذهب زمانها ولم يستوف سلفه ، قال : فليأخذ رأس ماله أو لينظره » ‌بل قيل : انه يدل عليه الاخبار المستفيضة المتقدم أكثرها سابقا في بيع السلف بعد حلوله فإنها وان لم تكن ظاهرة في انقطاع المسلم فيه ، الا انها إذا جوزت الفسخ مع عدمه ، فمعه بطريق اولى ، وفيه ان المستفاد منها بعد ملاحظتها جميعا وإرجاع مطلقها الى مقيدها جواز أخذ رأس المال إذا عجز المسلم إليه خاصة عن الأداء ، وظاهرها كون ذلك مرادا للبائع مسئولا له ، وانه كالاحسان من المشتري إليه ، بل قد عرفت ان المحكي عن الأكثر كون المراد منها المعاوضة عن المسلم اليه بقدر رأس المال لا الفسخ.

وعلى كل حال فهي غير ما نحن فيه من ان له الفسخ قهرا رضى البائع به أولا ، والأولوية المزبورة فرع القول بالأصل ، وهو ممنوع ، لأصالة اللزوم ، إذ المسلم اليه ان وصل عجزه الى حد الإعسار شرعا ، فالحكم الإنظار إلى الميسرة ، بل الفسخ غير مفيد ، والا فالمتجه أن له إلزامه به كغيره من الديون ، ولعله لذلك كله أو بعضه توقف في الاستناد الى هذه النصوص لإثبات هذا الحكم في الرياض.

لكن قد يقال : بمنع ظهور بعضها في كون الفسخ بالتراضي منهما ، خصوصا نحو‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب السلف الحديث ـ ١٤.

٣٣٧

صحيح الحلبي (١) عن الصادق عليه‌السلام « لا بأس بالسلم في الحيوان إذا سميت الذي تسلم فيه ووصفته ، فان وفيته والا فأنت أحق بدراهمك » ‌بل الظاهر أن مدار الفسخ فيها على قاعدة الشرائط ، ضرورة كون الأداء في الوقت المخصوص منها ، فالمتجه جعل المدار فيه على ذلك ، وقد تقدم لنا سابقا أن المتجه أولا جبره على أداء الشرط ، ومع التعذر يتسلط على الفسخ وقد مضى تحقيق الحال فيه فلاحظ وتأمل جيدا ، فإنه قد يمنع استفادة الشرطية من ذلك على الإطلاق ، والا لثبت مثله في النسيئة على ان المراد من اشتراط الأجل هو عدم استحقاق المطالبة إليه فيعود الاستحقاق الذي هو حاصل من مقتضى العقد.

نعم قد يقع على جهة الشرطية فيترتب عليه الخيار حينئذ من هذه الجهة ، فالعمدة في ثبوت الخيار هنا انما هو من جهة النصوص والفتاوى ، ثم ان الظاهر عدم الفرق في الخيار المزبور بين كون التأخير لتفريط من البائع وبين غيره كما إذا لم يطالبه به المشتري حتى انقطع ، نعم قد صرح غير واحد بسقوط الخيار لو كان بتقصير من المشتري بمعنى انه عرض عليه فامتنع عن القبض ، ولعله كذلك لأصالة اللزوم ، وكونه السبب في إدخال الضرر على نفسه فلا يندرج في إطلاق الخبر المزبور.

وكيف كان ففي حواشي الشهيد عن السيد العميد ان له مضافا الى الفسخ والصبر المطالبة بقيمة المسلم فيه عند الأداء واستحسنه في المسالك ، ومحكي الميسية ، بل جزم به في الروضة كما مال إليه في الرياض ، لأنها البدل عند تعذر الحق ، فهو كتلف المثلي الذي يتعذر مثله فإنه ينتقل إلى القيمة ، وفيه أولا انه خلاف ظاهر النص ، بل والأصحاب كما عن القطيفي الاعتراف به ، بل صرح بعدمه الكركي في حاشية الإرشاد في شرح قوله فيه ، ولو أخر التسليم فللمشتري الفسخ أو الإلزام قال : « ظاهر العبارة‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب السلف الحديث ـ ١٧.

٣٣٨

مشكل. لأن تأخير التسليم اما ان يكون مع وجود المسلم فيه وإمكان تسليمه فليس للمشترى فسخ ، بل له إلزامه بالتسليم أو مع انقطاعه وتعذر تسليمه ، وحينئذ يتخير بين الفسخ وأخذ الثمن ان كان باقيا أو مثله في المثلي والقيمة في غيره ، وبين الصبر الى قابل ، وليس له إلزامه بشي‌ء حينئذ ، ولا فرق في ذلك بين ان يكون تعذر التسليم بتفريط المسلم إليه بأن أخره حتى انقطع أولا ، وليس له في شي‌ء من ذلك إلزامه بالقيمة ، لكن يجوز المعاوضة عليه بالتراضي ( الى ان قال ) ومن حملها على ان المراد إذا أخر البائع التسليم حتى انقطع المسلم فيه بتفريطه ، يتخير المشتري بين الفسخ والإلزام بقيمة يومئذ ».

فقد أغرب لبعد الحمل عن العبارة ، وفساد الحكم في نفسه ، إذ ليس له إلزامه بالقيمة في المذكور إلا بالتراضي كما قدمناه.

وكيف كان فالعبارة مشكلة والحكم أشكل ، وهو صريح فيما ذكرنا ، وان كان لا يخلو من نظر إذا كان التأخير بتفريط من البائع كما انه لا يخلو من نظر في أصل اشكال العبارة ، إذ يمكن حملها على ارادة الصبر من الإلزام فيها ، بل هو متعين بملاحظة فتواه في باقي كتبه.

نعم ما ذكره من عدم الإلزام بالقيمة جيد مع عدم التقصير من البائع ، إذا كان عدم الأداء لانقطاع المسلم فيه بآفة سماوية ونحوها ، إذ لا خطاب بالأداء أصلا كي ينتقل إلى القيمة ، فأصل وجود المسلم فيه مقدمة لوجوب أدائه فيسقط بعدمها حينئذ ولا دليل على الانتقال إلى القيمة فالأصل براءة ذمة المسلم اليه منها ، كما ان الأصل براءة ذمة المسلم من وجوب قبولها عليه لو بذلت له ، بل قيل ان صحيحي محمد بن قيس (١) المتقدمين سابقا في بيع المسلم اليه بعد حلوله ظاهر ان أو صريحان في عدم الإلزام بالقيمة ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب السلف الحديث ـ ٩ ـ ١٥.

٣٣٩

بل قد ينقدح من ذلك محمل آخر للنصوص السابقة التي ادعى دلالتها على عدم جواز إلزام المسلم إليه بأزيد من الثمن ، على ان يكون المراد منها عدم الإلزام بالقيمة عوض المسلم فيه فلاحظ وتأمل.

ومما يزيد ذلك كله تأييدا ما ذكره غير واحد من الأصحاب بل لا خلاف أجده فيه بينهم ، من ان في حكم انقطاعه عند الحلول موت المسلم اليه قبل وجوده وقبل الأجل ، نظرا إلى أنه دين فيشمله عموم ما دل على حلول ما على الميت من الدين بالموت ، ودعوى ان للمسلم الإلزام بالقيمة فيه مع عدم التقصير فيه بوجه من الوجوه كما ترى.

نعم له المعاوضة عليه بأزيد من ثمنه وانقص ومساوي كما عرفته سابقا ، وهو غير ما نحن فيه من الإلزام بالقيمة ، بل قد يقال : ان ذلك لا يجتمع مع خيار الفسخ والصبر ، ضرورة وجوب القبول على المشتري لو بذلها له فليس له الفسخ ولا الصبر ، وقد عرفت أن مبنى الإلزام بالقيمة أنها عوض مال له قد تعذر ، ففي الحقيقة قد رجع دينه الان إلى القيمة ، فمع بذله له يتعين القبول كالمثلي إذا تعذر مثله وهو كما ترى.

وليس هذا الخيار فوريا للأصل وإطلاق النص ، بل صرح ثاني الشهيدين بعدم سقوطه لو صرح بالإمهال ، وان كان لا يخلو من اشكال ، ولذا توقف فيه في التذكرة والدروس والتنقيح ، فاحتمل في الأول بعد أن جعل عنوان المسألة أنه لو أجاز ثم بدا له في الفسخ وجوب الصبر وأنه كإجازة زوجة العنين ، واحتمل أن له الفسخ ، ولا يكون ذلك إسقاط حق ، فكان كزوجة المولى إذا رضيت بالمقام ثم ندمت ، ونحوه ما في الدروس قال ولو صرح بالإمهال ففي بطلان خياره نظر من تجدد الحق حالا فحالا فهو كخيار المولى منها ولأنه كتأخير الدين المؤجل ، ومن أن الإمهال أحد شقي التخيير وقد أثره وأولى بالإبطال ما إذا قال : أبطلت خياري.

قلت : لا إشكال في السقوط مع ارادة اختيار الصبر خاصة من الإمهال ، ضرورة‌

٣٤٠